في ذات يوم كان الفجر يتثاءب بعد غفوة طويلة ، بينما كان كل ما في الطبيعة لا يزال غافياً يكتنفه الهدوء وتغمره هالات السكينة ، وكانت بعض بذور الورود منتشحة هنا وهناك بانتظار من يوقظها ويشق طريقها إلى منارات الفضاء الفسيح ، لتتحرك مع نشوة هذا التثاؤب وتتنفس مع جمال هذا الفجر الذي يبدو أنه يُعلن عن ميلاد عهد جديد على وطن الجمال، فكأنها ذلك الرائد الذي يتقدم الموكب ليعلن عن قدوم أسياد النهار، وأسياد النهار هنا هم من أحيت نفوسهم ألق الفن والجمال في هذا الوطن ، وأنبتوا لنا من خيرات قلوبهم وأفئدتهم ما نثر الروائح العبقة التي لا زلنا نستمتع كالنشوان بشم عطرها الأخاذ بين أركان بلدنا الجميل ، ولا ريب أن من عرفهم قد عرف قدرهم ومنزلتهم في بعث حركة الفنون التشكيلية العُمانية ، وكان من حق الوفاء علينا التحدث من حين لآخر عنهم وتذكير من نسي فضلهم في تأسيس النهضة التشكيلية ، لأن لهؤلاء المبدعين الأوائل في أعناقنا ديناً يجب وفاءه ، بل هو من أسمى الواجبات وألزمها علينا نحن الأجيال اللاحقة ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مزية الاعتراف بالفضل ، كما أن فيهم تشجيعاً لغيرهم من الأحياء ليقتدوا بهم وينسجوا على منوالهم . ولا ريب في أن نفراً قليلين فينا هم الذين يعرفون نهضتنا الفنية ، وأقل منهم الذين يعرفون شيئاً عن الذين عملوا لها وأقاموا دعائمها ، كما أنهم يجهلون الشيء الكثير عن الآلام المتعبة التي تحملوها وأفنوا فيها عمرهم في سبيل بناء هذه النهضة والخروج بها إلى النور الذي نراه الآن.
فمنذ بداية الستينيات المنصرمة وما تلاها ، قام نفر من العُمانيين الذين تحرك في قلوبهم حب الجمال وتأثرت مشاعرهم بمعانيه ولمعت في عيونهم أنوار هذا الوطن وروعة مناظره فسحرهم جماله وفتنة ألوانه ، وحياة مجتمعه ، فأخذوا الريشة يلونون بها على لوحاتهم الصغيرة ما علق في نفوسهم الكبيرة وما لمع في عيونهم الذكية من ذلك الجمال وتلك الفتنة ، فهذه الطلائع أثرت في فنون من تلاهم ولعبت دور الريادة الحقيقي الذي بلور الفكر وجعل الإناء ينضح بما فيه من أثر فني ساق الجانب المضيء لحضارة إنسان هذا الوطن ، ومما لا شك فيه أن تلك الخطوط اللونية الأولى للفنان التشكيلي العماني على رغم بساطتها وما كان بادياً عليها من محاولات جدية لتُعد بمثابة التَشَكُل المنطقي للحالة الأولى لمراحل الإبداع التالية إلا أننا نعذر في الوقت ذاته تلك الفئة على إنتاجها البسيط والمتواضع لوقوعها في مرحلة التكوين وما تقلبت عليه من ظروف صعبه يطول شرحها في هذا المقال ولم تتهيأ لهم الفرصة الكافية لتقدم الفن والسعي نحو تطويره في تلك الفترة بشكل كبير وأعني بها فترة السبعينيات ، إلى أن قامت الحكومة الرشيدة في بداية الثمانينيات بإنشاء مرسم الشباب وتم رفده ببعض التجهيزات التي ساعدتهم على التطور والتقدم بشكل أسرع من ذي قبل بعد أن تغلغلوا في ماضي وطنهم الثقافي وحاضرهم التليد ودفعهم العيش في تلك المرحلة إلى وثبة متطورة نحو الفن بعد ذلك ، من خلال وضعهم الجغرافي واتصالهم المباشر مع الغرب والشرق الذي يسَّر لهم التزود من الفنون وغيرها ، وعلى ذلك بدأت تطالعنا بسببهم تباشير نهضة فنية محمودة أعطتنا أطيب الثمار وساهمت في ضم الفنان التشكيلي العُماني بفخر إلى حلقة فنون الأمم