من الشخصيات النسائية التي شغلت الاوساط الادبية والفكرية فى اواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن شخصية تحتل مكانة خاصة هي: لواندريا سالومي، وقد صدرت عنها اولها فى الفترة الاخيرة عدة كتب جديرة بالقراءة والتمعن ؟ فهي تكشف لنا عن خبايا علاقاتها برجال مشهورين ليس اقلهم : نيتشه او ريلكه ، او فرويد، كما انها تبين لنا نوعية العلاقة القائمة بين المبدعين الكبار وما يدعى عادة بالجنس اللطيف (احيانا يكون اقل لطفا مما نتوقع … واكثر غباء)، الواقع ان السؤال المطروح هو التالي : هل تساعد المرأة الموهوبة العبقري على تفتح عبقريته ؟ وبأي شكل ؟ وما هو الثمن المدفوع لقاء هذه المساعدة ؟ للاجابة عن هذه الاسئلة يستحسن بنا ان نتوقف عند علاقتها بالرجل الاول .
ا-علاقتها بنيتشه
كان اللقاء الاول قد ترتب ترتيبا من قبل صديق نيتشه الفيلسوف ددبول ري»< وسيدة المانية تهتم بالثقافة والمثقفين من الخارج -أي بشكل سطحي ولكن مفيد – هي (مالفيلدا فون ميزنبوغ) ومن كثرة ما كتب له بول ري عن هذه الصبية الساحرة القادمة من البلاد السلافية رد عليه نيتشه بالرسالة التالية :
"سلم لي على هذه الروسية ، اذا كان للسلام من معنى! لاريب في أنى اطمع بهذا النوع من النساء، نعم ، سوف اكرس نفسي قريبا للبحث عن فرائس كهذه !.. فأنا بأمس الحاجة الى ذلك من اجل انجاز الاعمال التي انوي كتابتها طيلة السنوات العشر القادمات . اما الزواج فمسألة أخرى… كل ما استطيع قوله فى هذا المجال هو اتخاذ قرار بالزواج لمدة سنتين فقط … (أي زواج مؤقت ، او محطة استراحة ).
لكأن هذه الروسية الحسناء ذات النظرات الغامضة والابتسامة القاتلة ، لم تكن تنتظر إلا مجرد صدور قرار عن نيتشه لكي تتزوجه !!
سوف نجد فيما بعد أنه قد عض اصابعه ندما عليها بعد ان رفضته وكان حبها قد تسرب الى قلبه كالسم الزعاف دون ان يشعر، او حتى وهو يشعر… هذا لايعنى بالطبع انها لم تعجب به ولم تعرف قيمته فمنذ اللقاء الاول احست بغر ابته وعرفت انه شخص غير عادى، فهو اولا قد تلبك واخذ يبحث فى جيبه عن شىء ما وراح يقوم بحركات غير طبيعية ولم يعد يعرف ما يقول … فصدرت هذه العبارة العبثية والمضحكة فى آن ما: ( من اي كوكب سقطنا لكي نلتقي؟) هذه هي طريقة نيتشه فى المغازلة !… بعدئذ راحت تسمعه وتتلمذ على فلسفته وتمشى معه فى الوديان والجبال – وكان مشاء كبيرا – وعرفت الفرق بينه وبين بول ري، ولكن قلبها مال لهذا الاخير على الرغم من كل شيء "الرجال العاديون افضل عادة للنساء من العباقرة " ثم كانت القطيعة والنميمة والحسد وتدخل الناس والرشاة وكل ما يتلو الحب الكبير من سقوط كبير.
لكن ، اليس هناك من سبب آخر لابتعادها عن نيتشه ؟ الا يمكننا ان نعتقد بأنها قد خافت منه بعد ان انكشفت لها اعماقه العدمية أو دهاليز روحه الداخلية ؟ عندئذ راحت "لو" تكتشف عالما رهيبا مخيفا لا يكاد يتحمله البشر فانسحبت طالبة النجاة والأمان .
