تقديم إشكالي:
انخرط جون سيرل (1) Searle John في النقاش الهام الذي أفرزته الحقبة الحديثة نتيجة التطور الحاصل في العلوم الحديثة والمعاصرة في الفيزياء، والكيمياء، وفيزيولوجيا الأعصاب؛ وقد أقر جون سيرل نفسه بهذا التطور الحاصل في هذه العلوم في كتابه Philosophy in a new century «الفلسفة في القرن الجديد» قائلا: مفاد الحقيقة المهمة التي تمتاز بها الحقبة الراهنة هي نمو المعرفة، إن المعرفة تنمو وتتراكم كل يوم، فنحن نعرف أكثر ما عرف أجدادنا، وسوف يعرف أبناؤنا أكثر مما عرفنا(2). وطبيعة هذا النقاش هو ما أقر به سيرل كذلك في نفس الكتاب المذكور آنفا وهو: مراجعة نقدية للنظرة الارتيابية لكونها لا تبدأ بما نعرفه عن الواقع(3)، هذا من جهة، ومن جهة ثانية يدعي سيرل بحدوث انتقال من فلسفة اللغة إلى فلسفة العقل، أو بالأحرى الانتقال من التمثل اللغوي المبني على قصدية مشتقة إلى التمثل العقلي المبني على قصدية عقلية، لأن فلسفة العقل أصبحت أهم موضوع في الفلسفة المعاصرة لمجموعة من الأسباب التاريخية المهمة، فقد تصدرت فلسفة اللغة مجالا أكبر من القرن العشرين، وحصلت على مرتبة الفلسفة الأولى، إذ اعتبر العديد من الفلاسفة أن هناك مجالات فلسفية أخرى مشتقة من فلسفة اللغة، لكن مع مرور الوقت سيركز الانتباه على العقل، لأن مجمل المشاكل التي أثارتها فلسفة اللغة ترجع بالأساس إلى العقل، وعلى هذا الأساس، سيبحث سيرل عن طريقة ما ليعقلن بها نظريته في أفعال الكلام Speech Acts التي طورها عن أستاذه ج. أوستين Austin j.، لهذا لأمر سيكتب سيرل أكثر من دراسة مخصصة للبحث في إشكال العقل، وحسبنا هنا أن نورد منها على سبيل المثال لا الحصر: القصدية بحث في فلسفة العقل [1983]Intentionalitiy an Essay in The Philosophy of Mind، والعقول والأدمغة والعلم [1984] Minds, Brains and science ، وإعادة اكتشاف العقل [1992]The rediscovery of the Mind ، و سر الوعي [1997] The mystery of consciousness، العقل واللغة والمجتمع: [1998] Mind, Language, Society الخ…، مما يجعلنا نطرح العديد من الأسئلة حول هذا الأمر، والتي سنحاول الإجابة عنها قدر الإمكان في هذا المقال وهي: إذا كان فعلا قد تم الانتقال من فلسفة اللغة إلى فلسفة العقل حسب سيرل فما هي أسباب هذا الانتقال وما هي مبرراته؟ ثم إذا كان سيرل قد خصص دراسات عديدة حول إشكال العقل بوصفه إشكالا فلسفيا وعلميا فما الغاية من ذلك؟ ثم إذا كان الأمر كذلك، فما هو العقل الذي يدافع عنه سيرل في هذه الدراسات جميعها؟ أو بالأحرى أي عقل هذا الذي يبحث عنه سيرل؟ أو لنقل بصيغة أدق، ما هو تصور سيرل للعقل في ظل التحولات التي شهدتها الحقبة الحديثة سواء على مستوى العلم أو على مستوى الخطاب الفلسفي؟
لا أحد ينكر حسب سيرل التحول الذي حدث في الحقبة المعاصرة، إذ هو تحول ومنعطف هام جدا في الفلسفة المعاصرة، حيث وعى مجمل الباحثين في سياق ما أسماه فلسفة اللغة بمجموعة من الإشكالات التي لا يمكن الإجابة عنها انطلاقا من مركزية اللغة في فهم العالم الواقعي، مما رسخ قناعة مفادها أن هذه الإشكالات ترجع بالأساس إلى العقل وليس إلى اللغة لأن هذه الأخيرة هي نوع من الفعل الإنساني يكون مصدره بالأساس بنية القصدية العقلية المرتبطة ارتباطا وثيقا بالعقل، والتي تساعد كذلك على تمثل العالم، انطلاقا من قدرات الخلفية The Background وعليه، فإن سيرل نفسه يقر بأن مجمل