الأخرى وقدمت النفسية الشرقية والتعبير الخالص مما له أهميته بين فنون العالم . ولقد أدرك هؤلاء أهمية رسالة الفن الثقافية التي تسير بالجمهور نحو التطور والحياة ، فاستمرت بعض تلك الفئة في مسيرتها التنويرية التي بدأتها إلى الآن وتناولوا مشعل الفن من كافة جوانبه لإتمام تلك الرسالة ، ومن أبرز رواد حركتنا التشكيلية أصحاب العطاء المتواصل الذي لم يذبل ولم يتوقف حتى الساعة الفنان أنور سونيا والأخوة الحنيني عبدالله وخميس وسعود وعبدالله الريامي وأيوب البلوشي ومنير صادق ومحمد نظام وموسى صديق المسافر ومن العناصر النسائية في هذا الحقل رابحة محمود ومريم عبدالكريم ونادرة محمود وزكية البرواني وغيرهم الكثير من النماذج المضيئة في سماء الفن التشكيلي العماني الذين لا يتسع المقال لسردهم جميعا.
هذه صورة موجزة لأنوار القافلة الطويلة من رجال الفن التشكيلي الأوائل عندنا ، وقد بنت لنا مجداً فنياً رائعاً وامتازت بالأمانة وحب الجمال والإخلاص في فنهم ، وقضت مجاهدة بعد أن قامت بتأدية رسالتها على أكمل وجه في مرحلة التأسيس الأولية للفن التشكيلي العماني من خلال ما تركته من آثار فنية كريمة ، وإذا كان أفراد هذه العصبة المجاهدين ينالون في حياتهم التقدير الذي يستحقونه فلا ريب في أن الجيل الطالع ، قد عرف قدرهم وأدرك أية خدمة مشرفة قدمها هؤلاء لبلادهم بالمساهمة مع سواهم من المثقفين المبدعين ، فأعطونا سمعة طيبة بين العالم أقلها أننا أصحاب ذوق وفن رفيع.
ثم تطورت التجربة بعد أن بدأت الجمعية العمانية للفنون التشكيلية (1993م) مسيرتها الفنية فكانا بمثابة الوعاء التكميلي لتنمية المواهب والقدرات وصقل الامكانات وتحفيز الطاقات الشابة للظهور والنمو في بيئة تعليمية وتربوية صحية ذات رؤية تنظر للمستقبل وتهتم بمختلف المجالات الفنية ومن النواحي الوجدانية والمعرفية والمهارية ، لتساهم في إنضاج القدرات وتفعيل الطاقات من خلال عقد برامج فنية تعنى بإقامة ورش فنية ودورات تدريبية وندوات تثقيفية داخل السلطنة وخارجها كما ساهمت القاعات وتوفير الخامات والأدوات الفنية المجانية التي يتم منحها لأعضائها إضافة إلى استقطاب الأساتذة وكبار الفنانين المتخصصين في مجالات الفنون التشكيلية المختلفة دوراً بارزاً في رفع المستويات الفنية للفنانين وتميزهم في فنهم وتفردهم في تجربتهم حتى تبوأ عدد منهم مكانة في إدارة الحركة الفنية التشكيلية في السلطنة وواصلت فئة بارزة منهم مسيرتهم ومشاركاتهم في معارض محلية وعربية ودولية ، كما انتظم العقد بافتتاح قسم التربية الفنية في جامعة السلطان قابوس ومن ثم افتتاح أقسام للفنون التشكيلية في عدد من الجامعات والكليات الخاصة بالسلطنة ، وافتتاح عدد من الصالات الفنية الحاضنة للتجارب الفنية كمتحف بيت الزبير ومتحف غالية للفنون وصالة بيت مزنة وصالة مسقط وصالة ستال ففاضت العطاءات والإنجازات وأرتفع الذوق الفني السليم وتطورت التجارب الفنية وارتقى الإنتاج التشكيلي مما عكس حساً وعمقاً مؤثرين في التجربة الجمالية ، وذلك بعد أن استوعب الفنان الأسلوب الأمثل في الإستفادة من التجارب والاتجاهات الفنية العربية والإسلامية والعالمية وصبغها بخصوصية المنطلقات والرؤى العمانية وكيفية توظيف الدلالات والرموز التراثية والبيئية والمعمارية الأصيلة في فنهم .
