بين منتصف يونيو ومنتصف سبتمبر 2017 رحل ثلاثة كتاب لبنانيين بارزين على المستوى العربي: المفكر موسى وهبة، عالم المنطق الرياضي عادل فاخوري والناقدة والباحثة السيميائية أمينة غصن. يشتركون في وصفهم كتاباً إشكاليين، تركوا خلفهم الكثير من الأسئلة الصعبة، بعدما وضعوا رؤوس أقلامهم على مشكلات التفكير العربي، وحفروا كثيراً في معارف تمتد من تراثنا القديم حتى أحلامنا المعاصرة، وأصيبوا بإحباطات هي سمة كتابنا العرب الكبار الذين تتنامى طموحاتهم وتتعاظم من دون أن يستجيب لها أولي الأمر.
موسى وهبة
لم يكن موسى وهبة (1941 – 2017) يعيش الأضواء الإعلامية تماماً، فالمفكرون أمثاله يحتاجون إلى الكثير من العزلة والهدوء. ثم لم يكن من المهووسين بالتأليف وإصدار الكتب، فقد كان حذراً في ذلك، لأن التأليف الفلسفي يحتاج إلى تأسيس “السيستم”، كما يقول، وأن العرب لا يستطيعون التفلسف لأن القول الفلسفي بالعربية يحتاج إلى تأمين المناخ اللغويّ المناسب، أو جسد الفلسفة الحي. كان همه من خلال ما قدم من دراسات ومقالات ومحاضرات فلسفية أن يهيئ فضاء التفلسف، من خلال الجهود التي بذلها في ترجمة كتب فلسفية مهمة، كان أبرزها “نقد العقل المحض” لإيمانويل كنط، على أن الفلسفة عنده مسألة استراتيجية، يستحضر من خلالها التراث الإنساني بلغة عربية، وهو إذ اشتهر في ابتداع مصطلح “أفهوم” والكثير من المصطلحات الفلسفية التي أضافها إلى الموسوعة الفلسفية العربية، فقد أراد أن يوحّد المصطلحات في محاولة لدحر الترجمات العشوائية، والوصول إلى ترجمات صحيحة لأمهات الكتب الفلسفية يقوم بها فريق عمل مختصّ، تضع المتفلسف بالعربية أمام مصادر الفلسفة بالعربية.
كان موسى وهبة يترجم إلى العربية كي يستطيع أن يفكر ويتفلسف بالعربية، وإلى أن يحصل ذلك كان يرى أن مترجم الفلسفة إلى العربية هو الفيلسوف العربي الوحيد الممكن. ومع ذلك بقي يرى أن بإمكان العرب التفلسف، لكنه لم يكن يرى في النصوص المسمّاة فلسفيّة حق التسمية، بل لم يكن يرى فيها نصوصاً تأسيسية.
انشغل موسى وهبة إذن بترجمة الفلسفة، أي بالتأسيس للتفلسف، فالترجمة عنده مسألة استراتيجية، ثم تفلسف، لكنه لم يقدم مؤلفات فلسفية، بعدما فشل في استدراج مساعدات من اليونيسكو لإتمام مشروعه الترجمي العربي الكبير. ولم يؤلف سوى كتاب، مع أنه أسس ملحق “نهار الكتب” ورأس تحريره (1996-1997)، كما ساهم في تأسيس مجلة “فلسفة” (2000-2005)، أما كتابه اليتيم فكان “منطق الحرب”، الذي عبر فيه عن اعتراضه على الحرب الأهلية اللبنانية التي استخدمت الإنسان كوسيلة لا كغاية، وبرر من خلاله انسحابه عام 1978 من الحزب الشيوعي اللبناني، رادفاً ذلك بنقد الماركسية، بعدما تعمق في قراءة كنط وشعر بحاجة المشتغلين في الفلسفة إليه، والامتعاض من المثقف الحزبي – الأممي – الذي يدافع، برأيه، عن الظلم ويسكت عن القمع داخل حزبه.
