إن المتتبع للحركة التشكيلية العمانية, سيجد أنها مرتبطة بالشخصية الحضارية العمانية, والشخصية الحضارية العمانية مرتبطة مع الحضاراتا الأخرى – البابلية والسومرية والآشورية والدلمونية والفارس والحضارة الإسلامية – التي توالت عليها أو التقت معها وتفاعلت مع فنونها، وأكسبها ذلك تطورا في الصناعات الحجرية والفخارية والنحاسية والخثسبية إلى درجة عالية من الإتقان والجودة في استيفاء بعض الاحتياجات النفعية. فهذا التراكم الحضاري والتراثى والمعرفي الذي خلفه الإنسان العماني القديم في الثقافة الشعبية إنما هو موقف في صميم الإنسانية وتأكيد على الإبداع المؤثر والمنتشر بين الفئات الاجتماعية والحضرية والريفية والبدوية.
وبالوقوف على طبيعة التضاريس العمانية , نجدها ذات خصوصية تختلف عن مثيلاتها من الدول المجاورة , فهى تنقسم إلى ثلاثة أقسام هي السهول الساحلية, والسلاسل الجبلية , والسهول المرتفعة. فالسهول الساحلية ضيقة بوجه عام باستثناء سهل الباطنة الخصيب. والسلاسل الجبلية تبدأ من رأس مسندم ثم تسير موازية للساحل في شكل منحنى حتى قرب رأس الحد… والجهات الداخلية من السلطنة عبارة عن هضبة يبلغ ارتفاعها 1300 متر. ويزداد الارتفاع في وسط الهضبة – الجبل الأخضر- الذي يصل إلى عشرة آلاف قدم. أما السهول المرتفعة فهي اكثر المناطق صلاحية للزراعة وتختلف من منطفة الى أخرى حتى المنطقة الجنوبية بسهولها وجبالها الخضراء. وتعتبر سلطنة عمان من حيث المناخ افضل من بقية المناطق الساحلية في الخليج العربي من حيث وفرة المياه وغيرها من الموارد الطبيعية 00 إلا أن مناخها قاس 000 فهو حار صيفا 000 بارد شتاء 000 وتشتد الحرارة مع الجفاف في المنخفضات الداخلية ,بينما تعتدل في المرتفعات 000 اما منطقة الجبل الأخضر فتتميز ببرودة الهواء صيفا.
ومن ها يؤكد لنا "علم البيولوجيا أن البيئة الملائمة شرط ضروري لوصول الخائص المحدودة وراثيا إلى الاكتمال. والموروثات (أو الجينات ) لا تنشط إلا من خلال البيئة. وهكذا نستطيع القول أن الاستعداد الإبداعي لا ينشط في فراغ بيئي، كماأن افضل البيئات لا يمكن أن تحول فاقدي الإبداع أو ناقصيه أو مدعيه إلى مبدعين حقيقيين ".(2) وما يعوزنا في هذه الدوامة هو تسليط الضوء على الأنماط التراثية العمانية التي شكلت تأثيرا تراكميا على الحركة التشكيلية العمانية وتطورها في إطار ربع قرن من الزمن كان فيه الفنان حاضرا بإبداعاته ليأخذ موقفه في القبول الفردي والإجتماعى.
أشكال مرئية بيئية:-
بالرجوع إلى مصطلح الإبداع نرى انه يقصد به إنتاج عمل جديد يرضى جماعة ما أو تقبله على أنه مفيد ويتميز بالإنحراف بعيدا عن الاتجاه الأصلي والانشقاق عن التململ العادي في التفكير الى تفكير مخالف كليا،وبعبارة أخري إسهام متميز في إدراك الحياة الانسانية وتذوقها وفهمها وتحسينها من خلال وسائط الفن, والعلم والأدب وكل ما أنتجته الإنسانية في الأدب والفن والموسيقى قدم للإنسان وسائل راقية لتذوق بيئته وتقلبها.
