أحب هذه العبارة التي تشفي الغليل والتي أسمعها كثيراً في نشرات الأخبار في لبنان، واسمحوا لي بإستعارتها ( لازم نبق البحصة ) . بداية أحب أن أوضح أنني ( ككل الشعب السوري ) تربينا وترعرعنا على ثقافة الخوف من الأمن أو الذعر منه، ولا يزال أحد زملائي في الستين من عمره يستعمل تعبير (إذا حدث وسمعت أن أيه جهة أمنية تطلبني فسأتغوط في ثيابي ) وأنا ببساطة عشت كل عمري في سوريا أتنفس الخوف مع الهواء، وكنت كغيري نرتعب من مدربات الفتوة اللاتي كان لهن الفضل في أن نسمع ألقابنا الجديدة : يا حيوانة، يا حمارة، يا بقرة، الخ . هذا ما بقي في ذهني من مدربات الفتوة . ولم يخطر لي يوماً أن أتعاطى بالسياسة رغم أن 90 % من زملائي في الجامعة ( وكانت أعمارهم بين 19 سنة إلى 22 سنة ) سجن كل منهم بين عشرة أعوام إلى عشرين عاماً بتهم عديدة منها الانتماء لرابطة العمل الشيوعي أو الانتماء للإخوان المسلمين الخ من تُهم .لكن الحراك الثوري في سوريا فجر طاقات كامنة في نفسي وجعلني عاجزة عن السكوت في وجه الظلم والاستبداد . وكمن يعجز عن كبح معدته من تقيأ السموم، وجدتني عاجزة عن السكوت عن الظلم ولست بقادرة إلا أن أبق البحصة، تلك البحصة المتكونة جغرافياً من طبقات وطبقات من الخوف والسكوت عن الظلم . وبدأت اعتباراً من 2011 أكتب مقالات لا يُمكن أبداً إدراجها تحت عنوان مقالات سياسية، بل كنت أعبر كشاهدة عصر عن الفظائع الأمنية والفساد المقرف الذي يشهده معظم الناس صامتين لأنهم يخشون إن تكلموا أن يُقتلوا، وبالوقت ذاته كنت ضد المعارضة الخارجية السافلة المرتبطة إما بدول عديدة وقبضوا الملايين، كنت مجرد مواطنة صافية الروح شفافة الضمير أكتب أوجاع الناس وأكتب قصصاً عنهم بعد موتهم سواء في أقبية النظام أم من قبل الجماعات الإرهابية المجرمة والتي تتخذ من الإسلام غطاء لها . كتبت عن اسماعيل زرطيط صديقي الشاب الذي كان يستيقظ الرابعة صباحاً ليساعد والده في تحضير الفتة والفول للناس وخاصة الفقراء . مات اسماعيل زرطيط الابن الوحيد لأهله في أقبية النظام تحت التعذيب، كما كتبت عن وائل أحمد الشاب الرائع مهندس الاتصالات الذي قتلته جبهة النصرة، وكانت لغتي تخرج من حنجرتي كما يتدفق بركان بحمولته، وكما أنك لا تستطيع منع حمم البركان من التدفق لم أستطع أن أبقى في خانة الصامتين وفي خانة أصحاب فلسفتهم في الحياة : الحيط الحيط ويا رب السترة، وجدت نفسي كمواطنة لم تتشوه عفويتها ولم تخن ضميرها أكتب ما أشهد عليه بنواهة وصدق عاليين وشفافين كحجارة الألماس. ولاقت مقالاتي شعبية كبيرة عند الناس في سوريا والخارج لأنهم كانوا يقولون لي همساً : أنت تعبرين عمى نخشى أن نقوله أو حتى أن نفكر به . وتعرضت خلال تلك السنوات من 2011 إلى 2018 إلى منع من السفر مرتين وإلى استدعائي إلى أجهزة أمن الدولة والأمن السياسة وفرع مخابرات كفرسوسة في دمشق الخ لدرجة أردت صادقة أن أعرض على وزيري التربية والتعليم العالي إدراج مادة ( أنواع الأمن في سوريا ) . وما يهمني الحادثة الأخيرة التي تعرضت لها والزوبعة التي أثارها مقالي الهائل المصداقية ( حياة في اللاذقية لا تشبه الحياة ) وأتمنى لو يستطيع الجميع زيارة اللاذقية ورؤية آلاف محلات البقالة ومئات أكشاك بيع الفلافل ومحل بطاطا على كيفك حيث يتغذى الشعب السوري من أكل الخبز مع البطاطا والقليل من كريم الثوم . أما منظر