وبهذه الطفرة الفنية على مدى العقود الماضية أصبح بالإمكان الحديث عن فن تشكيلي عالمي الأسلوب في سلطنة عمان وأصبح للفنون التشكيلية العمانية مكانة مميزة بين حركات فنية خليجية وعربية ودولية وأصبح عدد من النقاد الجماليين يتحدثون عن التجربة العمانية ويشيرون إلى بعض الأسماء ويستعرضون سيرهم الفنية وملامح تجربتهم وخصوصيتها . وحيث أنني من المتتبعين للحركة التشكيلية العمانية فإنني أتمنى أن تتوج كل هذه الجهود بإنشاء متحف للفنون المعاصرة يجمع الأعمال الفنية التي أسست مجد الفن التشكيلي في السلطنة وليساهم في استيعاب التطورات المتلاحقة للفنون ونقلها للأجيال اللاحقة بأفضل أساليب العرض العالمية الحديثة فالحفاظ على الموروثات العُمانية بعمومها وتفاصيلها يشكل هاجساً مهماً وبعداً استراتيجياً لحكومة هذا الوطن ، لم لا وهي أساس ملموس لنماء وتطور فكر الإنسان العُماني وسبيل من سبل ارتقاء حضارته ، وشاهداً حياً لخير ما أنجز في مضمار الحياة بمختلف مجالاتها . وفي سبيل ذلك قامت الدولة بجمع كل ما من شأنه أن يقف دليلاً على حضارة السلطنة ويعبر عن حقيقة كيانها ووجودها الأصيل الضارب في القدم بين الأمم والشعوب ، وكانت الخطوة التنظيمية الأبرز لإظهار موروثات إنسان هذا الوطن للأجيال اللاحقة هي وضعها بتصنيف محدد في أماكن تجمعها وتؤويها كالمتاحف القومية أو الصالات أو البيوت الأثرية لتكشف معها كنوز المعرفة وخلاصة التجارب الإنسانية لعلوم وفكر وفلسفة ورؤية الإنسان العماني في كثير من جوانب حياته اليومية ، وتمثل ذلك في عاداتهم وتقاليدهم ووجهات نظرهم وانطباعاتهم للعديد من المواضيع الاجتماعية والثقافية والسياسية .
إلا أننا نرى وكفنانين تشكيليين أن الاهتمام بحفظ موروث الفنون التشكيلية يشكل الحلقة الأضعف في جانب الاهتمام المتحفي بها إذا ما قورنت بالازدهار الحاصل في إنشاء المتاحف الأثرية والطبيعية والعلمية والعسكرية … الخ المنتشرة في السلطنة ، وهذا في ظني أمر طبيعي كون هذه الآثار تأتي في المقدمة بالنسبة لنشأتها وظهورها التسلسلي في الحقبة التاريخية ، ولكن إذا ما أردنا الحديث عن ستين سنة قادمة أي بمعنى مرور مائة عام على النهضة التشكيلية في السلطنة وأردنا أن نقدم للأجيال المتعاقبة في هذا الوطن اللوحات أو الأعمال التشكيلية المختلفة الاتجاهات التي أُنتجت في بداية عصر النهضة المباركة أو ما قبلها ، سنقف أمام وضع محرج كون تلك الأعمال لم تجد من يحفظها ويهتم بأرشفتها من البداية ، وحينها سترمي كل مؤسسة اللوم على الأخرى ، هذا بعد ستين سنة ـ إذا قُدِّر لنا أن نعيش إلى تلك السنين ـ أما الآن فإن المجال فيه سعة إلى حد ما ، ومجال هذه السعة محدود لسبب واحد ، وهو أن غالبية الفنانين الذين أسسوا البنية الأولى للفن التشكيلي في السلطنة ما زالوا ولله الحمد على قيد الحياة ـ وأسأل الله أن يمد في أعمارهم ـ وإذا ما وضعت الخطط الطموحة