ولد كارلوس ليسكانو بمونتيفيديو (الأوروغواي) سنة 1949، في حمأة سيطرة الديكتاتورية العسكرية على البلاد. ولمّا شبّ عود الفتى كارلوس، انخرط في النضال ضد آلة القمع العسكرية، من خلال انضمامه لأحد التنظيمات الطلابية اليسارية في الجامعة، وهو ما قاده سنة 1971 الى الاعتقال، فحُكِمَ عليه بالسجن وهو في الثانية والعشرين من عمره. أمضى ليسكانو ثلاثة عشر عاماً في المعتقل، تعرّض خلالها لأنواع رهيبة من التنكيل والتعذيب، إلا أن معنوياته كانت أقوى وأعتى من آلة الترهيب والتخريب العسكرية.
إذ إزاء حملات القمع والمداهمات الشرسة التي ظل يتعرض لها نزلاء المعتقل بين الفينة والأخرى، بغية الحط من معنوياتهم وتحطيم قدراتهم على الصمود والاستمرارية، استطاع كارلوس ليسكانو المعتقل أن يصمد ويتماسك ويقوى، وذلك من خلال فاعلية الكتابة والدراسة.
بعد سنوات الاعتقال الثلاث عشرة، يلتجئ ليسكانو الى بلاد السويد (ستوكهولم)، بجيوب فارغة وقلب مترع بالأحلام والأماني. وأثناء ذلك المقام العابر، يستأنف الرجل مشروع الكتابة والتأليف الذي بدأه في السجن، بغية إشراك القراء فيما كان يعتمل بدواخله من آلام، وأحلام، ورؤى، وتمثلات.
إن كارلوس ليسكانو ليُعتبَر اليوم بحق، من بين أهم كتّاب القارة الأمريكو ـ لاتينية عامة، وأبرز كتاب الأورغواي بشكل خاص. ترجمت بعض أعماله السردية مؤخراً الى اللغة الفرنسية (روايته الثلاثية: الطريق الى إيتاكا La Route d Ithaque، منشورات بلفون، باريس 2005؛ مع مجموعة قصصية أخرى صدرت عن سلسلة 10/18)، مثلما عُرضت له بعض الأعمال المسرحيّة ضمن فعاليات مهرجان أفينيون ومهرجان بايون.
وبهذه المناسبة، استضافته الصحافة الأدبية الباريسية، فكان لها معه هذا الحوار الشيق:
n ما الذي قادكم السيد ليسكانو، خلال فترة الاعتقال التي مررتم بها، الى الكتابة؟
u إن الطريق الذي أفضى بي الى الكتابة، مثلما هي جميع الطرق التي اجتزتها في حياتي، لم تكن بالمطلق مسلكاً مستقيماً… ذلك أني كنتُ وقبل الشروع في ممارسة الكتابة، طالباً باحثاً في مادة الرياضيات؛ وبمجرد ما أن حللتُ ضيفاً على السجن، حتى واصلتُ السير في ذلك الاتجاه.. لكن ما كادت ثماني سنوات تمضي على هذا الوضع، حتى تأكدتْ لي بالملموس استحالة السير على ذلك النهج، مع إحراز ما كنتُ أصبو إليه من تقدم ونجاح ضروريين، وذلك لتعذر الوسائل والأدوات المعينة، بما في ذلك غياب المراجع والمدرّسين اللازمين.. عندئذ فقط، تخيلتني أكتب الرواية، ولو لمرة واحدة ووحيدة في حياتي، على الأقل…
لقد كانت فترات القمع الشديد في المعتقل، تتعاقب وفترات أقل هولاً وترويعاً؛ وكنت أنا قد شرعتُ في كتابة ما حلمتُ به، في بحر واحدة من فترات القمع العصيبة تلك، التي تمرّ بها حياة المعتقل؛ وكانت غايتي من وراء ذلك، درءَ كل مسّ محتمل قد يصيب قدراتي الذهنية، وتحفيزَ دماغي على مواصلة اشتغاله بكيفية طبيعية. لقد كانت بداية ولوجي الى عالم الكتابة إذن، قد مرّت عبر مسرب الحاجة الى تحويل الطاقة الذهنية في اتجاه الصمود. ثم بعد ذلك، حصل ((أن أصابتني حرفة الأدب)) مثلما يقال، ومنذ ذلك الحين، لم أتوقف عن الكتابة.
