احتمل غمة البرمكيين
احتفلت الأوساط الأدبية المصرية – مؤخرا – ببلوغ الشاعر الكبير محمد عفيفي مطر عامه الستين. وقد أصدر مطر, حتى الآن, 13يوانا شعريا هي: يتحدث الطمي, رسوم على قشرة الليل, الجوع والقمر, من دفتر الصمت, كتاب الأرض والدم, شهادة البكاء في زمن الضحك, ملامح من الوجه الأنبادوقليسي, النهر يلبس الأقنعة, أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت, رباعية الفرح, إيقاعات فاصلة النمل, احتفاليات المومياء المتوحشة, مجمرة البدايات.
عبر هذه الدواوين جميعا حقق عفيفي مطر موقعا المميز على الخريطة الشعرية المصرية والعربية, باعتباره واحدا من رواد التجريب والتجديد في القصيدة العربية المعاصرة.
والغريب أن نظرة فاحصة لشعر مطر كلا تنفي نفيا قاطعا ا~ الشريرة التي ألصقها به نقاد كثيرون: الانعزال عن هموم الناس, و!لاستغراق في غموض متعال على آلام الجموع.
ففي الوقت الذي كان نية كثير من القصائد غارقة في هموم الذات المفرطة, كان مطر يقول:
" أبي ضم فضلة العباءة
على منكبيه الهزلين فاهتز تابوت قبي
ونادى:
خد السمسم المر،
هذا رغيف الشعير تبلغ به لقمة لقمة
كي تذق الدماء التي اشربتهاالسنابل
تذوق به طعم لحمي الذي_ كان يشويه صهد
النهار المخاتل
تبلغ به واحذر الأرض,
دنياك دنيا الراى والفجاءة "
وليس من ريب في أن اللحظة الشعرية قد تحركت قليلا –بفعل الاجيال والتيارات الجديدة – عن متناول أصابع محمد عفيفي مطر،لكن الحقيقة الثابتة – مع ذلك – أن لمطر دورا في حفر مسار شاق للتجريب والتجديد في الحركة الشعرية المصرية (حتى وإن حاصرته المؤسستان مؤسسة السلطة, ومؤسسة المعارضة ). وهذا ما كان ولا زال – يدفعني دائما الى أن أهتف به هما لقيته وبجملته " احتمل غمة البرمكيين ".
لا يقتصر دور مطر على الريادة الشعرية الابداعية.بل إنه ظل متراكبا مع كل جديد وتجديد. وهو ما قصد اليه الناقد ابراهيم فتحي حينما وصف مر بأنه شاعر " عابر للأجيال ". لأنه يقف مع كل جيل وتجربة جديدة في القلب.
كما أنه كان يدفعنا – بالكلام والفعل – الى الاجتراح والاجتراء والمغامرة. فلست أنسى له أبدا جملته الشهيرة (حينما كان الحوار يحتدم حول الشعر والالتزام ودور الفن في الواقع الاجتماعي. وما الى ذلك من قضايا)، كانت جملته الحاسمة لنا: " الشعر ملزم لا ملتزم ".
بالطبع, انت تستطيع أن تأخذ على شعر مطر بعض التقليدية, وبعض الفرق في اللغة الكلاسيكية المهجورة, وبعض الرتابة الموسيقية, لكنك في الوقت نفسه لابد أن تبلغ ذروة المتعة حينما تجد في شعره ذلك التعدد الغني في التقنيات الفنية والتشكيلية الجمالية وذلك الحرص الشديد علي الرصد الشعري لمفردات القرية المصرية وأساطيرها وتراثها المكتوب والشفاهي، مع تسجيل عادات الفلاحة المصرية وطقوسها. ولعل اشارته المبكرة عن رغيف الشعير والسمسم المر- التي مرت بنا – قد طورت فنيا وفكريا. لتصل في " فاصلة إيقاعات النمل " الى درجة عالية من الجمال والتمكن, في استدعائه البديع لمحاصيل القرية:
" وكانت في فجاج الروح قافلة
وسبعة أخوة ماتوا صغارا
والتميمة فوق صدرى سبعة من حب ما
حصدت يد الاعمام والاخوال:
جوهر حنطة, خرز من البرسيم
و الرز المقشر، كهرمان العدس, بؤبؤ
حبة سوداء, والذرة الرفيعة. ,
والتماع السمسم المبثوث ".