وتركت نيتشه يبحر فى عباب الفكر والظلام وحيدا…
2-اللقاء مع ريلكه
دائما اللقاء الاول له معنى على الرغم من هشاشته وانه يتم "بالغلط " او عن طريق الصدفة فى معظم الاحيان … وكثيرا ما ننساه فيما بعد فى زحمة الحياة والعلاقة ، ثم لا نعود لكي نتذكره إلا بعد ان تحصل القطيعة فنتساءل : كيف حصل ونحاول استعادته ، ونجد ان له طعما خاصا لم طعم الحامض -الحلو، او حتى المر-الحلو..) طعم الندم والحرمان .
كان اللقاء الاول بين لو سالومي ور يلكا قد حصل فى ميونيخ بتاريخ 12 مايو/أيار 1897 بواسطة الروائي جاكوب واسرمان وكان كافيا لكي تنقدح شرارة الحب : هذه الشرارة الخالدة التي تعبر العصور والازمان دون ان تتغير، ودون ان يبليها الزمن ، الزمن قادر على ابلاء كل شىء ما عدا شرارة الحب .
والحب هو الشىء الوحيد القادر على ايقاف الزمن ، الحب هو المنافس الاكبر للموت والزمن الحب هو الموت بعينه.
وقالت : لقد دخل حياتي "كالضرورة " وزارني الحب بكل هدوء وطمأنينة … زارني دون تحد او احساس بالذنب "كانت متزوجة " زارني كما لو اننا نكتشف شيئا مباركا يكتمل بفضله العالم، هذا عن حبها هي اما عنه هو فحدث ولا حرج ! فقد كان جارفا وساحقا كان مشتعلا… ينبغى الا ننسى هنا الفرق الاساسي بين علاقتها مع نيتشه وعلاقتها مع ريلكه، فهي عندما تعرفت على فيلسوف الالمان كان عمرها لا يزيد عن واحد وعشرين عاما، وكان نيتشه قد بلغ الثامنة والثلاثين من العمر وانجز قسما كبيرا من اعماله وتهيأ للانعطاف الكبير الذي سوف يقوده الى "هكذا تكلم زرادشت " بمعنى انها كانت تلميذة فى محراب فيلسوف كبير يعرف ما يريد وما لا يريد، فيلسوف تشكل وتبلور.
وعلى الرغم من تأثيرها عليه كحضور انثوي وانساني فإن تأثيره هو عليها كان اكبر.
اما علاقتها بريلكه فعلى العكس تماما فهي كانت قد اقتربت من الاربعين ، فى حين انه هو لم يكن يتجاوز الواحد والعشرين عاما، ولم يكن ريلكه قد نشر شيئا يذكر حتى ذلك الوقت ، ولم يكن معروفا بعد، بل لم يكن يتوقع احد انه سيصبح احد كبار شعراء القرن ، لقد التقاما والعمر في اوله والعبقرية ما تزال نائمة تنتظر فقط شرارة الاحتكاك بالمرأة العشيقة ، بالمرأة الملهمة، لكي تنفتر وتشتعل كالحريق … وفى اليوم التالى راح يتجول كالمجنون فى شوارع ميونيخ ويمر على كل البيوت ما عدا بيتها، وهو ينتظر ان يلقاها صدفة على منعطف شارع ما او فى زاوية غامضة .
وراح يكتب لها الرسائل التي تتفوق على الشعر: "فى يوم ما، وبعد سنوات طويلة ، سوف
تعرفين ماذا كنت بالنسبة.
كنت نبع الجبال للعطشان
آه يا نبعي الصافى !
اي عرفان بالجميل نحوك ! لم أعد أتمنى رؤية الأزهار والسماء
والشمس إلا فيك … من خلالك …". وقد قضيا السنوات الثلاث الاول دون ان يتركا بعضهما بعضا لحظة واحدة تقريبا هذا على الرغم من ان لو اندريا سالومي كانت متزوجة من شخص يدعى البروفيسور اندريه، وقد سألته مرة : هل تزعجه تصرفاتها وغيابها عن البيت ؟ فأجاب بلا قاطعة "هناك اشخاص عاقلون جدا، خلقوا للزواج والحب الهادىء والاهتمام بالبيت ورعاية شؤون الاطفال وجلى الصحون .. باختصار خلقوا لوظيفة الزوج او حتى "الزوج الابدي" بحسب تعبير مجنون آخر يدعى ."يستويفسكي "انهم محظوظون وسعداء لانهم متزوجون من سيدات لامعات ونادرات يقضين نصف حياتهن -على الاقل – خارج البيت من اجل الحب والعشق والعشات ، ولواندريا سالومي كانت من هذا النوع من النساء التاريخيات اللواتي يحتجن الى زوج يتكئن عليه فى البيت ثم الى حبيب حر او عاشق مجنون . وهكذا تقام العلاقة "التوازنية فى لجة الحياة ".