n بكتابة الرواية إذن، خطوتم خطوتكم الأولى ككاتب؟
u أجل، وقد كان في ذلك الإجراء ربما، الكثير من الاعتداد بالنفس… ذلك أن أغلب الكتاب في أمريكا اللاتينية، يبدأون مشاويرهم الأدبية بكتابة بعض المحكيات الصغيرة، بينما أنا ـ الحديث العهد بالكتابة ـ كنت أعتزم منذ الوهلة الأولى، كتابة رواية!
n هل غيرت فترة الإفراج عنكم، تغييراً ملموساً في كيفية تعاطيكم لعملية الكتابة؟
u لا، أبداً. لقد دام نشاط الكتابة عندي في السجن مدة أربع سنوات، كنت أثناءها قد فكرت طويلا، في مهنة الكتابة والكاتب. ومن ثمة لم أقم بعد باسترجاع حريتي، سوى بمواصلة الطريق التي فتَحَتها أمامي التأملات، التي كنت قد توصلت إليها خلال مرحلة تفكيري في السجن. وكذلك شأن عملي اليوم، إذ هو بالفعل حصيلة هذه الأعوام الأربعة. زد على ذلك، أني كنتُ قد تخيلت أثناء تلك السنوات الأربع، العديدَ من الحكايات التي لم توضّب في كتب، إلا فيما بعد. إن كتاباتي تتغذى على مقروئي الشخصي ـ بحيث إننا لا نكتب على الدوام، إلا فوق تربة مشبعة برميم مَن سبقنا من الكُتّاب ـ وهو الأمر الذي جعلني بالتحديد، أتمكّنُ من تكوين ذاتي بفضل بعض الكتب، التي كنت أتوفر عليها في السجن، حيث لم تكن لي ـ بالبداهة ـ حرية الاختيار. أما ما تمكنتُ من قراءته بعدما خرجت من السجن، فإنما اضيف الى حصيلة ما منحَتْه لي قراءاتي، وأنا رهن الاعتقال.
n لقد كتبتم ضمن كافة الأشكال الأدبية: في المسرح، والرواية، والقصة القصيرة، والشعر. فهل منطلق التأليف وسيرورة العملية الإبداعية لديكم، شيئان مختلفان عن بعضهما البعض، كلما تعلق الأمر بهذا الشكل أو ذاك، من أشكال الكتابة؟
u ينبغي التمييز بشكل دقيق، بين الشعرـ باعتباره شكلا ينطبع بخصوصية مميزة ـ حيث تتسرب بعض العناصر الأشد حميمية الى الكتابة، برغبة منّا أو بغيرها؛ وبين بقية أشكال التعبير النثرية الأخرى. فإذا كان ذلك شأن كتابتي الشعرية، فإن نصوصي النثرية الأخرى ـ والأمر سيان عندي، سواء أكانت نصوصاً في المسرح، أو في الرواية، أو في القصة القصيرة ـ تتغذى عن بعض الأشياء التي أفكر فيها، ومن تمّ أتوخى قولها من خلال إحدى الشخصيات التي أخلقها. ولكي أبرهن على أن أشكال التعبير النثرية قريبة من بعضها البعض، أقرّ بأنه قد سبق لي أن كتبتُ قصة قصيرة سرعان ما حوّلتها الى مسرحية، من دون أن أنتقص منها أو أن أضيف إليها أي شيء يذكر. إن النص النثري يشكل مادة خاماً، تتلاءم بكيفية جيدة مع تمثلات رجال المسرح، الذين لا يحبون على العموم ـ وهنا لن أحكم سوى على البعض ممَن أعرفهم وحسب!ـ أن تحتوي النصوص المسرحية على إيضاحات مشهدية مفرطة، وعلى توجيهات إخراجية كثيرة؛ إنهم يفضلون نصاً خالياً من أي رتوش إخراجي، لكي يكون في مقدورهم فيما بعد، التصرف فيه بحرية، من حيث الديكور، والإنارة، والملابس..الخ.