وحينما ننظر إلى الفنون والحرف الشعبية العمانية نجدها قد حافظ على أصولها الفنية والمكانية وحددت سلفا مجموعة من الضروريات (السيكولوجية ) و(الاجتماعية ) و(الروحية ) يكمن فيها ذلك الإستعداد الفطري الوراثي الذي يفسح المجال لخلق وسط أخلاقي أو بيئة فنية أو أدبية لها تصوراتها الحضارية وأعرافها المؤثرة التي صورت زمنيا لتحمل الترف والفقر إلى حيز أكثر توافقا, يستوب الحالات الوجدانية / التلقائية…وعلى هذا الخط عايشنا منطقة خاصة مع الأشياء, انعكست… نشأت.. وتوثقت فينا نحن الكائنات العمانية , وحق لنا كفنانين تشكيليين عمانيين (الامتزاج ) و(الإجتهاد) في صنع معرفة إجتماعية وفنية من تراثنا الشعبي "فترثنا الشعبي الحق, هو الجانب المضيء في ماضي الآباء والاجداد. والذي يكشف عن الظواهر الثقافية والحضارية, عبر فترات تطورية متعددة, تجذرت وتغيرت وتجددت بتلقائية وثراء، متأثرة بروافد الحضارات الأخرى التي رفدتها.وهو كما يقول الباحث يوسف الأسدي: الجانب الذي يمثل الفردي والإجتماعي خلال التاريخ،.أو يعبر عن الذات العربية وتجربتها، ويعطيها مميزاتها، ويذكر بوجودها، ويبرز ملامح شخصيتها وآصالتها الذاتية, ويحدد منظورها القومي. الخاص وهو بذلك ملك للامة وجزء من وجدانها.به نستطيع التعرف إلى التغيرات التى طرأت عليها وإلى الشروط التي يمكن أن تصنع منها تاريخا أو تستمر في صنعه.(3)
إن هذا الانعكاس يحتم علينا العودة إلى الوراء والنظر بعين الإعجاب إلى أولئك العمانيين الذين سكنوا المدن والقرى منذ أقدم العصور, وكيف ساعدتهم المقومات الجغرافية والحضارية والاقتصادية والاجتماعية على تأسيس هذا المجتمع المنسجم في حياته وعاداته وتقاليده وتراثه الشعبي، وفي طرازه المعماري الذي يتجلى بوضوح في الكم الهائل من القلاع والحصون والأبراج والمساجد والقصور ,المنتشرة على كل شبر من أرض عمان…تستوقفك بوجدة جهازها الهندسي والمواد التي اعتمدت في بنائهاو والمواقع الإستراتيجية التي قبعت فيها وأشتهرت كما هو الحال في القلاع والحصون الموجودة في الرستاق وصحار وبهلا ونزوى وجبرين وبركة الموز ونخل والميرانى والجلالي مسقط وغيرها.
وجانب البناء كان للفن بشكله التطبيقي عظمة روحية ,وظفت لتتلاءم مع الشخصية
العمانية التي أنطبعت عليها تنظيمات تشكيلية وانسانية متفاعلة مع خصائص البيئة العمانية المبدعة وإهتمام العمانيين بتجميل وتزيين مداخل القلاع والحصون وبيوت الأسر العريقة والمساجد والأسواق والمقاهي الشعبية والسفن قد أعطى مجالا لظهور الفنان الفطري الذي ساقته الفطرة الى النقش والحفر على الصناعات المعدنية والفضية – المكاحل والعقود والخناجر والسيوف وأباريق القهوة والمباخر- وعلى الجدران والأبواب والنوافذ والزخارف الجبسية التي تقوم على أشكال مثلثة ودائرية تتداخل فيها الزخارف النباتية , محدثة شكلا ابداعيا مميزا.ويعد حصن وقصر جبرين بناه الإمام بلعرب بن سلطان في القرن السابع عشر الميلادي- مثالا وتحفة متميزة, ازدانت بالزخارف النباتية والكتابات العربية – آيات قرآنية وأبيات شعرية وأقوال مأثورة – التي خلقت عملا تشكيليا موحدا هذا الأسلوب في المزج بين الزخارف والكتابات, أمر كان معروفا في الفن الإسلامي، فبين الخط العربي والزخرفة علاقة حميمة, فهما بنيا على أساس فلسفي وأيديولوجي واحد، وانطلقا من نفس الأسس الجمالية التي ارتكز عليها الفن التجريدي الإسلامي(4)
لقد اهتم العمانيون بالحظ العربي كونه ذروة الشرف والتقدير لإنه لغة القرآن, ولان الله أقسم به ( ن والقلم وما يسطرون )، ولان الرسول اعتبره أول الخلق ( أول ما خلق الله القلم )، ولان الإمام علي خليفة المسلمين قال فيه (الخط الحسن يزيد الحق وضوحا) ومن هنا اهتم المسلمون بالكتابة والخط ,وأدخلوه في فنونهم واستفادوا من قدرته على التشكيل, ففيه الليونة والتماثل والتناظر وتعدد المساحات وتنوع الوحدات. لقد حلت الكتابة عند المسلمين محل الصورة في الفن المسيحي فتباركوا بالأحاديث والآيات والأقوال الشريفة وزينوا بها الصور وأفاريز المساجد. (5)
فأخذ الخط العربي شكلا تحريريا مميزا عند العمانيين , جمع بين الإتقان والزخرفة الإعلامية, إلا أن المنتشر منه كان النسخ كما نجد ذلك في الصكوك الشرعية والمراسلات الرسمية والشخصية, ومنها ما هو جامع بين الثلث والنسخ كتلك التي تزدان بها القصور والمساجد ومن ضمنها قصر جبرين.وبجانب الخط أخذت كتابة التعاويذ والأحجبة جانبا مهما في حياة المجتمع العماني الشعبي، اعتقادا بجاذبيتها ومفعولها السحري.
