مريم حمود*
أجلس الآن بين الكتب، يبدو الأمر كما لو كنت في الجنة. أكتب مراجعات عنها، وأختمها جميعًا بعبارة واحدة «لا مانع من إجازته للتداول.» الساعي هنا لطيف، يمر بين حين وآخر ليسألني إن كنت أحتاج شيئًا، أجيبه بلا، فأي شيءٍ سأحتاجه وأنا أقرأ أرض السواد لعبد الرحمن منيف؟ يختفي، ثم يعود حاملًا كوب شاي سليماني وابتسامة، أشكره وأعود لعبد الرحمن. اسمه يذكّرني بالغمام، يأتي، لكنه لا يدوم وينقضي بسرعة. المكان هنا جميل، وكل شيء بخير حدّ الهلع.
تتبادر أصوات بعض الزملاء من وراء الباب، أبو المعالي يكح، إنه المسؤول عن إجازة الكتب السياسية، أحدهم يضحك، بينما تلمّح إحداهن (كورونا).
أتدرّب هنا منذ شهر، يأتون بالكتب بين الحين والآخر. أعداد هائلة من مختلف الدور، كل ما علينا هو قراءتها وتحديد مدى اتفاقها مع لوائح النشر، وقد نكتب تقارير مفصلة أحيانًا.
لا يضاهي شعوري بالفرح لوجودي هنا، إلا شعوري بالخزي والذنب، أعرف أن مصير الكتب موكول إلي، وأنني مكلّفة بحراستها. يجب ألّا أقصّر، هي أمانات تعلّق بي في كلّ حين، إنني أقرأ في أوقات الدوام الرسمي، أقرأ في طريق العودة، وأقرأ في النّزل.
أبوظبي رقيقة، كنت أقضي ربع ساعةٍ عند جسر المقطع كل صباح لشدة الازدحام، كان هذا قبل شهر، أما اليوم فلا أكاد أغادر العين حتى أجد نفسي في المشرف. وقد أطيل الطريق أحيانًا، فدرويش لم ينهِ قصيدته بعد.
أجلس الآن في المكتب مع فتاتين تحبّان الحقائب كثيرًا، أعني حقائب Dior تحديدًا. تسألني إحداهما:
”أي ماركات الحقائب تفضلين؟»
- “أفضل الحقائب القماشية.»
تبتسم، ليس كثيرًا، هكذا باقتضاب. أو لعلها لا تبتسم، إنها تمثّل… شيء يشبه ما فعله خواكين في المشهد الأخير، بسخرية ودون روح.
على كلّ لا أظنّ أنهما ترتاحان لي، لكنني لن أستعجل الحكم. يدخل مشرف التدريب الميداني بين حين وآخر، يخبرنا أن علينا الانتهاء من المهام بسرعة، هو لم يكلّفنا أصلًا، تُذكّره الفتاتان بذلك، وأحيانًا أنا، إلّا أنه لا يعقّب بشيء سوى جملة واحدة يطيب له تكرارها في كل مرة:
”في بيئة العمل عليكن أن تنجزن دائمًا، لا تنتظرن منا أن نكلفكن. مفهوم؟»
يغادر، بينما أعيد رأسي إلى أرض السواد، وتعود الفتاتان -إلى جواري- إلى شاشة الحاسب، تتناقشان: أي الحقيبتين أجمل؟
كلّ صباحٍ أبكي مصائبي، مائة وأربعون كيلومترًا تكفيني لأبكي ما حدث وما لم يحدث… قبيل (الخزنة) وبعد (رماح) تتصل أمي، لم تتأخر قط، وأدعو الله ألّا تتأخر. ما إن أصل حتى أبتسم، كلنا نبتسم، يقول المدير إن علينا نسيان مصائبنا وأحزاننا عند البوابة. هذه طريقته في نشر السعادة بين موظفي القسم هنا. ولا ضير، فأنا بالذات أحبّ أن أبتسم.
أبتسمُ لأحمد حارس البوابة فيبادر بالابتسام، أبتسم لرقية السكرتيرة، فلا تبتسم، أبتسم لخالد زميل المكتب، فيرتاب، كل يوم ومنذ شهر… أراهن أنه لا يطمئن لي.
نصنّف الكتب حسب الهوى أحيانًا، كلّ العاملين هنا يعرفون أن الحقيقة مفقودة، إنها مثل نقطة تقنط عندها كلّ المحاولات. ولعلّنا نكذب أحيانًا، فالحقيقة وحدها لا تكفينا.
يعود الساعي ثانيةً… يوزع مجموعة من قناني المياه على المكاتب ثم يغادر. خلال دقائق يستأذن خالد، لكنه لا ينسى أن يذكرني بالكتب التي ما زالت على مكتبه، تنتظر مخلّصًا. أخبره أنني سأتكفل بها جميعًا. أستغرب مغادرته الآن فالساعة للتو تشير إلى الحادية عشرة والنصف! الثانية ظهرًا هي موعد انصرافنا جميعًا.
أعود برأسي إلى أرض السواد، هنالك جلبة في الخارج، أرفع رأسي فلا أرى أيًا من الفتاتين، الجلبة ترتفع، أهُمّ بالوقوف لأتفقد الممر لكنني أتذكر الكتب على مكتب خالد، وهكذا أنشغل بإضافتها إلى الكشوف في النظام، هنالك كتابان صنّفهما “غير مجاز للتداول.” أضعهما على مكتبي، سأنظر فيهما مجددًا. الجلبة تتضاعف، أنهي الكتاب الأخير وأقف، أنظر إلى الساعة… إنها الحادية عشرة وسبع وأربعون دقيقة.
لا أحد في الممر، أتجه نحو القاعة المقابلة فلا أجد أحدًا، القاعة الثانية أيضًا فارغة، أنطلق نحو السلالم فينقطع الصوت، أنظر من خلال الدرابزين فلا أرى أحدًا، المكان خالٍ، أهبط للأسفل، ومجددًا لا أحد. أخرج… أقف أمام المواقف، كلها خالية باستثناء سيارتي تقف وحيدةً قبالتي. أنظر إلى السماء فلا أرى شيئًا سوى شمس مارس تووهّج، وطير واحد يمر ويختفي، وكأنما ابتعلتْه!
أتلفّت… لا أحد، العاصمة هادئة، لا شيء بخير، وهذا مطمْئِن.