كارلوس فونتس يحكي روايته الجديدة "ديانا أو الصائدة الوحيدة" وكأنه يعاود مرة أخرى العيش في تفاصيل حبه القديم مع نجمة هوليوود السينمائية "جين سبيرغ" التي مازال غير قادر على ذكر اسمها الصريح بالرغم من مرور 75 سنة على علاقتهما. فالكاتب المكسيكي صاحب "جرينجو العجوز" و "موت ارتيميوكروز" و "نشيد العميان" والمدافع الدائم عن قضايا أمريكا اللاتينية وعن احياء جماليات قاموس اللغة الاسبانية، كان يعتبر ومنذ سنوات طويلة من غير المرغوب فيهم من قبل الادارة الأمريكية، وتعليق فونتس على دعوة الرئيس الأمريكي كلينتون له ولصديقه جارشيا ماركيز على العشاء العام الماضي كان بقوله مداعبا: لقد مررنا من القائمة السوداء الى البيت الأبيض.
وبمناسبة صدور روايته الجديدة «ديانا..» كان معظم هذا الحوار الذي يعترف فيه كاتب مثل فونتس وفي عمره الـ65 .. بأن الحب أكثر جدوى من الأدب.
* «ديانا، أوالصائدة الوحيدة» الجزء الأول من ثلاثيتك المثيولوجية وتليها "المقاتل والوعد" و«ثمن الحرية».. لماذا تعود بنا الى الميثولوجيا؟
– من الأساطير الخالدة، العظيمة نعيش دائما أقدارنا الحقيقية، "أساطير البحر الأبيض المتوسط التي أعرفها أفضل من الفيتنامية أو غيرها من أساطير العالم، إن أول فيلسوف يقول: إن الآلهة لم تصنع التاريخ.. والمدنية هي الرجال والنساء.. وفي البدء كانت الكلمة.. كان مؤسس علم التاريخ الحديث جيامبا تيستا. ولأن الأسطورة أصل ومنبت ثقافتنا، نعود اليها، نعود الى جذورنا، وقد اقتنعت بملاءمتها لنا أكثر من الثقافة الغربية – اللامركزية، فالجوء الى ثقافة امريكا اللاتينية ونبش دواخلها والمضي بها وراء حقائق بعيدة عن عالم المثيولوجيا، يولد الحقائق السياسية أو معاني الغرام -كما حدث في "ديانا..".
* هل نستطيع القول بأن الرواية ترجمة لسيرة الكاتب الذاتية؟
– بالقدر الذي أستطيع فيه الابتعاد عن ذاتي من أجل مواجهة نفسي أولا ثم الآخرين… واخضاعي مع جزئية من حياتي لتجربة التخيلات من خلال امتحان الأدب، ويمكن القول إنها ليست ترجمة ذاتية بالمعنى التقليدي، بل "مسيرة ذاتية –روائية"، فما يهمني هو وضع حياتي الخاصة بالاختبار وتسليمها الى تجربة الكتابة.. وليس كتابة اعترافاتي، لأنني أرى الحب أكثر أهمية من الأدب، إنه يلتحمنا.. لكنه بالمقابل -يمنحنا الكثير… وذلك حتى أستمر لكتابة رواية كبرى عن عائلتي، وحتى الوصول الى جائزة نوبل التي أشك أن جارشيا ماركيز حصل عليها بوصفه ممثلا لنا عموما.
* وهل تحملت كتابة تجربة صعبة كهذه؟
– لم أعرف بعد، لأنني لم أقترب من رغبة البوح عن ذلك فالأمر بيد القراء.
* قد تكون المرة الأولى التي يواتيك فيها قرار الكتابة عن حياتك الخاصة ؟
– بالضبط، وقد كنت بعيدا جدا عن تنفيذ الفكرة، لكن، وبعد أن بلغت من العمر عتيا – استطعت الالتفات الى الخلف بنظرة أخذت منها حياة أخرى من تأليفي.. وربما تكون هذه طريقتي في الرد على التشاؤم ومواجهته.