المشاكل التي تطرحها اللغة مرتبطة بإشكالية العقل، هذا الأخير الذي سيدخل سيرل في نقاش فلسفي جدير بالأهمية والدراسة؛ وهو في حد ذاته مراجعة نقدية لأهم المشاكل التي خلفتها نظرة التنوير، وأهمها نقد النظرة الإرتيابية وبيان فشل حلول كل من تصورات الثنائية والمادية في تفسير أبرز مشكلة التي خلفها لنا العصر الحديث، والمقصود هنا بالضبط «مشكلة العقل والجسد» «Problem Mind-body»، وعلى هذا الأساس، سنقارب الإشكالات المطروحة في هذا المقال من خلال النقاط التالية:
* العقل كظاهرة بيولوجية وطبيعية
* القصدية العقلية شرح محكم لكيفية عمل العقل
* القصدية الجمعية شرح محكم لكيفية خلق العقل واقعا اجتماعيا وموضوعيا
* أي عقل هذا الذي يبحث عنه سيرل؟
1. العقل كظاهرة بيولوجية وطبيعية
سيقدم سيرل تصورا للعقل ولأول مرة في تاريخ الفكر الإنساني الذي سيجعل منه بمثابة نشاز يخرج عن نغمة وتوازن التصورات الفلسفية السالفة، سيما تلك المرتبطة ارتباطا وثيقا بالعصر الحديث الذي يعد منبع ظهور زمرة من المشاكل الفلسفية، والتي تعتبر أهمها مشكلة العقل والجسد بشكل بارز في القرن السابع عشر مع ديكارت في الفلسفة، وجاليليو في العلم، حيث خلقا انعطافا حادا وهو التمييز بين الواقع الفيزيائي يوصف من طرف العلم، والواقع العقلي الروحي(4)، وعلاوة على ذلك، فإن ديكارت سيجد في ثنائيته العقل والجسد تفسيرا مناسبا للإنسان والعالم الذي حوله، وسيكون هذا الموقف أكثر تأثيرا على فلاسفة القرن السابع عشر وما بعده، وآية ذلك حسب سيرل، هي شرح الفلاسفة أفكاره دون أية نظرة ومراجعة نقدية، وأشهر مبدأ عند ديكارت هو مبدأ الثنائية الذي يقول بأن العالم ينقسم إلى نوعين من الجواهر Substances أو الموجودات التي يمكن أن توجد بحد ذاتها، هذه الموجودات جواهر عقلية وجواهر مادية(5).
هذا المبدأ حسب سيرل، هو ما يسمى بثنائية الجوهر Substance Dualism؛ وقد كان لهذا المبدأ حسب سيرل أهمية كبيرة في القرن السابع عشر لعدة أسباب، لعل أبرزها فصلها لمجال العلم عن مجال الدين، حيث بدا أن الاكتشافات العلمية بدأت تشكل خطرا كبيرا على الدين التقليدي، وقد أقيمت مناظرات في هذا الباب كثيرة آنذاك حول الخلاف الواضح بين العقل والدين، وعمل ديكارت جزئيا على تهدئته لهذا الصراع بفصليته هذه بين العقل والجسد.
تنبع مشكلة العقل والجسد التي خلفها لنا ديكارت حسب سيرل من خلال تساؤل هذا الأخير عن العلاقة السببية بين العقلي والجسدي، بمعنى كيف يمكن لشيء في الجسد أن يسبب شيئا في العقل، وكيف يمكن لأي شيء في العقل أن يسبب شيئا في الجسد؟
إن سيرل يريد أن يؤكد لنا أنه توجد علاقة سببية بين العقل والجسد: لكن كيف لهذه الأشياء أن تحدث كلها؟ مما يبين فشل التصور الثنائي في الكثير من المرات في إيجاد حل وتفسير رصين للإنسان والعالم، حيث أدى هذا الفشل إلى ظهور نوعين من التفسيرات ذات التصور الأحادي، وهما النزعة المثالية Dealism والنزعة المادية Materialism ، فالنزعة المثالية هي التي تدعي أن الكون عقلي أو روحي تماما، لا يوجد سوى الأفكار بالمعنى التقني لهذه الكلمة، وفقا لهذا المعنى، فإن أي ظاهرة عقلية على الإطلاق هي فكرة(6)، أما النزعة المادية فهي التي تقول بأن الشيء الوحيد الذي يوجد هو الواقع المادي أو الفيزيائي، ومن ثم فإذا كان لدى الحالات العقلية وجود واقعي يجب بطريقة ما أن يختزل، ولا يمكن أن تكون سوى نوع من الحالات المادية(7).