حقا: تضرب يدك في تربة هذا الشعر، فتخرج بطين القرية,ومواريث السلف, وفجيعة اللحظة الحاضرة: نسيج مثقل متشابك من خرافة القرى وعملها، ومن ثقافة السابقين وانهيارهم, ومن رؤى شاهد دفع ثمن الشهادة مرات:
مرة بتهميش إسهامه الكبير، ومرة بعدم وضعه على " موجة " من موجات الأيديولوجيات السيارة, يمينا ويسارا، ومرات كثيرة بابتعاده عن مكانته التي يستحق كأحد رموز الكتابة المتقدمة في الشعر العربي الحديث.
لهذا كله, قلت له في يوم الاحتفال ببلوغه الستين, في أتيلييه القاهرة: يا شاعرنا, أنت بنا, ونحن بك. أنت في قلوبنا فاجعلنا في قلبك. و "احتمل غمة البرمكيين ". والبرمكيون كثير: في الدولة في المؤسسات, في الشارع, في الشعر.
السمكة الحمراء شفاه زرقاء
" ان مفهومي " الحداثة " وما " بعد الحداثة " يشكلان أشد القضايا إلحاحا في أدب القرن العشرين وثقافته, ويدور حولهما جدل واسع, مما يبرز الحاجة الى دليل موثق يلقي الضوء على هذا الموضوع الصعب "
هكذا بدأ المترجم تصديره لهذا الكتاب القيم. الكتاب هو "الحداثة وما بعد الحداثة "، إعداد وتقديم يبتر بروكر، ترجمة عبدالوهاب علوب, مراجعة د. جابر عصفور. صادر عن " منشورات المجمع الثقافي _أبو ظبي _الإمارات العربية المتحدة ".
في مقدمته الضافية يقدم يبتر بروكر عرضا طويلا لصراع الأفكار وجدل الرؤى بين المفكرين والنقاد فيما يتصل بتطور وتعارض التيارات الحداثية وما بعد الحداثية في الادب والفن المعاصرين.
ويولي بروكر- في عرضا – عناية واضحة لبعض النقاط اللامعة في هذه الغابة المتشابكة.من هذه النقاط ملاحظته الذكية حول أن كلا من الحداثة وما بعد الحداثة تم تفسيرهما وفقا للمثل الجمالية الفكرية والأيديولوجية الغربية. ومنها أن النصف الأول من الستينات قد شهد عددا من النقاد والمعلقين يتحدثون عن ضرورة تقبل طاقات الثقافة الجماهيرية العامة قبولا إيجابيا وعن جماليات فن السوقة والأحداث والنظم العشوائي للشعر، وعن الأدب الشعبي الأمريكي وحلوله محل مباديء الحداثة الناسكة,وعن الهمجية الدائمة للذة والشهوات.
ومن أدق هذه النقاط رأى المؤلف في تأملات المفكر الفرنسي بودريار،حيث: وجدت هذه التأملات ضالتها المنشودة في «الجنة التي تحققت " في أمريكا الشمالية, في الأرض التي لا حضارة لها, وحيث " تتاح الفرصة لكل ما راود أحلام أوروبا لكي يتحقق على أرض الواقع "، فالأستاذ الجامعي الأجنبي عاشق المظاهر قد انبهر منذ اللحظة الأول بالغانية الامريكية.
أما فريدريك جيمسن, فهو يصف ما حد الحداثة بأنها " هيمنة ثقافية " أو نتيجة مترتبة على رد فعل تجاه الحداثة, وعلى تحول حاسم من الاحتكار الى الرأسمالية متعددة الجنسيات, وهذا التوسع الكبير في السوق العالمية وما صاحبه من تطورات في وسائل الإعلام الالكترونية اخترق جوانب الوجود الانساني ومستوياته, مما أدى – في رأي جيمسن – الى ظهور عالم شهدت أحواله تغيرات اجتماعية ونفسية مكثفة وعميقة.
