سليم النجار*
كي تقرأ نصّ سُعاد الصباح وجب التهيؤ لمغامرة مشرعة على فيوضات معانٍ عارمة ودلالات نقدية لا تنتهي، وكأنك بها تسعى إلى فهم ذاتها بمزيد فهم النصوص.
وإذا قد تبين هذا فليس لنا من سبيل غير محاورة متون سُعاد الصباح وهوامشها ومصنفاتها، لأنها هي التي تفي بالوجه الذي يبدو في كل مرة أنه هو شأننا معها، أي أن ندرك المعنى الذي تفيض به. فنحن إنمّا نتشّوق إلى إدراك قوة المعنى وعمق التأويل والقراءة في تعدّد مستوياتها وحقيقة ما تطرح.
من مجملِ إنتاجها الشعري، يمكننا أخذ قصيدتها الأخيرة، “الخزي”، وقد كتبتها رداً على صفقة ترامب لحل القضية الفلسطينية، حيث نجدُ في هذه القصيدة جمالية لغوية وموسيقية، ورغم أنها بعيدةٌ عن التقريرية والمباشرة في تناول هذا الحدث المستجد، إلا أننا نجدُ رمزيةٌ توارت من خلالها الشاعرة، لتقدم لنا عملاً فنيا، نقرأ في مقدمة القصيدة:
إنني بنت الكويت
بنت هذا الشاطئ
النائم فوق الرمل
كالظبي الجميل
في عيوني تتلاقى أنجم
الليل وأشجار النخيل. ٥
إن الاختفاء وراء الرمز في الشعر ليس عملا من أعمال الهروب الفكري، أو التملص من الواقع، بل هو المهمة الأولى للشاعر على المستوى الجمالي لكي يكون ما يصنعه فنا من الأصل والمبتدأ، وبدون هذا “الاختفاء وراء الرمز” لن تكون هناك ضرورة للعمل الفني من الأساس، لأن ما ينتجه الشاعر – حينئذ – سيكون خطاباً سياسياً أو فكرياً أو أخلاقياً، لا عملا فنيا.
ونلتمس في قصيدة الصباح صياغة إبداعية تتجاوب مع الفكر والجمال، حيث نقرأ في مقطعٍ آخر في قصيدتها “الخزي”:
(من هنا
أظهر أجدادي
ثم عادوا يحملون
المستحيل
إنني بنت الكويت
كلما مرّ ببالي عرب اليوم
بكيت
كلما مرّ ببالي عرب اليوم
بكيت
كلما فكرت بحال قريش بعد أن مات رسول الله خانتني دموعي فبكيت)٦.
إن هذا الزخم “ الجمالي والموسيقي واللغوي “ نفسه أيديولوجيا. وهذا ما أشار له لوكاش بضوح مؤكدا “أن الأشكال نفسها هي الحوامل الفعلية للأيديولوجيا في الفن وليس المضمون المجرد للعمل الأدبي، فنحن لا نرى أثر التاريخ في العمل الأدبي إلا من حيث كونه عملا أدبيا على وجه التحديد، وليس بوصفه نوعا أرقى من التوثيق الاجتماعي)٧.
كما أن الزخم اللغوي ليس سوى تجسيد لعلاقة وثيقة بتراثنا وبمناطق الدلالة الذي ينتشر في هذا التراث من تجارب شعرية ونثرية وحتى المساجلات الشفوية بين الشعراء وفي الهواء وسوق عكاظ خير شاهد.
وما ينطبق على اللغة ينطبق على الإيقاع الموسيقي؛ فالعامود التقليدي يعني التناظر والتوازي والثنائية والثبات. وشعر التفعيلة والحر يعني خلخلة الثبات إلى المراوحة والتنوع:
( كلما
أبصرت هذا الوطن الممتد بين القهر والقهر
بكيت
كلما حدقت في خارطة اليوم وفي خارطة الأمس بكيت)٨.
ومن ناحية أخرى، فإن المزاوجة بين السياق التفعيلي والسياق العمودي القديم، تعني تضفير الثابت بالمتحول واليقين بالقلق، والأحكام المقفل بالانسياب المفتوح. كما أن الاستغناء عن الوزن – في شعر النثر يعني عدم الانطلاق من أن هناك صورة واحدة سالفة ونهائية للموسيقى أو أن هناك قياسا ثابتاً.