لكن جنون ريلكه كان احيانا اكثر مما يحتمل ، وكان توتره الداخلي يتحول فى بعض اللحظات الى مشكلة حقيقية بالنسبة للواندريا سالومي، وقد حاولت ساعدته عندما عرضته على الاطباء والمحللين النفسانين لكي يكتشفوا علته وسر قلقه المرعب ولكن عبثا… فالعلة كانت غائصة الى الاعماق بل والى اعماق الاعماق ، وربما اقتنعت سالومي فى نهاية المطاف انه من الافضل الا تكتشف علته لانها اذا ما اكتشفت زال سر عبقريته ! كان ريلكه من صنف المبدعين الكبار الذين تنطبق عليهم كلمته الشهيرة :
"عجبت لمن يرى بمثل هذا الوضوح دون ان يجد مخرجا!!".
3-اللقاء مع فرويد
اما اللقاء الثالث والاخير الذي اتيح للوسالومي ان تحظي به فى حياتها العامرة بلقاء العبقريات فكان مع مؤسس التحليل النفسي: سيغمرنا فرويد. ولكنه كان لقاء خاصا ومختلفا تماما عن اللقاءين السابقين اللذ ين طبعا حياتها بطابعهما فعندما التقت به كان عمرها قد تجاوز الخمسين وفرويد نفسه قد تجاوز الستين وحقق اكتشافاته الاساسية فى مجال التحليل النفسي باختصار كان علاقة ناضجة قائمة على التفاهم والمعرفة وخالية من "المصالح الجنسية " التي كثيرا ما تعكر صفو العلاقة بين الرجل والمرأة .
صحيح ان فرويد كان "مريضا" أيضا كنيتشه وريلكه وبقية المبدعين الكبار، ولكنه استطاع ان يتجاوز مرضا بعد مشقة هائلة ، وبعد ان بلغ الثانية والاربعين من العمر وذلك عندما اضيئت له طفولته ودهاليز حياته الداخلية فى لمعة واحدة فانحلت عقدته التي لاحقته طيلة كل تلك السنين ، وبناء على ذلك راح يشكل التحليل النفسي كعلم عقلاني لدراسة كل ماهر لا عقلاني ومظلم فى حياتنا "اللاوعى"، لقد استماع فرويد ان يتجاوز ذاته ويرتفع فوق نفسه : بمعنى انه اتخذ من ذاته وتجربته الحياتية وعقده الشخصية مادة للدراسة تكون مفيدة للآخرين وللاجيال القادمة ، وهذا ما اعجبت به لواندريا سالومي ايما اعجاب ، وما انفكت سالومي تثنى على طريقة فرويد فى توظيف العقلانية من اجل الكشف عن كل ما هو جامح ولا عقلاني فينا، وقد طبقت منهجيته على نيتشه ومعرفتها الشخصية به لكي تكشف عن لا عقلانيته .
ونتج عن ذلك كتابها الهام عنه ، ففي حين ان نيتشه كان قد اخترق كل حدود العقلانية فى فكره ووصل الى التخوم الاخرى وقلب فى ناحية الجنون ، وفى حين ان ريلكه لم يكن يهتم بالحدود الفاصلة بين العقل والجنون إلا من اجل انكارها، كان فرويد يظل فى نظر لو سالومي، عقلانيا متزنا، وكانت تبحث عن هذا النوع من الرجال العباقرة الذين استطاعوا الابحار ضد العواصف والانواء ثم التوصل الى الشاطىء الآخر.. بعد جهد جهيد.
هاشم صالح : كاتب ومترجم مقيم في باريس