إنني على كل حال، حينما أكتب مسرحية ما، لا أشغل بالي بوضع الإشارات والإنارات المعهودة، ما دام المخرجون المسرحيون لا يأخذون بها في النهاية، وإنما يتصرفون وفق ما تمليه عليهم مشيئتهم… n من بين نصوصكم التي نُشِرت في المجموعة القصصية الصادرة عن سلسلة 10/18 بعنوان: النمّام، وقصص أخرى، توجد هناك بعض النصوص التي تمّ اقتباسها مسرحياً…
u نعم بالتأكيد، ويتعلق الأمر بنص ((أسرتي))، ونص ((النمّام))؛ وبالمناسبة فإن هذا النص الأخير قد عرف مساراً غريباً بعض الشيء: فقد كُتب كقصة قصيرة في البداية، لكنه مُسرِح بعد ذلك، قبل أن يُنشَر على شكل قصة قصيرة. ومهما يكن الأمر، فإني أنا نفسي مَن يقوم بعملية اقتباس هذه النصوص إلى المسرح. أما قصة ((أسرتي))، فإنها قبل أن تنشر في المجموعة التي أشرتم إليها، كانت قد صدرت عن سلسلة المنشورات المسرحية، وهي السلسلة التي نشرت لي كذلك، نصين مسرحيين هما: الإعانة، و تغيير الأسلوب.
إن وكيلي الأدبي هو من يتولى كل هذا الشغل. أضف الى ذلك، أنه ينبغي لكم أن تعرفوا بأنه لا توجد أية علاقة بين المنشورات المتخصصة في المسرح، وبين تلك الدور التي تنشر الرواية والقصة القصيرة؛ إنهما عالمان منفصلان عن بعضهما البعض، وهذا شأن غير معروف عندكم في فرنسا؛ بحيث إن الشهرة التي يمكن أن يحققها كاتب مختص في المسرح، لا يمكنها بالضرورة أن تدفع بالناشرين المتخصصين في غير المسرح، الى الاهتمام برواياته أو بقصصه.
n كُتبت رواية ((الطريق الى إيطاك))بضمير المتكلم. فهل يرجع ذلك الى نوع من الاختيار المعهود عندكم، أم أنكم تكتبون تارة بضمير المتكلم وأخرى بضمير الغائب، بكيفية لا تعبأ بمثل هذه التفاصيل؟
u على الرغم من أني كتبت بالشكلين معاً، فإنني أجد سهولة كبرى في الكتابة بضمير المتكلم المفرد. لكن يبدو لي أنه من العصي جداً على القارئ، وضع حدّ فاصل فيما بعد، بين ((أنا)) السارد و((أنا)) الكاتب.
n للسارد (في هذه الرواية)، اسم شخصي يحمل بعض الإيحاءات الساخرة، أليس كذلك؟
جواب: بلى. إن أبويه من المتحمّسين لبعض الشيوعيين، لذلك سمّياه بفلادمير Vladimir، تيمّناً بلينين.
n هل بإمكانكم أن تتفضلوا علينا بعض الشيء، في تفصيل المسار الذي قطعه نشوء وتكوّن رواية الطريق الى إيطاكا؟
u لقد نشأت هذه الرواية أساساً، على خلفية ما عشته، وما تمكنت من جمع بعض الملاحظات بشأنه حينما وصلت الى أوروبا، وأقصد بذلك: انهيار جدار برلين وما ترتب عنه من تداعيات أخرى، والحرب في يوغوسلافيا، وغير ذلك. لقد قادتني هذه الأحداث الى الخروج بمجموعة من التأملات، التي باشرتها بكيفية جد متعمقة، بشأن موضوعة الهجرة. على كل حال، هناك العديد من العناصر المرتبطة بالجانب السيري في الرواية، إلا أني في نهاية المطاف، لستُ هو فلاديمير(بطل الرواية)!