إن التصور المادي حسب سيرل، عجز عن إدراك الصفة العقلية الجوهرية المعينة للكون والتي نعرفها أنها موجودة بصورة مستقلة عن اعتقاداتنا الفلسفية، وأبرزها صفتا الوعي والقصدية، ويمكن أن نلقي نظرة خاطفة عن هذه المدارس التي وجه لها سيرل سهام نقده حول هذه القضية وهي: النظرية الحسابية التي تزعم بأن الدماغ كمبيوتر Computer وأن العقل برنامج حسابي Computer Program(8) هذه التي يعتبر سيرل تصورها بالخاطئ ، وقد اعترض عليها بحجة الغرفة الصينية the chinese room ، والتي أتبث من خلالها أن العقل الإنساني لا يضاهيه عقل على الإطلاق وأهم صفاته الوعي والقصدية، فهاتان الصفتان هما اللتان انتقد بهما سيرل دعاة هذا الاتجاه. ثم النظرية الحدفية Eliminative Materialism التي تدعي أن الحالات العقلية لا وجود لها على الإطلاق(9) ثم الواحدية الشادة Anomalous monism مع دافيدسن دولاند Donald Davidson ، التي تنطلق من أربع خطوات وهي(10):
الخطوة الأولى: توجد علاقات سببية بين الظواهر العقلية والظواهر المادية
الخطوة الثانية: أينما توجد حوادث مترابطة مع بعضها البعض كسبب ونتيجة يجب أن تدخل تحت قوانين سببية دقيقة وجبرية.
الخطوة الثالثة: لا توجد قوانين سببية دقيقة ومجبرة كالتي تربط ما هو عقلي مع ما هو مادي. بلغة دافيدسن، لا توجد قوانين نفسية-مادية.
الخطوة الرابعة: نتيجة، إن جميع ما يسمى حوادث عقلية هو حوادث مادية.
سيرفض سيرل هذه الاتجاهات جميعها لكونها لم تعط حلا مناسبا للمشكلة المطروحة، ومنبع خطأ هذه التصورات حسبه هو مقاربة هذه الاتجاهات المشكلة المطروحة بعدة مفاهيمية وتصورات تقليدية، مما أدى إلى تعارض هذه التصورات التقليدية مع النتائج العلمية الحديثة. وعلى هذا الأساس، سيبدأ سيرل بالتخلي عن العديد من المفاهيم التقليدية وإعادة النظر في العديد من المواقف التي تبنتها كل من الثنائية والمادية(11).
1 – 1 – تطبيع العقل:
يزعم سيرل بأن كلا من العقل والوعي هما ظاهرتان بيولوجيتان طبيعيتان مرتبطان بالبيولوجية الإنسان وحياته الطبيعية. لكن كيف سيكون هذا الأمر الذي يجمع بين ما هو عقلي البعيد كل البعد في التصورات التقليدية عن المادة؟
لكي يحدد لنا سيرل هذا الأمر ارتأى أولا وضع صفات للوعي وللعمليات الواعية التي من وجهة نظره لم تأخذ بعين الاعتبار في تاريخ الفكر والفلسفة، لعل أهم هذه الصفات حسب سيرل هناك:
1-الداخلية: يقصد سيرل بالداخلية أن جميع العمليات الواعية تقوم في الداخل، والمقصود هنا بالداخل، «داخل الجسم، وتحديدا داخل الدماغ»(12)، ما مقصود هذا القول؟، المقصود من هذا القول، أنه لا يمكن أن يوجد وعي بمعزل عن الدماغ، «فالوعي يحدث بالضرورة في داخل جهاز عضوي أو نظام معين آخر»(13).
2 – النوعية: Qualitativeness تنطلق هذه الصفة من كون أن جميع الحالات الواعية هي حالات نوعية، بمعنى أن هناك خاصية نوعية معينة لها(14)، وليست الحالات الواعية هي حالات واحدة، فعلى سبيل المثال، حالتنا الواعية عند الاستماع إلى الموسيقى ليست هي حالتنا الواعية عند التفكير في مشكلة فلسفية أو عند تذوق مشروب ما، وفي هذا الصدد صاغ توماس ناجل فكرة في هذا الباب مفادها « أن كل حالاتنا الواعية شيء محدد تود أن تكون عليه تلك الحالة الواعية»(15)، وعليه، فالحالات الواعية ليست واحدة.
3 – الذاتية: Subjectivity يقصد سيرل بصفة الذاتية أن جميع الحالات الواعية تجربها دائما ذات إنسانية أو حية(16) بمعنى أنها لا يمكن لها أن توجد إلا من خلال ذات أو فاعل أو عضوية معينة، أو نفس حية تمتلك هذه الأشياء. وعليه، تكون الحالات الواعية حسب سيرل تمتلك ما يسمى بـ»أنطولوجية الحضورية(17)، ومن هذا المنطلق يكون للحالات الواعية نمط وجودي حضوري، فيصبح انطلاقا من هذا القول لا يوجد ألم إلا كما يجربه فاعل أو ذات معينة، وفي نفس السياق تكون الموضوعات والكيانات الموضوعية الأخرى كالجبال والأرض وباقي الأشياء المادية التي لا تتوفر فيها الشروط السالفة الذكر، ذات نمط وجودي غيابي(18)، لأن وجودها لا يقتضي حضور ذات فاعلة تجربها.
