من داخل الجدلية الثنائية للفكر الفرعوني يستمد الشاعر أحمد الشهاوي بعض تفاصيل نصه في (أحوال العاشق لم الذي يجسد العلاقة بين القديم /الحلم والحاضر/ الأفق والموت / الحياة حيث إن كل طرف وجه آخر للطرف الثاني في منظومة تجاور وامتداد، أي أن قيمة الموت لدى الشهاوي طرف غير متقابل أو معاكس لقيمة الحياة وانما يجاورها في منظومة ثلاثية دائرية تحقق فكرة مقاومة الحزن والفناء بالبعث والميلاد في لحظة جديدة: حياة / موت / حياة من جديد (بعث).
هذه المنظومة التجريدية التي يمثل الموت فيها العدد (2)، ويمثل البعث العدد التالي (3) تنطبق تماما على الاختيار الأسلوبي للعدد (3) -وهو عدد سام مقدس -في (أحوال العاشق)، إذ كلما يحضر العدد (2) نجد دلالة للحوت، وكلما يحضر العدد (3) – ونلاحظه بكثرة _نجد دلالة البعث، مما يشير الى صدق البوح في نص أحمد الشهاري وانشغال اللاوعي فيه بفكرة الموت بوصفه مرحلة انتقالية، أو جسرا بين الحياة والبعث للحياة مرة أخرى في خلود يصنعا الحرف العربي. والموت هنا في تواز أسلوبي مع مخيلة الماء التي نواها تطفى على ابداع الكاتب، فنهر النيل ومياه البحار والمطر والآبار والندى والدموع والعرق معبر آخر بين الحياة والموت وبين الموت والحياة من جديد، فالمياه وحي التجدد والنقاء والطهارة والشفافية والقداسة منذ العصور القديمة.
(كان يوم الاثنين. كنت في الصف الأول الثانوي لم تكن الدراسة قد بدأت إلا قبل ثلاثة أيام.. سألني الكثيرون عنه، ولما دخلت سعاد التي تكبرني بعام وثلاثة أشهر، نظر اليها، في هذا المساء اشتعل الماء وسقطت النجوم في سريري، غرقت في بحر البكاء، حزني طهر نفسي).
أما الأنثى / الأم / الأرض منبع العطاء والولادة، فهي تغيب في النص حينا وتظهر حينا آخر كالاضاءة المتقطعة في مسرح موحد اللون، فهي شرط التحقق والوجود. دفؤها ونورها يشعل ليل الغربة والوحشة في الأسفار وعلى مرير المرض، تحط كطائر أسطوري على ثقب الوهن والألم في الروح فتتحرر وتنطلق.
الألوان في (أحوال العاشق) حادة، تتنوع بين الأسود وهو رمز الليل والاغتراب والموت، والأبيض وهو رمز الحب والحلم بالحياة والتحليق الى الأعلى في الأفق.. ترحل الألوان بين النجوم والسموات وعالم الخلود المتحقق لا في جسد محنط وانما في حروف مجسدة لها تشكيلها الخاص وكأنما هي الكلمات السحرية التي تفتح مغاليق الكون في الزمن السحيق وزمننا، أو كأنما هي الشفرة الخاصة بإله الشمس (رع) التي لا حياة إلا بمعرفتها.
(كان الليل بكرا في ذاك العام.. لم تشهد الدنيا مثله، يقال في الأساطير إنه يحل مرة واحدة كل خمسة ملايين سنة. تظهر فيه أنثى تتبدى على العالمين بعلو مقامها، وتناثر حالها، وقلق شعرها وشفافية خصرها وسموق جيدها، وانتشار أريجها في الآفاق، تدخل في نور حبيبها الغريب القادم من بلاد الفراعين، يحمل موته على كفيه، يتقدم للقياها، فتحوطه ألوف من الأطيار عن يمينه، وألوف من الملائكة عن يساره في خطواته تدخل السموات في الأرض، يلتقيان في المرة الأول، ويتحد النوران، يبقى نور واحد يشع يملأ الأكوان، ويدخل المحب ديار روح محبوبته، ويمشي / وأنا أمشي كنت غبيا في الحضور).