من دون شك، تلحّ علي في بعض الأحايين، بعض التمثلات القريبة من أفكار فلاديمير، بحيث يحدث مثلاً أن أقول في قرارة نفسي بأن حياة المواطن العادي معقدة وصعبة للغاية، وأن أحسن طريقة لتفادي أي مشكلة محتملة، هي الانتصار لموقف عدم امتلاك أي شيء يذكر… إلا أني مع ذلك، أكون على وعي تام بأن المواطنين المصنفين ضمن فئة مَن لا يملك سكناً قاراً (les SDF) ـ أي ممَن لا يملكون شيئاً ويعيشون تحت سقف كارتوني ـ يعانون الشيء الكثير؛ وعلى الرغم من ذلك، فهم قد يستشعرون ربما نوعاً من المتعة لكونهم لا يملكون قطميراً، ويعيشون بناء على ذلك في منأى حرّ عن كل إرغام أو إكراه. إني لأكتفي أنا شخصياً وبصفتي كارلوس ليسكانو، بحياة رتيبة مخفورة بوسائل وأدوات عيش رغد… مع بعض الواجبات التي يمكنها أن تترتب عن ذلك! إني بمعنى من المعاني، قد فوضتُ لفلاديمير التعبير عن رغبتي في عدم امتلاك أي شيء، والصدور عن توقي لحياة تنزع نحو التقشف… بالطبع، هو يملك بعض الأشياء ـ كتصوره الحالم بكوخ خشبي، مثلاً ـ إلا أن هذا ليست له أية علاقة مع مسألة ((امتلاك شيء ما))، بالمعنى العام ضمن حياة متعارف عليها، وفي سياق الحياة المألوفة. هناك طريقتان ليكون المرء حراً(في نظري): أن يصمد ويصارع، أو على العكس أن يستسلم كلية لتيار الحياة الجارف؛ وأعتقد من جهتي أننا بكيفية عامة، متشبثون بشكل مفرط، بالأشياء المادية، والواجبات، والأحداث العارضة، والالتزامات… ويساهم كل ذلك، في تقليص حرية أي فرد منّا، والحدّ منها. ربما قد تكون هناك علاقة بين وجهة النظر هذه، وبين السنوات التي قضيتها في الاعتقال: لقد تمكنت وأنا في السجن، من أن ألاحظ بأن المعتقلين الذين فقدوا حريتهم منذ وقت بعيد جداً جداً، قد انتهوا الى رفض امتلاك أي شيء مهما كان؛ إنهم يمنحون الآخرين كل شيء يقع تحت أيديهم، رغبة منهم في أن يصبحوا منفصلين ومترفعين عن كل ما من شأنه أن يحصل، بل إنهم ليرفضون الاحتفاظ حتى بكأس صغيرة من الزجاج، لأن الكأس قد تتسخ، وقد تتكسر، و.. الخ.
n لقد بدا لي في العمق، بأن الفاصل الأوحد بخصوص انفصال فلاديمير المطلق عن الحياة، هو هذه النظرة الواهمة، هو هذا الحلم الدائب…
u أجل، هو كذلك فعلاً؛ ذلك أن حلمه المجَسّد في نظرته التّواقة الى كوخ خشبي، إنما هو حلمٌ ببلوغ إيطاكاه الخاصة به، بحيث يحيل العنوان الى الأوديسا، الى سفر أوليس الرامز للعودة الآملة في العثور على مشاعر الحنان، والأمن، والحماية. وهو يعتقد بأن إينغريد Ingrid، تمثل عائقاً يحول دون تحقيق ذلك، لأنها تجسّد إغواء بالحياة العائلية، وبالأبوة. إن إينغريد هي بمثابة الخطر الذي يأذن بالاتصال والالتصاق، وبالتالي بغياب الحرية. ومن ثمة، ففلاديمير يعيد التمسك بهذا الحلم الذي سكنه منذ البداية، وكذلك بهذا التعاون، والتضامن الموجود بين الفئات الأكثر فقراً في المجتمع.
