اليأس لحود: صديقى عبدالوهاب البياتى، نلتقى داما وفى كل – مرة لايفاجئنى شكلك وزيك واتذكر -اننى اول ها التقيتك فى بيروت منذ سنوات طويلة ابتعنا لك طقمين جديدين على قياسك الذي لايزال يحافظ على النعومة- وإلايجاز، هذا ليذكرنى بأصدقاء كثيرين لك، ومجايلين شعريين سأسألك الأن عنهم فى هذه الجلسة الصباحية، التى يجمعنا-فيها بهدوئه فندق "رياض السلام " فى الدار البيضاء بقاعته الندافئة فى أوائل كانون الثاني… حيث في حى لى كل هذهـ الخواطر المحيطة بنا بأنه لا إنفصال ابدا بين اشكالنا ونحن واذا كان ثمة اختلاف فهو بمقدار ما تسمح به الشكلنة فى حدود ضيقة جدا، ولدى أشخاص معدودين فقط، اسألك دون قصد وبكل براءة: كيف ترى الى اشكال مجايليك من الشعراء والكتاب من المسميين روادا خاصة كيف ظهر امامك شكلهم، مثلا كيف ظهر شكل بدر شاكر السياب. ويقال بأن بلند الحيدري كأن ملاكما، ما علاقة رقة عود السياب برقة شعاه وهل اثر شكل بلند على شعره… المهم إن- نبدأ هذا الحديث.. – هل انتم من منطقة شكلية واحدة.
عبدالوهاب البياتى: بدر من الجنوب وانا من بغداد… ولا اظن ان بلند الحيدري كان ملاكما، فالملاكم المحترف هو الذي يكون، له "اسم " ويدخك مسابقات يخرج منها منتصرا او مهزوما، اول ما عزفت بلند كان يكتب، وربما كان يلأكم بعض زملائه كما جرت العادة عندما يختصم الاصدقاء، وضد الصفة لاتكرس، اى انسان لكى يلقب بالملاكم..
بعض الشعراء يكتبون الشعر منذ سبعين سنة ولم يخالوا ثقب الشاعر حتى الآن، فما بالك بمهنة الملاكمة الشاقة، ورقة عود السياب اعتقد انها تعود الى عوامل وراثية، وهذا ما اكده الاطباء الذين عالجوه فى سنوات مرضه – الاخير، شأنه شأن الكثير من الناس، ولقد تحدث بودلير فى بعض مذكراته عن حالة كهذه حيث شبه نفسه بالبذرة المتقحلة لإنه جاء من أب كبير فى السن وأم تصغر زوجها بأعوام كثيرة، السياب عندما انتقل من محافظة البصرة ليدرس فى دار المعلمين تعرف بمعظم شعراء بغداد يومئذ.
واعتقد انه التقى ببلند فى نهاية الاربعينات ايضا ولكن آلسياب كانت له نزعة يسارية بعكس بلند الذى كآن ينحو فى شعره منحى ذاتيا، كما كان السياب منشغلا بكتابة القصائد الثورية التى كانت تبعده عن بعضالاوساط الادبية و. – و للامانة اقول ان بلند كان فى تلك السنوات اكثر من السياب تجديدا،ولكت، اهتم بالمفرات اللغوية وبالتكرار دون ان يخطو خطوات حاسمة الى الامام وظل يدور فى فلك ما انجزه وحققه، وكنت انا نفسى شاهدا على ذلك…
لحود: هل تتنذكز السنوات، او اللحظات، الاولى لتعارفكم فى دار-المعلمين… هل بدأها هو ام انت، هل تتذكر سليمان العيسى كما حدثنا ذات مرة عن اناقته..
البياتى: بلند لم يكمل دراسته الثانوية، إذ لم يخن معنا انا والسياب وسليمان العيسى (الذى يكبرنا انا والسياب بست سنوات تقريبا) كان لقائى الاول يالسياب فى1947 وهى سنة دخولى دار المعلمين العليا، وفي تعارفنا ببساطة فبينما كنت اتمشى ن حديقة الدار اذ به يقترب منى ويقول لي: سمعت بأنك تكتب شنعوا، ويسعدنى كثيرا ان اتعرف عليك، وانضممت اليه او انضم لي وبعد دقائق قليلة من،تمام مراسم التفارف قال لي بلهفة انه انتهى من كتابة قصيدة جديدة يرغب بقراءتها لي وكانت قصيدة جميلة وعاطفية اى رومانسية،وعندما انتهى من إنشاده نظر الي بقلق وقالى: ما رأيك وقلت له ان القصيدة جميلة ولكنى اقترح أستبدال احدى كلماتها بكلمة اخرى اقترحتها عليه..