في نعي “الاتحاد الفلسفي العربي” له وصفه بأنه “أحد كبار أركانه وواحد من أهم المشتغلين بالفكر الفلسفي، على المستويين اللبناني والعربي”.
عادل فاخوري
أما عادل فاخوري (1939 –2017) فقد قال في “أفكر.. إذن: أنا كومبيوتر”، آخر كتبه: “كل العباقرة الذين يحملون أفكاراً ورؤى عظيمة هم إلى زوال. لكن أفكارهم ورؤاهم تبقى”، ويستشهد بقول الفيلسوف الأميركي دانيال دنّت: “ما المثقف سوى وسيلة للمكتبة لأن تصنع مكتبة أخرى”، وها نحن هنا ننقل أفكار فاخوري كي تستمر آلة النقل والتطوير التي تحدث عنها في كتبه.
لعل أكثر ما اشتهر به مفكرنا هو علم المنطق الرياضي فكان أستاذاً متنقلاً به بين عدد من الجامعات العربية، فبالإضافة إلى جامعات لبنانية درّس عادل فاخوري في جامعات أردنية وليبية وكويتية، هو الذي عرف كيف يجمع في كتاباته، من خلال منطقه، مجموعة من العلوم الإنسانية، من دون أن يكون الأمر غريباً عليه كونه كان متنوع الاختصاصات، الفلسفة والرياضيات وعلم النفس، في كل من روما وألمانيا وفرنسا.
وإذا كان في مجال الفلسفة عُرف بالمنطق الرياضي، الذي طبقه في بحوثه الأولى على أصول الفقه الديني واللغوي وعلوم العرب، وما شكلته من أسس للعلوم الحديثة، وفي بحوثه الجديدة على الخوارزميات، كتأسيس لعلوم الكمبيوتر والبرمجة الحاسوبية، ففي مجال الأدب عرف بابتكار القصيدة الالكترونية البصرية العربية في الثمانينيات، كوجه من وجوه ما بعد الحداثة الشعرية.
كان عادل فاخوري يقدم نظرياته الفلسفية والرياضية والسيميائية والأدبية بأسلوب تعليمي، ممهور بالكثير من الشروحات والتفاسير التي تقرب العلاقة بين المنطق الرياضي ودلالات اللغة، وبينهما معاً وبين القارئ.
تركز همّ عادل فاخوري، في الفترة الأخيرة، على إثبات قدرة التفكير المنطقي على الوصول إلى نتائج مذهلة، وقدرة الآلة على تمثيل العقل، ووصل في بحوثه الأخيرة، عبر كتابه “أفكر إذن: أنا كومبيوتر” الذي انحرف به عن مقولة ديكارت “أفكر.. إذن أنا موجود”، إلى الاستنتاج أنه لم تعد مشكلة ظهور الحياة من المادة لغزاً، بل أصبحت من الأمور المتعارف عليها. وتساءل: هل يمكن للآلة أن تعي؟ وهل ينحلّ لغز الوعي عندما نتوصل إلى فهم لبيولوجيا الوعي، مماثل في العمق والشمول لبيولوجيا الحياة؟
والواضح أن فاخوري كان يميل إلى الاعتقاد بأن كل ما ينمّ عن فهم وذكاء هو في النهاية آلة تعالج رموزاً فيزيائية، وبالتالي كل حاسوب قادر أيضاً على التفكير. ولا بد للوعي من أن ينبثق، عند إنجاز تركيب من العصبونات الاصطناعية يتمتع بهندسة تضاهي تعقيد هندسة الدماغ.
أمينة غصن
اقتربت أمينة غصن (1950 – 2017) من فضاءات وهبة وفاخوري الفلسفية من البداية، عندما اختارت في شهادة الكفاءة في الأدب المقارن “رسالة الغفران” لأبي العلاء المعري و”الكوميديا الإلهية” لدانتي أليغييري، قبل أن تنتقل إلى عمق الأدب عندما حازت دبلوماً في السيميائية وآخر في سيميائية المسرح والسينما، من جامعة أوربينو للسيميائية في إيطاليا، قبل أن تكمل الدكتوراه في قراءة سيميائة للأسطورة في الشعر العربي الحديث من جامعة السوربون (باريس)، فتمتلك ثلاث لغات بالإضافة إلى العربية: الفرنسية والإنجليزية والإيطالية.
