عبدالله الطائي شاعر عاشق لوطنه متيم به يحياه يقظة ومناما وقد امتلأ شعره بمناجاة عُمان والإشادة بها وتمجيدها وذكر أعلامها والمفاخرة بتاريخها وحضارتها.. وحب الوطن والتعلق به طبيعة بشرية لا يستطيع الإنسان الفكاك منها ولكن ظروف المرء وأحوال حياته قد تزيد من تأجج عواطفه تجاه وطنه. ومن الظروف التي ألهبت مشاعر عبدالله الطائي نحو بلاده إبعاده القسري عنه وغربته الطويلة التي امتدت لأكثر من عقدين من الزمن عاشها بعيدا محروما من زيارته ورؤيته إضافة إلى الأحوال المؤلمة التي كان الوطن يعانيها في تلك الفترة مما أدى إلى تشتت ابنائه في مختلف البلدان في معيشة سيئة غير كريمة ولا لائقة.
هذه الظروف هي التي جعلت معظم شعر الشاعر انعكاسا لهموم قومه ومشكلات وطنه ومعها اشتياقه الشديد إليه:-
يا دهر هل أبقيت سهما لم يصب
قلبـا لكثــرة ما رميت تفطــرا
أذويت زهو شبيبتي فـــي بدئــه
وحكمت أن أحيا معاشا أبترا
جاوزت حد الأربعين ولم يــزل
عيش التشـرد لي نصيبا قدرا
أعمان قد جمع الزمان صروفه
لكننا فــي الحـــب لن نتغــيرا
أنــت المــرام لمن أراد معــزة
أنـت المقام فعنك لن نتخيرا
ودعتها وعلى فؤآدي حسرة
لما تزل تبدو جحيما مسعرا
هذا الوطن يظل هو المرام والمبتغى مهما اشتدت القسوة وتضاعفت ومهما توالت نكبات الدهر ومتاعبه فعمان هي البلسم الشافي لكل الجراحات وإن تعاظم أثرها يتجاوز الشاعر الأربعين من عمره وهو ما زال مشردا في الغربة تتقاذفه المحن من أرض إلى أخرى ولكن فؤاده يبقى في الوطن مستعرا بنار التشوق إليه فهو المآل الذي لا بد من لقياه وإن طال الزمن وامتد:-
أبدا على عينــي ومـــلء فــؤادي
تبدو رؤهــا رائحــا أو غادي
أحيا على الذكرى فإن فارقتها
أمسى منامي مثل شوك قتاد
فارقتها جسما وعشت خليلهــا
ذكرا يقض مضاجعي ووسادي
عمان ثابتة معه لا تبارحه في كل صباحاته ومساءاته جسمه بعيد عنها ولكن وجدانه يمتلئ بها ومشاعره تفيض منها فهي حاضرة لديه في صحوه وفي أحلام نومه والقصيدة كانت ردا على تهنئه بالعيد جاءته مدونة في ظهر صورة فوتوغرافية تمثل جبال عمان وبحرها:-
يا من يعايدنا بصـــورة دارنا
وببحرهــا وبشامـــخ الأطـــواد
يا من يهني العاشقين بصورة
أنكأت جرحــا ما شفي بضماد
إرفق بقوم أبعدوا عن أرضهم
والشوق في الدرب الطويل كزاد
العيد عندهم لقاء زانه
سير البلاد بركب أهل الضاد
تحمي العروبة في الخليج كشأنها
في عهد من سبقوا من الأجداد
العيد عندهم عمان بعزة
وبنوا عمان طليعة الرواد
إذا ذاك تحلو يا صديق بطاقة
ونرى جميعا فرحة الأعياد
جاءت الشاعر بطاقة تهنئة العيد فنكأت جراحه وهيجت أحزانه الدفينة وحركت لواعج أشواقه فانطلق بخاطب صديقه المهنئ قائلا له ان بطاقة التهنئة تلك لا تعبر عن عمان التي يعرفها والتي هي عنده مهد العروبة وأساسها تمضي في موكب العرب وتمد حمايتها للخليج كما هي سيرتها في ماضيها البعيد تحتضن أهلها وتهيئ لهم الحياة الهانئة الطيبة غير مطرودين من أرضها ولا مشردين عنها تمتنع عليهم العودة لرؤيتها ثم ينهي خطابه مؤكدا ثقته بعودة عمان إلى مسارها المعهود برجوع بنيها المهجرين إليها ليسهموا في تحقيق طموحاتها وأحلامها نحو التطور والرقي وإن تراءى للبعض صعوبة ذلك في تلك اللحظة:-
