لقد مارسنا القراءة الأدبية زمنا متطاولا فألفيناها عسيرة شاقة،ومهولة معتاصة. وما تراه من جمال نسجها، وبهاء عرضها، أو ما قد ترده كذلك، لا يتأتى إلا بشيء يضارع الولادة القيصرية. ولا ديار يستطيع ادعاء سواء ذلك. وما ذلك إلا لأنها ضرب من الكتابة حتما، وكل إبداع لا ينبدع إلا بعسر وجهد.
وعلى الرغم من أن تجربتنا في مجال القراءة الأدبية تتوزع على زهاء عشرة أعمال: بعضها يتناول نصوصا من بعض أجزائها، ومعظمها يعالج نصوصا أدبية بجذاميرها وحذافيرها.. فإننا لما نستقر على قراءة بعينها: نقف لديها ولا نعدوها.ونعتقد أن ذلك لا يتأتى إلا يوم أن يترفانا الله. أما ما دامت المعرفة تتقدم بنا، وما دمنا نحن ننشد امتلاك مزيد من هذه المعرفة وما دام لنا عقل يلتمس الأفضل، وقريحة تشرئب الى كتابة الأمثل، فلا، لا!
والقراءة، لدينا قراءات فكل نص يفرض إجراءاته لدى إخضاعه لبعض القراءة ؟ ولكن أهم أشكال هذه القراءات اثنتان: قراءة النص الشعري (وهو الموضوع الذي نخوضه في هذه المقالة )، وقراءة النص السردي ؟ونحن لا نزال نميز بين الشعر والنثر على الرغم من أن بعض المتحذلقين الحداثيين يحاولون جهدهم أن يثبتوا للناس أن النص الأدبي واحد: فلا هو مشعور، ولا هو منثور.. ومع أننا نتفتح لقبول بعض هذا السعي إلا أننا نرى ذلك قد يكون مشروعا للمستقبل. وازالة الحدود بين هذين الجنسين الأدبيين لما يأن..) وربما إذا أردنا أن نتحدث عن نظرية عامة للقراءة ونحن عرب مسلمون نعيش في دار الإسلام – فعلينا أن نضيف قراءة ثالثة هي قراءة النص المقدس، وهو ينصرف هنا إلى القرآن العظيم الذي كنا اختصمناه بكتاب حللنا فيه سورة الرحمن.. وقد تكشف لنا من خلال خلاصنا الطويل لقراءات النصوص شعريها ونثريها فصيحها وشعبيها (نص لأبي حيان التوحيدي – نص من ألف ليلة وليلة – نصوص من المقامات: السيوطي والهمذاني – نص لبدر شاكر السياب – نص لمحمد العيد الى خليفة – نص لنجيب محفوظ (زقاق المدق )-نص (للمقالح..) أن القراءة أحادية المستوى – مهما دقت إجراءاتها، واكتملت أدواتها – لا تستطيع أن تؤدي كل ما ينبغي أن يؤدى مما في النص من قيم فنية، ومفاتن جمالية، ومكامن أدبية.. وهذا هو موطن الخلاف الجوهري بيني وبين كثير من القراء الحداثيين العرب (كمال أبو ديب. خالدة سعيد – يمنى العيد – عبدالسلام المسدي – عبدالله محمد الغذامي – محمد مفتاح – صلاح فضل – ونعتذر لمن لم نذكر أسماءهم..) والحداثيين الغربيين (رولان بارط – قريماس – كلود ليفي سطروس – فرانسواز قيون – جان كوهين – أندري ميكائيل – ومن لم نذكر من هؤلاء أكثر..) الذين كثيرا ما يتناولون النص الأدبي تناولا من مستوى واحد فيقعون في شيء من المحظور. وكأني بسعيهم وهو يشبا فعل من يسلط الضياء على زاوية واحدة من بناية جميلة، ضخمة، شامخة، ماردة، فان الضياء المسلط عليها لن يشمل إلا جزءا واحدا من أجز ائها. بينما نحن فتمثل النص الأدبي بناية جميلة قائمة على دعائم عالية حتى كأنها معلقة، وهي تقع في مكان مظلم، ولكي نلم على كل أجزائها وزواياها علينا أن نضع من حولها مصابيح كاشفة تمدها بالنور من تحتها ومن فوقها، ومن خارجها ومن داخلها: حتى يبدو لنا كل ما فيها من تحف ورياش (القسم الداخلي)، وحتى يبدو جمال هندستها وعناصر تصميمها: لونا وشكلا وهيئة (القسم الخارجي).. نقرأ نصا أدبيا من مستوى واحد لم قراءة أحادية الاجراء) كأننا لم نأت شيئا وكأننا لم نزد على تفتيح الشهية، أو تهييج قرم النفس للقرى (ونحن هنا لا نبغي الى الحديث عن القراءات المذهبية الأيديولوجية التي بعضها نفساني، وبعضها اجتماعي، وبعضها بنوي وبعضها الآخر سيمائي.. فإنما تلك أمور أخرى..) وانما نريد أن نتحدث عن مستويات القراءة داخل مذهب واحد أو مدرسة واحدة.
