قفز موضوع المجتمع المدني إلى دائرة اهتمامات الرأي العام في عُمان مع مطلع الألفية الثانية حيث راج استخدام المصطلح إعلاميا وسياسيا وثقافيا بشكل ملحوظ، عاكسا تزايد التطرق له في الأحاديث الخاصة، وفي الحوارات العامة، كموضوع حان الالتفات له وتفعيله بشكل صميم. وبعد أن لم يكن يذكر له محل من الإعراب في المعادلة الوطنية، أضحى مفهوم المجتمع المدني محل بحث وتنظير، وأضحت استحقاقاته تستوعب وتثمن أكثر فأكثر كاستحقاقات أساسية، ليس من حيث الإسهام في التنمية الوطنية فحسب، بل أيضا، في النسق نفسه، في إثراء مفهوم المواطنة وتعضيده من خلال تفعيل إسهامات المواطنين، من مختلف مواقعهم في المجتمع المدني، في بناء الصرح الوطني.
قبل ذلك، وطوال العقود الثلاثة السابقة، منذ 23 يوليو 1970 حتى مقدم القرن الجديد، وريثما تستوفي البنية الاساسية ويعلو الصرح المعرفي في البلاد، ظلت القناعة العامة مستقرة في الاكتفاء بترك مهمة التنمية الوطنية في كافة أبعادها موجهة من داخل الإطار الرسمي، مكتفية باجتهادات الحكومة وحدها، ومدفوعة بجهود المسؤولين فحسب.
تجدر الإشارة أيضا أن استشعار العمانيين بأهمية بلورة مفهوم المجتمع المدني في الوعي الوطني، ومن ثم العمل على تفعيل استحقاقاته في الحياة الوطنية، جاء بشكل طبيعي، بمعنى أنه جاء في سياق تطور دائب منذ بداية نهضتهم الحديثة نحو استكمال جميع عناصر الدولة المعاصرة، واستيفاء جميع مكونات المجتمع المعاصر المنفتح حكومة وشعبا على خبرات الأمم. من هنا لم يقف النظر العماني طويلا عند كون مفهوم المجتمع المدني في توصيفه الحديث جديدا عليه، كما أنه لم يعبه كثيرا بعثرات هذا المفهوم وتطبيقاته في خبرات مجتمعات ناهضة أخرى. عكس ذلك، أدرك المجتمع العماني أن جوانب مشهودة من هذا المفهوم مألوفة في خبرته التاريخية، واعتبر أن التفاوت في مدى نجاح محاولات الشعوب في استقدام الأوفق والأرقى في حياتها الوطنية المعاصرة أمر يمكن تفهمه من خلال إرثها التاريخي من جهة، وتطلعها المستقبلي من الجهة الأخرى.
ولعل من غرابة التجربة العمانية هو تشكل مؤسسات مجتمعها المدني خارج رحم السياسة واهتماماتها وانشغالاتها وتطلعاتها. إلا أن الجدلية المعروفة والمتبادلة التأثر والتأثير بين الديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني، ولو بشكلها المعكوس هذا، لربما سيساعد على تعزيز وسائل الوصول للديمقراطية التي تنشدها أجيال هذا البلد العربي المتكئ على إرث ثّر في تقاليد الحكم، والسياسة، والتي اختمرت في خبرتها الوطنية، التفاعل مع أكثر الشعوب العربية تنوعا في الاصول والأعراق، سواءً على مستوى التاريخ أو الجغرافيا.
في هذه الورقة سأحاول تتبع شيء من بذور مؤسسات العمل المدني في عمان، مع الوقوف على بعض الدوافع المنشئة لها، وإبراز أهم التحديات التي تعرقل نموها الطبيعي. عل ذلك يساعدنا – كعمانيين- على تشخيص الواقع، وتكّشف بعضٌ مما تعانيه التجربة المدنية في بلادنا، سعياً إلى طريق البناء والتنمية.
حول المصطلح
تعرف موسوعة ماكميلان للعلوم الاجتماعية مؤسسات المجتمع المدني بأنها: كل مجموعة من المواطنين ائتلفوا أو نظموا أنفسهم من أجل دعم أو إنجاز قضية عامة، أو مدنية أو مشروع عام.
ويجعل بعض الكتاب العرب مفهوم المجتمع المدني شاملا جميع البنى والمؤسسات التقليدية والحديثة عنما يعرفوه بـ«أنه مجموعة المؤسسات والفاعليات والانشطة التي تحتل مركزا وسيطا بين العائلة، باعتبارها الوحدة الاساسية التي ينهض عليها البنيان الاجتماعي والنظام القيمي في المجتمع من ناحية، والدولة ومؤسساتها وأجهزتها ذات الصبغة الرسمية من ناحية أخرى».
ويرى محمد عابد الجابري ان المجتمع المدني هو ذلك الذي تنتظم فيه العلاقات بين أفراده على أساس الديمقراطية. وبالتحديد «ذلك المجتمع الذي يمارس فيه الحكم على أساس أغلبية سياسية حزبية تحترم فيه حقوق المواطن السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في حدها الادنى على الاقل». إنه بعبارة أخرى بحسب الجابري، المجتمع الذي تقوم فيه دولة المؤسسات بالمعنى الحديث للمؤسسة: البرلمان والقضاء المستقل والاحزاب والنقابات والجمعيات.
وعلى الرغم من ان المجتمع المدني له عشرات التعريفات، إلا أنها لا تخرج عن توافر أركان أساسية:كالفعل الإرادي الحر أو الطوعي الذي يجب أن يتوفر لدى العاملين في هذا القطاع، الاستقلال عن المؤسسات الرسمية، التنظيم والعمل المنهجي الذي يميز جهد هذه المؤسسات؛ الاليات الواضحة لقبول الأفراد أو الجماعات في عضوية هذه المؤسسات والشروط والقواعد التي يتم التراضي بشأنها وقبولها فيما بينهم؛ والحرص على بناء منظومة قيمية قائمة على شيم الاختلاف والتنوع والتسامح والتعاون والتنافس الشريف بين هذه المؤسسات/الجمعيات المُشكٍّلة لما نصطلح على تسميته المجتمع المدني.