وفي مجتمع الصورة الذي يراد بلا أعماق انمحت الفوارق والاختلافات, فلم تعد الأشياء تعزى الى هيات الانتاج البشري. فضاع المضمون العاطفي وضاع " الهدف " أو المساحة النقدية.
المعنى نفسه يؤكده ستيوارت هال حينما يصف ما بعد الحداثة بأنها الطريقة التي يحلم العالم فيها بأن يكون أمريكيا. فقد تحولت أمريكا بالفعل الى مكان أو مصير ين ول اليه في وعي العالم حسدا لما تركز فيه من وفرة في التحديث و التطور والحرية التي تنبأ بها " الغربيون الصغار" ولكن بينما كان العالم يحلم بأمريكا كانت أمريكا بدورها تحلم بالعالم في صورتها السيادية بعد الحديثة.
عدلي رزق الله
من عمان الى القاهرة, تطالعنا نفس هذا العلاقة التشكيلية بالشعر, في معارض الفنان المصري الكبير عدلي رزق الله. وقد بلغت العلاقة بين الرسم والشعر عند رزق الله حدا عميقا جعل الفنان يطبع _ مع معرضه الأخير _ كتابا كاملا يحتوي على قصائد الشعراء المصريين الذين كتبوا فيه وفي لوحاته نصوصا شعرية أو شبه شعرية. وكان الكتاب بعنوان " كل هذا الشعر".
وعلاقة رزق آلله – في" مائياته "- قديمة, بدأت حين اقترح الفنان التشكيلي المصري الكبير حامد عبدالله – في – أول معارض عدلي بباريس عام 1975_ على الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجاري أن يكتب مقدمة المعرض. ففاجأهم حجازي بقصيدة, ثم ترجمها عنه المفكر الجزائري الأصل جمال الدين بن شيخ, وحينما عاد رزق الله الى مصر، ومع معارضة المتوالية كل عام, التف حوله شباب الشعراء، ومع الأيام صارت هناك مجموعة من القصائد التي تكون بحق ديوانا شعريا كاملا.
يقول حجازي في قصيدته:
" قطرتان من الصحو،
في قطرتين من الطل،
في قطرة من ندى
قل هو اللون
في البدء كان
وسوف يكون غدا
فاجرح السطح إن غدا مفعم
ولسوف يسيل الدم ".
وقد اعتاد الروائي الكبير إدوار الخراط أن يقدم كتابة تأويلية أدبية للوحات عدلي, مع كل معرض جديد يقيمه الفنان. وفي " تأويل أول " الذي تضمنه كتاب " كل هذا الشعر" يقول الخراط: " تدق جدران قلبي التي ضربت نطاقا حول سماء بيضاء لا أفق لها، شفافيتها عميقة البياض محارية. جفت عنها آباد من البحار العتيقة. ذيل الطاؤوس هو أيضا شعلة قوقعة وهلامية السمكة الحمراء هي شفاه زرقاء بنفسجية تفتر في ابتسامة الموت شبقا".
أما علاقتي أنا بلوحات عدلي رزق الله فقديمة هي أيضا- ودائمة. وعلى الرغم من أنني لم أفرد قصيدة كاملة عن فنه, إلا أن لوحات رزق آلله وملا مح عالمه هي خيط أساسي دائم في قصائدي،يختفي ويبين, يروح ويجيء، لكنه في كل حال يشكل خيطا من خيوط النسيب الذي أحاوله في الشعر. كمثال: سنجد ظل عالم عدلي رزق آلله يأتي بين السطور هكذا:
" الم يستطع أن ينطق الكلمة المسنودة على حافة المائدة,
لإن مثل هذه الكلمات مشبوهة في حالة الشعراء,
فأكتفي بالإشارة الى جماك الوجوه ساعة إنكسارها،
ثم دعاها الى عبور النقاط السود باستدارة خفيفة,
تجعل الأذى في الخلف,
قبل ان يداري ارتباكه في الحديث عن علاقة المائيات بالعصر".
