تأملت عنوان هذه المجموعة عدة مرات متشككا في احتمالات امكانية كونه أكثر ايحاء محاولا استبدال لفظة "روائح " ببعض المرادفات كيفما اتفق فيما تسلل! العنوان الي وعيى مباغتا، فشرعت ذاكرتي تستدعي شخوصا وأماكن معبقة بروائح الفقر ورقة الحال عبر حدود الجغرافيا والمكان قبل أدى تعود الى الآن وهنا لتستحضر ما تعلق بها من عبق.
عندما انتهيت من قراءة المجموعة أدركت صدق حدسي، وتيقنت في ذات الوقت من أنها نصوص تمتلك خصوصيتها التي تنبع على مستوى الموضوع من امتزاج الهم الذاتي الخاص بالهم العام.. بروائح رقة الحال، وبآلام المهمشين الذين تحترق بدمائهم مدفأة الجاز وتتمزق آمالهم وتلقى متناثرة في عرض الطريق.
تستكمل هذه النصوص خصوصيتها من خلال تقنية الكتابة التي يستخدمها الكاتب فيما يشبه عملية تقطير للألفاظ والمفردات عبر سرد يتجاوز التقليدي متوسلا الايجاز والاختزال والتكثيف والتشفير أحيانا- إذا جاز القول- وبحيث أن القاريء أو المتلقي مدعو طول الوقت للأنتباه والمشاركة في قراءة النص أو إعادة كتابته أحيانا.
أتصور أن نصي "رغبة" و"نافذة للبحر مشهد للضياع" هما أنموذجان لجماليات التقنية المستخدمة في هذه النصوص: تفتيت وحدة الزمن أو التتابع الزمني للأحداث استبدال السرد بلقطات سينمائية مكثفة، وما يستتبع ذلك من تقنيات لغوية حاولت الابتعاد بقدر الممكن عن القوالب التعبيرية التي تعتمد على الدوران حول نفسها بالاضافة الى عدم الاشارة في كثير من الاحيان لأشخاص الحوار. لكننا نسمع- كما في "رغبة" مثلا- صوت الرجل المتوتر الذي يشتم رائحة الخيانة ويبتلع غصة عنته مكابرا في تصديق المرأة التي تأتي نبراتها مضطربة بالخوف وبالاحساس بالاثم وهي تعترف موازية برجولة زوجها المبتسرة بفحولة مطين الباكستاني الأبله.
إن إشكالية مثل هذه النصوص- الاقاصيص أن التورط في تفسيرها قد يهتك جمالياتها القائمة على خصوصية العلأقة بين النص وقارئه. فهي نصوص لا تقدم اجابات بقدر ما تطرح أسئلة من تلال الرصد الدقيق بعين صاحية وبشفافية رقة حال الفقراء.
قصة "نافذة للبحر مشهد للضياع" هي نموذج آخر لجماليات الايجاز، ففي مشهد مكثف نشعر بالضيق الذي يعاني منه "رجب " وانتظاره الطويل في غرفة مظلمة "منتنة بروائح الأجساد المعلبة داخلها" فيما تأتيه بين آن وآخر رائحة اليود من البحر القريب عبر كوة صغيره في جدار القبر الخرساني بتعبير الكاتب الذي لا تعلق لافتة مكتوب عليها كلمة "سجن" فهو لا يقرر شيئا وانما يصور اللقطة ويترك القاريء ليحلل ما جاء فيها تاركا له مساحة تخيل الأسباب التي أدت برجب الى ذلك السجن.
لكنه يقرر شيئا واحدا فقط ولكأن الجباه واحدة.. تتساوى في الغربة والضياع أحلام الفقراء الممتدة الى آخر هذا القبر الخرساني المحتشد بالبقايا المتحركة.. " فكأنه يشير الى أن هذا هو قدر الفقراء.. الغربة وضياع الأحلام والتكوم بين جدران كهوف السجن بمستوياته: النفسي والحسي.