قل للذين استبعدوا عودا لنا
سنعود عود البيض للأغماد
وفي مقام آخر يصرخ داعيا أبناء عمان لينهضوا بوطنهم ويخلصوه من المحن التي اكتنفته لينطلق إلى الغد المتصور المشرق وإلى الحضارة الحديثة التي تعم العالم في كل مكان:
شباب عمان قد هانت عمان
فهل فيكم فتى للــرزء يجــل
وهل نلقى بكم أبطــال عــزم
علـــــى وثباتهــم ينـــزاح ذل
أيا أبناءهـــا نعمـــت جـــدود
لكم شادت فكيف يخيب نسل
أليس يهزكـــم ماض مجيــــد
ذرى أعلامـــه بالفخــــر تعلـو
وحينها يسعد الوطن ويسترد أنفاسه ساعيا لإعادة ماضيه التليد وبناء المستقبل المبهج الموصل للعزة والمجد والرقي اللامتناهي ملتحما بأشقائه العرب ومندمجا فيهم سائرا معهم في دفع المساوئ وفي السعي للنافع المفيد وهو يركز على العرب والتواصل معهم والمشاركة في مسيرتهم لأن عمان يومها مقاطعة للعرب تأبى الاقتراب منهم والالتفات إليهم: –
ليصبح معقلا للعرب فيه
سيــوف فـــي ملمتهــا تسل
يظلل أرضه حكم رشيــد
وفــي أرجائـه يلتـــام شمـل
وعندما يصله نبأ وفاة أمه وهو بعيد عنها يتضاعف ألمه وتهتز نفسه حتى ليكاد يشعر بالانهيار متمنيا الوصول إلى مسقط ولو خلسة لتحية قبرها والاقتراب منه ولو أدى به ذلك إلى السجن وإلى المتاعب الصعبة وظل حزنه يكبر ويتواصل لأن أمه رحلت وهو ليس معها يقول في حوار صحفي حين عاد للوطن بعد سنوات من وفاتها « لقد ذقنا الكثير من ألوان العذاب كان أشدها موت والدة المرء دون تمكنه من المشاركة في دفنها» فذهاب والدته مع فراق الوطن يذكي نار الاشتياق ويجدد اللهفة للعودة:-
اليوم لانت يا زمان قناتي
ولكم صمدت لأعنف الهزات
اليوم أشعر بالمصائب جمعت
والنفس تغرق في دجى الظلمات
اليوم أشعـر أن أصلي قد هوى
فبقيــت غصنــا ذاوي الورقات
أمي لقد شد الزمـــان سهـــامه
فأتــاك منهــا قاتـــل النبـــلات
يا أهل إن جل المصــاب لديكم
فهنــا يكـــاد يقــــودني لممــات
عظم المصاب وزلزلت أصداءه
قلبا يعيش العمر فـــي حسرات
كل رغبته في تلك اللحظة أن يجد سبيلا يتسلل من خلاله لرؤية قبرها والوقوف بجانبه ليخفف اشتعال أحزانه وليهدئ من غليان همومه وحينها لا يبالي بما سيقع له إذ ستبرد تلك الزيارة لواعج أشجانه:-
أصبحت أرجو أن أشاهد قبرها
ولو انني أرضيــت كــل عداتي
فأطوف مسقط لائذا متحاميــا
الموت يدفعنــي لمحــو شكاتي
سيان بعد مماتها عيشـي على
نصب وعيش السجن والظلمات
ولكنه ومع تتابع المصائب وتكاثرها يتزايد يقينه الثابت أن اشتدادها وتراكمها مبشر بزوالها وذهابها وأن الفرج وراءها ءآت بأفراحه لا محالة والفجر لابد من شروقه قريبا ليزيح الظلام الداجي ولينشر النور الوهاج:-
وإذا الزمان تكاثرت طعناتــه
فالفجــــر ما بيــن الدجنـــة آت
هكذا هي عمان في كل العصور تنتابها المحن وتتوالى عليها الكوارث وتثقلها نوائب الدهر بمنغصاتها ولكنها بالصبر والتجلد والعزم تتجاوز الشدة وتخرج من المعاناة سليمة قوية تشرق أضواءها وتتألق محاسنها واثبة نحو البناء والتجدد واستئناف إشادة الحضارة بهمة وصلابة وعزم:
مساك بالأمس «البوكيرك» بجيشه
فأذقتـــه طعـــم الــردى ألوانا
ولكم تـــلاه وكم أتـــى مــــن قبله
من رام غزوا فانثنوا خسرانا
وطني وما ضعفت لديـــك عقيدة
ابـــدا بـــل ازددنــا بهـــا إيمانا
ويصور الشاعر حالته يومها وهو متشرد يعاني قسوة الحياة ومرارة الغربة متنقلا من مكان إلى آخر يحرقه الشوق إلى وطنه المقصي عن مشاهدته وإلى أهله العزيزين عليه الذين يتوق لرؤيتهم واستماع أحاديثهم:
وأكـــرم بأهلــــي مــــن أســــرة
وكم حز في النفس أن يقطعوا
أحـــــاديثهـــم حلـــــم مربـــــي
فعانقــــــه القلــــــب والمدمـــع
أحـــب عمـــان واهفــــو إلــــــى
نجـــــوم بأجــــوائهـــا تلمـــــع
وكم لي معهـــا أحـــاديث مــــن
معيــــن المنــــى خلتهـــا تنبع
ومثله الألوف من العمانيين المقيمين في الغربة وقتها تاركين وراءهم زوجاتهم وأولادهم وأهلهم: –
فكم من شريد يعاني الخطوب
ومن خلفه زوجة تفجع
كان العماني يومئذ تجبره الظروف القاسية على مغادرة وطنه والبعد عن أهله سعيا وراء لقمة العيش وابتغاء لفرصة تتيح له تدريس أطفاله وتمنحه شيئا من الاستقرار في بلدان الخليج التي يتوفر فيها العمل فهو يتحرك بدافع الحاجة والاضطرار من قطر إلى الكويت إلى السعودية مرة هنا ومرة هناك:
فقسم بأحساء وقسم بدوحة
وقســم تبنــــاه الكويـــت فأكرمـا
مواطن للعرب الكرام رأت بنا
ضحايا لطغيان فكانت لنا حمى
وتتداخل المعاناة الذاتية لدى الشاعر بالمعاناة العامة التي يلاحظها تطوق قومه وتخيم عليهم وترمي بهم في متاهات الحياة الضاغطة الصعبة ولكنه يظل على تفاؤله مهما تعاظمت الخطوب وتزايدت الشدائد فالشعب العماني لا بد أن يستعيد حيويته وأن يتحدى الصعاب لصنع غد أجمل لوطنه يجدد فيه أمجاده العريقة:
شعب كـــريم المحتــــد
يشيـــد فـــي حاضره
مجـــدا عظيمـــــا لغـــد
يسيـــر فــــي نهضتــه
سيرا سديـــد المقصــد
ويجمع الأيدي على حب عمان الأبدي
والشاعر مؤمن بعمان الواحدة المتلاحمة التي لا تقبل التجزئة والانقسام فهي منذ الأزل هكذا قطعة متماسكة تأبى التفتت والتشرذم وإن أصابها من المحن ما أصابها وإن حل بها من نوائب الدهر ما أنهكها وأضعفها فضميرها ما زال ينبض بالانسجام والتقارب :
آمنت بالوطن الصغير جميعه
وابيت تجزئة المزون إباء
وشهدت ضمن شهادتي شهادة
لعمان لا شيعا ولا أجزاء
إيمانه بعمان الواحدة يقارب إيمانه بربه العظيم ونبيه الكريم فهي عنده كيان مترابط نسيجه تتلاقى أجزاءه وتتصل وينجذب بعضها إلى بعض انجذاب الجزء إلى الكل والفرع إلى الأصل:
ما إن لمحت معيشة في موطني
حتى سعيت مبادرا ومشمرا
لا فرق عنـــدي قط فـــي أجــزائه
سهلا جميلا أو نجيدا أوعرا
وعندما يشاهد النهضة والعمران الحديث في دبي يرى في ذلك بشرى نهضة عمان كلها نحو التطور والرقي:
وكوني في عمان دليل سير
إلى أفق التقدم والرخاء
ويوم يسمع الإذاعة تردد أسماء بنات الشارقة الناجحات في شهادة الثانوية العامة يرى في هذا النجاح بداية لانتشار التعليم الحديث في عمان وقفزة للدخول إلى الحضارة العصرية والالتحاق بركب المستقبل المنتظر وكانت فرحته كبيرة بذلك الحدث:
قل يا مذيـــع وردد الأسمــاء
لك قد نسجنا في الأثير ثناء
حرك عمان بما بنته بناتها
فكيانهــا بالحـــزن كل ونــاء
ضاقت على أبنائها فتشردوا
وتجـــزأت أرجـــاؤها أنضـــاء
يا أمنا الكبرى عمــان تفاءلي
فالعلــم ســـوف يبدد الظلمــاء
وفي مرثيته لصديقه الشاعر هلال بن بدر البوسعيدي تتبدى أحزانه الشديدة ليس لوفاة صديقه وأستاذه فقط وإنما للحالة المؤلمة التي كان الوطن يعيشها:
ما عدت ابسم للصباح ونــوره
سيان يومي عتمة وأصيلا
الدار ما عرف السعادة أهلهـــا
فلقد غدت أنباؤها تنكيلا
سلني عن الأحرار كيف تشردوا
فالحر صار بهمه مشغولا
سلني عن الشعب الأبي تزعزعت
جنباته فغدى يعيش فلولا
يا ناعيـــا لسليــــل بــــدر إننــي
اجد اصطباري فقده مخذولا
قد كنت آمل أن يعيش لكي يرى
للنصر فوق جبالنا إكليلا
ويرى الشباب وقد توافد جمعه
ليقيم مجدا في عمان أثيلا
وتمر نزوى في خاطره أثناء غربته فيتجدد حزنه وتثور ثائرة أشواقه فيخاطبها خطاب المتألم المضطربة أحاسيسه تجاهها وتجاه قلعتها العتيدة وأسواقها وأفلاجها وبساتينها وكل ما تحمله من رموز خالدة تتراءى شاخصة بجلالها أمام ناظريه:
فلكم حملت الشـــوق نارا في دمي
كادت تقطع منـــي الأحشـــاء
حدث عن الحصن العريق وما اعترى
جنباته وهل ارتضى استخذاء
وارمق قبــور الصالحين بنظــــرة
واحمل لها من أفقـــك الأشذاء
واجعل ضياءك لـ«العلاية» بسمة
وعلى «السفالة» خضرة وصفاء
واحمل لـ«عقر» الأهل نفحة خافق
ما زال يقبس مــن هناك إبـــاء
واسكب بـ«دارس» من ضيائك حزمة
تضفـــي عليــه طهـــارة وبهاء
ويأتيه نعي خاله الشيخ أحمد بن سعيد الكندي حين كان في أبوظبي سنة 1969م وكان هذا الشيخ أحد أساتذته ومن بين أقرب المقربين منه فتنفجر عواطفه وتنفلت مشاعره لهذا النبأ المحزن وحزنه لوفاة خاله وأستاذه يكون أكبر لأنه كان غائبا عن إلقاء النظرة الأخيرة وعن التشييع والدفن وعن مجلس العزاء حيث يتعذر عليه الحضور :-
بكيتك حتى كدت بالدمع أشرق
وروحي من بين الجوانح تزهق
بكيت على بعد فلا الجســم ماثل
أمامي ولا النعش المسجى يحلق
ولكن فــي قلبي لأحمــد صـــورة
بأنوارها قلبي مدى العمر يخفق
رعانــي بالتوجيه والرشد يافعا
وراقبنـــي والخطــو للغـد مطلق
فإن ســـر إخوانـــي نجــاح لقيته
فمن أفق الكندي بالسعد يشرق
ويا موت إن تبعد عن العين فاضلا
فمــلء عمـــان فيضـه متـدفــق
يمــوت ولــم أرزق عــزاء أقيمـــــه
ولا خطـــوات نحــو مثواه أنفق
ولن يكشف الأحــزان إلا زيــــارة
لقبـــــر بـــــه أنـــــواره تتألــــق
سلام تراب «العامرات» فكم لنا
بأرضك من أهـــل لهـم نتشوق
ولقد أخبرني بنفسه أن ثقافته الدينية واللغوية كان مصدرها الأكبر شيخين اثنين درس عليهما في أول شبابه هما هذا الشيخ والشيخ العلامة سالم بن حمود السيابي والشيخ أحمد بن سعيد هو الذي اختارته الحكومة لمرافقة البعثة الطلابية المرسلة إلى بغداد في الثلاثينيات من القرن العشرين ليرشدها ويوجهها وعبدالله الطائي كان أحد أفرادها.