خلفية تاريخية ضرورية
تعتبر مؤسسات المجتمع المدني في عُمان، ووفقاً للمفهوم السابق؛ وخاصة فيما يتعلق بالهياكل والأطر المنظمة حديثة العهد بالحياة.
إلا أن هنالك مؤسسات مارست وظائف المجتمع المدني في عُمان، وشكلت جذوراً تاريخية راسخة يعتد بها في بنيان هذا المجتمع، حيث يمكن اعتبار كيانات من قبيل (الوقف، منظومة إدارة أنظمة الري التقليدية (الافلاج)، سنن البحر، سنن البادية، تعاونيات أهل المهن والحرف والتجار داخل كل ولاية أو مدينة وغيرها من صيغ التعاون) مؤسسات ملأت الفراغ الحادث بين المنظومتين الأساس، منظومة الأسرة ومنظومة الدولة، بحسب المفهوم (الهيجلي) للمجتمع المدني.
فقد سعت تلك الصيغ حسب إمكاناتها المتواضعة إلى تحقيق مصالح أفرادها من خلال دفعهم نحو المشاركة الفاعلة للوصول إلى الخير العام والذي يعتبره عزمي بشارة روح المجتمع المدني، وهدفه الأساس. كما التزمت تلك المؤسسات (الوسيطة) في سبيل ذلك بقيم ومعايير الاحترام، والتراضي والتسامح، والإدارة السلمية وهو أمر وإن لم يتجاوز حالته الفطرية البدائية الأولى، إلا أنه شكل امتدادا ضروريا لفكرة المجتمع المدني عندما بدأت ملامح الدولة العصرية بالظهور والتشكل مع بدايات العقد السابع من القرن العشرين.
هناك أيضا محاولات من ضمنها محاولة عفوية قام بها مجموعة من الشباب العماني في مطلع الأربعينيات من القرن الماضي جديرة بالذكر في هذا المقام، وهي تأسيس ناد باسم «نادي التبادل الثقافي» مقره مدينة مطرح المدينة التوأم للعاصمة مسقط، وهي ميناء عمان الشهير في القرنين التاسع عشر والعشرين.
يقول صادق جواد سليمان في معرض حديثه عن هذه التجربة موجها كلمته بمناسبة إشهار الجمعية العمانية للكتاب والأدباء: «…لم يكن لهذا النادي مقر مُلك،ولا كان يسنده دعم حكومي أو أهلي من أي نوع. مقره كان مبنىً صغيراً مستأجراً يتقاسم دفع إيجاره الأعضاء، كل حسب استطاعته، ومن لم يستطع لم يدفع. في غرفة المذاكرة أثاث بسيط وقنديل يشب عِشاءً حين تقرأ ورقة بحثية يعرضها أحد الأعضاء ثم يتحاور حولها الجميع. في الغرفة أيضا مكتبة…أعضاء النادي كانوا شبانا حضهم حبهم للثقافة العربية على إيجاد منتدى لهم يتبادلون في ساحته- الضيقة مساحة والعريضة أفقا- ما يحلو لهم من أدب الأمة ومعارفها المتنوعة»
إذن البدايات المنظمة والبارزة كانت مع الثقافة والفكر، وهذا أمر مفهوم ضمن إطار الدور والرسالة التي يقوم بها من ينتمون لهذا القطاع، والمسؤولية التي يستشعرونها تجاه من حولهم وخاصة أبناء وطنهم.» لقد أكدوا (هولاء الفتية) تشخصهم وتشخص مجتمعهم، وهم في شبه عزلة عن بقية العالم العربي، كجزء أصيل من الثقافة العربية المشتركة على امتداد الوطن الكبير. أخيرا، كيف لم ينتظروا حتى تمد لهم يد العون، حكومية أو أهلية، لكي يقوموا بمهمتهم الثقافية، وكيف لم يعبأوا كثيرا بما واجهوا من بعض المجتمع من صد وازدراء، وربما أذى في بعض الأحيان».
لقد لعب كل من اكتشاف النفط، وعودة الكثير من أبناء الوطن المتسلحين بالعلم والتجربة، في مطلع سبعينيات القرن المنصرم، واستقبال البلاد لأعداد ليست بالقليلة من العمال والمهنيين من العمانيين وغيرهم، لتشغيل وإدارة هذا الطارئ الجديد(النفط) على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للبلاد.
أقول لعبت كل هذه العوامل دورا مهما في تمهيد ظهور مؤسسات المجتمع المدني في شكلها ومفهومها الحديث، حيث لا يخفى على أحد الضرورات القانونية والتنظيمية التي يتطلبها وجود وتفاعل هذه المجموعات البشرية المختلفة، في تكويناتها وتطلعاتها، سواءً على المستوى المهني، أم على المستوى الاجتماعي والفكري.
البداية بالمنظور الحديث لهذه اللفظة(الجمعية) والذي نحدده هنا بمؤسسين، ونظام أساسي ينظم العلاقة داخل تلك المؤسسة، بالاضافة إلى مقر ونطاق تحرك؛ ظهر في العام 1971. ثم تأكد بشكل رسمي في العام 1972 بإنشاء الجمعية التاريخية العمانية.
الجدير بالملاحظة هنا هو أسبقية تكوين هذه الجمعية حتى على مستوى تطور حدود النظام السياسي وهذا ما يؤكد زعمنا بأن المجتمع في الأساس يحمل بذور الاجتماع والانتظام فيما بينه قبل وجود ذلك المفهوم العصري للدولة بهياكلها وحدودها وتعقيداتها التي نراها ونتفاعل معها اليوم.