الازدحام على الأفران فيشبه يوم الحشر وهنالك ثلاث لافتات : للنساء، للرجال، وللجيش السوري، لأن معظم شبان سوريا إما أن هاجروا عن طريق مهربين كان كل مُهرب يقبض على الأقل عشرة آلاف يورو ليهرب الشبان من القتل المُحتم ( الشهيد البطل ) أو من لم يستطع الهروب فكان يلتحق بالجيش السوري ليقاتل ويعود بعد أيام جثة أو نتف من جثة ولكن يحمل وسام الشهيد البطل، وارتفعت نسبة العنوسة إلى حد غير مسبوق . البحصة التي لم أبقها بعد حين استدعاني أمن الدولة لشرب فنجان قهوة عنده ـوالغريب في كل فروع الأمن والمخابرات- ولعهم بشجرة الفتنة ففي مكتب كل ضابط أمن صحن ممتلئ بزهور الفتنة لدرجة صرت أتخيل بل أؤمن أن ثمة علاقة بين شجرة الفتنة وفروع الأمن، وفكرت إن كان بالإمكان زرع آلة تنصت مجهرية تسجل وتصور كل التحقيقات . استقبلني العقيد في أمن الدولة استقبالاً لطيفاً جداً حقاً وسألني : هل لا يزال الناس يخافون من الأمن ! وتعجبت من نفسي إذ وجدتني أكبح نفسي بقوة عن البكاء وشعرت للحظات أن هذا الإنسان اللطيف الذي وضعنا النظام ( رغماً عنا كطرفين عدوين ) كان يمكن أن يكون صديقاً وأخاً وأن نحضر معرض الكتب معاً، فلم تحول إلى محقق !! وأنا ما جُرمي وما تهمتي ! هل لأنني أكتب بصدق ما يخشى الناس البوح به، أنا لم أكذب ولا بحرف جر في كل كلمة من مقالاتي فلماذا انزعجت الجهات الأمنية حين كتبت ( حياة في اللاذقية لا تشبه الحياة ) ألا يرون آلاف المتسولين الأطفال في الشوارع، ألا يرون مظاهر الفقر المدقع، وألا يرون عهر الطبقة الثرية التي اغتنت من الحرب ( أثرياء الحروب ) ألا يعلمون أن أجرة غرفة في منتجع الشاطئ الأزرق هي 130 ألف ليرة سورية في اليوم الواحد ! في اليوم الواحد يا جماعة ثمة عاهرين يدفعون 130 ألف ليرة أجرة غرفة في الشاطئ الأزرق. والحجز مُكتمل كل الصيف وحتى نهاية الخريف أيضاً. هذا هو الحال في اللاذقية يا سيدي المحقق فهل قول الحق جريمة ! أم أنني – أنا الساذجة الحالمة بالحرية والمساواة ) أؤمن أن الحق يحررنا . بلباقة شديدة حذرني ضابط التحقيق بأنني تجاوزت الخطوط الحمراء !! وتعجبت هل لا تزال هنالك خطوط حمراء وسوريا صارت كلها بلون الدم لدرجة ذابت الخطوط الحمراء مع دم السوريين الذين يتلون بمجازر كل يوم !! لم أرد بقيت صامتة وطلب مني ألا أكتب في جرائد معينة ! وألا أنشر الغسيل الوسخ ! لكن الغسيل كله وسخ يا حضرة الضابط فماذا سأكتب ؟ هل أصف الربيع أم أكتب قصائد مثل قصيدة : كلبي كلبي يمشي جنبي لا ينساني بل يلقاني !!! لا أستطيع، لا أستطيع . كانت كل خلية في جسدي تضج بالرفض وبأنني مستعدة أن أموت ثمناً لكلمة الحق، لأن الحق يحررنا، لم يستغرق لقائي مع الضابط ساعة لكنني احتجت لعدة حبوب مهدئة ولتدخين عدة أرجيلات كي أتخلص من جو مُرعب في فروع أمن الدولة والشاب الذي طلب منه الضابط أن يوصلني إلى الباب الخارجي حيث الحواجز الحديدية العملاقة والتي يكفي حديدها لبناء عمارة شاهقة، قال لي : نحن عايفين هالعيشة ورح نموت فقع، كان نحيلاً ومحني الظهر، خفت منه واعتقدت أنه ينصب لي فخاً لأتلكم فقلت له الحر فظيع اليوم لكن مبنى أمن الدولة معتدل الحرارة أليس كذلك ! فرد بمرارة : في الليل يصير شديد الحرارة . وتعجبت من جوابه لم يكن يتهكم أو يسخر بل قال الحق . وبعد أيام تلقيت دعوة من تلفزيون ( لا أريد ذكر اسمه ) لإجراء مقابلة معي في بيروت