ويعتبر فن "الفخار من الفنون التراثية التي تخبأ الجواب الاجتماعية والنفعية لصانعيها ومستخدميها، وهو فن يرتبط ارتباطا وثيقا بالتراث التاريخي وبالأشكال المرئية البيئية, ولها أدبياتها الشفهية وأرتامها الصوتية في نداءات الباعة, ولها أطرها التقليدية لتعامل الحرفيين مع بعضهم البعض, بالإضافة الى أهمية دور الخبرة والممارسة والحساسية في التشكيل, والدراية بالتقنية العالية.ومن المعروف عن هذه الحرفة انها تحاكى الأعلاف في نمطية الإنتاج 000 وتؤكد ذاتها في الإبداع والتجديد في بنية التشكيل الفني."(6) ومن هنا اهتم العمانيون بهذا الفن الفطري وساعدهم توافر الصلصال – السربوخ – المدار- الهجاريا – المشك – الذي يصلع لصناعة آوانى ودلل القهوة ومجامر البخور وأوعية الماء وغيرها وامتازت بعض المناطق العمانية- بهلا، مسندم, وصلالة – بهذا الفن.
كما تميزت البيئة الصحراوية بوفرة النشاطات الإنتاجية كالأزياء وصناعة النسيج وغزل الصوف, وصناعة سروج الجمال وزينات الخيول والجمال التي تلون بألوان البيئة الصحراوية وتنقش بزخارف نباتية ورسومات شعبية مستوحاة من حياة البادية. ولان البحار العمانية الهادئة تخفى وراءها تاريخا عميقا، اعتمد العمانيون في تنقلاتهم البحرية على سفن أبدعوا في صناعتها مثل: الجالبوت – الشويع – الشاشا – الباتل – التشعال -الهوري – السنبوك – البغلة – البوم 000 الخ, وكان الملاحون العمانيون في العصور القديمة رواد الرحلات البحرية في العالم وكانت تكنولوجيا صناعة السفن تضم خبرات تعد في طليعة الخبرات , وتعتبر مدينتا صور وصحار من أبرز المناطق الساحلية التي تميزت بتلك الصناعة البحرية
أسس جمالية فلكلورية:-
لقد اثر ظهور النفط على الملامح الإجتماعية بصورة عامه, رغم تمسك الإنسان العماني بثقافته وحرفه وفنونه وعاداته الشعبية, التي هي مرجعية ماضوية لها خصوصيتها التاريخية والفنية , وهو ما دفع الفنان التشكيلي العماني في سعيه الى استعارة هذا التراث التاريخي وربطه بالاتجاهات الإبداعية الفنية المعاصرة.
ومن خلال البحث في التجارب الفنية لوحظ ثمة تشابه في المواضيع المطروحة التي جمعت بين التراثية والاجتماعية والحضارية والخبرة الجمالية, والخبرة الجمالية كما يفسرها ديوي John Dewy هي مظهر لحياة كل حضارة, وسجل لها, ولسان ناطق يخلد ذكرها ويحفظ أمجادها, والحضارة هي البوتقة الكبرى التي تصهر صناعات الجماعة وفنونها وطقوسها وشعائرها وأساطيرها وقيمها الاجتماعية وشتى مظاهر نشاطها".(7)
فمنذ السبعينات والثمانينات مرورا بالتسعينات كان الفنان التشكيلي العماني شعلة من النشاط الإبداعي، غاص براسه ويديه في ديمومة التراث والفنون الشعبية والتقاليد الفلكلورية ومن العناصر الزخرفية والرمزية 000 وعبر بالواقعية عن احتياجات الفرد والجماعة والمكان والمحيط من منظور تأثري / اجتماعي/استنساخي/منفعي/ تقليدي/ تعبيري، فرضته طبيعة الدوامة الجمالية, ليفسر المجال أمام قراءاته البصرية وألوانه الشفافة أن تتمعن في هذا التراث وتنصهر فتطرق عدد من الفنانين في مراحل مختلفة من تجاربهم – أنور سونيا, الاخوة الحنيني (عبدالله – خميس – سعود)، حسن عيسى بورك رابحه بنت محمود، موسى المسافر، لالبخش علي, منير بن صادق, على المرشودي, محمد العنبوري، عبدالناصر الصائغ,حسين الحجري زكيه البروانى, عبدالله الريامي، حسن مير,محمد الصائغ , أيوب ملنج, شميم محمد، سهير فوده, ياسمين بنت محمد، المرحوم حسين أبو بكر الشيخ, رشيد عبدالرحمن, ثريا درويش، مريم عبدالكريم وكاتب هذه السطور000الخ – إلى مواضيع متعلقة بالقلاع والحصون – الأسواق – الرقصات الشعبية – البيوت والحارات القديمة – مظاهر الأفراح –البحر والصحراء أزياء تقليدية – سباق الهجن – الأبواب والنوافذ- مواسم الحصاد 00الخ.