ويستثار ومعه قومه المغتربين من مسرحية ظهرت في الكويت كان بطلها عمانيا سمي «خلفان» يعمل خادما في بيت إحدى الأسر الكويتية ظهر بغير المظهر اللائق فاستشعروا من إبرازه بتلك الكيفية انتقاصا للشخصية العمانية:
استسلمت عمان للبكاء للأنين في حزن
ورضخت للدهر يرميها بأصناف المحن
فشعبها كيانه في العالمين ممتهن
كم من أخ من حولهم حملهم عار الزمن
فشعبها خلفان في مطبخه كما يظن
هم يغفلون أنه امس ذرى المجد حضن
وأن اسطولا له حماهم من غير من
يا قومنا إن رضخت عمان ما حياتنا إذن؟
غدا ترون شعبكم ينفض أثقال الوسن
يسمعكــم خلفـــان عــن أبنائــه وعن وعن
خلفان هذا الطباخ العماني المحتقر كان يوما صاحب أسطول عظيم أسبغ حمايته على الخليج كله وغدا سوف ترونه منتفضا يسترجع أمجاد وطنه ويحدث بثقة عن تاريخه وحضارته العريقة وعن أعلامه المتميزين. ويستثيره في فترة مبكرة من اغترابه خطاب تلقاه من صديقه الشاعر هلال بن بدر فيرد حزينا منفعلا ووقتها كان في باكستان وكان ذلك سنة 1948م:-
بلادي مهــلا لا تثيــري خواطــري
كفاني الذي ابديه عنك كفاني
على كبدي يا «مزن» قرحة حسرة
لحالك توري النار بين جناني
بلادي على ما كــنت أنـــت عزيـزة
وقومي وما جاروا رفاقي وأعواني
أبا بدر قد هيجت فــــي خواطــــرا
وهـــذا بيــــاني شاهــد ببيـــان
أحـــاول كتمـــان فتبــــدو كأنهـــا
أواذي مــوج ساعة الفيضـــان
فبالله فخــــر القطــــر زدنــــا فإنما
قريضـــك منهـاج الرشاد أراني
ويكتب الشاعر إلى الشيخ محمد بن عبدالله السالمي «الشيبة» يوم علم بخروجه من عمان ووصوله سالما في الخمسينات:
يا ابن عبدالله يا ركن الهدى
من كسبت المجد سعيا وأبا
جئت فالأنفـــس لـولا محنـــة
بعمان لتثنت طربا
أبتـــــــاه هــــــذه خـــاطـــــرة
وفـــدت عنـــد سمـاعي للنبا
عشت للحــق نصيــــرا ذائــــدا
تقــــرأ الأجيــال عنـك الكتبا
وعلى الرغم من كل المآسي والمتاعب فهو متيقن أن عمان ستنهض وستلقي عنها أثقال الهموم وستشق طريقها نحو المستقبل السعيد بعزم وهمة لاحد لها:
استسلمت عمان؟ كلا لو بدى لنانعم
عمان لا يمكن لها أن تستسلم بل ستقف ثابتة صابرة صامدة وإن تخيل للمتخيل أن ذلك هو الواقع بسبب تراكم الظلمات وانسداد الأفق واشتداد الخطب ولكن ذلك لا بد زائل ولا بد من ظهور الفرج بعد الشدة:
إذا ما ردد المذيـــاع
في زهـو وفـــي فخــر
ونادى أيها الأبطال
تلك مواكــــب النصــر
فليل عمان قد ولى
وهــذا مطلــع الفجــــر
فقل للصوت يا أهلا
أتيـــت بشعلــــة البشـر
وهيــئ للبنــاء يــدا
وعزما كالمدى يفري
وردد جئت يا داري
إليك ليبتــــدي دوري
ومسقط أصبحت أفقا
ليعرب طيلــــة الدهـــر
وتلك مسنــدم تزهـــو
وتخلع صبغة الحـــزن
