قال أبي وهو يخفي في صبر جليدي حزنه العميق:
– نواريه التراب فجرا.
كان يقصد جدي. فقد اقتحم مجهولون بيته الطيني المنعزل عن القوية. قتلوا كلاب الحراسة وكسروا الباب الخارجي واقتحموا غرفته وقتلوه برصاص بنادقهم وعصواتهم الغليظة. ومن حسن حظ الجدة أنها كانت في زيارة عند أختها في قرية أخرى فسلمت.
لم يحك لي عن أثر الرصاص. لخص الأمر ببساطة معهودة فيه: رحل عن عالمنا، المسألة قد نعيشها جميعا ولا شيء لحد الساعة يبشر بانتهاء سريع لهذه الكوارث.
– هل نعلن لأهالي القرية هذه الفاجعة ؟ وماذا تراهم يفعلون ؟ ثم هل نملك متعاطفين معنا الى حد إعلان جائزة لمن يدلنا على القتلة ؟
أقنعني أبي ببرودة دم معهودة فيه. منذ بدأت أعي الفعل وردات الفعل، أن نخفي حادثة القتل عن الكل، فترة زمنية كافية لنأخذ الوقت الكافي للتفكير في الجواب المقبل على ما لم يكن، مطلقا بالحسبان، فالقبائل متداخلة والتحالفات غير مضمونة سلفا.
– لنقل للكل في المسجد غدا: إن اته توفاه عندما أراد، وأن الراحل يكفيه فخرا أنه كان طيبا مع كل الأهالي إماما للمسجد ومعلما لكل أولاد القرية وكل الذين يأتون من القرى المجاورة.
وأضفت معقبا:
– ونقول أيضا إنه ما اعتدى على أحد ولا اقترض شيئا من أحد ومن يزعم أن الراحل استدانه فنحن أسرة صلبة متضامنة ومستعدون لإعادة الديون.
جلس أبي القرفصاء، أخذت معولي وبدأت أحفر في الأرض اليابسة، أرض ما عرفت المطر من أعوام طويلة، التربة الحمراء..
– أحفر عميقا يا ولدي قال ابي.
– مثل كل القبور يا أبت قلت له.
– أحفر عميقا قلت لك فهذه السنة ستأتي سيول وأمطار قوية وأنا أخشى أن ينكشف القبر.
لم تكن القبور كلها محفورة فما أن تأتي بعض الأمطار حتى تتكشف بعض الجثث وهكذا كان جدي يواظب على الحضور لاعادة التراب ولقراءة بعض الآيات القرآنية.
لم أستطع أن أرى وجه أبي في الظلام، الأشجار الكثيفة التي تحيط بالمقبرة كانت تزيد الظلام حلكة وانهمكت في الحفر متحاشيا إحداث صوت يشي بوجودنا الغريب في المقبرة. وفجأة لاح لي وجه أبي أبيض وهو يتمتم ببعض الآيات القرآنية (كل نفس ذائقة الموت) وجاءتني الآية مهادنة فجدي لم يمت ولكنه قتل والفرق واضح جدا ومن بين أغصان الزيتون أطل القمر هادئا ووقورا.
– أحفر بسرعة يا ولدي. قال أبي ملحا.
ساعداي لم تطاوعاني، كما كنت أريد وأبي لم يستطع أن يساعدني، فلم نكن نملك الا فأسا واحدة والذي يحفر لا يمكن له أن يقرأ القرآن وأنا ما كنت أستطيع أن أدرب نفسي على استعراض آيات قرآنية كثيرة.
وحين وضعنا جسد جدي في الحفرة وبدأنا نهيل التراب عليه سمعنا وقع أصوات تقترب. حنحنات بغال وسعال رجال على مقربة منا.
– جدك في مأمن فلننج بأنفسنا قبل وصولهم الينا.
– هل نحتاج الى استخدام بندقيتنا؟ سألت أبي وأن أبحث عن ممر آمن، وسط الأشجار التي أعرفها جيدا، يؤدي الى المنحدر الذي يستطيع أن ينقذنا من هذا الخطر.
– سنحتاجها. لكن ليس الآن.
كنت أستطيع من بعيد رؤية الرجال الملثمين مع بغالهم وحميرهم وهم يحيطون بالقبر الطري. بعضهم يصرخ على إضاعة فرصته في العثور علينا.
– نسينا وضع شاهد على قبره يا ابتاه، انفلت السؤال من رأسي دون أعيره انتباها جوهريا.
– لا يهم يا ولدي. كل القبور تتشابه وبعد قليل سيستأنس جدك مع كل الموتى الذين سبقوه، المهم أنه وصل الى حيث أرسل، كل الموتى يتشابهون في نهاية المطاف.
ونحن نوغل في المسير نحو المنعرجات والتلال المطلة على السهل والمقبرة، كنا نراهم يشمشمون حول القبر، يحفرون ويتوعدون، كنا خائفين أو على الأقل أنا، فقد كانت المصيبة أول تحد لي وأنا أدخل عالم الرجال المعقد والعنيد. ناولت أبي بندقيته. أخذ بيدي وحثثنا المسير صوب القبائل الأخرى.