بل أن هذه الجمعية (الجمعية التاريخية) مارست دوراً في غاية الأهمية في حفظ الآثار والمخطوطات والمواقع الأثرية قبل إنشاء وزارة مختصة بذلك والتي أنشئت بعد إنشاء الجمعية بثلاث سنوات، وكانت الجهود الريادية التي قامت بها هذه الجمعية هي نواة عمل الوزارة لاحقا. بل أن رئيسها الفخري ظل وإلى عهد قريب أعلى سلطة في الدولة(السلطان قابوس).
وعلى الرغم من صدور أول قانون ينظم الأندية والجمعيات في العام 1973م. إلا أن الجمعية التاريخية وإلى اليوم لا تلتزم في تنظيمها بالقانون المذكور.
في ذات الفترة أحيت مجموعة من الشباب العماني فكرة تكوين ناد ثقافي أسمته «النادي الوطني الثقافي»، حاول أن يوسع الأفق المعرفي للمجتمع، وأصدرت هذه المجموعة مجلة أطلقت عليها اسم «الثقافة الجديدة». إلا أن الأستاذ أحمد الفلاحي ورفاقه لم يوفقوا في الاستمرار بمشروعهم الطموح؛ حيث أُقفل في العام 1978م، نتيجة التحديات التي جوبهت بها الفكرة سواء من قبل المجتمع المنشغل بتفاصيل حياته المعيشية، والحكومة المهمومة، بشؤون توطيد رسوخها الوجودي من جانب، ولشح الموارد المالية المتوفرة لهم في تلك الفترة من جانب آخر. أضف إلى جهود متفرقة ومتقطعة في مجالات المسرح والتوعية الثقافية عموما، اجتهدت بها أندية رياضية في الأساس كأندية: عمان، النادي الأهلي (العروبة حاليا).. وغيرها. شكلت باجتهاداتها تلك إضافات متفرقة، لكنها مهمة في رصيد البلاد المدني.
وفي العام 1972م بدأت فكرة مدنية أخرى في البلاد ومن اللافت للنظر فيها أنها مبادرة قادتها المرأة العمانية وشجعتها الحكومة، وهي جمعيات المرأة في ولايات ومدن السلطنة، كانت البداية بجمعية المرأة العمانية بمسقط، في 19/2/1972م، حتى وصل العدد اليوم إلى 51 جمعية في العام 2007م بإشهار جمعية للمرأة في ولاية الكامل والوافي.
أسهمت هذه الجمعيات في الاهتمام بشريحة مهمة من المجتمع في مجالات شكلت مصدر احتياج للمجتمع في مرحلة خطواته الاولى نحو الحداثة: كالتدريب ومحو الامية والتعليم والتشغيل والحفاظ على الفنون والموروثات الشعبية، رغم الإمكانيات المادية المتواضعة المرصودة لها واعتمادها على الهبات والتبرعات.. كان ذلك في بداية السبعينات أما اليوم فإنها تقف عاجزة عن قراءة احتياجات قطاع واسع من الجيل الجديد للمرأة العمانية، كما ظلت تعاني من عزوف متزايد من أعضائها إلى حد وصفها بالبيوت المهجورة.
هناك نوع آخر من الجمعيات ظهر في العقد الأخير من القرن العشرين على الساحة العمانية اهتم بالعمل الخيري التطوعي بدء بإشهار جمعية رعاية الأطفال المعوقين وما تبعها من جمعيات وصناديق خيرية قننت العمل الخيري ونظمته إلى حد ما خلال العشر سنوات الماضية حيث يزيد عدد هذه الجمعيات اليوم عن العشر مؤسسات استطاعت القيام بدور واضح في دعم فئات في أمس الحاجة للدعم والمساندة حتى يمارسوا أدوارهم بشكل طبيعي وبدون تمييز في مجتمعهم.
وفي خطوة تعزيزية مهمة لجهود بناء المجتمع المدني، أصدر السلطان قابوس النظام الأساسي للدولة، «دستور البلاد»، في 6 نوفمبر 1996، حيث حددت مواده الحقوق والواجبات الوطنية، كما رسمت حدود ومناطق تعاون السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية.
وأكد في المادة (33) منه بشكل واضح «حرية تكوين الجمعيات على أسس وطنية ولأهداف مشروعة وبوسائل سلمية وبما لا يتعارض مع نصوص وأهداف هذا النظام الأساسي مكفولة وفقاً للشروط والأوضاع التي يبينها القانون، ويحظر إنشاء جمعيات يكون نشاطها معادياً لنظام المجتمع أو سرياً أو ذا طابع عسكري، ولا يجوز إجبار أحد على الانضمام إلى أية جمعية». وسبقته المادة(32): والتي كفلت حق الاجتماع ضمن حدود القانون. فالنصان صريحان ومحفزان لتدعيم المجتمع المدني. إلا أن الممارسات الرسمية والشعبية، بالإضافة إلى الأنظمة القانونية التي صدرت بعد هذا النظام، بينت أن الطريق ما زال طويلا وشاقا، ويحتاج إلى نضال فكري، توعوي،وتنظيمي، يطمئن جميع الأطراف بأن مؤسسات المجتمع المدني هي مركز خير عام للمجتمع وأهله، وليس العكس.
وفي العام 2000م صدر قانون الجمعيات الأهلية بالمرسوم السلطاني رقم 14/2000م وعلى أثره مباشرة تتابع ظهور الجمعيات المهنية بدءاً بالجمعية الجيولوجية حتى تجاوز العدد العشرين جمعية تنظم نفسها في مهن وقطاعات مختلفة كقطاعات الهندسة والطب والمحاماة والصحافة والسينما والمسرح والكتابة والأدب والمحاسبة والاقتصاد والعمل الاجتماعي والتقانة الحديثة.