إن هذه الخصائص والصفات التي وضعها سيرل للوعي ستدخله في نقاش فلسفي نقدي مع اتجاهات فلسفية وعلمية عديدة مثل: الثنائية، والمادية، والمثالية، وسيعترض على كل هذه الاتجاهات بما أسماه «الوعي والقصدية» التي غالبا ما يتم إنكارها في تفسير هذه الاتجاهات ، مما سيدفع بـ سيرل كذلك، إلا اعتبار الوعي ظاهرة داخلية، ذاتية، حضورية، ونوعية(19)، وكل تفسير حسب سيرل للوعي يخرج عن هذه السمات. فليس بتفسير محكم له، بقدر ما يمكن اعتباره تفسيرا لشيء غير الوعي.
بما أننا أصبحنا نعرف الكثير اليوم عن بيولوجيا الأعصاب فإننا يمكن لنا أن نعرف أكثر وخصوصا مسألة أن جميع حالاتنا الواعية تسببها عمليات دماغية(20)، ومن أن نسلم بأن الوعي، بكل ما فيه من ذاتية، تسببه عمليات في الدماغ، ودعونا نسلم بأن الحالات الواعية هي نفسها سمات على مستوى الدماغ. لأن الوعي « ظاهرة بيولوجيا، ويجب التفكير في الوعي كجزء عادي من تاريخنا البيولوجي(21)، كالهضم أو النوم، وانطلاقا من هذا القول يكون سيرل يتبنى ما يسمى بالتصور الطبيعي والبيولوجي في تفسير الظواهر العقلية، ويرجع غرض هذا التبني بالأساس إلى حل المشاكل العويصة التي خلفتها الفلسفات العقلية التقليدية ولا سيما مشكلة العقل والجسد ومشكلة الوعي والقصدية، على سبيل المثال.
2 – القصدية العقلية الأصيلة شرح محكم لكيفية عمل العقل:
ينتظم المشروع السيرلي كله على نظرية القصدية أو بالأحرى يتأسس بنيانه على مشكلة القصدية التي يقول في حقها سيرل «تأتي في مرتبة ثانية بعد مشكلة الوعي كمشكلة عويصة»(22) ، فماذا تكون هذه القصدية؟
يعرف القصدية سيرل في كتابه القصدية بحث في فلسفة العقل[1983] Intentionalitiy an Essay in The Philosophy of Mind، بأنها هي تلك الصفة للحالات العقلية والأحداث المتعددة التي بها يتم توجيه هذه الحالات والأحداث، أو حول موضوعات وحالات في العالم، أنا على سبيل المثال، لدي اعتقاد بأنه لا بد أن يكون كذا وكذا حول هذه الحالة، إذا كان لدي خوف، فيجب أن يكون خوفا من شيء ما، أو شيء ما سوف يحدث، إذا كانت لدي رغبة، فيجب أن تكون رغبة لفعل شيء ما، أو شيء ما ينبغي أن يحصل أو مثل هذه الحالات. إذا كان لدي قصد، فيجب أن يكون قصد لفعل شيء ما، وهكذا من خلال عدد كبير من الحالات الأخرى(23)، فالقصدية هي تلك السمة التي تمكن الوعي من التوجه نحو الموضوعات والأحداث في العالم الواقعي، إذ يصبح الوعي من هذا المنطلق وعيا بشيء ما، وفي نفس هذا الصدد، نجد سيرل يقوم بتمييز عجيب لم يسبق للطروحات التقليدية للقصدية أن أثارته، وهو قوله «بأن القصدية هي ليست في نفس الوقت كالوعي»(24) ، فما المقصود من هذا القول؟
المقصود هو أن «العديد من الحالات الواعية ليست قصدية، كالشعور بالابتهاج المفاجئ..، والعديد من الحالات القصدية ليست واعية»(25)، فمشكلة القصدية تنبع أساسا من كيف يمكن لشذرات من المادة داخل الجمجمة أن تكون واعية أو تخلق الوعي من خلال تفاعلاتها، […] أو كيف يمكن للشذرات من المادة داخل الجمجمة أن تحيل على أو تكون عن شيء يتجاوزها، أو تخلق من خلال تفاعلاتها إشارة ما(26)، يقدم لنا سيرل مثالا تبسيطيا «أنا الآن أفكر أن الشمس تبعد 94 مليون ميل عن الأرض، بكل تأكيد أفكاري تشير إلى الشمس وليس القمر، أو سيارتي في المرآب، أو كلبي جيلبيرت، أو جاري في البيت المجاور(27).