فعبر الفنانون في أطروحاتهم عن الواقعية والتراث , وكشفوا للآخر عن ثراء حسهم وحنينهم للماضى وقدرتهم في التصوير واظهار التفاصيل ببراعة وأمانة واخلاص , من منظور ينشد البساطة والإعتراف, ويسعى إلى تلخيص الجوانب الفنية الخاضعة لبعض الضروريات الفنية /الشخصية الداعية الى صون التراث واعادة أرشفته من جديد كما يؤكد لنا ذلك الفنان أنور سونيا حينما سئل عن أسلوبه الواقعي فقال:"إنها محاولة لنقل التراث العماني وصوره قبل اندثاره000كصور الجمال والمدافع القديمة والدلة والأبواب والنوافذ القديمة , فقد بدأت منذ أوائل العام جمع التراث في لوحات , إذ رأيت انه يتم استبدال معظم الأشياء القديمة ويحل محلها الحديث فتولدت لدي فكرة حفظ التراث في لوحات" (8) وعليه أصبح الموضوع (التراث ) يمثل بالسبة لهم وسطا قائما على حدود النقل والتقليد وتقديم اضافات اشتغالية من خواص الطبيعة والفلكلور بعيون متشابهة الإ أنها مختلفة في الأساليب والمستويات.
وعلى الجانب الآخر مارس عدد من الفنانين – رابحة بنت محمود, لالبخش على, حسين عبيد، محمد الصائغ , سليم سخي, محمد نظام, موسى عمر, محمد فاضل, نوال العتيق, عبدالله الحنيني، نادرة محمود, خميس الحنيني, اقبال الميمني, زكية البرواني، رشيد عبدالرحمن , مريم عبدالكريم , حسن مير 000 الخ – مع نهاية الثمانينات التراث كخطاب لدعم الفعل الإنتاجي وحاولوا عبر معطيات الفن المعاصر أن يخلقوا نظرة بنائية جديدة للتراث كل وفق مخزونه الثقافي والاجتماعي. وبما أن "شخصية الفنان المبدع شخصية عاقلة انفعالية صادقه تعيش في بيئة ذات مضمون ثقافي تاريخي اجتماعي, تتبادل معها الأثر والتأثير بطريقة دينامية متفاعلة , من خلال إطار نوعى اكتسب مضمونه من الخارج "،(9) نجدها قد أخذت بعدا قلقا في تطورها الإبداعي, لتضيف رصيدا مهما تم إنجازه بجانب الواقعية فأتت التوافقات منتمية الى اتجاهات فنية عديدة – كالتجريدية والسريالية والتكعيبية والحر وفية العربية – تبحث وتجرب وتتوغل بحثا عن فكرة مرئية جديدة يمكن أن تؤسس ركنا ابداعيا مميزا يليق بحضارة وتاريخ عمان العريق.وللأمانة أرى أن هنالك تجارب تستحق كل التقدير لإسهاماتها المتعددة, ولامتلاكها الرغبة والأدوات والمهارات الفنية التي أهلتها أن تتربع الساحة كأصوات ابداعية أصبحت تشكل واجهة للثقافة العمانية والحركة التشكيلية العمانية, وآن الأون للمؤمسة لتقديرها بالرعاية التأسيسة الملحة.
فها هي الفنانة رابحة بنت محمود نقف بتجاربها البصرية التشخيصية المسماة.