حيث أعطى هذا القانون وزارة التنمية الاجتماعية حق الإشهار والإشراف على هذه الجمعيات إضافة إلى صلاحيات واسعة أخرى، ولعل المقام لا يتسع هنا للنظر في هذا القانون وتقديم قراءة متخصصة وواقعية فيه، إلا أنه من واقع الممارسات التي اجترحتها هذه الجمعيات فإن القانون المذكور أصبح لا يعبر عن طبيعة المرحلة، ولا عن الدور الذي تأمل الدولة أن تقوم به هذه الجمعيات في إيجاد حراك مدني، يؤصل لدولة النظام والقانون ويعطي لمؤسسات المجتمع المدني هامش حرية مريحا ومؤثرا في البناء والتفاعل البنيوي لتنمية البلاد.
الغريب في الامر أنه بعد صدور هذا القانون بثلاث سنوات حدد تقرير التنمية البشرية في عمان الصادر في العام 2003م (والصادر لمرة واحدة حتى الان) تعريفه الشهير للحكم الجيد: حيث يقول بأن الإدارة الجيدة لشؤون المجتمع والدولة هو «محدد هام لنجاح التنمية البشرية، وهوحصيلة لنشاط ثلاث قوى فاعلة وهي الدولة (شاملة القطاع العام الإنتاجي)، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني». وهو تحول مهم في الأدبيات الرسمية الحكومية. واعتراف ذو دلالة بأهمية مؤسسات المجتمع المدني كشريك فاعل في التنمية مبرره كما أوضح التقرير التحولات الكبيرة التي طرأت على الدولة، والتأكيد على دور المشاركة الديمقراطية والنزاهة والشفافية في دعم جهود التنمية البشرية.
والناظر إلى تعريف التقرير لمصطلح المجتمع المدني تشده اللغة التي استخدمتها الحكومة في تشجيع تكوين مؤسسات ينتظم فيها أفراد مستقلون يعملون طوعاً بشكل جماعي لتحقيق هدف مشترك في بيئة أو محيط عام للتعبير عن مصالحهم وأفكارهم ومبادئهم. كما يجلي تعريف التقرير الشك عن جدلية الاستقلالية إذ يحدد طبيعة العلاقة مع الدولة فيوضح بأنها مستقلة عن الدولة، وهي تعمل خارج إطار تدخلها، سواء كشريك على قدم المساواة مع الدولة أم كمعارض للدولة وما تضعه من سياسات.
إلا ان هذا التقرير يلقي باللوم الصريح – في سابقة تسجل في أدبيات الحكومة العمانية- في شأن تأخر ظهور هذه الممارسات على عاملين رئيسيين الأول هو اضطلاع الدولة بالدور الرئيس في رعاية المواطنين والقيام بكافة الأدوار (دولة الرفاه)، والثاني هيمنة التنظيم التقليدي للعلاقات بين الناس، وهو ما حدده من خلال القبلية، إذ أن القبيلة حسب التقرير وبفضل دورها المحوري في البنية الاجتماعية، وتنظيماتها المحكمة القريبة من التأثير على الفرد هي من أخرت لجوء المواطنين للانتظام على شكل صيغ ونماذج أخرى. على الرغم من التراجع في دور القبائل في مقابل التحول السياسي والاقتصادي الذي شهدته البلاد خلال الثلاثين سنة الأخيرة.
كما أتت أدبيات الرؤية المستقبلية (96-2020) (عمان 2020م) في سياق تفصيل قطاع الشؤون الاجتماعية على ذكر «أهمية النهوض بالمجتمع وتفعيل المشاركة الأهلية في تنمية المجتمعات المحلية». وحددت حزمة من الأهداف تسعى الرؤية إلى تحقيقها من ضمنها؛ توسيع قاعدة العمل الاجتماعي النسوي عدديا وجغرافيا ودعمه ماديا وفنياً. مع رفع مستوى أداء الجمعيات النسائية وإرساء أسس التعاون والتنسيق بين الجهات الحكومية والقطاع الخاص من جهة والجمعيات النسائية من جهة أخرى.
وقراءتنا لما سبق يمكن إيجازها كالتالي: عدم تناسب ما جاءت عليه الاستراتيجية (الحلم) والتطلعات التي يطمح إليها المجتمع بكافة شرائحه. كما أنها اختزلت العمل المدني في الجمعيات النسائية وهو أمر مستغرب عند وضع رؤية طويلة الأمد للبلاد تمتد إلى ربع قرن من الزمان. الأمر الذي يحفزنا للتساؤل عن طبيعة تخصصات واضعي هذه الرؤية، ومدى معرفتهم بإحتياجات المجتمع شاملة كافة القطاعات، وليس القطاع الاقتصادي وحده.
وعلى الرغم من أنه ورد في تقييم أداء قطاع التنمية الاجتماعية في الخطة الخمسية الخامسة (1996-2000م). بأن من أهم التحديات التي واجهتها الخطة هي «ضعف الوعي المجتمعي نسبياً بأهمية العمل التطوعي وأساليب العمل به، وانعدام آليات التنسيق بين الجهات الأهلية». وبالرغم من أن أهداف هذا القطاع في الخطة الخمسية السادسة (2001-2005م) ركزت من ضمن ما ركزت عليه على «تشجيع العمل الاجتماعي والتطوعي وتعميق روح التكافل الاجتماعي بين المواطنين» عن طريق تبني سياسات من قبيل تكثيف التوعية بالعمل التطوعي ووضع خطة لإجراء دراسات عن أهم العناصر المشتركة لخصائص المجتمعات المحلية وما يسود فيها من ظواهر واحتياجات لتكون نتائجها هادياً لخطط وبرامج التوعية. بيد أن المحصلة على أرض الواقع لم تكن بمقدار الطموح من الجانبين لامن قبل الحكومة ولا المواطنين على حد سواء.