لحود:.هل تذكرها- هل قبلها-. كيف سمحت لنفسك بالتدخل من الخارج فى نص شعري ؟
البياتى: لا اتذكرها ابدا وقد تردد فى قبول اقتراحى وصمت ولكنه عندما اعاذ قراءتها بحضور اصدقاء أخرين فى مناسبة اخرى، كان قد وضع الكلمة المفترحة وعندما اكتشف اننى بحبانبه قال اف البياتى هو الذي اقترح علي هذه الكلمة التى كانت بالاصل كذا..لحود: وسليمان العيسى كيف كآن ؟ يحكى كثيرا عن ذكائه وفطنته وغرامياته… هل كنتم تحسدونه ؟
البياتى: كان خجولا جدا، وكانت الفتيات يتهافتن عليه لا لجماله وحبه بل لاستذكار الدروس معه، فقد كان مجتهدا ومتفوقا فى حادته وكنا نراه دائما وهو يتمشى مع بعضهن على سدة السد الذي كان يحيط بدار المعلمين من جهتها الشرقية،كنا نحسده خاصة اذا ما راينا احدى محبوباتنا فى الحلم وهى تتذاكر الدروس معه.
لحود: ونازك الملائكة كيف كانت ومن اين إتت… ابوها مثلا ما علاقته بك.
البياتى كانت نازك قد تخرجت في دار المعلمين الحالية قبلنا بسنوات، ولذلك فأنا لم التق بها إلا بعد اعوام حيث زرتها مع مجموعة من الطلبة (فى ألخمسينات ) ببيتها بعدما تخرجت في دار المعلمين، كان شكلها عاديا غير لافت للنظر، وترتدى ملابس محافظة لانها تنحدر من اسر ة عرفت بالادب والعلم والتقوى وقد فاتنى القول ان والدها صادق الملائكة كان قد درسنى اللغة العربية فى المرحلة الثانوية وكان من اشد المشجعين قي محلى كتابة النمط الذى كنت اكتبه تلك السنوات جلسنا مع نازك وافراد اسرتها فى. زيارة قصيرة وكأن كلامنا متقضبا يدور أحيانا بطريقة جانبية حول الشعر.
لحود: هل كانت تبشر نازك بأفكار جدب ة وهى فى هذه الاثواب…
البياتى: كأن شعر نازك مسمكونا بالهواجس الرومانسية الانجليزية وبخاصة شعر بايرون وكيتس وشللي، دون الاقتراب من جوهر شعر هؤلاء – الكبار ولخن شعرها كان اقرب افى نفسى كشعر حديث عن نتاج السياب فى تلك ألايام فشعر السياب كان مسكونا بالهاجس السياسى والأجتماعى. اى بالهاجس الإيدبولوجي وكثيرا- ما كان يسهم بشعره فى تلك الي حلة فى المظاهرات السياسية والاحتفالات الوطنية الطلابية، هما كان يدفعه – إلى صب مشاعره – بالشكل العمودى الاقرب الى ذوق الجمهور الذى اعتاد على هذا النمط منذ مئات السنوات..
وشعر نازك العمودى ايامئذ كان اقرب الى مفهوم القصيدة الحديثة فى بواكيرها.
لحود: وشكل بلند هل كان متلأئمآ مع شعره…
البياتى: كان بلند الحيدري وسيما وله حضوره كان يعقد الصداقات منذ اللقاء الاول بما كان يتمتع به من دماثة واخلاق عالية كأن بغداديا اقرب الى طبقة- جديدة متعلمة فى العاصمة،فبغداد وحدها كانت بؤرة التفاعلات والتغيرات الجديدة،ومعظم – الوافدين اليها كانوا اشبه بالغرباء او القرويين الهه بطين الى الحاضرة لاول مرة ئان عليهم ان يتعلموا طقوسها وخفايا العلاقات الاجتماعية والثقافية التى كانت تسولى انديتها- ومحافلها الثقافية كما كانت بغداد تمثل البوتقة التى تنصهر فيها جميع الطقوس الدينية والثقافية وإلاجتماعية لكل الأديان والقوميات، والذي كأن لايعرف هذه الطقوس كان، عليه الانتظار طويلا ومثله كمثل من يسير فى الظلمة دون دليل او بوصلة.
لحود: سليمان العيسى ماذا كات يرتدى وهل – سمعته منشدا بآزيائه… هل مثل امامكم ؟
البياتى: لقد سمعته مرارا، فكان لايترك فرصة أنشادية إلا واهتبلها، فما كان اكثر الاحتقالات الوطنية التى كانت تدار فى دار المعلمين، كاف انشاده جهوريا اقرب الى الانشاد التمثيلي الذى- يؤديه معظم الشعراء العرب المعاصرين وهى طريقة كنت ولا ازال بعيدا عنها ولا استسيغها لانها تحتفى بالتمثيل والصخب والحركات وتحميل القصيدة- ما ليس فيها.