n غير أن فلاديمير لا يدرك بأن الحرية المطلقة غير موجودة، وبأنه من المستحيل أن ينفك المرء بكيفية تامة، من قيود وإكراهات المجتمع، وبأن كل حرية إنما هي ـ قسراً ـ حرية وقع بشأنها نوع من التفاوض. إذ بينما يشتغل فلاديمير بدار العجزة في مدينة ستوكهولم، نرى أنه كان من بين المستخدمين القلة، الذين تمكنوا من عقد جسور التواصل مع بعض النزلاء. فهل هناك بحسبكم، من علاقة تربط بين التهميش الاجتماعي وبين الإقصاء الناجم عن الخلل أو القصور الذهني؟
u نعم، إني أعتقد بأن هذين النمطين من العزلة والتهميش والإقصاء، لمتجاورين ومترابطين بشكل كلي، بل إني أرى أن أحدهما هو بمثابة نوع من الاستعارة التي تحيل على الآخر. ونتيجة لذلك، شعر فلاديمير بنوع من الانجذاب نحو عالم هؤلاء المرضي العقليين، مثلما أحس في نفس الآن، بكلكل ذلك الخطر الذي قد يرزح تحت وطأته، إن هو أفرط في مجاورتهم والاقتراب منهم لوقت طويل. ولهذا السبب بالضبط، كان قد انصرف.
لقد صُدِمت بالوضوح الشديد الذي قامت عليه رؤية فلاديمير، بشأن دينامية الأعمال المُقدمة ضمن المجموعات الإنسانية، وبشأن دواليبه النفسية الخاصة كذلك…
إن رغبة فلاديمير كانت هي أن يتجه الى ما أبعد من مساحة السطح التي تغلف الأشياء؛ غير أنه عوض أن يتصور بأن كل الأشياء تنحو في الاتجاه الحسن، اكتفى بالاقتناع بأن كل الأمور غدت تسير من السيئ الى الأسوأ. لقد حوّله ذلك الى نوع من تلك الشخصيات المصابة بأعراض الكاساندر Cassandre: إذ من الصحيح دواماً، أن يكون التكهن بالأشياء السلبية من قبيل الشأن الأسهل، بالنظر الى التنبؤ بما هو سار، مثلما أن من الأمور اليسيرة هي التبئير على الجانب السيئ لدى الناس، عوض رؤية الجوانب الايجابية.
أعتقد بأن تمثلاً للحياة بهذه الشاكلة، لهو أقرب مما يُنضِجه السجين ـ الذي هو بالتحديد، شخص فاقد بشكل كلي، لما من شأنه أن يدافع به عن النفس ـ من تصورات ذهنية؛ إذ عليه دائماً أن يتوقع حدوث الأشياء الأشد مأساوية، إن هو أراد محاولة حماية نفسه بنفسه. بحيث لا يمكنه أن يثق ولا أن يبوح بأسراره لأي كان. وعليه، فإن التفكير دائماً في أشياء سيئة للغاية، هو إذن نوع من الكيفية التي تفضي بالسجين الى الاطمئنان والتخفيف عن النفس: فإذا حصل عدم وقوع الأمر الخطير المتوقع، فإنه حينئذ يشعر بالاطمئنان، أما إذا ما حدث ذلك بالفعل، فإنه يكون قد تهيأ له نفسياً بما يجب. لنتصور مثلاً، أن سجاناً ما منح صاحبنا شيئاً ما، عندئذ سوف يتساءل السجين وبشكل أوتوماتيكي، عن العذابات التي سوف تنجم عن هذه الأعطية، وهنا بالتحديد يظهر نمط التحليل التي يطبع ذهنية فلاديمير بشكل ثابت.