إن تمرد الشاعرة سعاد الصباح على أوزان التفعيلة المستقرة هو – في جانب من جوانبه تمرد على هذا “الزمن الثابت الذي لا رجعة فيه عن تغير الحال أو خلق أنماط ثقافية للتغير” وبهذا المعنى يبقى الفكر أسيرا للتكرار تتجلى بصور شعرية مكررة المعنى والرؤية والوزن. وهذا ما حاولت جاهدة الشاعرة سُعاد تجاوزه:
( كلما أبصرت صلاح الدين
كلما أبصرت صلاح الدين
يستجدي فتات الخبز في القدس
ويستعطي على سيوف العربية )٩.
إن هذا النص لا يوظف الرمز كما يعتقد المتلقي للوهلة الأولى بل انه يقدم إيقاعا موسيقيا وكأنك تستمع نوتة أولى ولعل هذا ما لخصه لوفيفر منذ القرن الماضي. حينما رأى أن الفعل الإنساني ينبغي ألا يحدد نفسه في إحكام السيطرة على المكان والاشياء، بل إن الاولَ به أن يخوض المعركة ضد الزمن الثابت وضد الماضي الذي انتهى ضد كل ما يبدو أنه لا رجعة فيه ولا مفر منه ١٠.
والواقع أن “ ذائقة الأمة “ ليست ( طبيعية ) فيزيقية ثابتة؛ بل هي ظاهرة بشرية، تتغير من عصر إلى عصر وهذا القول ليس بجديد؛ لذا نجد أن الشعر العربي “القديم” قدّم قصائد كلاسيكية ذات بعد إنساني وفلسفي وجمالي، ولنقرأ ما أبدعه من خلال أدبيات نظمها شاعر عربي مغمور، هو أمية بن أبي الصلت الأندلسي المولود في بلدة دانية / إسبانيا في القرن الحادي عشر:
إذا كان أصلي من تُراب فكلّها… بلادي وكل العالمين أقاربي)١٢.
هذه الأبيات الشعرية التي جاءت من عمق التراث دلالة على أن القصائد العربية عبر تاريخها تمتلك سمة وصفة إنسانية، والنص دائم التوحش ككمياء روح معذبة.
وبالتالي يكتسي مفهوم الثقافة، في القصيدة فاعل متجدد و”نمط حياة” على حد قول الفيلسوف المعاصر “ هابرماس “ ١٣.
ويمكن القول إن الشاعرة سُعاد تسير على هذا الخطى وقصيدتها “الخزي” كُتبت بكلّ لغات العشق والسخط والانتماء. كل هذه الأوصاف وظُفت بالقصيدة للقول إنها مُصادرة من جغرافيا الوجع لهذا الوطن، وكأنها “لا أحد” في سجلات وأضابير الوقت وذاكرة وطنٍ في الغياب:
(كلما شاهدته في مركز البوليس
مرمياً على الحائط من غير كفيل وهوية
صُحت من أعماق قلبي أيها العصر الشعبوي
الذي صار فيه السيف يحتاج إلى إبراز الهوية)١٤
أليست هذه المقاطع السابقة من قصيدة الخزي للشاعرة الصباح؛ هي مقاطع شعرية؟، بل هي الحياةُ كلُّها؟!:
هل هناك نوافذ بديلة؟
لا خيار لنا نحن المضغوطين في الظّل – الأجيال المتألمة المحتذبة بالرؤى – على حدّ تعبير أرتو رامبو -، ترى لا خيار لنا بين الكتابة والألم.. الألم أو الكتابة. كلاهما يؤديان إلى ولادة صاخبة، إلى وجود ملونٍ بالأحلام، بلا خوف… بلا يأس.. بلا تردد؛ هل هذا ما ذهبت إليه الشاعرة سُعاد الصباح؟ أو أرادت الاشتباك مع المُحال العربي المزري، فسعت إلى سؤال: “هل هناك نوافذ بديلة؟” فكانت قصيدة “ الخزي” من واقعنا وتاريخنا، لا ترصد أحداث متخيلة، لكنها وظفت رموز تاريخية لعبت دوراً كبيراً في عالمنا العربي الإسلامي.