إن السؤال المطروح هنا بالضبط هو ما هي الخاصية في الفكرة التي تمكننا من السفر طبعا إلى الشمس في غياب وجود ترابط بيننا وبين الشمس في هذه الحالة، فإنه من الصعب أن نتصور كيف يمكن لأفكاري أن تصل إلى الشمس؟ فالذي ينطبق على الشمس ينطبق على جميع الموجودات التي نستطيع تمثيلها بمعتقداتنا وحالاتنا القصدية الأخرى. هذا بالإضافة إلى مشكلة أخرى، وهي كيف يمكن التأكد من دون شك أن هذه العمليات تحدث بصورة صحيحة ولا يمكن التشكيك فيها، مثلا يقول سيرل عن نفسه: عندما كنت طفلا صغيرا كنت اعتقد أن سانتا كلوز santa claus يأتي في ليلة عيد الميلاد، هل كان اعتقادي بسانتا كلوز قد يبدو صحيحا؟ ولكن كيف يكون هذا ممكنا، وسانتا كلوز لا يوجد أبدا؟ فهذه الأسئلة طبعا لا يسألها سوى فيلسوف، لأن الفلسفة تبدأ وسط شعور بالسرية والعجب عن أشياء يعتبرها أي شخص واضحة لدرجة أنها لا تثير القلق(28).
وعلى هذا الأساس، لا بد من الإشادة بفكرة أساسية وهي: أنه لا يمكن تفسير قصدية العقل بقصدية اللغة والعكس صحيح، لأن الثانية مشتقة من قصدية أصيلة هي قصدية العقل، ومن خلال ذلك يجب أن نفسر اللغة بقصدية العقل وليس العكس، لأن المشكل بالأساس عقلي، لأن اللغة بوصفها أصوات وعلامات تحيل على أشياء وحوادث فقط، أما الذي يفرض قصديته هو العقل، يقول سيرل: إن معنى اللغة هو قصدية مستمدة ويجب أن تستمد من القصدية الأصيلة للعقل(29)، ومن هنا كانت قصدية سيرل بحثا في فلسفة العقل، إذ تصبح القصدية من هذا المنظور بوسمها تفسير لسرية العقل العامة، ومن خلال ذلك تنبع مشاكل كثيرة في تصورات القصدية على سبيل المثال:
ما علاقة التي تربط بين القصدية الواعية وغير الواعية؟ ثم كيف تحصل القصدية على مضمونها؟
للإجابة عن هذه الأسئلة في نظر سيرل لا بد من تخصيص بحوث ودراسات كثيرة لأن هناك الكثير مما يقال حول هذا الموضوع، وعلى أية حال، سنحاول أن نختصر فيما يلي جواب سيرل عن هذه المشاكل بشكل مركز.
لكي يجد سيرل حلا مناسبا لهذه المشاكل ارتأى الحديث عن بنية القصدية التي أشاد فيها بأن الحالات القصدية قادرة على الإحالة على أشياء موجودة في الواقع، التي لا بد أن تملك مضمونا يحدد هذه الإحالة. وفي هذه الحالة لا بد من التمييز حسب سيرل بين المضمون القضوي Propositional Content والنمط النفسي Psychological Mode بمعنى مضمون الحالة الواعية ونوع الحالة الواعية، ومثال ذلك:
بإمكاني أن أعتقد أنها ستمطر
آمل أنها ستمطر
أخاف أنها ستمطر
أرغب في أنها ستمطر
إن المضمون ذاته الموجود في هذه الحالات وهو: أنها ستمطر، لكن لا بد من الانتباه إلى الإحالة على هذا المضمون في العالم تكون بأنماط Modes نفسية مختلفة وهي: المعتقد، الخوف، الأمل، الرغبة…(30).
فهذا التمييز يوازي ذلك التمييز الذي يقيمه سيرل في اللغة، فعلى سبيل المثال(31):
في مقدوري أن آمرك بأن تترك الغرفة
في مقدوري أيضا أن أتنبأ بأنك ستترك الغرفة
في مقدوري أن أسألك عما إذا كنت ستترك الغرفة في كل هذه الحالات مضمون واحد وهو: كونك ستترك الغرفة، ولكنه يعبر عنه بأنواع مختلفة من الأفعال الكلامية، وللتفكير في هذه الحالات بطريقة جيدة لا بد من استحضار أنها تتشكل من نمط نفسي (كالمعتقدات، أو رغبة) يحتوي بدوره على مضمون قضوي.