n إن نظرة فلاديمير الى الحياة إذن، هي نظرة مدموغة بطبيعة التجربة اللااعتقالية التي اجتزتموها؛ فهل كانت هذه الأخيرة تجربةً قصوى في الحياة، الى الحدّ الذي اضطركم الى المرور عبر بوابة الكتابة التخييلية، حتى تتمكنوا من الحديث عنها؟
u أعتقد بشكل خاص، بأن الحديث عن السجن هو حديث ممل ومضجر للغاية، ومن ثمة فليس له من نفع اجتماعي يذكر. غير أن تلك السنوات التي قضيتها رهن الاعتقال، علّمتني أشياء كثيرة جداً، وصار ما تعلمته يتسلل ليغذي كتاباتي. إن أهم درس تمكنت من استخلاصه في هذه الحقبة، هو معرفتي الكبرى بالكائن الإنساني: سواء من حيث ما يمتلكه من أشياء حسنة أو قبيحة. إن تجربة الاعتقال تترك في النفس وشماً غائراً يمتد حتى فترة ما بعد استعادة الحرية والسراح؛ وهكذا يحدث للمعتقل السابق أن يُكوّن عن الآخر مثلاً، تصوراً مترعاً بالمسبقات والأحكام القبلية، لأنه كان قد اضطر لحظة الاعتقال، الى محاولة توقع الكيفية التي ستكون عليها ردود فعل الناس، ليتمكن هو نفسه من تحديد رد فعله الخاص. هذا من جهة، أما من جهة أخرى فهناك أيضاً واحدة من النتائج المترتبة عن فترة الاعتقال، وهي أن كل مَن عاش التجربة، لا شك أنه يكتسب قوة عظيمة جداً حين يخرج من ظلمة السجن حياً: إن ردّ فعل معتقل سابق أمام بعض المشاكل التي مهما يكون نوعها، هو أن يردد في قرارة نفسه ((هدوءً أولا، ثم سيأتي الحل المناسب!)). إنه يرى أن الناس التي تعيش خارج السجن، غالباً ما تخلق لنفسها مجموعة من المشاكل التي لا وجود لها، في حين يكون عليها أن تتخذ موقفاً فيه ما يكفي من الصرامة، كي تكف مثل هذه المشاكل عن الوجود. أضف الى ذلك، أن المشكل الذي لا حلّ ليس ـ في نظره ـ بمشكل أصلاً، ومن ثمة ماذا ينفع الاكتراث بمثل ذلك النوع من المشاغل؟ إن ظروف السِّجن تُكسب المعتقلين كيف تنحو ردود فعلهم صوب هذا الاتجاه. مثلا حين يقول أحد الضباط لسجين لا يتوفر إلا على كتابين اثنين وحسب، هما كل ما يملكه في الحياة: ((ستحرم منهما لستة شهور كاملة))، ثم يسحب الكتابين منه؛ يجيب المعتقل عندئذ قائلا: ((وماذا بعد؟!…)). لقد مررتُ أنا بالذات، بامتحان مشابه لهذا في السجن، بحيث كان أحد الضباط العسكريين يضطهدني ويعذبني ويسبني و..الخ، من دون توقف، إلا أنه لم يسبق لي أن بادرت الى اتخاذ رد فعل، ضد سلوكه أبداً. وهو ما حذا به ذات يوم، الى أن يسألني بنبرة مغتاظة: ((بربك، ألست كلباً حقيقياً؟!))، فأجبته: بلى يا سيدي((. ومن ذلك اليوم، تركني وشأني. لقد كانت ردة الفعل غير المتأثرة، هي الحل الوحيد الممكن مع ذلك المتغطرس.
n إنكم وبالاستناد الى التعريف الذي ورد في سياق تصدير الرواية، لتسِمون مؤلف الطريق الى إيطاكا بسمة الغريب وغير المألوف؛ وبناء على ذلك، أسألكم: هل هنالك من علاقة يمكنها أن تجمع بين وضع الغريب ووضع السجين؟
u لم أفكر بعد في هذا السؤال… إلا أني أدرك بأن ثمة على الخصوص، اختلافاً جوهرياً بين الوضعين: فالوافد الغريب يطمح الى أن يكون مواطناً، بينما السجين ـ كما في التعريف ـ لم يعد كذلك. أضيف الى ذلك أن السجين هو على الخصوص، إنسان شديد المِرّة والقوة بشكل كبير. فهو حتى لو زهد في العالم الى حدّ الإلقاء بنفسه بين براثين الموت، فإنه ما أن يجتاز هذه العقبة، حتى يتعرف جيداً على حقوقه في ظرف زمني وجيز، ويعرف كيف يناضل من أجل أن يجعلها محترمة، حتى لو اقتضى الأمر إثارة الفضيحة من خلال موته الخاص.