* أو لعلها محاولة البشر عن السكينة من خلال قصة حب قديمة؟
– نعم، بما في ذك من مخاطرة هائلة.
* وكيف خرجت من التجربة ؟
– شخصيا، فرجت حرا، الكثير من القراء لم يصلوا الى الخلاص ولم يشعروا بالرضا عن الرواية.. في اختبار قراءة وقراء ذوي أهمية ومقدرة.
* بقراءة الرواية، راودني إحساس بأن اطلاق وهج العاطفة يتطلب معايشة واقعية ودقة رصد لمشاعرك آنذاك، أم أنك لا ترى ضرورة لذلك؟
– الامران ممكنان، فصياغة الحرف تتم بتدخل التخيلات والمقدرة على «القول» بلا أشجان. ومناخ الرواية يتميز بقوة خصوصيتها. كثير من الكتاب استوحوا رواياتهم من زوايا الحوادث في الصحف ونسجوا قصصهم من «ملاحظات حمراء» تم نشرها، مثل فلوبير مع "مدام بوفاري" التي بدأت من خبر في امرأة منتحرة، أو ستاندال في "الأحمر والأسود" التي كانت من خبر عن باحث أطلق الرصاص عن صديقته في بهو إحدى الكنائس، أما قضية "ديانا" فتبقى أكثر قربا وخصوصية.
* في عام 1992 قلت: الرواية تبقى المقياس الممكن والوحيد للتوغل في الوقائع، وأن الماضي يصبح أكثر واقعية عندما تلمسه القصيدة. فهل رواية "ديانا" هي رغبة منك للعيش في تفاصيلها مرة أخرى؟
– تماما. فالتفاصيل الحياتية الأكثر قربا وأهمية من قلوبنا، تبهت مع الوقت، دون أن ندرك كيفية تلاشيها، توجد اليوم عدسة تصوير تراقب حياتنا ونجهل كيف كانت حياة أسلافنا، ومن حسن حظنا ان رسومات «تيزيانو» أو "بيلاثكيث"، انقذت صورة واقعهم من الضياع.
* تخلو "ديانا" من الزخرفة (الباروكية) التي عودتنا عيها، فهي بسيطة ومختلفة.. فهل هي ضرورة امتها عليك طبيعة الرواية، ام تجاوز الى شكل أخر؟
– بهذه الثلاثية التي أسميتها (تدوين زماننا) تركت لها الشكل الصحفي، باسلوب يميل الى البساطة دون حاجة لاستخدام الخبرات التقنية التي لدي الكثير منها، وبمستويات عدة.. وحين أشرع في موضوع رواية ما، ابحث فورا عن النوع، ففي داخل كل موضوع نوع ما يرسل شكله الى الروائي حتى يكتشفه.
* مثل تحولات بيكاسو.. ولكن على صعيد الكتابة ؟
– نعم، وهذا تؤكده ثقافة عصرنا.
* أو قد يكون الملل من النوع الواحد؟
– ايضا، فالانتماء لنوع وحيد بالادب من الممكن ان تكمن روعته باثارة الجدل.
* والبساطة في رواية ديانا تكمن بقوتها العالية؟
– لدرجة انني لم اجد ضرورة البحث عن تعقيدات شكلية.
* ناديت «البطة» بغير اسمها، اعتقد أن القراء لن يعرفوا انها الممثلة المعروفة «جين سبيرغ»؟ – الجميع يعرف ذلك.. ومناداة البطة بغير اسمها ليس بقصد التستر على هويتها الحقيقية.
* تبدو الرواية مؤلمة، وكأنك بذلت جهدا لاضفاء هالة الحياء على تفاعيلها، إذ اننا ننتهي من قراءتها وليست لدينا امكانية القول: انها الحقيقة ؟
– بمعنى أو بآخر هذا صحيح، جرأتي تجلت بالاحتشام، وهذه طريقني لانقاذ الرواية، اردت كتابة رواية واقعية الاحداث حتى تدعمني واستند عليها في كتابة روايات اخرى ممكنة التصديق ومعقولة. الرواية الثانية تجري احداثها في كولومبيا وبابطال لم اعرفهم بما يكفي.. والثالثة في تشيلي وسوف آتي بأحداث عن أشخاص اعرفهم منذ طفولتي واثروا في مسيري بعد ذك.