إذن، من الملاحظ أن تمثيلات القصدية كما حددها سيرل دائما ضمن ناحية معينة وليس نواحي أخرى، بحيث يمكنني على سبيل المثال أن أقوم بتمثيل النجم الجنوبي قصديا، وليس كالنجم الشمالي برغم من أن كليهما مثل الآخر، من حيث الناحية، ومع ذلك تتوجه الحالة القصدية إلى الهدف المنشود لا غيره. ومن هناك فالحالات القصدية دائما تملك أشكال الناحية Aspectual Shapes، لأن التمثيلات تندرج ضمن نواح. هذه النقطة مهمة، لأنه يجب على كل نظرية في القصدية أن تفسر شكل الناحية Aspect.
وعلى هذا الأساس ترتبط الحالات القصدية كالأفعال الكلامية بالعالم، بطرق مختلفة، فليس من المفروض أن تمثل الرغبات كيف يكون العالم ولكن كيف تريده أن يكون، وتكون هذه الحالات على مستويين من التناسب وهما:
* من العقل إلى العالم تلاءم مضمون الحالة القصدية مع العالم
* من العالم إلى العقل تلاءم مضمون الحالة القصدية
وعلى هذا الأساس تكون القصدية هي التي تقوم مهمة الربط الإنسان بالعالم وببقية الأشياء الموجودة فيه، وتشتمل الحالات القصدية على كل من الاعتقادات والرغبات، والمقاصد والإدراكات، وكذلك ضروب الحب والكره، والمخاوف والآمال(32).
ومن هنا، تكون القصدية المصطلح العام لجميع الأشكال المختلفة التي يمكن أن يتوجه بها العقل، أو يتعلق، نحو الأشياء، أو الحالات الفعلية في العالم.
3 – القصدية الجمعية شرح محكم لكيفية خلق العقل واقعا اجتماعيا وموضوعيا.
سينقل سيرل البحث في القصدية في نظرنا إلى مجال يمتاز بالحيوية والفعالية، الذي هو في حد اعتقادنا لم يسبق لأحد قبله أن قام بتفسير الواقع الاجتماعي والمؤسساتي انطلاقا من القصدية، وسيما من خلال طرح السؤال التالي: كيف يخلق العقل واقعا اجتماعيا وموضوعيا؟ وذلك من خلال بيان طبيعة الواقع الاجتماعي والمؤسساتي. بمعنى كيف تتلاءم معظم الظواهر الاجتماعية والمؤسساتية مع نظرية سيرل في القصدية؟ كيف يمكن أن يكون هناك واقع موضوعي لا يكون ما يكون عليه إلا لأننا نفكر أنه ما هو عليه؟
إن سيرل ينطلق من كون أن الواقع الاجتماعي والمؤسساتي لا يمكن أن نجد له تفسيرا إلا من خلال تفكيرنا فيه كواقع، لكون أن الذي يفكر في الواقع الاجتماعي والمؤسساتي بكافة تحليلاته وتمظهراته هو الإنسان الذي يمثل هذه القضايا حسب قدرات الخلفية المتاحة له، وفي تفسير سيرل الواقع الاجتماعي والمؤسساتي أحتاج إلى توضيح واحد من التمييزات الأساسية، وهذا التمييز هو المتعلق بسمات العالم التي توجد بمعزل عن مواقفنا وقصديتنا بشكل عام والسمات التي لا توجد إلا بالنسبة إلى قصديتنا(33)، وبتعبير أدق، هو التمييز بين سمات العالم التي تعتمد على الملاحظ، وسمات العالم المستقلة عن الملاحظ، وذلك من خلال ثلاثة عناصر وهي: «القصدية الجمعية» و«إسناد الوظيفة» ثم أخيرا ما أسماه سيرل بـ «القواعد المكونة».