حول الدوافع
في بحثنا عن دوافع التشكيل والانتظام لهذه المؤسسات في عُمان نجد الدافع الأبرز لها هو تعقد المسؤوليات لدى الحكومة وتشابكها حتى رأت هذه الفئات الالتفات إلى تطوير مجالاتها بنفسها لأنها الأقرب إلى الشرائح التي تمثلها، وأكثر قدرة على إجتراح المبادرات، خدمةً للمجتمع وأهله. إلا أن هناك دوافع أخرى جديرة بالعرض في هذا المقام:
فأول هذه الدوافع هوالدافع الذاتي للأفراد المكونين لهذه المؤسسات؛ فمع تزايد اعداد المتعلمين والمتخصصين في علوم شتى، ومع توسع تطلعات العمانيين الفكرية سواءً على المستوى المهني أو الاجتماعي؛ تزايدت معها رغباتهم في التبرع بأوقاتهم وخبراتهم توسعةً منهم للفهم السائد لخدمة المجتمع، وتحسسا للحراك الوطني المستقل عن الجهد الرسمي.
وهناك الدافع القيمي والمنطلق من المنظومة القيمية التي يرتكز عليها الإنسان العماني (العربي والمسلم) وهذا الدافع من أهم محفزات الجمعيات الخيرية للظهور، وتلك المعنية بالاسرة والطفولة، خاصة فئة التجار ورجال الاعمال، والنساء الرائدات في تأسيس مؤسسات تُعنى بأصحاب الإعاقات النادرة،والأمراض المستعصية، وكذا الحال في العناية بالأسر الفقيرة والمحتاجة للعون والمساعدة.
التسامح الرسمي، هو دافع آخر جدير بالذكر، وهو ما أحدده هنا بالانطباع العام الذي ساد إثر صدور قانون الجمعيات في العام 2000، والذي حفز الكثيرين للسعي نحو التمايز على شكل مؤسسات متنوعة. كما خالف تسارع إجراءات إشهار الجمعيات المتوالي، وسهولة تقديم طلباتها نسبياً: الفهم الذي ظل مسيطرا على عقلية الناس طوال ثلاثة عقود مليئة بالشكوك والتربص من تسييس أي فعل إرادي تطوعي حر يهدف إلى تكريس الخير العام.
وأخيراً الدافع الخارجي، حيث لا يمكننا تجاهل الضغوط الدولية التي مورست وما زالت تمارس على دول المنطقة لتبنّي خيارات الديمقراطية، حقوق الانسان، المجتمع المدني وغيرها من الأنماط المعولمة، والتي لا يمكن لنظام سياسي عاقل يجيد فن البقاء أن يتجاهلها أو يعيقها كلياً. فمن الطبيعي أن يفتح لها النوافذ إذا كانت أبوابه مقفلةً إباءً، ثم يعيد تدويرها بتدرجه الحكيم مع خلطها في ما يسميه خصوصيته وبصمته الخاصة.
ناهيك عن أثر ثورة الإتصالات، والفضاء الإعلامي المفتوح، واللذان دعما الصفوف الخلفية لبناء وعي مجتمعي، ينقل ويحاور ويتفاعل مع جميع الطروحات الفكرية والسياسية العربية منها على وجه الخصوص، والعالمية منها عامة.
حول المعوقات وأشياء أخرى
لا يمكن إصدار أي تقييم منصف لمؤسسات المجتمع المدني العاملة في عُمان لأسباب تتعلق بعوامل كثيرة منها أعمارها الزمنية من جهة، وطبيعة النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي للبلاد من جهة أخرى، فعامل الزمن مهم للحكم على هكذا مشروعات، بالإضافة إلى أن طبيعة النظام السياسي والظرف التاريخي الذي ظهر فيه له تأثير لا يمكن أن يغفل ؛ فكما للزمن ضروراته لنضج الأفكار وتمايزها ؛ فإن للنظام السياسي العماني المتبني لنظام دولة الرفاهة، والماسك بجميع تفاصيل المشهد؛ انعكاساته على كل مفاصل المجتمع. ففي وسط عاش فيه المواطن وتربى على أن الحكومة عليها كل الواجبات التأسيسية بل عليها الدعم والرعاية والمراقبة أيضا، أثّر ذلك سلباً على طبيعة سَير ونمو هذه المؤسسات، إذ سلبها الاستقلالية التي يجب أن تشعر بها، وزرع الاتكالية في نفوس فئات كثيرة من أعضائها.
نعم في الجانب المقابل هناك إيجابيات لا يمكن إنكارها من قبيل وضع لبنات العمل المؤسسي بمفهومه الحديث، إلا أنها وحتى هذه النقطة، فإن الحكومة في مرحلة انشغالها ذاك، لم تترك المجال لبناء ثقافة رصينة جادة للعمل المدني عموما والتطوعي على وجه الخصوص، ولم يَذكر خطابها الإعلامي أو يّذّكر بأهمية وجود دور مؤسسات المجتمع المدني من البدايات.
إضافة إلى مخاوف واضحة من قِبلها من إعطاء الاستقلالية لهذا الجهد تحت حجة أن المجتمع لم يبلغ سن الرشد بعد. بل أكثر من ذلك، ظلت الحكومة وإلى وقت قريب قلقة من المطالبات الاهلية بتشكيل المؤسسات المهنية والنقابات العمالية، إذ أن قيام هذا النوع من التنظيمات سيكون له بعض المصاحبات السياسية غير المرغوب فيها، بل ترى المؤسسة الرسمية في ذلك زعزعة الأمن والسلم الوطني والذي كان مبررا كبيرا وواسعا لتأخير كثير من المطالبات المدنية المشروعة.