التفت الي أبي، بعدما فطن الى تعبي في مجاراته، ابتسم ومد يده، داعب شعر رأسي كأنما أراه أن يخفف من روعي ويشجعنى على كل الاحتمالات وقال:
– أسرع فقد يكتشفوننا إنني أسمع وجيب خطاويهم بعيدا.
اندفعت في إثر أبي وأنا أعض على أسناني من البرد. الجبل الذي رأيته منذ وقت طويل لم يقترب منا قط.
والخطي التي تثير بعض الرجع يبدو أنها لم تقربنا من القبيلة التي تستطيع أن تجيرنا لبعض الوقت. وجاءتني فجأة نوبة خوف مما يحكيه الصيادون عن الخنازير الوحشية التي تجتاح أحيانا القرى القريبة من الغابات فتقتل الحيوانات الأليفة والأطفال والنساء. ولما كشفت لآبي هذا الخطر الاضافي قال دون أن يتوقف عن المسير:
– لقد انقرضت الخنازير الوحشية منذ زمان، والخنازير الوحشية، الآن، هم أولئك الذين يطاردوننا في هذه اللحظات.
الظلمة بدأت تنسحب، خيوط من أشعة الشمس بدأت تدغدغ عيوننا. لاحظت أن وجه أبي المكفهر أضحى أكثر إشراقا مد يده للخلف باحثا عن يدي، لحقته مسرعا وسرنا بوتيرة واحدة.
– الشمس ستثير فزعهم. قال أبي وأضاف:
– لأنهم مثل الخفافيش لا يظهرون إلا في الليل.
لم أكن أميز حقا بين طيور الليل وبين سواها. فالخوف حينما يستبد بالمرء، لا يميز بين الليل والنهار، ثم أن ما كان يهمني هو الوصول الى مكان أكثر أمنا، حيث أستطيع أن أتنفس وأسترجع كل الأشياء التي تتجاوزني.
– متى سنصل يا أبي وأضفت: وهل نحن حقا في الطريق الصحيحة ؟
كنت أرى وجه أبي الصارم. وهو لا يكترث لأسئلتي التي يبدو أنه اعتادها. ويبدو أنه أحس بحاجتي الى بعض الاهتمام، فقد كانت أول مرة أسافر فيها معا، العالم الذي أعرفه محدود جدا، لا يتعدى عالم الكتاب، الشيخ القاسي، والصلصال والألواح والأصدقاء والصمغ.
بعض البيوت الطينية بدأت تظهر في البعيد، تظهر لتتوارى ثم تعود أكثر وضوحا وأكثر تمددا، وأبي يجد في المسير وأنا أتبعه وكأنني وصلت الى نهاية العالم. وأخيرا انفتح المجال أمام قرية كبيرة على هضبة واسعة ولاحت مجموعات من الأهالي والقرويين وهم يتحركون في محيط القرية. أحسست بانتهاء الألم قبل أن أجد مكانا أستطيع فيه الانبساط والنوم. وحتى هذه الأويقات لم أكن قد فكرت في مصرع جدي بعد. ولم يكن الأمر بالنسبة لأبي مشابها فهو لم يجد مبررا، إطلاقا لهذا العمل، ثم إن الجد لم يكن خبيرا في اختراع الأعداء. اقترب أبي من اول بيت بهدوء ودفع الباب برفق ودخلنا لنجد انفسنا امام عائلة جالسة تأخذ فطورها المعتاد.
هب كل أفراد العائلة وانكبوا يسلمون على أبي وهم يسألونه عن سبب هذه الزيارة الغامضة والمبكرة، ثم أخيرا انتبهوا لحضوري، قال أبي إنه ولدي وانه تعب، سألتني امرأة سأعرف فيما بعد أنها خالتي، إن كنت جائعا، قلت لها إنني تعب وأني أريد أن أنام، أخذتني الى غرفة مجاورة وأبي ينظر الي شزرا.
لم يستطع أبي أن يخفي سره عن العائلة فأخبرهم بما كان، ولم ينس أن يطلب منهم المساعدة للانتقام من قتلة الجد، وحين سأله رب العائلة عن القتلة قال أبي إنه يعرفهم تقريبا وان الطعنة سهل معرفة مصدر قدومها.
لم أر ناسا مستعدين للموت مثلهم، غابة من البنادق ترفع كل يوم. وأبي يتصبب عرقا وهو يتدرب على الرماية كل صباح. آخذ منديلا وأمسح عرقا الغزير، ثم أقف غير بعيد متأملا تدريبهم على الحرب، هذه الحرب التي لم يريدوها قط، لاسيما وأنها السنة الخامسة التي تبخل عليهم فيها السماء بمزنها.
اقتربت أكثر من موقع الرماية، آخذ هذه المرة البندقية الصغيرة التي حملتها معي طوال الرحلة الليلية، اقترب مني أحد الفلاحين وقال: إني خالك ولهذا فأنا ملزم بمساعدتكم على أخذ القصاص، ثم أشار لعصفور واقف على جذع شجرة وقال: هيا صوب واطلق النار. العصفور البريء طار قبل أن تنطلق رصاصتي العشوائية.