وفي ضوء هذا الواقع، وضعت الشاعرة المتلقي أمام تساؤلها بمزيج من المكر والحيرة… تُرى هل أصبحنا في عداد الموتى؟ وهناك إشارة أخرى إلى ذكائها الشعري، يتمثل في هذا المقطع:
“كلما أبصرت صلاح الدين – أبصرت صلاح الدين – يستجدي فتات الخبز في القدس ويستعطي على باب السيوف العربية)١٦. صور شعرية تتجلى قدرتها بالتساؤل والبحث عن أي نافذة تقفز بنا من هذا الظلام:
“إنني بنت الكويت
هل الممكن أن يصبح قلبي يابسا
مثل حصان خشب بارد مثل حصان من خشب
هل من الممكن إلغاء انتمائي للعرب؟” ١٧.
أليس هذا أسلوب شعري ساخر ؟ فـ”بالنسبة لأسلوب السخرية، الذي يُحمَّل ما هو معياري واصطلاحي دلالات إيحائية عميقة )١٨. يكتسب بها النص تشفيرا خفيًا، يواري به المعنى الذي يقصده. لذلك يتطلب إنتاج المعنى الإيحائي عن طريق السخرية ذكاء شديدا ومهارة في التلاعب بالألفاظ؛ وموسوعة ثقافية غزيرة؛ فالساخر من أجل إنتاج هذا المعنى (يعتمد وسائط متعددة بعيدة الدلالة، موازنا بين العناصر اللسانية والوجدانية إلى حدود الالتباس) ١٩. وهو ما يسبب خفاء المعنى المقصود وغموضه فلا يُدْرَكُ إلا إيحاءً.
شعرية الاغتراب في قصيدة الخزي
ومن يطلع على تجربة سُعاد الصباح في بعدها الاغترابي الفني على مستوى التخييل والانفتاح الرؤيوي والدلالي، يلحظ المتلقي القدرة على إنتاج المعنى الدلالي والرؤيوي، وكثافة المنظورات الموارية في بعدها ومنظورها الجدلي الصاخب. وهذا يعني أن آفاق المتخيلات الشعرية منفتحة على آفاق رؤيوية متخيلة عميقة التخفي والإحكام الفني، كما في قولها:
(إن جسمي نهلة تشربُ
من بحر العرب
وعلى صفحتي نفسي ارتسمت
كل أخطائي وأحزاني
وآمال العرب ) ٢٠.
بادئ ذي بدء أن الاغتراب الفني – بالتخييل والانفتاح الرؤيوي – في شعر سُعاد الصباح – يؤكد على شعرية الرؤية وشعرية الناتج الدلالي؛ على المستوى الاغترابي. إن الشاعرة تشتغل على المتخيلات المُبئرة للحدث والمشهد الشعري خاصة هو بث المشاهد السياسية.
وهنا – في المقطع الشعري يأتي الاغتراب الفني بالمتخيلات كاشفة عن الألم العرب وحنينها إلى تاريخ العرب المجيد.
وما ينبغي التأكيد عليه أن متعة شعرية الاغتراب الفني – يكمن في قدرة الشاعرة استخدام أساليب متنوعة من المخاطبة بشكل مباشر على شكل نداء، يتخلل هذا النداء محاورة الطبيعة.
إن الاغتراب الفني – عند الشاعرة، قائم على التضاد والتعادلات الفكرية المتوازية والبصرية المتفاعلة مع هذه المتعادلات، بتصوير بصري فاعل تشي بالوعي، ولهذا تعي الشاعرة أن فوضى اللغة أو العبث فيها بالأنساق لا يخلق فناً ولا يثير أسئلة ولا يحقق قيمة إبداعية.
من أجل ذلك، لا يسمو الإبداع بأساليب معتادة وأدوات تقليدية مكررة مستهلكة وإنما يسمو بالمبتكرات الأسلوبية، والطرائق الإبداعية الجديدة التي تخولها أن تستطرد إبداعها وترتقي به فنياً.
وبهذا الصدد، يطالعنا الفنان التشكيلي (ديلاكروا) بمقولة جد صائبة ألا وهي: الشيء الوحيد اعتبره – بالنسبة لي أكثر حقيقة هو هذا السراب الذي ابتدعته في لوحاتي المصورة، أما الباقي فما هو إلا بمثابة رمال تتحرك. ٢٢.
مجرد فكرة
إن النقد في النص الأدبي كائن حيِّ يتحرك ويتساءل وينبض، ودور الناقد هو بث الحياة فيه، وينتهي دوره عند هذا الحظ إذ يبقى ساكن في صفحات الكتب حتى يأتي من يوقظه من نومه ليعود إلى الحياة، للحركة والقول والنبض، وهذا دور المتلقي الذي يتمثل في إظهار ماذا يقول النقد في بنى النص وإشاراته؟؛ وإلى أين يتحرك؟.