فهذا مسؤول عماني يعلق على عدم وجود جمعيات مهنية: «السماح بقيام جمعيات مهنية يحتاج لقرار سياسي،ثم أننا لا نشعر في الوقت الحاضر بحاجة لها أو مؤهلين للسماح لمثل هذه المؤسسات بالعمل عندنا».
صحيح أن الوضع تغير قليلا في الفترة الأخيرة وتم السماح لتلك الانواع من المؤسسات والنقابات العمالية بالانتظام والتشكل (ولوأنها جاءت أيضا من قمة الهرم السياسي والاجتماعي)؛ إلا أن الصورة القابعة في الخلفية الذهنية ما زالت لم تبتعد كثيرا عن تلك المقولة آنفاً، والتي تعبر عن صعوبة تقبل مؤسسات مجتمع مدني حرة وذات نفوذ وتأثير، والتعايش معها تحت سماء واحدة.
ما حصل على أرض الواقع هو أن المُخطِط اعتقد أن المحصلة التي سيصلها المجتمع بالضرورة بعد عقدين أو ثلاثة من الزمن هي عبارة عن مؤسسات طيعة وفي ذات الوقت مستقلة ومسؤولة تعينه على أداء واجباتها في ميادين التنمية وتكفيه مؤنة القطاعات التي تمثلها بالطريقة التي خُطط بها ولأجلها.
إلا ان شيئا كهذا لم يحدث وهي نتيجة طبيعية لأن «المجتمع المدني دون سياسة وخارج المعركة من أجل الديموقراطية هو عملية إجهاض». ولأن المطالب من قاعدة الهرم الاجتماعي والنابعة من الاحتياج إليه والعمل بجد لتحقيقه شيء، والمنح والاعطيات والمكرمات الممنوحة من رأس الدولة شيء آخر ومختلف تماما. لا يمكننا الزعم بأن المحصلة ستكون ذاتها، ولا الاثر الذي ستحدثه هذه المؤسسات هو ذات الفعل الذي تحفره في البناء الاجتماعي تلك التي ولدت من رحم الكفاح والنضال والتضحيات بأشكالها الانسانية المختلفة.
كما لا يمكن انتظار ثمار بلا بذور ومن دون عمل جادٍ مضنٍ، فالمجتمع المدني ثمرة الديمقراطية وحقوق المواطنة، ونتيجة لعمل دؤوب في تأصيل حكم القانون،وتعبيرصادق وعملي عن أحلام المساواة والعدل.
لذلك ما الفائدة من التذكير بأهمية شراكة المجتمع المدني ولا توجد ثقافة حاضنة لما يسمى بالحقوق المدنية؛ ما الفائدة من التذكير بأهمية شراكة المجتمع المدني في ظل غياب فكرة ان المجتمع قائم على تعاقد. وما الفائدة من هذه المنظمات في ظل فصلها عن مؤسسات برلمانية تملك قرار التشريع والمحاسبة والرقابة. وما هي القيمة من هذه المؤسسات في ظل فك إرتباطها بمهام أساسية من قبيل: الشفافية، ومكافحة الفساد، وتفعيل ثقافة المساءلة، وحقوق الإنسان.
ففي الوقت الذي اعتاد فيه الناس على عدم المسير وبشكل طبيعي بعيدا عن رعاية مؤسسات الحكومة ودعمها، لا يمكن أن يقطف المجتمع ثمار ما يحلم به من شجرة المجتمع المدني. وليس أدل على ذلك من مطالبات البعض اللحوحة بالاستقلالية وفي ذات الوقت الذي يطالب به الحكومة بواجب الدعم المالي دون أن ينتبه بأن صاحب التمويل هو صاحب القرار. بالإضافة إلى ما سبق فإن هناك العديد من المعوقات الأخرى – من وجهة نظري- التي تجابه المجتمع المدني العماني نحدد منها على سبيل المثال لا الحصر:
1.التشريعات والقوانين:
فكما أوردنا سالفاً فإن القوانين التي تنظم العمل المدني مازالت تعاني الكثير من السلبيات كالتوجس والخوف من إعطاء جرعات كبيرة لهذا العمل، كما أن من هذه القوانين ما هو مستورد وبشكل مباشر وبدون مراعاة للظرف العماني، وبالتالي فإنها تشكل عوامل عرقلة أو بطء في قطف الثمار لجهود هذه المؤسسات في البناء الاجتماعي والاقتصادي. من هنا لابد من إعادة النظر في هذه القوانين وبشكل عاجل وبشراكة العاملين والمشتغلين في هذا المجال حتى تكون هذه المؤسسات صدقاً شريك حقيقي في التنمية والحكم الجيد.
2.الاعتماد المباشر على المؤسسات الحكومية:
ولهذا السبب مسوغه التاريخي المقبول، إلا ان ذلك لا يمكن ان يستمر، إذا ما أراد افراد هذا المجتمع نتاجا إيجابيا من هذه المنظمات. حيث انتج هذا الدعم الاتكالية لدى العاملين في العمل المدني دون أن تكون هناك دوافع للتفكير واجتراح المبادرات ذات الصفات الابتكارية لمصادر تمويل ثابتة وأعمال أعمق أثرا في تنوير المواطن بحقوقه وواجباته.
3- العزوف من بعض الفئات الواعية والشابة:
ولهذا المعوق أسباب كثيرة، منها الموضوعي؛ من قبيل ان هؤلاء هم نتاج ثقافة لا تشجع على الانخراط في العمل التطوعي، كما أنهم أبناء مجتمع الرفاه الذي ينتظر الرعاية والمبادرة من الحكومة. ومنها أسباب تتعلق بعدم تمتع هذا النوع من الأعمال بأي جاذبية؛ إذ لا توجد تجارب ناجحة ومشجعة من هذه المؤسسات لهذه الفئة المتطلعة للظهور والمكتنزة بالحماس والتدفق. فواقع هذه المؤسسات بشكله الحالي لربما لا يستوعب هذه الحماسه، كما أن حدوده الضيقة لاتغري أولي البأس والقوة منهم.