الصديق عيد للروح
" الأطفال والشعراء والطلبة أصحاب روح واحدة " هكذا تحدث رسول حمزاتوف (72 سنة ) شاعر داغستان العظيم, الذي مر بالقاهرة مؤخرا في زيارة قصيرة, بدعوة من منظمة التضامن الآسيوي الأفريقي، حيث انعقد لقاء حميم ضمه مع نخبة من الأدبا، والشعراء المصريين, قدمه الدكتور مراد غالب (السفير المصري السابق في موسكو,والرئيس الحالي لمنظمة التضامن الآسيوي الافريقي).
تحدث حمزاتوف عن ألمه العميق بسبب ما يحدث في بلادا من مذابح وانقسامات وحروب. وقال إنه لا يؤيد المثل الشعبي الداغستاني الذي يقول: إن صديقا واحدا قديما خير من أصدقاء عديدين جدد، لأن الصديق الحق – قديما كان ام جديدا – هو الخير كل الخير. وأوضح أن لقاءه بالأصدقاء من الشعراء العرب والمصريين هو " عيد" وطني للروح, فالشعراء أعلى من كل الأقطار الضيقة.
وكان من المصادفات الطيبة أدن مجلة " أدب ونقد" القاهرية, قدمت _ قبل مجيء رسول بأيام – ملفا خاصا عن حمزاتوف يحتوي على مختارات من شعره، من إعداد و تقديم الكاتب والمترجم طلعت الشايب وقد صدر الشايب ملفه بكلمات حمزاتوف في كتابه الهام " داغستان بلدي":
" يخرج المسافر في سفر، فماذ يحمل معه ؟ خمرا يحمل. لكن يا ضيفي العزيز لن نتأخر في إكرامك ولن تحتاج الى ما تحمل. الجبلية ستخبز لك خبزا، والجبلي سيقدم لك خمرا.
يخرج المسافر في سفر، فماذا يحمل معه؟ خنجرا مشحوذا يحمل. لكن يا ضيفي العزيز، في الجبال ستقدم لك فروض الإكرام, واذا كان العدو لا يغفل عنك, فالجبلي عنده خنجر وهو سيحميك.
يخرج المسافر في سفر، فماذا يحمل معه ؟ أغنية يحمل ! لكن يا ضيفي العزيز: الأغاني المدهشة `لا حصر لها عندنا في الجبال. لكن لا بأس , أحمل معك أغنيتك, فحملها ليس بالثقيل ".
ويوضح لنا المترجم أن حمزاتوف ولد في بيت شاعر، في بلاد تتنفس شعرا، فوالده حمزة ثادا، كان يكتب بالعربية والروسية واللاتينية,وهو الذي عرف ابنه أن " من عنده لغة بوسعه أن يبني بيتا ويحرث حقلا ويصنع سيفا أو مزمارا يعزف عليه ".
كان لحمزاتوف رأي راضه أثناء البيروسترويكا إذ قال. إن البيروسترويكا باتت تعني للكثيرين مهنة لا طبيعة حياة.
يقول حمزاتوف, بحسه الانساني الرفيع «رغم أني لست زهرة الخلود، ولست انت زهرة البنفسج, فسيقطفنا في يوم ما، بستاني أبيض اسمه النهار، وبستاني أسود اسمه الليل. ورغم أنك لست قمحا, ولست أنا شعيرا، فسيحصدنا دونما شفقة, حصاد أبيض اسمه النهار، وحصاد أسود اسمه الليل.:
ورغم أنك لست غزالا، ولمست أنا وعلا، فلن يستطيع كبه شهوة الصيد، صياد أبيض اسمه النهار، وصياد أسود اسمه الليل. هل يقتفي أثرنا صياد:بيض, أم يقتلنا صياد أسود؟ ولكن.. ربما أخطأنا الأول.