* كيف ترى جين سبيرغ (أو) ديانا؟
– كانت امرأة جديرة بالحب، مركبة الشخصية، سعت لتدمير نفسها بطريقة لا تصدق.
* وانتهت بالانتحار مثلها؟
– ومبكرا، لقد تحولت الى ديانا، كانت امرأة قلقة صرعتها الكآبة.
* كان عتابها لك في الرواية لكونك الزمتها بقضايا الشعب واظهرتها كالرجل.. ولكنها مجرد كلمات، لانك لم تحارب ابدا في الجبال.. لقد ألزمتها بالكثير؟
– هذا صحيح، فانا مهمتي الكتابة وليس القتال في الجبال، حيث لا جدوى مني هناك لم يطالب احد فولتير بالانضام للثورة الفرنسية وبيده بندقية صيد، الذي حدث انها استخدمت هذا السلاح ضدي.. ولا احد كالمرأة يتقن دفع الرجل للاحساس بالذنب. انكن بارعات في تعليمنا هذا الشعور.
* وبكتابة هذه المشاعر، هل تحررت منها؟
– ابدا، فالرواية تتناول عالمي الداخلي، وتجيب على سؤال (جواني) ولا استطيع رويتها كتجربة خاصة، كل ما هناك انني تعاملت معها كحقيقة ادبية، واقعة اواجه بها العالم الشفوي…
* ولماذا اقتحمت مغامرة نبش الذكريات ؟
– ربما لانني وصلت الى لحظة اردت فيها رؤية حياتي من خلال قدرتي على تخيل نفسي، إن كوارث العالم حدثت بسبب افتقارنا الى مقدرة الغوص في دهاليز خيالاتنا. لقد اغتال كورتيز سكان المكسيك الاصليين بسوداوية ماهرة، لانه عجز عن تخيل عالمه وفهمه، والشجاعة في حياتنا اليومية ترتكز على ادراك الآخر، وليس عبر النتائج السياسية، بل الانسانية النفسية، وبضرورة ملحة للجميع. هذا ما سعيت من اجله في الرواية، معرفة ذاتي ومعرفة ديانا واخرين بدوا بغير اسماعهم الحقيقية كان علي البحث عنهم لاكتشافهم من جديد.
* بتجاوز ديانا، ما الذي يحدث في المكسيك ؟ ومن وراء الاغتيالات السياسية، من وجهة نظرك بوصفك مشغولا بقضايا بلادك ؟
– إنه مخاض الديمقراطية المؤلم، ولادة متعسرة دامت حوالي ثلاثمائة عام من الاستبداد. إن الاحداث ديمقراطية تقليدية أمر في غاية الصعوبة، إذ كيف تبنى بجانب تجارب متراكمة في البلاد، بثقافة هالة، مع النمو الاقتصادي والاجتماعي.. هذا موضوع لا يناسب مؤسسات عاجزة. المكسيك حالة خاصة يصعب مقارنتها بما يجري في الديمقراطيات الاخرى، كأسبانيا. ليتنا نحظى بالذكاء السياسي الذي حظيت به اسبانيا عندما لعبت بورقة الولاء للملك انقاذا لمستقبلها من النار والدم بعد موت ديكتاتورها.
مخاض المكسيك، كحال غيره، سوف يتمخض عن عطاء بالالم والدم. هناك من يستغل فينا ما يسميه "نهج الديناصورات".