لم ننم تلك الليلة. قال أبي تذهب أنت أيضا معنا، دورك واضح، إذا سقطت من أحدنا بندقية تساعده على استرجاعها واذا مات تأخذ مكانه وتشترك في المعركة. أخوالي كلهم كانوا ضد مشاركتي في المعركة. مازال صغيرا قالوا لأبي. الثأر ثأره أيضا يا جماعة وهو أولى منكم بالقتال، ثم اتفقنا على السير مباشرة بعد صلاة الفجر. سنفاجئهم حتما فهم لا يصلون ونقتحم مساكنهم قبل أن يجتمعوا لينظموا الدفاع، ثم أعطي أبي وصفا دقيقا للبيوت المستهدفة وخصني بجهة البيتين الجاثمين قرب المسجد المتهاوي قائلا: نعمل كل ما بوسعنا على ابادتهم قبل أن يحتموا بالمسجد. ثم اقترب مني وهو يهمس: ستكون نهاية محمادي أحيضار الحتمية وسترتاح منه كل القبائل. ولما سألت أبي وهو يدهن بندقيته ويمسحها عن محمادي أحيضار، أجاب، بصوت خافت هو القاتل الحقيقي ولماذا لم تخبر الأخوال بهذا؟ سألته. كي يكون مقتله على يدي وبفضل بندقيتي هذه.
لما خرجنا، فجرا، من المسجد لاح لنا رجل حامل راية بيضاء وهو يجر فرسه البيضاء، ولما اقترب طلب منا أن ندله على زعيم القبيلة، اندفع الحاج عمار سريعا، رغم سنواته التسعين الى الرسول وهو يقول: أنا شيخ القبيلة. مد الرسول رسالة للحاج عمار. أخذها وطلب من أبي، الرجل الوحيد الذي يستطيع القراءة والكتابة. أن يقرأ هذا الخطاب. بعد وقت قصير صاح أبي بالقرويين: انا محمد عبدالكريم الخطابي وانه يحتاج لمتطوعين فالأسبان يقتربون من أجدير.
لم يحرك أحد من الحاضرين ساكنا، اقترب الحاج عمار من أبي وقال بصوت يكاد لا يسمع: إن الرسالة أفسدت علينا مخطط اليوم. لم يجب أبي واتجه الى حيث كان الرسول وسأله: وهل ذهبت بالخطاب الى القبائل الأخرى؟ قال الرسول: إن كل الذين زارهم وافقوا على التطوع والانخراط في الجيش، سكت قليلا ثم أضاف، وقريبا منكم، وافق محمادى أحيضار على الذهاب فورا لمدينة أجدير معللا هذا بالتوبة عن كل جرائمه.
جمع الحاج عمار وأبي كل الرجال القادرين على أخذ السلاح واتجهوا لمدينة أجدير. اقترب محمد بن عبدالكريم الخطابي بنفسه من مقاتلي القبيلة، ثم أخذ بيد الحاج عمار وبيد أبي مصافحا وهو يقول: أعرف كل شيء. لقد حكى لي محمادي احيضار كل شيء عن الجريمة وهو غير قريب منا وتستطيعون أن تأخذوا حقكم منه ومن أصحابه. وغير قريب من مجلس الخطابي الذي كان جالسا القرفصاء، كان محمادي أحيضار ينتظر ما يقرره أبي والخطابي.
لم يستسغ أبي أن يفرض شيئا، في حضرة الأمير الخطابي، ترك الأمور على حالها واشتغل في تجهيز القبيلة للحرب، ولما اقترب منه محمادي أحيضار قائلا: إني قاتل أبيك وتستطيع أن تتخير موتي إما بيدك واما بيد الأسبان، لم يجب أبي بكلمة واحدة.
كانت الجموع الأسبانية تقترب من مواقعنا، وأسلحتها الطويلة المدى تصل محيط دفاعاتنا، وكان أمر الخطابي صارما: لنقتصد، فالأسلحة هذه المرة تنقصنا وعلينا إذن أن نطلق الطلقة المناسبة في المكان المناسب وغير بعيد من أبي ومني كان محمادي أحيضار يندفع أكثر منا وبدأ يطلق النار من بندقيته في اتجاه النيران الكثيفة، وغير بعيد ترنح شيئا ما في مشيته قبل أن يسقط في دمه.
بإشارة من رأس أبي. أسرعت اليه تحت وابل من النيران وخلصت البندقية من يديه اللتين كانتا تضغطان عليها بشدة، وانسحبت الى الخلف بجانب أبي ولما صاح بي مشجعا، أن أطلق النار اندفعت بعض الرصاصات الى الامام وجاءتني دوخة في الرأس فالرصاصات التي انطلقت الآن هي أخوات الرصاصة والرصاصات التي صرعت جدي.
محمد المزديوي (كاتب تونسي يعيش في باريس)