واهتزت ذراع الثاني!».
الغارة الشعرية
"الغارة الشعرية " وصلتني بالبريد. وهي نشرة شعرية صغيرة تصدرها مجموعة من شباب الشعراء بالمغرب. مكتوبة بخط اليد، ومصورة على طريقة "الماستر" الشهيرة.
العددان الأول والثاني – اللذان وصلاني – يوضحان أن مصدري النشرة هم الشعراء: سعد سرحان ويا سين عدنان ورشيد نيني. ويحتوي كل عدد منهما على مقدمة (شبه افتتاحية )، ثم مجموعة من القصائد الجديدة لمصدريها ومجايليهم من شباب الشعراء.
اتخذ العدد الأول له شعارا يقول:" الشعر مسودة شاسعة للحياة "، كما تضمن ما يمكن أن نسميا ادبيان " الغارة الشعرية. وقد جاء هذا البيان على هيئة "بلاغات " قصيرة حادة اللهجة جارحة. ونظرا لأهمية هذه البلاغات, سأورد هنا بعضها، كأمثلة: بلاغ( 1): نستطيع الزعم أن الغارة الأولى قد توقفت في صلة الرحم الشعري وإمداده بما يكفي من ماء الخصوبة وطلائع الخضرة التي بين أيديكم وأمام أعينكم, إذ تؤكد زعمنا ذاك فإنها في الوقت نفسه تكذب أخبار العقم التي يروجها سعاة الشؤم في مغاراتهم التي تجافيها شمس الشعر، وهي إشاعات لم تكن أبدا بالمضاء اللازم لوصولها حادة.
بلاغ رقم ( 4): أما الذين ولوا الأدبار, فقد كنا شديدي الرأفة بهم, لقد أطلقنا ذلهم على بعد فراسخ من العطش الكبير تاركين مخيلاتهم الجرداء عرضة للسراب الزلال.
بلاغ(5): بالنسبة " لأبناء العائلات "في المقاطعات الشعرية والضيقات المحروسة, حيث يرتع الورثة جيلا بعد جيل, الذين يملكون من صفحات الجرائد ما يكفي لتدثير جحفل من الدببة القطبية, والذين إذا ما سعلوا أو تثاءبوا أو تمخطوا, فإنهم يختارون لفعلتهم تلك عنوانا لائقا بـ«قصيدة النثر" التي بدوت عنهم هؤلاء ننصحهم بعدم التورط في غاراتنا, رفقا بهم من تعنيف آباء صارمين قد يتهمونهم بمرافقة الأشرار, وربما هادوهم بالحرمان من الميراث.
بلاغ (6): "الغارة الشعرية ",إنها ليست سوى هذه الشتلات من القصائد، ونوزعها بالقسطاس على أصص منذورة لها. إنها هذا الجسر نعبره صوب أشباه لنا في الضوء والأنين, فنجد أنفسنا هناك في انتظارنا منذ أول الخطو.
هي إذن قصائد تنتقي قراءها تماما مثلما تنتقي عاشقة وردة أو فستانا، وربما كانت تفرض أنفاسها عليهم, لكنها يقينا تستجير بهم من زجاج السيارات, الذي كانت ستنتهي الى تلميعه لو أنها عبرت اليهم عن طريق جريدة لا يحترمها حتى نادل من الدرجة العاشرة.
اتخذ العدد الثاني من "الغارة الشعرية " شعارا يقول: "الشعر غارة تشنها الحياة على ضراتها العبوسات ".
أما ما يشبه الافتتاحية فقد أجابت على سؤال:"لماذا الغارة الشعرية " بقولها: «انها هذا الهجوم الأعزل الذي نشنه على أصدقائنا من ذوي القامات الجديرة بظلالها: أولئك يذرفون كريستال القلب مع كل قصيدة, أولئك يغدقون على الشعر أشهى فواكه العمر، أولئك ينثرون الكلمات في وجه العالم مثلما يرجم تل كريم سفوحه المقفرة بقبرات غبراء ".