وثمة اعتقاد بعلاقة مافيا المخدرات بالاغتيالات، وينبغي عدم تغييب عوامل أخرى، ولا تجاهل من يصطاد في نهر متقلب، ليتمكن من فتح الطريق امام السوق الحرة، وتمرير العلاقة المستقبلية مع الولايات المتحدة، إن ازدهار هذه التطلعات» في المكسيك سوف يقود الى سيطرة المخدرات في البلاد، هناك الآن 30- 40 مليون مدمن في امريكا يتعاطون المخدرات يوميا، فاين هم بارونات المخدرات في امريكا؟
* وما هو رد الرئيس كلينتون على ذلك، عندما تناولتم العشاء معا برفقة صديقك جارشيا ماركيز؟ – قال بان قانونه الجديد سيردع الجريمة، وسيكون وسيلة ناجعة في يد البوليس الامريكي، ولكني اعتقد ان اجتثاث الجريمة من جذورها يكون بقرار ابادة المخدرات، وبقرار دولي على الأقل في اوروبا وامريكا، ودون ذلك سيبقي القانون حبرا على ورق.
* هل ترى ان المكسيك تمر بمؤامرة بغية ابقاء الفساد لاعاقة التغيير السياسي؟
– قلت من قبل ان ما يحدث في المكسيك ليس مؤامرة، ولكني اليوم اغير رأي وأوافق على الاعتقاد بوجوه المؤامرة تناغما مع ردة الفعل عما اعرفه عن الساحة الواسعة التي عشناها بصفة غير رسمية اعاقتني طويلا عن معرفة من نتبع، ان خلاصنا بدعم الديمقراطية واصلاح الجهاز القضائي المكسيكي بوصفه –اي الجهاز القضائي- أحد العناصر الاساسية والمسؤولة عن الاحداث، وهذا هو تحدينا لاحلال قيادة سياسية صادقة.
* قلت مرة أنك تشعر بالسوء ان لم تضع «بيضك» كل صباح ؟
– نعم، لأنني بحاجة ماسة لها.
* كحاجتك الى العيش ضمن علاقة حب ملتهبة.. كي تستطيع الكتابة؟
– انا أحب، فانا أكتب الحب زوادتي، أستل الكلمات من زخم مشاعره المجنونة، وحين يعلق أحد ما على أنني اميل الى النحول، اجيب بان الكتابة – بالسبة لي مثل تسلق الجبال بالنسبة الى آخرين. أكتب بعصبية، أفقد على ضوئها الكثير من وزني واستهلك بروتين جسدي.
* في رواية "ديانا" قلت بأنك تكتب طالما هي بجانبك، واعتذر لأنني أذكرك بتراجعك عن هذا القول؟
– نعم لقد مضى زمن طويل دون أن امر بشيء كهذا، ولكني تعلمت ان ابقى في حالة حب دائمة كحب زوجتي، لقد حققت ما يلائمني وتصالحت مع هذين العالمين في سني الآن.
* كيف تسير امورك مع أبنائك ؟
– تمر بصعوبة، لاختلاف الاجيال، مرة سمعت ابنتي تقول لاحدى صديقاتها، وهي في السادسة من عمرها «عمر أبي مئة عام» وكانت لحظة فارقة في حياتي وعندما بلغت العشرين من عمرها سمعتها تشكو لصديقها "أتدري صعوبة ان يكون لك أب يطالعك من خلال الصحف كل يوم". فولاء الابناء هم حصيلة نتاج زواجي الثاني وعن عمر 45- 46، استطعت ان أوجد مع ابني علاقة متينة، فهو يعرف ما يريد، ويملك جمالياته الخاصة عن الحياة، وعلى الابنة اكتشاف طريقها، ابنة أخرى من زوجتي الأولى التي انفصلت عنها عندما التقيت بديانا.. واذكر هنا انها قالت بأنني فقدت انسانيتي،. وقد كان قولها دقيقا، فالدون جوان الذي عشته قتل الانسان في داخلي، قد ادركت ذلك مبكرا، إذ انني فقدت الكثير من انسانيتي سعيا وراء المتعة، وربما بأثر رجعي لانني لم استطع ترميم علاقتي معها مرة اخرى. في رواية "ديانا" تركت العنان للكاتب المثقف ان يختار وشاح الروح، وهذا سر جمال القصة. كما حاولت الاجابة على سؤال "لويساكوثمان" زوجتي الأولى وعلى عتابها لي حتى وان لم تستطع قراءة ردي، لأنها قد انتحرت العام الماضي.
ترجمة: سميرة المنسي (كاتبة ومترجمة من الاردن)