n ما يُستخلص من الملاحظات التي كوّنها فلاديمير في روايتكم الآنفة الذكر، هو أن الغريب الوافد في النهاية، وعلى الرغم من طبيعة المعاناة الناجمة عن كونه مهمشاً ومقصياً، لا يعيد في علاقته مع أنداده وأشباهه المقصيين، سوى إنتاج نفس المواقف والوضعيات التي يتبنّاها الناس إزاءه، في بلاد المهجر…
u بل وأفظع من ذلك! فالوافد الغريب لا يكون على معرفة مطلقة بطبيعة اشتغال المجتمع الذي يحاول أن يندمج داخله، إلا أنه يُكون عن هذا المجتمع مع ذلك، الكثير من الآراء المسبقة، وهو ما يجعله يهاجم كل ما يحدث بجواره وبالقرب منه.
n إن ((ماضي)) السارد الذي هو بالطبع فلاديمير، يكاد يكون غائباً عن الحكاية، اللهم بعض التهويمات الفضفاضة للغاية من جهة، وذلك الحضور المستتر والخفي للأبوين من جهة أخرى؛ وبناء عليه، نجد أنفسنا كقراء أمام محكي راسخ غاية الرسوخ، في الزمن السردي الذي يحيل على الحاضر..
u فعلاً، لقد خلقت لي مختلف مستويات الاستعمال الزمني بعضَ المشاكل، فأردتُ بشكل خاص أن أتجنب ثقل الماضي المركب؛ وهكذا كان سهلاً على فلاديمير إذن، أن يعبر ـ بالطريقة التي صيغ بها المحكي في النهاية ـ عن الأشياء مثلما كان يفكر فيها، أو يدركها، وأن يجد لها موقعاً سردياً في اللحظة التي يتلفظ بها.
n هناك عدد قليل جداً من الحوارات في روايتكم. فهل تعتقدون بأن الحوارات، على الأقل من خلال شكلها الطَِباعي المعتاد، تمثل عائقاً يقف في وجه القراءة؟
u لا أبدا، ليس ذلك كذلك بالضرورة. إنه يكون كذلك فقط، حينما تكون الحوارات غير مصاغة بطريقة محكمة… وقد يحدث لي أن أقرأ بعض المؤلفات، التي تكون الحوارات فيها مكتوبة بطريقة رديئة، فتشكل لي الحوارات ها هنا بالفعل، عائقاً مزعجاً. وإذا ما كان اختياري قد وقع على الأسلوب غير المباشر في نقل أغلب المحادثات في الرواية، فإن ذلك فقط للحدّ من التكرار. ثم لأن هذا الشكل الأسلوبي أيضاً ، يجنب الكاتب الوقوع في ما يشبه الاتجاه المحاكي، وفي إعادة الإنتاج الزائفة لكلام الشخوص ((كما هو)). إن الأسلوب غير المباشر يبتسر ويُلخص، بينما الأسلوب يصف.
n ومع ذلك فإن لكم طريقة جد مميزة في استعمال الأسلوب غير المباشر الحر، حيث يبرز المتكلم من خلال ضمير الغيبة، بينما ينادي ويستفهم السارد، الذي يصبح نتيجة لذلك، في وضعية المخاطَب…
u تماماً. لقد كانت المشكلة الكبيرة التي اعترضتني أثناء الكتابة، هي التمكن من الوصول الى جعل السرد قادراً على التعبير عن العديد من الأصوات، من دون أن يجرّ هذا بعضاً من التكرار. وقد كان هذا الاستعمال المميز شيئاً ما، الذي تشيرين إليه، هو ((الحيلة)) الأسلوبية التي عثرت عليها بغية تحقيق هذا الهدف، وجعل السرد أكثر سلاسة.
n أليست ربما هذه أيضاً، طريقة أسلوبية لتثبيت الكلام ما أمكن، في دواخل الشخصية؟
u نعم هي كذلك، كما أنها أيضاً طريقة في الكتابة، تجعل السارد ينعم بحرية كبيرة.