كنت انظر الى العيسى وسواه كمن ينظر الى تمثيلية، وكان الاستحسان ينصب على الاسماء.. الأماكن او ذكر الأسماء البطولية او المأثر الوطنية دون الاهتمام بجودة القصيدة ومستواها، ولكن العيسى فى ذلك الوقت يمان يتقن فن القصيدة الملائمة لذوق الجمهور ايامنذو نجاحه التقليدى فيه الذى يفكر ويرى- بكفيه واذنيه بعكس جمهور القصيدة الاوروبية ألذى يحب الأستماع الى القراء ة المحايدة- المش ينسلخ فيها الشاعر عن ذاته كممثل محاولا ايصال الصور والمعانى والموسيقى فى وحدة عضوية الى اذن وقلب وعقل المستمع دون ان يزيد او ينقص، من النص كما هو، وكان العسسى يلبس الاثواب ابد العادية الكلاسيكية بافاقة دون نسيان في من اسكندرون اللواء الجميل المسلوخ عن جسد سوريا، وكان يحظى بعناية شعبية ورسمية هو ورفاقه السكندرونيون فى العراق وكان – " كنازك " عف اللسان رقيق المشاعر وعميق الحزن ولكن حزنه فى ف اشبه بالخزف الرومانسي المحلق دون اختراق كينونة- البؤس الانسانى او الحزن بمعناه الفلسفى والوجودى.
لحود: فى تلك المذكرات، حل كنت تعرف الجواهري من زيه الى رأيه.
البياتى: كنت – لا اعرفه شخصيا.،.. ولكني كنت انظر اليه من الرصيف الثانى من شارع إلرشيد مجالسا اصدقاءه فى هذا المقهى او ذاك كنت اتابع قصائده الوطنية المنددة بالمستعمرين واعوانهم، وكانت الجريدة التي تنشر قصائده تلك تنفذ فى دقائق حتى اننى اتذكر الآن بانني حاولت شراء الجريدة التى نشرت فيها احدى هذه القصائد فلم أفلح، وعندما عدت الى بيتى مساء فى إلاتوبيس نزل احد الركاب فى محطة تسبق محطتي ناسيا الجريدة ضالتى فاستوليت عليها فى الحال.
لحود: متى التقيت الجواهري إذن.. مع امين نخلة؟
البياتى: قي بداية الخمسينات عندما كات الشاعر اللبنانى الكبير امين نخلة ببغداد حين دعاه – الاديب العراقي حارث طه الواوى "نجل العلامة طه الراوى". الى حفل عشاء فى بيته وكنت انا والجواهوي من ضمن المدعوين فالتقينا لاول مرة وجهين مختلفين وتصورنا فى صورة-و احدة لا أزال احتفظ بها فى العراق بأوراقي الخاصة ثم تعددت اللقاءت فيما بعد واقتربنا كثيرا بينما كانت قصائدنا تبتعد، كان زي الجواهري يومها تقليديا بالياقة كما كان كث الشعر رغم عتبة- الكهولة كان لايعتني بتصفيفه فى حين كانت ملابسه نظيفة مكوية اما رأية فقد كان متمردا سياسيا واجتماعيا وهو تمردسوسيو سياسى اكثر منه وجوديا، كان يتوقف منتظرا حين يرى ان ثمة بارقة امل تلوح.
لحود: هل كان رأيه الايديولوجى يغلب شعره …
البياتي: دعنى اقل أولا انه الشاعر العمودى، الاول الذى أفضله على بقية شعراء عصره وزمانه لانه كان يستطيع بقوة دفع شعره للوصول الى القلوب من الفئات الثقافية كآفة فحتى جيلنا الذى ى ان مبهورا بالحداثة محاولا صنعها كان ينصت اليه بقلب واجف، كنا نحس ان فى شعره هو ها سيكون فى شعرنا فيمابعد ولكن برؤية جديدة" رؤية متمردة فلسفية تتخطى اقصى حالات التمرد للشعر الكلاسيكى، ففى شعره ثمة وعد بما سيحل بالقصيدة العربية الجديدة وكنت احس بهذا وانا اقرأ شعره أكثر مما احس، وانا اقرا- نصوص اقرانه الأخرين.
لحود: ما قصدته هو هل – كانت الايديولوجيا ا"برأيك " يومئذ سابقة على كتابة ألنص الجواهري،البياتى: لم يتبن الجواهري ايديولوجيا معينة رغم اتهامه وأحيانا اتهامى بأيديولوجي معينة كأن تمرده وثورته عفويين ينطلقان من الجماهير التي كانت تحاول تقويض البنى الاقتصادية والاجتماعية ث الثقافية لبناء مجتمع جديد، ومن منا جاء سر تهافت القراء والمستمعين إلى شعره كانت قصائده كسريان، النار فى الهشيم تنطفىء لتتقد من جديد الى إن انهار فى شىء وسقط النظام الذي كان يتبنى المشروع المعادى لتطلعات الشعب.