قصيدة الخزي، نمط شعري جديد انطلقت تباشيره هذه العقود الأخيرة في الفضائيات وامتزاج الأجناس الأدبية كما تمتزج المعارف بعضها بالبعض لدرجة أصبحنا في هذا العصر نجد صعوبة التفريق بين الأشياء.
قصيدة الخزي ومضة مشتعلة قوامها فكرة ودفقة شعورية واحدة من سماتها التكثيف والقصر والعمق والتوهّج والجرأة مولعة بأسر القارئ إليها عبر الإبهار والإرباك والإدهاش والمفارقة والتضاد والتوازي والتّوتر وتنويع الفضاء والحثّ على التأمل وتشريك المتلقّي في تخصيب المعنى وملء الفراغات.
انتصرت القصيدة وارتبطت لتربتها وتنفست مناخها إضافة إلى أنها تساءلت كيف تنتصر القصيدة؟ في ظّل غياب النقد الإشكالي لحالنا وموت المثقف الذي ينتصر للنص الإشكالي الجميل مها كان نمطه، نص الخزي نص مربك لا ينمو إلاّ بالقراءة، ففي القراءة حياة للنصّ وخلود للتجربة الإبداعية.
الهوامش
١- هادي الخضراوي – يفاعة الشّعر وجذب اللَغة – مجلة الثقافية – مجلة شهرية – تصدر عن وزارة الثقافة التونسية – تاريخ الاصدار عام ٢٠١٨ – رقم العدد ٢٩٤ – ص٥٠
٢- مصدر سبق ذكره “ ١” ص٩٤
٣- انظر فتحي المسكيني مقاله “ الهوية والزمان تأويلات فينولوجية لمسألة “ نحن “ – مرجع سبق ذكره ص١٦.
٤- محمد مفتاح – دينامية النّص – تنظير وإنجاز – تناسل الخطاب الشعري – رؤية للنشر والتوزيع – ٢٠١٧ – ص١٨٧.
٥- قصيدة الخزي – ألقتها الشاعرة سُعاد الصباح في مهرجانات البركة – ألقيت القصيدة رداً على صفقة العصر.
٦ – مصدر سبق ذكره في” ٥”.
٧ – الماركسية والنقد الأدبي – تيسري ايجلتون – ت جابر عصفور – مجلة فصول – أبريل مايو – ١٩٨٥.
٨ – قصيدة الخزي “ مصدر سبق ذكره “.
٩ – قصيدة الخزي “ مصدر سبق ذكره “.
١٠ – د / أمينة رشيد – لوفيفر من الحداثة إلى الحداثية – مجلة ادب ونقد – مايو ١٩٩٣.
١١- الشعر والايديولوجيا – خواطر في فكر الشكل حلمي سالم – مجلة ادب ونقد – ١٩٩٢ – العدد ٨٧ – ص٥١.
١٢- أمين معلوف – من الأكاديمية الفرنسية – غرق الحضارات – ت نهلة بيضون – دار الفارابي بيروت – ٢٠١٩ ص٩١.
١٣- د / محمود اسماعيل – الخطاب الثقافي العربي – رؤية للنشر – القاهرة – ٢٠١٥ – ص١٥.
١٤ – قصيدة الخزي “ مصدر سبق ذكره “.
١٥ – سعيد بودبوز – سيميائية المركز والهامش في الآداب العربي المعاصر – ص١٧٧.
١٨ – يوسف الأطرش – التحليل السوسيو – سيمائي للخطاب الروائي – ضمن كتاب ( الملتقي الدولي الثالث – السيماء والنص الأدبي – مخبر أبحاث اللغة العربية والآداب -ابريل ٢٠٠٤ – منشورات جامعة بسكرة – الجزائر – ص٢٢٥.
١٩ – محمد العمري – البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول – دار إفريقيا الشرق – الدار البيضاء – ٢٠٠٥ – ص٩٢.
٢٠ – قصيدة الخزي “ مصدر سبق ذكره “.
٢١ – قصيدة الخزي “ مصدر سبق ذكره “.
٢٢- برتليمي جان – بحث في علم الجمال – ١٩٧٠ – ص٤٠٥.