(العمانيات ) تعلن عن اجترارها في التجريد التعبيري، منطلقة من ملامح التراث العماني ومن معطيات الذات الإنسانية نحو تصورات سكونة بهم التجديد، محققة من البعد التراكمي/ الوجداني / التراثي حاسة شكلت تنويعا ابداعيا "تضعنا أمام قراءات لونية جديدة عن البيئة العمانية ,هذه البيئة التي لا يزال فنانوها مولعين بالواقعية التسجيلية فعمانيات رابحة بنت محمود ليست اندهاشية أو غرائبية بصريا حتى ندعمها بألمبالغات اللغوية, فهي أعمال تفرض نفسها على المشاهد، لما تتمتع به أرضية تجربة العمانيات من إمكانيات بصرية وتقنية عالية , تقنية للمشاهد فرصة اللاتصال المباشر، واستحضار أحداث متوافقة ومترابطة في حجم.تلك الرؤى التي نرى انه من الإنصاف لنا القول أنها مؤهلة لكي نرفعها إلى حدود المنجز المعاصر.
فحينما تجرأت في طرح لغتا الأنثوية عبر (العمانيات ), فإنها بلا شك قد أرادت أن تبرهن بمقتضي تلك اللغة , عن الإمكانيات الأنثوية المختفية في غلافها الحيائى، والتي تحاول الفنانة من خلالها أن تضعها وتضعنا أمام معادلات وإحالات معاصرة, تبتغى أن 0تصنع لنا خيارات استقرارية, ومفاهيم رؤيوية جديدة , مؤهلة في أن نقرأها نحن المتلقين بتمعن شديد كمعطيات منهجية لوحة للفنان: موسى عمر متحررة, تقومنا ,الى جوانية العمل الفني, لنرى ونترقب تلك المفردات المؤهلة للحو ار والجدل, وصولا إلى استخلاص روحي نزعت. عنه التفعيلات الاصطناعية المستهلكة, حيث التجمعات النسائية المزدحمة كالأسواق الشعبية – سوق الأربعاء بولاية إبراء – والأزقة وهبطات الأعياد الدينية التي شدت إنتباه الفنانة فعمدت الى ترجمتها "؟(10)
بينما يأخذنا الفنان عبدالله ألحنيني الى لعبة تجريدية تتمتع بحس اختزالي عال , تقوم "على توصيل المادة كما هي مرسومة في الذاكرة , لتحدث اتصالا مباشرا يعمل على خلق توافقيات جمالية بين التكوينات واحتدامات الألوان المتصارعة التي تعمل على إذابة المساحات وتحويل الاختبارات إلى تقاسيم ظلية ونورية, مفادها إجراء محاور شكلية مع أكثر من عنصر عبر توليفات مشهدية او احتفالية 000تتيح المجال في التأمل والفرص في تلك التفاعيل الدقيقة القريبة من المنمنمات والتي تشير بإصبعيها الى نصوص تحليلية مترابطة وألوان تحمل معاني وصورا تسحرنا000إنه يختبر تلاعب الأشياء في حدود الرسم , وفي غمرة الفرحة الانشائية يحيل الوشائج المشهدية الى مشاهد اقرب ما تكون مطبوعة , فأغلب ممارساته تتم وفق منهجية ما تقف على أرضية بصرية عالمية, تحدث اتساعا تكوينيا كلما تعمق فيه المشاهد".(11)
في حين ينطلق حسين عبيد بعيدا عن تلك الاختبارات, نحو استمكان حيز كاف للتجريب في خصائص رؤيته الفنية, فهو عندما يتوغل في تجريدية الرمز إنما يقيم اتصالا لا واعيا بانطباعاته عن الطبيعة ومناخاتها.. بمعنى آخر،أن الطبيعة باقية وتمثل له الأصل المرئي للرمز وفق مدركات حسية.أِشد اقتربا من عمليات النقل النصي مع بعض الإضافات التي تمليها الرؤيا… انه لا يتعمق في النظر إلى المزايا غير المرئية للطبيعة, انما لا تزال مشاهدها المحتملة عالقة في ذهنه, على الرغم من القطيعة التي افترضها مسبقا وتأكيدا على ذلك، نجد ان عناصر العمل الفني الذي يحققه حسين عبيد محصورا في محاور محددة… انها شخوصية بشرية ورمزية ناتجة عن حث منتجات طبيعية… ولكن أي شخوص, وأي طبيعة ؟..