4- قلة الخبرة في التعاطي
مع إدارة المؤسسات:
تأثرت مؤسسات المجتمع المدني العماني ببعض الأساليب الإدارية السلبية التي تعاني منها مؤسسات القطاعين العام والخاص. لان أغلب المتطوعين في القطاع المدني هم بالأساس موظفون في ذينك القطاعين. فكثير من هذه الجمعيات تواجه صعوبات في أساليب التعاون والتواصل مع الآخرين ومع بعضها البعض، حيث لا يقتصر الأمر على أساليب الانفراد في اتخاذ القرارات فقط بل يصل الأمر إلى تجميد أدوار المؤسسة وإبقائها على وضع غير قابل للتطوير والتحديث تمسكاً بأهداف تم صياغتها في وقت كانت تتناسب مع وضعها السابق، بينما يتطلب الأمر تغييرها وفق المستجدات الحديثة، أو ان الامر يتعلق باستغلال عزوف الأعضاء عن الحضور والمشاركة بفاعلية، مما يستدعي ملء هذا الفراغ بالاحتفاظ بالمناصب والأدوار دون تحريك لساكن. مع عدم إغفال الطموحات الشخصية لبعض المنتسبين لهذه المؤسسات والذين هم أبناء مجتمع الابوية الصارمة، والقبلية المُجامِلة، مع امتياز انتسابهم لإرث الاستبداد المسيطر على مناحي الحياة المختلفة.
5. ضعف القدرات الفنية لبعض المتطوعين:
على الرغم من تزايد الجهود التي تبذلها بعض المؤسسات الرسمية وغير الرسمية. إلا أن هذه العقبة تحتاج إلى تكثيف الجهد من جميع الاطراف، فحمل الرسالة التطوعية ليست وجاهة بل تكليفاً في غاية الحساسية وضعف القدرات والإمكانيات هي من مسببات التأخر الرئيسة لهذه المؤسسات حيث يجر وراءه العديد من المشاكل ومنها ؛عدم القدرة على التواصل وإيصال أهداف المؤسسة وبالتالي فقدان الثقة بها من المجتمع المحيط، مع صعوبة علاج العقبات والمشاكل الداخلية للمؤسسة.
6- شح الدعم المالي والفني والعيني:
يمثل هذا التحدي العقبة الأكثر اعترافا من قبل الجميع، وإن كانت هذه العقبة تعاني منها أغلب المؤسسات المدنية في العالم، ولكن بدرجات متفاوتة، إلا أن الحال في عمان يبدو مركبا بعض الشيء: فمع ضحالة الوعي بالفكر والجهد المدني التطوعي، هناك تكاسل واضح في التفكير في الحلول المُعالجة لأزمة الدعم المالي، إن هكذا تفكير يحتاج إلى مؤمنين بالفكرة صدقا؛ يتمتعون بقدر عالٍ من نكران الذات، ولا يقيسوا النجاح والتقدم بمسطرة المكاسب الشخصية، معنوية كانت أو مادية.
هذا في مقابل وجوب تمتع المشتغلين في هذا القطاع بشيم من قبيل: الخبرة، حسن التدبير، الشفافية، المحاسبية، القدرة، على الإقناع، الصلابة في مواجهة تجاهل الحكومة والمجتمع، الثقة بالنفس وغيرها من صفات الرسوخ المؤسسي.
7-عدم رسوخ وشيوع
ثقافة العمل التطوعي:
وهو ما عرضناه في أكثر من مناسبة في هذه الورقة، إلا أن هذه العقبة سيضمحل تأثيرها مع الزمن والعمل المتواصل من التوعية، وضرب الأمثلة الواقعية في ميادين الخدمة العامة. خاصة إذا ما رُبطت ووظفت بذكاء مع كثير من الثوابت الدينية والاجتماعية والأخلاقية الداعمة لخير المجتمع وصلاح أهله.
8- شيوع النغمة النفعية في المجتمع:
إذ أن المجتمع لا يشد على أيدي أولئك الساعين لأعمال دون مقابل أو عائد مادي مباشر يعينهم على تكاليف الحياة الاستهلاكية المتزايدة، وللأسف الشديد فإن حزب أولئك الباحثين عن المكاسب المادية والاجتماعية هو الآخذ في الازدياد والتأثير والسيطرة على القطاع الاوسع من الناس. في مقابل تأخر نتاج العمل التطوعي واستهلاكه للوقت والطاقة والمال، دون شواهد مادية ملموسة لتغيير هذه النظرة.
9- غياب الرموز والقدوات:
تشكل القدوة النجم الهادي للسائرين على السبل المختلفة، والأمل الثابت للوصول إلى الغايات، وهي عامل حاسم في الأزمات ولحظات فتور الحماسة. والعمل المدني العماني يفتقر لهذا العامل ماضياً وحاضرًا، لا بسبب غياب ذوي الهمم العالية والعقول المتميزة من الجنسين، بل بسبب قمع التجربة ومسخها بوسائل متلونة ومرنة مع الحالات وظروف ظهورها. السلطة سبب رئيس في هذا، والمجتمع الطيع لتوجيهاتها عامل مساند، تسببا في كبت ميلاد تلك الرموز والأصوات.
10- ضعف التغطية الإعلامية لبرامج
وأنشطة هذه المؤسسات والتوثيق لها:
وهو ما يتطلب درجة عالية من الإقناع بأهمية هذه المؤسسات للمجتمع على المدى القصير والبعيد، هذا الإقناع مصدره المؤمنون بدور هذه المنظمات من المنتسبين لها ومن المتلقين لفوائدها.