من قبل الحكومة في إنشاء متحف للفن التشكيلي ـ مثلاً ـ خلال هذه الفترة وعكفت الجهة المكلفة بهذا المشروع على تجميع الإرث التشكيلي في السلطنة ، فإننا قد نوفق في تجميع عدد لا بأس به من أعمال رواد الحركة التشكيلية في السلطنة ، هذا إذا ما قلنا أن بعضهم يحتفظون بها بصفة شخصية أو أنهم على علم ودراية بالأفراد أو المؤسسات التي قامت باقتنائها ، فالأمر إذن فيه من السهولة النسبية إذا ما تم معالجته الآن ، وإذا تأخرنا فإننا بذلك سنكون قد فرطنا وجنينا على الإرث التشكيلي العماني بالضياع ، فبرغم قربه منا في وقتنا الحاضر إلا أنه سيكون صعب المنال وبعيداً عنا في المستقبل القريب ، وسنضطر وبجهد مضاعف إلى البحث الحثيث والمضني عن تلك الأعمال ، وقد تكون حينها قد فُقدت أو ضاعت أو أخذها من لا يعرف قيمتها حتى أتلفها.. وعندها من سيكون المُلام ؟!!
عموماً إن احترام هذا التراث لا يقل في ميزان الأمم الأخرى عن احترام التراث الآخر عند بناء المدنية الإنسانية لأن الفن هو لغة إنسانية عالمية ، فهذه المملكة المتحدة وأمام ناظرينا جميعاً ساقت لنا روائع فلذات أكبادها الأوائل من الفنانين التشكيليين الذين سطروا المجد لذلك الشعب قبل آلاف السنين ، وما زالت تلك اللوحات التي هبط البعض منها قبل سنوات في متحف السيد فيصل بن علي بمبنى وزارة التراث والثقافة خير شاهد على الإرث التشكيلي الذي لا يقدر بثمن في وقتنا الحاضر ، فلو لم تكن تلك الأمة تعي أهمية الحفاظ على الموروث التشكيلي لما وصل إلينا مجدهم هذا ، ولما حقَ لحكومة شعبهم المفاخرة بأمجاد أبنائها من المبدعين ، فبدون اهتمامهم في حفظ هذا الإرث لن يتمكن أحد من معرفة الحقب التاريخية التي بدأت في تسطير نهضتهم التشكيلية ونهضتهم الحضارية في ذات الوقت .
وبما أن الفنون كما قيل في الأمثال هي مرآة الشعوب ، فإن أبناء هذا الوطن المبدعين قدموا منذ بداية النهضة العمانية المباركة مبعثاً تشكيلياً شع من بين جنباته الألق والجمال ، فكان هذا الفن واحداً من الأبواب الزاهرة للنهضة الحديثة تحت ظل القيادة السامية لمولانا المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ ، ذلك لأن مسيرة الفن التشكيلي في السلطنة بدأت منذ الخيوط الأولى لفجر هذه النهضة وما نعيشه من عز وفخر وإنجازات تشكيلية تتعالى وترتفع في سموها يوماً بعد يوم يجب أن لا ننسى أن مبعثه ومحركه الأول هي تلك الأنامل الرائدة التي حفرت لنا المجد التشكيلي في وقتنا الحاضر . لكن الأمل في دواخلنا ما زال يتحرك بأن نشاهد شيئاً من هذه الأماني أو ما هو أسمى منها ، لأن ما تشعر به نفس واحدة تشعر به كل النفوس ، وما يختلج في قلب إنسان يختلج في كل القلوب ، وعسى أن تنال الحركة التشكيلية في السلطنة يوماً شيئاً من هذا التكريم ، ليضاف إلى سلسلة المكارم التي حظي بها الفن التشكيلي في هذا الوطن العزيز.
———————————–
عبدالكريم الميمني