أعتقد أن التفريق الذي يؤكده حسين عبيد في تجاربه الأخيرة هو الذي سيجعل منه فنانا يروم اعادة النظر لمشاهد البيئة والواقع وفتر تصورات حديثة .. فالاختزال الذي ينتهجه يقدم مسحا شكليا لتلك العناصر مع التركيز على فك ارتباطها بعوامل التكوين الذهني للذائقة الجمالية من خلال وضع معالجات تقنية خاصة.. على ان فعلا فنيا كهذا لا يجعل 0من حسين عبيد واقفا بمنأى عن الطبيعة… انه يرسم أشجارا مستترة في جميع لوحاته, ولكن أي شجرة… انها تذكرني بشجرة (بارتولينى) الرسام الإيطالي الذي أعاد مجد الأسطورة الإغريقية في رسمه للطبيعة… أي انها استذكار لخيال دفاق ينسج ملامح الطبيعة بمكونات المخيلة الجامحة, وهذا ما تبينه حركات الأجزاء المائجة يمينا ويسارا، فهي تنبثق من ارض غير معرفه, حتى كأن حسين عبيد يعيد نبض الحياة فيها من خلال المزج بين أجواء اليابسة وحياة الماء… انه أقرب الى تصوير مجرد نشوء حيوي غامض تحت الماء, تهزه ارتطامات الموجات الداخلية, فيتهادى بتناغم غريب ". (12)
وفي صمت ممزوج بأنفاس لاهثة, تدخل من الباب الواسع تجربة المها للفنان سليم سخي، المحاطة بأطوارها التجريدية الرمزية تبتغي الوصول الى قراءة فصولية تجمع بين وجع الرؤية وهذا الانتماء للمكان والتراث المعلق في الذاكرة, محاولا (الفنان) اكتشاف حدود أكثر اتساعا لتقبل الوجع… الخيال. وهذا الاشتياق الذي يقودنا نحو مدارك حرة يحاول فيها الفنان تقديم نصه البصري الذي يزحف بذاكرة نحو مسح صحراوي يقيم حدودا اتصالية مع المكان الذي يستوعب مزيدا من الأطوار المتعاقبة والاكتشافات الموغلة. وهذا البوح قد فتح المجال للفنان في أن يجدد لغته الى تقارب يسمح للقواميس أن تتحد مشكلة لغة مؤثرة على المساحة بحيث أخذ في خاتمتها جمالا ترائيا مميزا معنونا عليها ذاكرة المكان والتراث العماني الاصيل.
بينما "يدفعنا الفنان محمد فاضل مع امتداد حدود التضاريس والأرضيات الى تصوير يتوافق مع السطح المنجز ومع ضربات الفرشاة التي تختزل العناصر والمفردات وتستثمرها لتكوين عالم خاص من ملك الفنان… عالم تتسرب فيه القراءات المدية لربط التعبير المتجه نحو تنظيم العناصر الى معالجات ذهنية تستدعى من المخزون الاختزالي لرسم حدود في الرسم بعيدا عن المباشرية أو التسجيلية… فعوالم محمد التعبيرية تشير في حيثياتها الى آليات بنائية ذات دلالات تحيل المعنى الى زمن مبتكر خاضع لوجودية مطلقة, كما انها تمتاز بقدر من الاستيقاظ اللاشعوري لأجساد يعيشون في مناطق حلمية مبتورة يمارسون نشاطا مبهما، يتم عليها تحليل اللاشيئية الى واقع ملموس فيه الآفاق اللونية والقلق".(13)
وعبر هذا التمازج اعاد الفنان موسى عمر الى ذاكرتنا تلك الإضاءات الجمالية والتواريخ الغابرة بألوانها وأضوائها الساطعة, ليحيي في أعماقنا ملذات جديدة وتداخلات بصرية كانت غائبة أو حاضرة مشكلة هالة من التجديد وفق مناخات أكثر اتساعا في قراءة المحيط, التي نرى فيه قوى تأخذنا نحو ثقافات الشعوب وجذورها، وأنه يحاول فيها أن يحيي فينا الرؤية الحياتية, ويخلق أمامنا مفارقات تعمل على الانتقال والتقرب نحو الداخل, هذا الداخل الذي يبنى وجودا مغايرا ومتقاربا من المكان الأول, ويعمل على تكوين مفردات من البيئة العمانية والعربية والشرقية 000 لتستوعب أكبر قدر من الوجودية في ربط صيغ الانتقال والتقرب, وعلى هذا النحو يرسل الينا عبر بؤرة متفجرة مقاسات زمكانية تأخذ مواقف لها أمام انعكاسات الصورة البنائية 0والمفردات العمانية التي استخدمها الفنان في تجاربه كالحصير العماني / والخيش / الوزار/ أو الأشكال الهندسية التي تدخل في المعمار العماني قد فسحت المجال لهذا الحراك الداخلي ان يحقق ويأخذ حالات ديناميكية على المسطح الابيض, ويؤسس وحدة من التكامل مع روح المكان وروح الكائن, الذي يقف صامتا أمام نوافذ وأبواب الفنان ومدينته الحالمة. هذه المدينة التي كما وصفها الناقد نوري الراوي بأنها تسكن عالما رؤيويا تتشكل على مفترقات اعترافات المشاهدين وحواراتهم الصامتة, فيما تمنحهم الدواخل فرصة التنفس في فضاء آخر يفرضه حق الانفتاح والامتداد خلف (عالم المرايا) حيث تتوزع صوره وأشكاله المتناثرة على مساحة حدسية واسعة من الصعب تمثلها او تقليدها، لأنها تتمثل في كينونة هي أقرب الى جوانب الحب منها الى أي شيء آخر0غير أن ما لا تراه العين في هذه المشاهد، ليس الا تلك الانعكاسات الأولى للفطرة الإنسانية التي اعترف بها الفن الحديث وضمها الى مكتشفاته الجديدة, ثم أحلها المقام الأعلى من سلم الأولويات سواء بسواء مع المبتدعات العفوية للطفولة.