"ما يحتاج اليه شعراء العالم من ورق لكتابة قصائدهم أقل بكثير مما يحتاج اليه جنرال واحد في حالة حرب أو توجس. وما تتطلبه من ورق كل الدواوين الشعرية الصادرة في مختلف أقطار العالم لايكفي الجنرال إياه، وأعوانه العبوسين, لتدبيج بلاغاتهم الجهمة عن انتصارات يكذبها الذباب ".
"الغارة الشعرية: اختلاس بريء من ميزانية الموت ".
كان هذا تعريفا مبتسرا بـ "الغارة الشعرية "، التي تطلب من قارئها _ كما تفعل المنشورات السرية – أن يصور منها نسخة على الأقل ويمررها لغيره من القراء.
ويمكن أن نسوق الخواطر الموجزة التالية على هذه الغارة الجميلة.
أ – من الواضح أن ظاهرة مجلات "الماستر" المصورة, ونشرات الفوتوكوبي التي ازدهرت في مصر عبر السبعينات, قد بدأت تنتشر في بعض البلاد العربية. فلا نستطيع, ونحن نتصفه الغارة الشعرية, إلا أن نستعيد في الذاكرة مجلات "إضاءة 77"، "كتابات ", " قاف نون "، "آفاق "، "الكتابة الأخرى"، "الكتابة السوداء"، "الجراد" وغيرها. بل إننا لابد أن نستعيد «رصيف 81" في بيروت,و" كلمات "في البحرين, و"إسراف" في المغرب.
وبالطبع فإننا ننظر الى الغارة الشعرية "، في هذا السياق: المستقل, الناتيء، الحاد، المختلف, بما يشتمل عليه هذا السياق من دلالات اجتماعية وثقافية وجمالية.
ب _الواقع أن ظهور "الغارة الشعرية "، وقبلها "إسراف "في المغرب, يدل أعمق الدلالة عل أن ثمة تجربة جديدة تتخلق في الحياة الشعرية المغربية, متواصلة مع مثيلاتها في مصر ولبنان والعراق والأردن والإمارات وغيرها من بلدان عربية. وهي إذ تتواصل مع قريناتها، فإنما تواصل في نفس الوقت السعي الذي تجاهده القصيدة العربية التجديدية في السنوات الأخيرة.
جـ_ إن اللهجة الحادة والقاسية, التي تبرز في بياناتهم خاصة, يمكن أن تكون علامة صحية مفرحة إذا اعتبرناها سمة من سمات حماسة البدايات وغليان الروح, وانفجار القرف من عوامل القذي في حياتنا العربية, الاجتماعية والسياسية والشعرية. وهي عوامل تجل عن الحصر. فتحية حب الى هؤلاء المغيرين.
مجلة الجراد
"الجراد" هو اسم المجلة المستقلة التي صدر في القاهرة _ مؤخرا _ عددها الثالث. وكان العددان الأول والثاني، قد صدرا, في العامين الماضيين (فهي غير دورية, تصدر حسب التساهيل ) بإشراف الشاعر المصري
( السبعيني, حسب تصنيف النقاد على الطريقة العقدية ). المقيم بأمريكا منذ ست سنوات: أحمد طه.
ويمكن, في البدء، أن نرصد بعض الفروق الشكلية – التي لا تخلو من دلالة – التي يختلف بها هذا العدد عن سابقيه: فقد اختفى من العدد الجديد التنويه عن أن أحمد طه هو المشرف عل الإصدار. هذه المرة وهناك هيئة تحرير جماعية تضم: كريم دروزة ومحمد متولي ومحمد شندي وماهر صبري. وهناك ثبت بأسماء جميع المشاركين في العدد: شعراء وقصاصين ورسامي كاريكاتير ومترجمين. كما رفع الشعار الذي كان يصف "الجراد" في العددين السابقين بأنها "للشعر المصري الجديد"، وحلت محله إشارة الى أن هذا العدد "للشعر والفنون الأخرى". وأخيرا: فقد خلا العدد الجديد من الكمية الهائلة من الشتائم التي وجهها العددان السابقان _ سواء في الافتتاحيات أو في المقالات _ الى الحياة الشعرية العربية المصرية الحديثة, وخاصة: الرواد الكبار من ناحية, وشعراء السبعينات (حسب التصنيف العقد المؤذي إياه )، المصريين بالذات, من ناحية ثانية.