لحود: والسياب فى هذا السياق يصل انتقادك احيانا الى اتهامه وحده بالالتزام.
ألبياتى: بدأ السياب قبيل منتصف الخمسينات بالتراجع عن موقفه ألايديولوجى الحزبى فى الحزب الشيوعى داخلا فى معركة غير متكافئة مع الحرب الذى كان ينتمى اليه، مما سبب الاضطرابات فى حياته الروحية والشعرية، وكذلك سبب له الحيرة، فلقد اعتاد خلى كتابة نمطية ذات توجه يقترب من التوجه الايديولوجى دون الوقوع فى خطيئته، اى انه كآن شاعرا محلقا بالرغم مما كان قد علق بجناحيه، فهو إذن كان يواجه محنة اشبه بالمحن التى هر بها الكثير من الشعراء والمفكرين فى العصور كافة… وعندما كاد يستعيد توازنه تسقط مريضا مكسور القلب… كان هنالك ذئاب جدد يتربصون للايقاع به فى هذا الفخ او ذاك، وفى تلك المرحلة من الحيرة والمرض كتب قصائد رائعة متحدثا فيها عن الضياع والموت محاولا تخطى الموت بمفهومه العام بدخل فى مفهوم الموت الوجودى والموت الخاص.
لحود: وانت الايديولوجيا.. هل تشكلت فيك، هل كانت سابقة لشعرك.
البياتي: لم اعتنق أي ايديولوجيا أو انتم الى اى حزب أو طائفة أو مؤسسة سياسية او رسمية كنت احلق خارج السرب واغرد بذلك استطعت صيانة نفسى عما يدنس نفسى وشعري وكانت حرية الاختيار بيدى، حتى عندما كنت اقترب من هذه الايديولوجيا اليسارية او تلك المؤسسة.
لحود: وزيك البغدادى كيف كان.. وما علاقته بزيك الشعري؟
البيانى: ذكر الكثيرون اننى كنت شديد الاعتناء بهندامى منذ نعومة قصائدى حتى الأن فالثورة الحقيقية عند الكاتب اوالفنان هى شعرية فكرية اكثر مما هى كرنفالية تهتم بالمظاهر الخارجية، فأنا اضع ثورتى و جنونى وتمردي فى شعري ولا اسمح لها جميعا بالطفو على مظاهري الخارجية من ملبس ومأكل وسلوك اجتماعى كما يفعل بعض الشعراء الذين يعققدون ان البهدلة وارسال الشعور واللحى والصعلكة هى الاشكال العبقرية لصاحب السيادة الشعرية – الفنية.
لقد حولت كل القوضى فى حياتي الى نظام دقيق صارم لم يسمح إلا بتمرد وجنون شعرى فقط ان حياتى والنار المشتعلة فى الداخل كلها وضعتها فى قصائدى وتركتنى متمردا على روتين الحياة الحانعة الذليلة وكان الشعر منقذى حن الوقوع فى ضلال هذا العالم الذى يعج بالأمور الملتبسة.
لحود: سألتك عن زيك البغدادى؟
البياتى: كنت لأ ازال ابتعد عن الفولكلوريات والازياء الكرنفالية واحب الإبيض والازرق… والنساء والخمر. والمقاهى والليل واشعال النيران فى الاعالي المرئية وغير المرئية وكذلك إلأصدقاء الذين تريطنى بهم روابط روحية عميقة لم تنفصم عراها ابدا فى اى شكل من الاشكال.
لحود: هل تحب ارتداء الموضات المتطرفة؟
البياتى: لأ ابدا، وعندى منها الكثير الجديد غير المستعمل.
لحود: واذا ارتداها سواك كيف ترى اليه…
البياتى: انظره بسخرية واشفاق محاولا اعلامه بالاشارة الخفية عما يثير من سخرية عندى، هذا اذا كنت احبه اما فى عكس ذلك فاتركه لمصيره… واذكر مرة اننى التقيت بامرأة جميلة جدا وتواعدتها على لقاء فى اليوم التالي… وعندما جاءت كأنت اشبه بطاووس بملابسها وزينأتها وجلست معها فى احد المقاهى وبسرعة- قلت لها اننى سأشتري سجائر واعود واشتريت سكائري ولما ازل مطلقا عنها منذ سنوات، ساقى الدقيقتين فى الريح القوى…
الدار البيضاءالمغرب في 12 / 1995/1