ولأن الموت هو الطرف النقيض لمنظومة الحياة / البعث فإن جملة هذا النص زي الروح الصوفية تنحو نحو التوحد وبروز القيم عن طريق التناقض، وعلى الرغم من اصطدام لفة الشعر المحملة بالاستعارة والمفارقة بلفة النثر السر دية الأفقية، فإن الشهاوي قد استطاع أن يوائم بينهما لانتاج نص جديد رواني شعري يستريح فيه تحت سماء باكية، نص تخلقه الذاكرة والألم، ويفنيه الموروث الحضاري والأسطوري في المراوحة بين طرف أول هو النفس المنشقة بين الذاتية والانفصال عن الواقع لاستكشاف الذات وتهيئتها للألم وطرف ثان هو التوحد مه الواقع والالتحام بسكونه وصخبه.
تنفجر النواة الأولى لخلية الزمن منذ قرون وينبثق المكان الأول للأرض الخالية من البشر الملتحمة فقط بالسموات. فتستقر نطفتا الزمان والمكان معا كقطرات ندى فوق العبارة النضرة في شجرة ذلك النص الجديد زي الجذعين: الروائي الذي يأخذ من السيرة الذاتية ما يعمقه، والشعري الذي يضيف بريقا للرواية وسحرا له تأثير نشيد الانشاد العصري.
(كنت نسيا منسيا فأدخلتك "نوال" في بلادها، ومسحت بكفها الالهي الأيمن على جسدك. قبلت عينيك. فصوت لي، وكنت أنا لك قبل سنوات أربه، أو قولي دهرا، أو قبل أن يبني امته بيته الأول، يخلق شمسه الأولى).
وبواسطة المخيلة الأسطورية الجامعة بين الشعور واللاشعور نستطيع أن نقف على الملامح الصوفية والأسطورية في نص (أحوال العاشق) المتميز بكونيته. إنه في جدل مستمر لثنائية الواقع /الاسطورة واللقاء / الفراق أو الجمع / الشتات، ذلك الجدل الذي يحقق التشبث بالحياة حينما يتكون الوعي بها عن طريق التوتر الكامن منذ الطفولة نتيجة تزاحم الأشياء ومحاولة تفسيرها، المفهوم منها والغامض أيضا، ذلك أن الرمز والأسطورة يحملان الى الوعي مخاوف طفولية قديمة على حد قول الباحث روللوماي في (شجاعة الابداع).
نرى في (أحوال العاشق) التقاء الثنائيات: نهرين، شفتين، جسدين، الفرعون الحاكم والفرد الحالم المنكسر، انشطار النفس، انشطار البحر – وهي معجزة دينية قديمة – الى نصفين: عذب ومالح، لقاء الموت / الصمت بالحياة في الذاكرة، لقاء الأم الغائبة / الحاضرة بحلم الابن / الطفل / الشاب الذي يفتقدها في سحاولته لتحويل المعنى الى معنى وفي رحلة بحثا عن حقيقة ثابتة تجلب له الشعور بالاطمئنان والدف ء الذي يندرج ضمن الحقل الد لالين للنور.
(أعرف أنك نزلت على جملة واحدة فاض بحر أسمائها وأغرق الأرض، وزادت معرفتها فأدركت طائري وسألته / فضضت الورقة وأذبتها بماء الكلمة وكان صمتك سيدا لحزني).
إن كلمة (أن تعرف) الاغريقية تعني أيضا أن تتزوج بامرأة، فالمعرفة في الأصل مرتبطة بالتزاوج والتوحد والاندماج، ولأن الماء هو أصل الحياة والروح الذي روى التربة لتثمر، فإن العشق / التوحد هو وسيلة المعرفة المتحققة في لغة تكرس لمخيلة الماء حيث لا صوت إلا له، ولا لون إلا لما يعكسه من ألوان حيث نقاء الكون وعذر يته التي لا تفضها إلا الحقيقة.
هذا الكون المركب المتراكم الذرات الذي يعقد بدوره العبارة الشعرية لتستمد وقودها التراكمي التوليدي من حداثة اللفة فتطرح أمام قاريء يشارك النص إحساسه بالكونية والشمول مؤدية ما يسمى ببلاغة المسكوت عنه.