وتقترب الصورة التراثية من الاشتغالات الحروفية للفنان محمد الصائغ التي "توصل البحث نحو جوهر اصيل في التشخيص البصري والتركيب الصوري بمفاهيم ومشاهد تتحول فيها اللحظة التعبيرية الى حركة بحثية تقود وتعكس مفارقات تمنح الصورة سحرا ماضويا /موروثيا /عربيا /عمانيا, وتصف تكاملا مرئيا وذهنيا، وفي نفس الوقت تدعو الى التصاق المكاني والى تضادات الشكل المرئي وتوسيع أساسيات النظام التناولي بحيث يتم اتخاذ البعد المكاني صيغة مداوية للأنماط والمعالجات المختبرية التي تصلح أن تمارس عليها طرح الفكرة وتحويرها الى صياغة محققه فيها انتقالات اللعبة وما تدخل في مضامينها من مرايا اللون (النور والظل).
فأتت التأثيرات اللونية والتطويعات الحررفية تحمل مسافات تفرض وتحدد المسافات الأفقية وفق ماتتطلبه الأسلوبية من تطبيقات مختبرية أو وفق ما تحدثه الإضافات الفكرية من قراءات مشهدية عبر هذا التمازج الذي يعيد الى ذاكرتنا التواريخ الغابرة بألوانها وأضوائها الساطعة لإحياء ملذات جديده وتداخلات بصرية كانت غائبة أو غير مكشفه, تبحث عن نسيج يمكن أن يفتح بابا للدخول في وطن غائر 000 تتداخل فيه المقدمات لجعل التكوين خاضعا تحت,تأثير الجمال ,فهذه الأستشافات اللونية المشكلة في هيئة أشكال تخيلية آو كتابات تتحرك في كرنفالات أفقية تضعنا أمام تشابهات مؤثرة تتسقط من اعلاها خطوات غائرة ,تقيم تشابهات في التقسيم البنائي وتبني على الصورة الموحية مفهوما بصريا يعلن عن حدوده ورغباته وتصوراته وفق نهج حواري مفتوح ومؤثر وجده الفنان وينقله لنا بحسه وروحه"(14)
وفي النحت "يمضي الفنان أيوب ملنج نافضا الغبار عن تلك التجارب التي قدمت في السبعينات والثمانينات ليعرضها لنا, وهو يستحضر عبر تجاربه تلك الأحلام التي راودته وحفزته بأن يبنى على مرجعيته تلك الأشكال الوجودية وهي تخترق لتكشف عن تصالحه هو الأضداد وما عُليا على الزمان والمكان من كائنات تتبدى روحها بحثا عن الخلق لاحالة الملامح إلى استحضار آخر خاضع إلى إستقراء الأفق وتطوير الخامة الى افتراض المتخيل عن لأسطورة أو ما يقرآ انكسارا أو تظليلا أو نقلا عن لواقع الذي صنع أو يصنع من تأويل الفنان , وهذه الروحانية وان كانت مفاعلها تقف على حدود لا تتسع في دائرتها أبعاد تجاوز عن محيط الدائرة, فإنها رغم ذلك قد أفسحت المجال للفنان في تفعيل الخامة الي دوافع تحريضية سيكولوجية والى خلق لغة أسلوبية في النحت بعيدا إلى ما تؤول اليه الحالة من النتائج.(15)
الخلاصة:-
إن هذا الزاد (لمتراثي ) العربي الإسلامي العماني الذي تناسل جيلا رواء جيل أصبح مهميأ للتوظيف والتعبير والقراءة والتدوين، خصوصا وانه اخذ كفاءاته التشكيلية من. البيئة , ومن هذا الاختزال الذي وفر له آلية عملية,أعاد لنا هذه الثقافة التراثية إلى منابعها الإبداعية حتى استطاع الفنان العماني تطويعه حسب رؤيته الفنية. وحري بننا الإشارة إلى أن الواقعية التسجيلية قد أفرزت تجارب وأسماء – منهم من استمر، ومنهم من توقف – نشرت الحركة التشكيلية بين الجمهور، وفتحت أبواب الاقتناءات أمام الطبقة المترفة التي تعد الرسم جزءا مكملا. لحالات ترفهم.أضف على ذلك أن تلك الأسماء قد أعطت بعدا وحقلا ويقظة معرفية للأجيال آلاتية للتعرف على المرجعية المرئية القديمة لماضي عمان وللحركة التشكيلية العمانية , كما نجحت أيضا من الناحية التربوية في تأسيس لغة قد تكون واضحة المعالم آجلا.