سنقرأ في مقدمة هذا العدد: "مجلة تدعي الجراد، مجلة تدعي القدرة على تحطيم كل الأطر والقوالب التقليدية الجاهزة. يزعم المشاركون فيها أنهم لا يمثلون أية مذاهب أو تيارات سياسية, وأنهم يصدرون عن أنفسهم, كالجواد تماما. يأكلون يابس الشعر، ليفرزوا أخضر نمير مستساغ من ذوي الذوق التقليدي. لهؤلاء الواقفين على الأطلال نقول: "قل لواقف يبكي على طلل درس, ما (دره ) _هكذا في الأصل _ لو كان جلس ".
لن نتوقف _ بالطبع _ عند الخطأ الذي ورد في المقتبس الشعري، الذي يقول صحيحه "ما ضوه لو كان جلس ". وهو الخطأ الذي يشي بأن كاتبي المقدمة لم يقرأ وا البيت الشعري القديم في نصه الأصلي, بل هم اعتمدوا على السماع والنقل الشفاهي ولعل ذلك يدلنا على أخطار العلاقة العدوانية التي يمارسها مصدرو "الجراد" مع التراث الشعري العربي. وهي عدوانية لا تخلو من "نفعية " تدفع أصحابها الى الاستشهاد بالشعر القديم اذا كان يؤيد رفض الأطلال والتهكم على القديم, حتى لو كان "النفعيون " لم يقرأوا الاثنين: القديم المتكلس, والمجدد الساخر من القديم.
على أية حال, ربما كان في الأمر خطأ طباعي ولهذا لن نتوقف عنده كثيرا لكي نستطيع أن نحيي هذه الروح الوثابة التي تقف وراء هذا السعي الحار، الطامح للتجدد والتغيير, لاختراق مناطق بكر لم تصلها من قبل أقدام الشعراء. ولكي نستطيع أن نضع تحت أعين هؤاء الشباب المتحفز الموهوب بعض الأسئلة الجادة, التي تدعوهم _ وندعو أنفسنا معهم _ الى التأمل الصحي الناضج فيها:
أ – هل يمكن حقا "تحطيم كل الأطر والقوالب التقليدية الجاهزة " ؟
أغلب الظن أننا نقع في " طوباوية مثالية " جديدة, إذا مارسنا التغيير أو التجديد بكل هذه "الإطلاقية " القاطعة في الهدم, ونحن الذين رفضنا هذه "الإطلاقية "القاطعة في البناء والنظام والثبات.
ب – الا نستطيع أن نعتبر أن "رفض المذاهب السياسية أو التيارات الفكرية " هو نفسه لون آخر من "المذهبية "والتحزب ؟
أليس رفض "الأيديولوجيا" بهذا الشكل الجامد، العدمي، هو نفسه أيديولوجيا" و"إطار" و "مذهب "؟
جـ – كيف ننقذ عملنا من "التورية " المدمرة التي ينطوي عليها اسم "الجراد"؟ فالجواد، في الواقع,يلتهم يابس الزرع وأخضره جميعا والخشية أن ينسحب هذا الفعل "الجرادي الخرابي"على الشعر، كل الشعر، بأسره، فلا نتمكن من التفريق بين "أخضر الشعر" السابق (الذي يتوجب علينا الحفاظ عليه وادراك قيمته في سياقه, وتمثله وتجاوزه في آن )، وبين "يابس الشعر", الميت, الذي انتهت مدة فعاليته وصلا حيته (الذي يتوجب علينا أن ننظف أرضنا الخصبة منه, بإطلاق الجراد عليه, وتطهير الزاهرة من ديدانه العفنة ).