ولكن لننتبه فالمساحة التي يتركها سالم الحميدي للقاريء تمتد الى نحو
117 صفحة فقط ليعود مرة أخرى لطرح الأسئلة عن رجب في قصة "ما لم يقله رجب " يعاود طرح الأسئلة ويقدم لقطات لسرابية لرجب ولكن بلا إجابة ولا يقين.
و لست أعرف ما اذا كان ذلك مقصودا تقنيا أم أنه مجرد توزيع عشوائي لقصص المجموعة. ولماذا لم يضم القصتين في نص واحد؟
وهكذا وعلى امتداد المجموعة تتسلل الأسئلة من وحي الحدث أو اللقطات، غير أنها تأتي أحيانا واضحة ومباشرة كما في نص "منافذ الفقراء" على لسان "أشجان":
– لماذا يولد الفقراء فقراء؟ لماذا يولد الأغنياء أغنياء؟ أقصد لماذا لا يولد الفقراء أغنياء؟….
والبطل أو الراوي يبدو منحازا للفقراء حين يؤكد لأشجان أن "الفقر يخلق رجلا" فتترك أشجان ثراءها وفيلتها وتلقي بنفسها في دفء أحضان "الرجل". وتمتد العلاقة حتى دورتها الأخيرة حين يحاول "الرجل" الانسحاب " فالفقراء يمارسون دور المهزوم والمبتسم دائما كأنه يؤكد أن الفقر لا يخلق شيئا أبدا، لا يخلق رجلا.. أو على الأقل فهذا ما تكتشفه أشجان.
"دثرت ذقني بكلتا يديها وابتسمت وهي تسحب نظراتي المتجهة شطر النافذة المجاورة لصوبة الجاز ذات الرائحة المحروقة بدم الفقراء المنسحقين:
– لا عليك فالفقر يخلق رجلا (قالت) وسحبت نظراتي شطر النافذة".
أما الاجابات فلا تأتي كثيرا وان فعلت فعلى استحياء كما في قصة "الدورة" فالرجل الذي ينفق عمره في العمل كأحسن ما يجب ولمدة ثلاثين عاما يكبر وتصطك ركبتاه، غير أن عمره هذا لا يساوي عند صاحب العمل (الرأسمال- الاحتكار) أكثر من بيستين ينقده إياهما قبل أن يطرده من العمل للأبد.
أعتقد أن سالم الحميدي حاول على امتداد هذه النصوص المزج بين مستوى اللقطة الخارجي المرئي وبين انعكاسها على الجواني والداخلي والنفسي غير أنه لم يوفق في قصة كان من الممكن أن تكون قصة رائعة لو لم يغب هذا الهاتف عن باله. وهي قصة "الرجل الذي ظل عاطلا" فقد ظل يتنقل في رحلته الصباحية حتى وصوله الى مقر عمله أمامنا- نشاهده.. ونسمع ما يسمعه دون أن يصلنا مونولوجه الداخلي. دون أن نعرف عنه شيئا دون أن يثير فينا ما كان بالامكان أن يستثار.
من جهة أخرى فإنني أتصور أن مثل هذه النصوص- الاقاصيص الموجزة تستلزم لغة مكثفة وموحية وأتصور أن سالم قد فعل ذلك ببراعة في غير موضع. كما أنه استخدم لفظة "رائحة" أو "روائح " في عدة مستويات بحيث تتجاوز اللفظة مدلولها لتساهم في تصوير المشهد وترسيخه. ومن أمثلة ذلك:
في نص نافذة للبحر يقول "الظلام يلف الغرفة المنتنة بروائح الأجساد (المعلبة) داخلها.. وثمة رائحة يود قريبة تأتي من كوة صغيرة مرتفعة.." فروائح الأجساد المعلبة تدلل على المكان المظلم المنتن (الواقع- القهر) فيما تأتي رائحة اليود لتشير الى البحر.. الفضاء (المستقبل- الحلم) حيث البحر لانهائى والكوة منفذ إليه.
ابراهيم فرغلي (قاص من مصر يقيم في سلطنة عمان)