فالأولى- القصدية الجمعية- أو ما يسميها بـ «قصدية نحن»(34) هذه الأخيرة التي غالبا ما كان يتم ردها في التقليد الفلسفي قبل سيرل إلى «قصدية الأنا» أو «القصدية الفردية»، والسبب في ذلك في هذا الإغراء هو أنك إذا تصورت أن القصدية الجمعية غير قابلة للاختزال، فيبدو أنك ستضطر إلى التسليم بوجود نوع من الكيان العقلي فوقنا على نحو غامض، ولسنا كأفراد سوى كتعبيرات عنها، ولكن الأخطر من هذا وذلك هو ما دامت كل القصدية التي لدي في رأسي، وكل القصدية التي لديك في رأسك، فإن معضلتنا تصير كالتالي: كيف يصح أن يكون هناك شيء غير قابل للاختزال هو القصدية الجمعية؟
يخبرنا سيرل بأن ما يعطي للقصدية الجمعية مشروعيتها هو تعاون الأفراد فيما بينهم لإنجاز مهمة معينة داخل الواقع الاجتماعي والمؤسساتي على سبيل المثال: لعبة كرة القدم، أو سباق السياسي أو أداء قطعة موسيقية عامة(35)، وقس على ذلك جميع الظواهر الاجتماعية. وعليه، فالتعاون هو الأساس الذي تنبني عليه القصدية الجمعية(36)، وهذه السمة ليست تخص الإنسان وحده بل حتى الحيوانات والحشرات، فقط ما يميز الإنسان عن باقي الموجودات الأخرى هو كونه يتوفر على قدرة مميزة تمكنه من تخطي الوقائع الاجتماعية المجردة إلى الوقائع المؤسساتية، الذي تسند فيها الوظائف حيث الوظيفة هنا ليست من صلب الشيء داخليا، بل ينسبها له فاعل أو فاعلون خارجيون، على سبيل المثال عندما تستخدم الشعوب البدائية جذور الأشجار كمقاعد، أو تستخدم الأحجار للحفر، جميع هذه الحالات أمثلة على فاعلين يسندون وظيفة لبعض هذه الأشياء الطبيعية، أو يفرضون الوظيفة عليها، بحيث الفاعلون في هذه الحالة يستغلون السمات الطبيعية للشيء ليحققوا بها أغراضهم الخاصة فتصبح الوظائف من هذا المنطلق نسبة للملاحظين أو الفاعلين الذين يسندون هذه الوظيفة(37).
وفي نفس السياق نجد سيرل يميز في تفسير الواقع المؤسساتي بين نوعين من الوقائع، أولا: الوقائع الخام ، على سبيل المثال واقعة أن الشمس تبعد ثلاثة وتسعين ميلا عن الأرض، وثانيهما الوقائع المؤسساتية، على سبيل المثال أني مواطن في المغرب. وهذان النوعان لا يخلوان من القواعد المنظمة لها، والتي هي قواعد تنظيم الفعاليات التي توجد وجودا مستقلا.
على سبيل الختم:
أي عقل هذا الذي كان يبحث عنه جون سيرل؟
الواضح أن جون سيرل انتقد كثيرا التصور الحديث للعقل ورفضه لكونه لا يفسر العلاقات السببية بين المادي والعقلي، وفي نفس السياق، نجده ينتقد العقل كما تبلور مع مجموعة من الاتجاهات المعاصرة، التي باتت تسمى بالعلوم المعرفية، خصوصاً مع أنصار الذكاء الاصطناعي القوي، Strong Artifical Intelligence وتحديداً المناصرين الأشداء للنظرية الحسابية. لكي يقول في الأخير بأن العقل الذي يجب أن يُؤخذ به في ظل هذه التحولات السريعة التي يشهدها عصرنا هو العقل الذي تكون أبرز خصائصه «الوعي والقصدية»(38)، ومما لا ريب فيه هو أن العقل الذي دافع عنه سيرل بشراسة طيلة كتاباته هو: العقل الإنساني بوصفه أرقى أنماط التفكير البشري، وليس العقل الآلي الذي أراد أنصاره أن يثبتوا قوته ومضاهاته للعقل الإنساني، لكي يؤكد سيرل بأن العقل الإنساني لا يضاهيه عقل على الإطلاق وهو أرقى العقول لكونه يمتاز بمساءلته الدؤوبة لباقي العقول الأخرى.
المصادر والمراجع المعتمدة:
* المصادر والمراجع باللغة الإنجليزية:
* Searle John]2008[,Philosophy in a new century, Combridge uinversty press.
* Searle John]1997[,The Mystery of Consciousness, New york :New york, Review of Books.
* Searle john ]2004[, Mind A brief Introduction, oxford university press.
* Searle john ]2000 [, Conciousness And language, cambridage university press, cambridage
* Searle John ]1983[ Intentionality : An Essay in The Philosophy of Mind, Cambridge University Press.
* المصادر والمراجع باللغة العربية:
* سيرل جون، بناء الواقع الاجتماعي من الطبيعة إلى الثقافة، ترجمة حسنة عبد السميع، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى 2012
* سيرل جون، العقل: مدخل موجز، ترجمة مشيل حنا متياس، عالم المعرفة، العدد 343 سبتمبر2007
* الباهي حسان، الذكاء الصناعي وتحديات مجتمع المعرفة، حنكة الآلة أمام حكمة العقل، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2012
* الرسائل:
* إسماعيل الموساوي، الوعي والقصدية في فلسفة جون سيرل، بحث مقدم لنيل شهادة الماستر، في الفلسفة، وتحديدا ماستر «الفلسفة تأويل وإبداع»،السنةالجامعية: 2014/2015، تحث إشراف الدكتور: يوسف السيساوي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة القاضي عياض مراكش.