لنستكمل بعض فقرات المقدمة, لنقرأ هذه الفكرة الهامة:"نحن مجلة تعبر عن آراء أدباء شبان,لا يقصدون اكتساب شهرة أو اغتنام مال من وراثها. وانما يبتغون عرض حالات متدفقة شعوريا قد نسميها شعرا ويسميها الآخرون نثرا، والبعض الآخر ترجمة, في عصر ضاقت فيه الفروقات بين الفنون المختلفة, واختلطت أفرع المعرفة بعضها ببعض ".
هنا, بحق, فكرة هامة, لانها تثير قضية الأنواع الأدبية وما شهدته من تداخل شديد في المراحل الأخيرة من تطورها, وهو التداخل الذي أسماه إدوار الخراط "الكتابة عبر النوعية ".
لكن هذه الفكرة الهامة, على صحتها وراهنيتها، لا تخلو من مخر، تدفعنا الى تشذيب فوضاها ببعض التحفظات الأولية, المطروحة للحوار والانضاج والتعديل:
من المؤكد أن الحياة الحالية تتداخل في شتى المجالات الطبقات الاجتماعية, والنظريات الفكرية الكبرى الاتصالات, الوظائف الطبيعية والبيولوجية والفيزيقية. والفنون ليست _ بالطبع _ بعيدة عن هذه التطورات, بل ربما كانت الفنون واحدا من أسباب هذه التطورات نفسها.
على أن ذلك لا ينبغي أن يحرفنا عن ادراك أننا سنظل في حاجة الى وسائل إجرائية تميز لنا الحدود – لو كانت حدودا ضيقة خفيفة – بين الفنون وبعضها البعض, لأسباب عديدة:
فهذا التميز سيساهم _ من جهة _في سعي المبدع لتطوير نوعه الذي يبدع فيه, على ضوء تاريخ هذا النوع. وسياق تطوره وإدراك شروطه الكيفية المختلفة. كما أن هذا التمييز _ من جهة ثانية _ سيساعد نقاد هذا النوع أو ذاك على استبيان ملامح جماله ومظاهر تفرده ومواطن إضافاته الخلاقة فضلا عن أن هذا التمييز _ من جهة أخيرة – سيعين المتلقي على الاستمتاع بالنوع الذي يتلقاه, حينما يقرنه – أو يقارنه – بالأنواع الأخرى وبنظرائه في مجاله, وبمدى استفادته من فن آخر، ضمن المناخ الأساسي لكل فن. هكذا. ينبغي أن نفرق بين الداخل والتشوش.
ومع الاعتراف المبدئي بتداخل الحياة والفنون, فإن احتياجاتنا الى ضرورة التمايزات الخصوصية _ ضمن الوحدة الكلية متناسجة _ يظل احتياجا ملحا، حتى لا يكون هذا التداخل (أو الإندياح, إن شئت الدقة في حالنا هنا) ساترا ملونا جذابا يداري العجز وقلة القدرة وضعف الموهبة, عند بعض المنتسبين الى الإبداع, زورا وبهتانا. لهذا، تلزمنا جميعا القدرة على التفريق بين التداخل الصحي الفني، وبين التشوه الجمالي. والتفريق بين القفز على الأنواع الأدبية, وبين القفز على اضمحلال الطاقة المنطلقة الحرة.
أما تحية الجرأة عند هؤلاء الشباب الطازج, فهي واجبة من قبل ومن بعد. هذه الطزاجة التي تتبدى في هذه الفقرة الطريفة من مقدمتهم الموجزة:
«قد نكون مخطئين في ظننا بأن هذه المجلة سوف توزع أو تقرأ أو تشتري، إلا أننا يكفينا مجدا أننا حاولنا إيصال أفكارنا ومشاعرنا للناس. ويكفي قراءنا التعساء تعبا أنهم تكلفوا عناء التطلع في هذه المجلة, أو محاولة تصفحها ورؤية ماذا يكمن وراء هذا الاسم احجيب وهذا الشعار الأغرب: جوادة ترك على دراجة بخارية !".
حلمي سالم (كاتب من مصر)