n إن نهاية النص تترك القارئ يخبط خبط الأعشى وسط التباس قوي… إننا لنحزر على العموم، بأن الأمر يتعلق بمحكي استرجاعي، وبأن بداية المحكي لا تُقدم إلا في النهاية، إلا أن هناك ما يشبه بعض ((البياضات)) الكامنة بين نقطة البداية والنهاية…
u لكن هذا الالتباس مقصود بالطبع! ولستُ أعلم أنا بنفسي، ماذا حصل فعلا لفلاديمير.
n قلتم قبل قليل، بأنكم لطالما فكرتم لحظة الاعتقال، في مهنة الكاتب. ترى هل أفضت هذه التأملات، الى ميلاد كتاب نظري؟
u لا، لا. إنني لم أكن سوى أسائل نفسي، ولم أقدم إجابة أبداً…
n لقد دفعتم بدرس الرياضيات الى أبعد نقطة عن اهتمامكم الحالي. فهل يا ترى تتقاطع الرياضيات مع الكتابة الأدبية، في نقطة معينة؟
u تمنح الرياضيات في بعض مظاهرها على الأقل، فرصة للتحدي والاستلذاذ الفكريين اللذين لهما علاقة مع الأدب، على الأقل في نظري. كما يقول بعض النقاد بأن بنية بعض مؤلفاتي الأدبية، تنم على أن للكاتب عشقاً للرياضيات. وعلى كل، فإني أعتقد بأن ما من رواية مكتوبة بإحكام، إلا وتنبعث منها هارمونية شبيهة بتلك التي تميز البينة الاستدلالية، التي نجدها في بعض النظريات المبرهن عنها في الرياضيات.
n أنتم تعملون في حقل الترجمة، كما أنكم في الآن ذاته كاتبٌ تترجم كتبه الى لغات أخرى. فكيف تنظرون الى فعل الترجمة؟
u على المستوى المبدئي، نجد أن الكاتب يكتب لقارئ يتكلم نفسَ اللغة التي يكتب بها المؤلف؛ والأمر يتعلق في حالتي، باللغة الاسبانية. إلا أن المرء حين يقرأ نفسه بلغة أخرى، فإن ذلك دائماً ما يكون تجربة غريبة… كأن أكتشف مثلاً، نصوصي بالفرنسية: فحتى لو أني لا أتكلم اللغة الفرنسية، إلا أنه بمقدوري مع ذلك أن أقرأ حروفها. زد على ذلك أنها تحفزني على التساؤل عما يمكن أن يجده القارئ الفرنسي في مؤلفاتي… إلا أني لا أحير جواباً، على ذلك التساؤل…
فأن تُتَرجم معناه أن تُسلم أمرك كلية بيد شخص آخر، بيد مَن سيؤول وسيعيد كتابة نصك من جديد. إنني لا أحمل أي حكم بشأن العمل الذي ينجزه مترجمي، خلال فترة الترجمة. لكن ما أن ينجز العمل، حتى يدبّ الشك في نفس المرء… وهو شك تبرره بعض الأسئلة من قبيل: ترى هل تمّ فهم هذه اللفظة، بالشكل الجيد؟ ثم ألم تساهم هذه العبارة، في استحضار معنى مضاد في ذهن المترجم؟ ومهما يكن، فإنني أعرف بأنّ علي أن أحترم العمل الذي ينجزه المترجم.
n بماذا تنشغلون في هذه الفترة؟
u أعمل على تحقيق إنجازيْن اثنين: أشتغل أولا على رواية ذات صيغة ساخرة، إلا أني لن أقول بصددها أي شيء آخر… ثم على تكملة لمؤلَّف شاحنة المعتوهين، الذي كنت قد كتبته منذ سنوات خلت، وهو اليوم في طور الترجمة الى الفرنسية. فقد سبق لي أن أشرتُ في هذا الكتاب الى فترة الاعتقال، وأريد أن أكتب تكملة له أحكي فيها كيف صرتُ كاتباً.
إيـزابيل روش التقديم والترجمة: أحمـــد الويــــزي
كاتبة من فرنسا كاتب من المغرب