وملء صحار أبطـــال
محـــوا أسطورة الوثن
ونزوى في خمائلهـــا
تضاحــك بسمة الزمن
ومن صور علا صوت
أطـــاح بغيهـــب المحن
وكل عمان قد هبـــت
تردد فرحـــــة المــــــدن
وينزعج الشاعر كثيرا غداة رحيل العلامة الكبير الشيخ الرقيشي فتتوالى انفعالاته ويظهر هيجان عواطفه لهذا المصاب الجلل الذي يرى فيه بداية تلاشي سحب الظلام الكثيفة عن سماء الوطن:
هذا الرقيشي الشهيد حياتـــه
صارت على سبل الكفاح منارا
فقضى وملء عمان من أنبائه
وقــع يهــز العاصـــف الهـــدارا
يا راحـــلا وعمان من فقدانـــه
ثكلـــى تقاطـــر دمعهـــا مدرارا
ما إن رأيت كمثل موتك موقظا
هـــز البــــلاد ونبــــه الأفكــــارا
وشاعرنا وهو يرى قومه في ذلك العناء المتصاعد وتلك الحياة القاسية والتشتت في أماكن الاغتراب يطلق صيحة البشرى لهم بأن ثمة زعيم قادم سوف يقوم بهدم أسوار الظلم المحيطة بالوطن ليتحرك نحو الغد المشرق المنشود وكان ذلك عام 1965 :-
إن الزعيـــــم هــــــو الـــذي
بالرأي يبنــــي السؤددا
ويعيــــد للوطـــــن العزيـــــز
تليــــــــــــده متجـــــــددا
ستـــــــرون عنـــــد ظهـــــوره
أنـــي مــــددت لـــه اليدا
وجمعـــــت كــــــل مواهبــــي
ودعــــوت شعبــي منشدا
اليــــوم قــد ظهـــــر الزعيـــــم
وذا الكفـــــــاح تأكـــــــدا
يا قـــوم هيـــــا استبســلــــوا
وابنــوا البلاد على الهدى
فعمان ترقـــــب خطــــوكــــم
والكــــل بالبشـــرى شدى
وبعد غيبة الشاعر عن وطنه لما يقرب من ربع قرن من الزمن ها هو يعود إليه ليبدد الشوق ولتسعد عيناه برؤية معالم مسقط التي طالما افتقدها وحلم بها وتمنى لقياها:
يا بلادي ما اغتربنا ما نأينا
طالمــا أنا رجعنا فالتقينا
كــــل ما لاح لقلبــــي معلـــــم
سأل القلب ترى الآخر أينا
مرحبا بالأرض ألفيت بهـــا
منبت الروح به انفض اينا
مرحبا بالأهل أرتاح بهــــم
بعد هجر ونوى أذنا وعينا
يا بلادي هاك قلبـــي إنــــه
قلب حر ما ارتضى في العمر شينا
وأخيرا يذهب الشاعر ضمن وفد الصداقة لزيارة البلدان العربية سنة 1970م لفتح الأبواب مع الأشقاء والالتقاء بهم وإزاحة الحجب التي كانت تمنع عمان من الالتقاء مع العرب والانضمام إليهم والخطاب يجيء به الشاعر على لسان عمان:
شهدتكم بين السحاب مشاعلا
تشـــع إخــــاء بــــل تنيــر أماني
تشقون آفـــاق السمــــاء كأنما
رسمتم على الأجوا مئاثر قحطان
ارادكم قابــــوس رســـل قرابـة
لأبنــــاء عـم ما نسونا بهجران
قطعنا لهم أرحامهم مع عزلة
وهم مجمع القربى وخيرة أعوان
تلكم وقفات مع عمان وعنها في شعر عبدالله الطائي يتجلى من خلالها تعلقه الدائم بوطنه وذوبانه فيه واشتياقه له حين كان يكابد غصص الغربة وشقاءها.
أحمد الفلاحي