والسفر والإقامة على حسابهم وطمأنني مُعد البرنامج أنه سيترك لي حرية الكلام، وأنه بإمكاني ألا أحكي إلا عن الأدب وخاصة روايتي الأخيرة ( الشحاذة ) . ووظبت شنطة السفر سعيدة فقد اشتقت إلى بيروت واشتقت أن أتحدث إلى جمهور كبير في العالم العربي يتابع كل مقال أكتبه، وفوجئت عند حدود العريضة ( الحدود السورية اللبنانية ) بأنني ممنوعة من المُغادرة ! حتى أن السائق نظر إلي بارتياب وقال : خير دكتورة شو القصة ! شو عاملة ! ضحكت من سؤاله الساذج شو عاملة ( يقصد ماذا تصرفت ) وهذه المرة كان الأمن السياسي يستدعيني، يا سلام صرت أميز بين الأمن السياسي وأمن الدولة، وبدأت مرحلة الذل القسري فأنا أريد أن ألغي منع السفر وأريد زيارة أسرتي في باريس، وأخذت أجري سلسلة من الاتصالات مع المسؤولين في الدولة الذين يتبجحون دوماً بحرية التعبير عن الرأي وضرورة الحوار ويعزمون معارضة الخارج للعودة إلى سوريا من أجل الحوار . ولم يرد أي منهم، ومنصاعة كنعجة ذاهبة إلى الذبح دخلت مبنى الأمن السياسي وصعقتني شجرة الفتنة !المزهرة بشراهة لدرجة تساءلت كيف تتجرأ وتزهر في الأمن السياسي وكالعادة حدثني الضابط بأن مقالاتي مسيئة وبأنني يجب أن أتوقف عن هكذا نوع من الكتابة،ولكن أفظع ما توقعته أن يحولني إلى غرفة بجواره حيث وجدت نفسي بحضرة شاب مرتبك لا يتجاوز الثلاثين من عمره أعطاني ورقة وقلماً أجل أعطاني ورقة وقلماً حبره أسود بلون الموت أو الحقد وأخذ يُملي علي ما سأكتبه !كما لو أنني طالبة في الصف الخامس الابتدائي مثلاً، وقال اكتبي أنا الموقعة أدناه أقر واعترف بأن هذه الجرائد التي أكتب بها تحور عناوين مقالاتي وبعض العبارات فيها، لكني قاطعته وقلت : شيء عادي أن تحور المجلات عناوين المقالات وأنا لا أعترض على ذلك، لكنه ثقبني بنظرة تهديد جعلت مفاصلي تتفكك وشككت إن كنت سأقدر على المشي بعد مهزلة الرعب هذه وبعد مشهد من مسرحية اللامعقول، تأملته /ساذجاً يُملي علي بإصرار أن أكتب ما أملاه عليه سيده . ووجدتني أنا الكاتبة منذ ربع قرن والتي طبعت كتبي مراراً أكتب ما لا أصدق أنني أكتبه وأجبرني أن أكتب تعهداً ألا أنشر في الجريدتين إياهما خاصة الجريدة التي كتبت فيها مقال ( حياة في اللاذقية لا تشبه الحياة ) . وانفض عني 99% ممن كنت أعتبرهم أصدقاء كما لو أنني مصابة بالجذام أو الجرب، وأشكر الحياة أنها وضعتني في هذا الظرف لأعرف الصديق الحقيقي من الصديق المنافق الانتهازي . وعشت أياماً سوداء لدرجة أن شمس اللاذقية الفاقعة لم تشعرني أن ثمة ضوء أمل . لكن كما ذكرت ثمة أشخاص رائعون حتى في قلب النظام، هؤلاء الأشخاص إنسانيون ويخدمون المظلومين ويؤمنون بالحرية وبفضلهم تم إلغاء منع المغادرة . سأكتب أجل سأكتب وكم أحتقر هذا النطق : أمامك اختياران إما أن تخرسي وتبقي في سوريا، أو أن تغادري سوريا وطني الحبيب إلى الأبد وأكتب . وأنا أقول أنا عائدة إلى سوريا وسأكتب حتى لو عُلقت مشنقتي في قلب الشيخ ضاهر مقابل المدرسة العظيمة جول جمال التي تحولت إلى سكنة عسكرية . أتخيل جول جمال متوجعاً في قبره، أخيراً الحق يحررنا . وها قد بقيت البحصة . وأنا راجعة قريباً إلى سوريا لأنها وطني وحبي ووطن كل سوري وأتمنى لو يعود كل السوريين في الخارج إلى سوريا . الأرض لنا . ما أروع تلك الأغنية لفيروز : الأرض لنا . سوريا للسوريين . أعشق ترابك سوريا .
هيفاء بيطار*