وعندما صارت باحثة وناقدة وأستاذة جامعية لبنانية مارست النقد الأدبي في أبعاده الفلسفية إذا صح القول، كونها ارتكزت إلى السيميائية والألسنية، وما فيهما من تقاطع مع الفلسفة، من خلال ملامسة حدود المنطق والماورائيات، وليس غريباً بعد ذلك أن تعرّف الشعر في كتابها “معارج المعنى في الشعر العربي الحديث”، بقولها: “إن الشعر جوهر الرؤية الكشفية، التي تبحث في علاقتنا بالكون، وتقرّب صلتنا بما تتخذه المعرفة البدئية الوجودية”.
وما لا بد من قوله إن أمينة غصن لم تكن في كتاباتها برصانة المفكرين، إنما كانت أقرب إلى فوضى الشعراء ونزواتهم وتمردهم، ولم يكن قلقها يفجر أسئلة وجودية بقدر ما كان ينحو إلى ثقافة الأسئلة الصادمة التي تخض سكون السائد، من دون أن تشتغل في تأسيس المستقبل. وهكذا كانت ضد التحليل التقليدي للخطاب الشعري، بل تميل إلى قراءة منزاحة وتأويل توليدي، بعيداً عن الأنساق الجاهزة.
خارج الأدب اهتمت أمينة غصن بموضوع تحرير المرأة من عزلتها وتحصيل مكانتها في المجتمع، واشتغلت على صورة المرأة في الموروث الديني والشعبي والأدبي، متوقفة عند أقنعة شهرزاد في “ألف ليلة وليلة” وتأثيرها في الذكورة من خلال تناقضات الوفاء والدهاء، والعقلنة والعشق، وعند نماذج من النساء الرواد، ومَنْ ناصر قضايا المرأة وعمل على كشف المستور في العلاقات الاجتماعية والثقافية، وكانت خير نموذج للمرأة المتمردة الساخطة على الواقع، والمعاندة للتقاليد، وإن كانت تعبر عن ذلك أحياناً بتوتر وإباحة المحظور. وهي إذ ترفض ما جاء في كتب التراث عن المرأة فهي ترفض أيضاً الكثير من الكتابات الحديثة التي استمرت في التعامل مع المرأة كجسد للرغبة.
تركزت أبحاث أمينة غصن على دراسة الشعر عند أمين نخلة والأخطل الصغير ونزار قباني وخليل حاوي وأدونيس، ودراسة الرواية عند نجيب محفوظ، ولاحقت آراء المفكرين في الحداثة والتراث وبينهم توفيق الحكيم، وهشام الشرابي، إلى جانب أنشطة ومشاركات في مؤتمرات عربية.
كاتبة مفتونة بالصوفية، لكنها جريئة حتى النزق، لا تمالئ ولا تهادن، مجتهدة من دون تشاوف، أكثر ميلاً إلى الكتابة المتشظية، حتى نجد أنفسنا أمام الأسئلة التالية: هل تشبه كتابتها فوضى رواية “تخيلاتي الشريرة” التي ترجمتها للكاتبة الفرنسية الجزائرية نينا بوراوي؟ أم تشبه هي بطل رواية الجزائري حميد غرين “الصلاة الأخيرة” التي ترجمتها أيضاً، هو “الليبرالي الذي يتنازعه الإيمان والشبق، الممزقٌ والمتشعب والمركّب يقاوم على طريقته كل الأصوليات”؟ ثم هل تتماهى كتابتها مع كتابة جاك دريدا التي وصفتها بأنها “تتراوح بين الإغراء والغواية وبين الرعب والخفة”.
في هذا الملف، نسلط الضوء أكثر، على الراحلين الثلاثة، من خلال مقالات لاختصاصيين أصدقاء لهم، عرفوهم من قرب:
الملف من إعداد: أحمد بزون*