وعليه, فإن من الخطأ القول، أن الواقعية أو تجارب التسجيليين كانت فاشلة ونلغيها لأننا لا نقبلها, ذلك أن لكل منا حاسته الخاصة ورؤيته التي تميزه عن الآخر، وبهذا الاقتناع يكون كل منا قد أدى أو يؤدي دوره.حسب قدراته وقناعاته الشخصية, ومن حق أي فنان التعبير عن ذاته وكيانه حسب منظوره الشخصي ومرجعياته 0إلا انه في نفس الوقت من حقنا إيجاد سؤال له علاقة بالتراث والنقل: إذا كان الفنان ابن بيئته وتراثه,فهل مهمته ألمحاكاة والنقل والتقليد فقط دون إنجاز فعل يؤكد على وجوديته ؟.
وللإجابة, أرى ثمة هوة تجعل الفنان يميل إلى التصور أن ما يفعله من تسجيل لصون التراث أو تقليده إنما هو شكل يعيد الموهبة إلى فعل إبداعي، يستجلب معه القبول. لاعترافي بلقب الفنان, أو يفتح أمامه الجانب السياحي فيغرف منه ويقبل على تعاطي 0 المواضيع المنقولة من الصورة الفوتوغرافية أو من مصادر طباعية أخرى ويطفق على محاكاتها وتقليدها ونقلها بحرفته شديدة أحيانا". والواقع انه لو كانت مهمة الفنان
تقتصر على محاكاة الطبيعة, لكان فن التصوير الشمسي (الفوتوغرافي) هو الوريث الشرعي لكافة الفنون الجميلة, ولما كان ثمة موضع لاستبقاء ضروب المحاكاة الناقصة. التي تقدمها لنا فنون كالتصوير أو النحت ولكن الفنانين قد فطنوا من قديم الزمان الى أن اشد المصورين إغراقا في النزعة الطبيعية لا يمكن أن يقتصر على الخضوع للطبيعة في ذلة وصغار"(16)
الهوامش
1- حوار مع الفنان / جريدة الوطن / 26/1/1994.
2- اثر البيئة في الإبداع / محاضرة للدكتور فؤاد أبو حطب / النادي الثقافي 1981م.
3- التراث الشعبي علم وحياة / الأستاذ نمر حسن. حجاب / المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم
4- التصوير لشعبي/ د 0أكرم قانصو/ إصدارات عالم المعرفة
5- نفس المصدر المذكور أعلاه.
6- الفنون الشعبية بين الواقع والمستقبل / د هاني ابراهيم جابر/ ص 72.
7- مشكلة لفن – د0زكريا ابراهيم ص 168- 169.
8- حوار منشور في مجلة العمانية / العدد 57/ أكتوبر1986.
9- الإبداع في وتذوق الفنون الجميلة / د0على عبدالمعطي محمد ) ص294.
10- قراءة في معرض نظرة الى عمان للفنانين العمانيين والبريطانيين / حمين عبيد/ جريدة الوطن/ العدد (5403)/22 /4/1998م.
11- قراءة في المعرض السنوي السابع /حسين عبيد/ جريدة الوطن / العدد (6004)/ 16/12/1999م.
12- فوضى الطبيعة والخيال /قراءة نقدية في تجربة الفنان حسين عبيد/ كفاح الحبيب/ الملحق الثقافي لجريدة عمان / 9/3/1995م.
13- قراءة في تجربة الفنان محمد فاضل /حسين عبيد/ الملحق الثقافي لجريدة عمان /لعدد 6576.
14- قراءة في تجربة الفنان محمد لصائغ /حسين عبيد/ جريدة الوطن /العدد 6155.
15- قراءة في تجربة لفنان أيوب ملنج /حسين عبيد/ جريدة الوطن/ العدد5783.
16- مشكلة الفن- د. زكريا ابراهيم ص44- 45.