قبل الخاتمة
من المهم التأكيد على نقطة مهمة وهي أن المجتمع المدني بمؤسساته، وحراكه، لا يشكل استقالة للدولة عن مهماتها الديمقراطية، أو عزلا لقطاع من المجتمع عن الآخر، كذلك لا يعني هذا المفهوم تقسيم الصورة بين سلطة حاكمة وسلطة مضادة بقدر ما يعني زرع مفاهيم التعاون والمشاركة والمبادرة والقرار بشكل ديمقراطي على كافة الأصعدة والمستويات.
كما أن مؤسسات المجتمع المدني ما هي إلا جبهة عمل فاعلة ومتفاعلة مع المجتمع، جبهة مراقبة نقدية في المجتمعات الديمقراطية، ومصنع لإنتاج الأفكار الضرورية لتقدم الإنسان. أخيرا، من المهم التنويه، بل والتأكيد، على أن هيئات المجتمع المدني لا تنصب نفسها خصما للحكومات، ولا تتصرف كمنافس لها، وهي بالتأكيد لا تعرض نفسها كبديل عن الحكومات في تقرير الشأن الوطني وإدارته. ذلك أنها لا تمتلك شرعية التمثيل، ولا أهلية التصرف مستقلة في إنجاز أي عمل وطني. دور هيئات المجتمع المدني يتأطر في المشاركة في العمل الوطني بوسائل البحث والتثقيف وتبيان الخيارات وتقديم المشورة.
خاتمة
بعد هذا الاستعراض الخاص بمعوقات مؤسسات العمل المدني في عُمان، من المهم التأكيد في نهاية هذه الورقة على ان من أولويات المرحلة القادمة لهذه المؤسسات؛ ابتكار مصادر تمويل مستقلة، تعزز من قدراتها على الحراك حرة، مؤثرة في المجتمع، مع المشاركة في صياغة استراتيجية متكاملة لدعم وتشجيع ثقافة عمل تطوعي متمدن، يكفل لها ديمومة البقاء بشكل مقنع، خاصة من قبل جيل الشباب المتطلع للمساهمة بإيجابية فاعلة في تنمية وطنه. كما أن على الدولة في هذا المقام زيادة هامش السماح بالحراك السياسي والمدني؛ حتى يتسنى لهذه المؤسسات النمو بشكل طبيعي. إذ ان صيانة الحريات هي السبيل نحو النضج السياسي والمدني الممكنان معا وبترادف من إنتاج الحكم الرشيد بمعناه الشامل والواسع، والمستهدف في المؤدى الأخير: تنمية إنسانية واثقة ومستدامة في رحاب وطن حر كريم. إن مفهوم المجتمع المدني وتأمين استحقاقاته، رغم استمرار بعض التردد والتصعيب على الصعيد الرسمي، سوف يواصل بروزه كأمر متصدر للطموح العماني في قادم الأيام مصطحبا معه مزيدا من الخير والتقدم الحضاري.
قائمة المراجع
أولا: الكتب والمقالات:
1. الجابري محمد عابد، إشكالية الديمقراطية والمجتمع المدني في الوطن العربي، المستقبل العربي، السنة 15، العدد 167(كانون الثاني/يناير1993).
2. الصبيحي احمد شكر، مستقبل المجتمع المدني في الوطن العربي، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، اكتوبر 2000)، ص29.
3. النجار باقر،المجتمع المدني في الخليج والجزيرة العربية، ورقة قدمت إلى: المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية.
4. الهاشمي سعيد سلطان، نحو مجتمع مدني ترصعه الجمعيات، صحيفة الوطن العمانية، تاريخ 25 فبراير2003م، العدد:(7163). السنة الـ33.
5. بشارة عزمي، المجتمع المدني دراسة نقدية (مع إشارة للمجتمع المدني العربي)، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية،ط2، أكتوبر 2000.
6. سليمان صادق جواد، تواصل في الوعي الثقافي، مقالة في العدد صفر من ملحق «ن» الصادر من الجمعية العمانية للكتاب والأدباء بتاريخ 7 نوفمبر 2007م، ص7، وُزع مع صحيفة عمان اليومية.
7. سليمان صادق جواد، دور هيئات المجتمع المدني في تعزيز ثقافة الحوار، واثر الحوار في نشر ثقافة السلام والتعايش والتعاون، ورقة قدمت في الندوة الدولية حول حوار الحضارات والثقافات، جامعة نزوى، سلطنة عمان 12-15 أغسطس 2006 م.
8. هيجل، أصول فلسفة الحق، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام،بيروت: دار التنوير، ط3، 2007.
ثانيا : المراجع الرسمية :
1. إحصاءات وزارة التنمية الاجتماعية، سلطنة عمان، 2008.
2. تقرير التنمية البشرية،وزارة الاقتصاد الوطني،سلطنة عمان. 2003، ص169.
3. خطة التنمية الخمسية الخامسة (96-2000)، وزارة الاقتصاد الوطني، سلطنة عمان، 1995
4. خطة التنمية الخمسية السادسة(2001-2005م) وزارة الاقتصاد الوطني،سلطنة عمان، 2000.
ثالثا: المراجع الأجنبية
1- Edwin R.A. Seligman and Alvin Johnson, Encyclopedia of the
Social Sciences (New York: Macmillan, 1948),p 492
رابعا: أخرى
مقابلة للكاتب مع أحد مؤسسي النادي الوطني الثقافي، الأستاذ/.أحمد بن عبدالله الفلاحي، بتاريخ 2 يوليو2009م.
سعيد بن سلطان الهاشمي
كاتب من عُمان