(رأيتك كصفصافة زرعتها قبل قرون مضت على رأس أرضنا التي ترعى المياه الجارية من عين امرأة تقف في منتصف النيل تبكي، وكلما سقطت سماء دمعة طلعت صفصافة وأنثى تقرأ الشعر وتدفيء ليلي).
إن الشهاوي يعكس الصورة المألوفة للحياة ليكون صورة جديدة خاضعة لرؤيته فالمألوف أن السماء تحوي الوردة، غير أنه يقول (وردة حوت السماء)، كما يقول (سقطت سماء دمعة) بدلا من (سقطت دمعة سماء) مشيرا بذلك الى فعل المطر المألوف، وكأنه يقلب الكون، فالسماء أرض والأرض سماء (ترى هل هي رؤية الراقد على سريره قلقا؟)، مما يصنع "عدولا شعريا" خلاقا يرقى بالنص وبفضاءاته، مبرهنا على جدلية الحياة والموت الأبدية.
وكثرة استعمال العدول الشعري تدل على تفلفل سمة التبادل المزدوج المميز للموروث الفكري الفرعوني في بنية لفة الشاعر التي تشكل الصورة، كما أن وسيلته في استكشاف الأشياء تعتمد أحيانا على اقتران المجرد (السماء – الضوء لا بالمحسوس (الوردة – الدمعة – الماء)، من خلال التحام ثنائية أخرى للوردة مع الماء قهرا للموت، وهو فعل مشابه لفرق أوفيليا -بطلة هاملت – في النهر حاملة باقة زهر، وهو الفعل الذي لاحظه باشلار في دراسته لمخيلة الماء وعلاقتها الوثيقة بالموت ضمن استقصائه لأسطورية عناصر الكون الأساسية، والبحث في جذورها.
ونستطيع أن نتبين ملامح الذات والمرأة ؤ النص مجردة أحيانا فتبدو طيفا، ومحسوسة حينا آخر إذ تتشكل لها ملامح وذكريات.
(من هسيس صوت سماء روحك فاضت بئرك بعين ماء مائها وردة حوت السماء بدمع وهج تأججها).
نلاحظ هنا تشكل العبارة ثلاثيا والمألوف هو الثنائي فبدلا من عين مائها يقول عين ماء مائها، وبدلا من دمع تأججها دمع وهج تأججها. وهكذا يسير نمط العبارة في (أحوال العاشق).
إن أحوال العاشق نص يجمع الماء، يظهر الكون بناره ورياحه وجزئياته وبماء الروح وروح الماء، في لقاء بين المحسوس والمجرد (الماء /النور)، حيث الماء هو الجزء الثالث الذي يتزاوج مع جزءين آخرين: الحياة / الموت، الرجل / المرأة، رذاذه يتجمع في محاولة لقهر الشتات التي ترمز له الصحراء والجفاف والأفق المفتوح بلا معنى حيث اللون الرمادي عديم الدلالة. (كل ما كتبت وما سأكتب محاولة لجمع الماء في يد الزمن.. أنا في الكون وحدي، ذاكرتي اسمها، وتاريخي دمها، ولون مائي لون إناثها.. أنا شاعر اصطاد سواد الليل من نور قلب السماء، أرش البحر بماء الخيال، ينبوع ماء حياتي هو العشق، هن حشائش طريق الوردة السابحة في الماء الدافيء عرفت نفسي / في كل شجرة ماء طيور سوداء بيضاء باسمة في حزن رمادي سرمدي).
إنها طيور الشهاوي التي ترمز بهذين اللونين للحياة والموت ستعانقين في جسد مريض لروح مغتربة دائمة الترحال.. إنه نص ركيزته العشق والدورة الزمنية لتعاقب الليل والنهار مراوحا بين مقاومة السقوط والانكسار ما بين حزن لحياة ربما ينطفيء نورها في الغربة وبين رحيل الى أفق لا نهائي من النور المنعكس على صفحة مياه تفيض بروح الذات العاشقة للكون، وتحملها دون أن تتحلل أو تغوص بها أو تفنى الى الأبد.
منار فتح الباب (كاتبة من مصر)