الهوامش
1 جون رودجر سيرل John Rogers Searle فيلسوف أمريكي معاصر ولد بدنفر Denver في ولاية كولوراد Colorado سنة 1932، عرف باشتغاله في مجال فلسفة اللغة في بداية كتاباته الأولى، ويعد كتابه: أفعال الكلام، بحث في فلسفة اللغة [1969] Speech Acts, An Essay in The Philosophy of Language من أهم مصادر فلسفة اللغة والخطاب المعاصرين، ثم انتقل بعد ذلك للبحث والاشتغال في مجال فلسفة العقل The Philosophy of Mind، ثم في كتاباته الأخيرة توجه سيرل نحو دراسة الوقائع الاجتماعية والمؤسساتية، ويعد كذلك سيرل، التلميذ الوفي لأستاذه جون لانجشو أوستين John Langshaw Austin حيث عمل على إتمام وتطوير مشروع أستاذه في مجال نظرية «أفعال الكلام» « Speech Acts » .
2 –
Searle John]2008[,Philosophy in a new century, Combridge uinversty press,p :4
3 – Ibid,p :5
4 –
Searle John]1997[,The Mystery of Consciousness, New york :New york, Review of Books,p :6
5 سيرل جون، بناء الواقع الاجتماعي من الطبيعة إلى الثقافة، ترجمة حسنة عبد السميع، ، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى 2012، ص:16.
6 –
Searle john ]2004[, Mind A brief Introduction, oxford university press,p :48.
7 – Ibid, p :48.
8 –
Searle john ]2004[, Mind A brief Introduction, oxford university press,p :49
9 – Ibid, p : 49.
10 – سيرل جون، العقل: مدخل موجز، ترجمة مشيل حنا متياس، عالم المعرفة، العدد 343 سبتمبر2007، ص: 67
11 – الباهي حسان، الذكاء الصناعي وتحديات مجتمع المعرفة، حنكة الآلة أمام حكمة العقل، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2012. ص: 191
12 – سيرل جون، بناء الواقع الاجتماعي من الطبيعة إلى الثقافة، ترجمة حسنة عبد السميع، ، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى 2012، ص: 68
13 – نفس المرجع، نفس الصفحة
14 – نفس المرجع، نفس الصفحة
15 – نفس المرجع، نفس الصفحة
16 – سيرل جون، بناء الواقع الاجتماعي من الطبيعة إلى الثقافة، ترجمة حسنة عبد السميع، ، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى 2012، ص: 70
17 – نفس المرجع، نفس الصفحة.
18 – نفس المرجع، نفس الصفحة.
19 – نفس المرجع، ص: 81.
20 – نفس المرجع، ص: 70.
21 –
Searle john ]2000 [, Conciousness And language, cambridage university press, cambridage, p :8
22 –
Searle john ]2004[, Mind A brief Introduction, oxford university press,p :159
23 –
Searle John ]1983[ Intentionality : An Essay in The Philosophy of Mind, Cambridge University Press,p :1
24 – Ibid, p :1
25 – Ibid, p : 2
26 – سيرل جون، العقل: مدخل موجز، ترجمة مشيل حنا متياس، عالم المعرفة، العدد 343 سبتمبر2007، ص: 129
27 – نفس المرجع، نفس الصفحة
28 – سيرل جون، العقل: مدخل موجز، ترجمة مشيل حنا متياس، عالم المعرفة، العدد 343 سبتمبر2007، ص: 130
29 – سيرل جون، العقل: مدخل موجز، ترجمة مشيل حنا متياس، عالم المعرفة، العدد 343 سبتمبر2007، ص: 131
30 – سيرل جون، العقل: مدخل موجز، ترجمة مشيل حنا متياس، عالم المعرفة، العدد 343 سبتمبر2007، ص: 134
31 – نفس المرجع، نفس الصفحة
32 – سيرل جون، بناء الواقع الاجتماعي من الطبيعة إلى الثقافة، ترجمة حسنة عبد السميع، ، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى 2012، ص:128
33 – نفس المرجع، ص:171
34 – سيرل جون، بناء الواقع الاجتماعي من الطبيعة إلى الثقافة، ترجمة حسنة عبد السميع، ، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى 2012، ص: 175
35 – نفس المصدر، ص: 178
36 – نفس المصدر، نفس الصفحة.
37 – نفس المصدر، نفس الصفحة.
38 – لقد أنجزنا في هذا السياق رسالتنا تحت موضوع، الوعي والقصدية، بحث مقدم لنيل شهادة الماستر، في الفلسفة، وتحديدا ماستر «الفلسفة تأويل وإبداع»، السنة الجامعية: 2014/2015، تحث إشراف الدكتور: يوسف السيساوي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة القاضي عياض مراكش.
إسماعيل الموساوي