فعلينا إذن أن نعمد الى إنشاء مستويات للقراءة عبر المدرسة الفنية الواحدة إذا أردنا أن نزدلف من استنزاف عطاءات النص وهي غير محدودة، وسخاءاته الثرة وهي غير مجدودة.
ومما تكشف لنا، وليتمحض حديثنا منذ اللحظة الى النص الشعري، وعبر نظام القراءة المتعددة المستويات، أن النص الأدبي – كيفما كان جنسه – هو بعرض أن يمنحك ضمن هذه المستويات المتعددة وجوها من الفن والجمال والمتاع كلها يسهم في تسليط الضياء وكلها يفضي الى زيادة في الكشف والتعرية حتى لا يكاد شيء يبقى فيه خفيا الا تجلى ولا معتاصا إلا أنقاد ولا غابرا إلا حضر، ولا بعيدا إلا ازدلف ولا غامضا إلا وضح ولا مظلما إلا أضاء.
وفيما يلي عرضا لبعض اجراءات قراءاتنا.
تفكيك اللغة او المستوي اللغوي:
وهنا نستعمل التفكيك في معنى ينصرف الى حل مفردات اللغة ونثر ألفاظها، إما بناء على معانيها المتقاربة (وهذا إجراء كان جاءه سطروس وتابعه بارط في قراءة سارادين، ولكن بصورة غير مباشرة: أي أن الثاني لم يستنتج كالأول) واما بناء على اعتبارات أخرى. وسعينا هنا نحن لا يتمخض لأن نستنتج من اللغة وما تعطيه، وانما يتمخض اللغة من حيث هي مادة يستعملها الكاتب في كتابته كالألوان التي يصطنعها الرسام في لوحته.ومثل هذا السعي في قراءة نص شعري سيجعلنا نلم بالمادة اللغوية الحقيقية التي اصطنعها الناص في نسج نصه (سيتضح ما تكرر من الألفاظ في تحديد مقدار المادة اللغوية المكتوب بها).
نحن إذن نصطنع هنا "مصطلح" التفكيك بمعنانا الخاص، لأن التفكيك الذي يراد له الناس إنما نطلق عليه نحن "التقويض"، إذ يتعلق الشأن هنا فعلا بتفكيك أجزاء لغة القصيدة لمعرفة طبائعها، ثم إعادة ترهيبها كما كانت من زي قبل في بنيتها النسجية الأصلية. أما التقويض فهو هدم واقامة بناء على أنقاضه بالضرورة.
واللغة الشعرية: هذا العالم الجميل، الشاسع الأرجاء والكامن في النص الشعري، لا يكشفه لك ميزان العروض، ولا تشبيهات البلاغة ولا استعاراتها ولا شرح ألفاظه الغريبة (إذا كان قديما -وقد رأينا أن القراء الأقدمين كانوا يأتون ذلك في أساسيات قراءاتهم "المرزوقي – التبريري – الزوزني – البطليوسي – ابن سيدة.." ولا تخريج إعرابه الغامض "أبوعلي الفارسي في تخريج الأبيات مشكلة الإعراب " ولا نثره "وتحويله الى كتابة نثرية " فعل كثير من القراء القداس والمحدثين أيضا..) وانما أن تقسم هذا النص قطعا قطعا، أو أبياتا أبياتا، ثم تخضعها الى قراءة مجهرية شاملة بحيث تكون لها القدرة القادرة على التسلط على معظم الأجزاء والعناصر والخفايا والطوايا والمعتاصات فتختار القراءة المستوى الذي تبتديء منه (يتوقف ذلك على ذوق القاريء وبرا عته الإجرائية من وجهة، وعلى طبيعة النص وبنيته الفنية من وجهة أخرى). وليكن مثلا المستوى اللغوي فينظر القاريء في طبيعة اللغة الفنية التي نسج بها الناص نصه، ويمكن له أن يفك المعجم اللغوي داخل النص المطروح للقراءة ليتكشف له ما المواد اللغوية التي وظفها الناص لدى نسجه له ؟ وهذه اللغة، تشبه في حقيقتها، طبيعة الأصباغ التي لون بها الراسم لوحته فاغتدت بديعة مندمجة 0منسجمة.. فمن الشعراء من يعشقها ويلاطفها فتعطيه كيف يشاء: فيبدع بها ويحلق، ولكن منهم من يغافصها ويشاكسها ويعانقها ويعاندها ويشاغبها: فتعتاص عليه ولا تنقاد، وتدبر عنه ولا تقبل، فتجيء لحت بته الشعرية كالثوب الرديء المرقع: لا جمال ولا بهاء، ولا ذوق ولا تدبير.
إن حسن التعامل مع اللغة سعي أساسي لدى المبدع، ولدى القارىء الذي بدون امتلاكه، هو أيضا ناصية اللغة وتحسس عطاءاتها اللطيفة الشفافة لا يستطيع أن يبلغ مما يريد، ما يريد. ولقد ينشأ عن ذلك أنه لا يستطيع أن يبلغ قارئه، هو أيضا، ما يريد: فيسقط في الحرمان، ويكون كصاحبة النعامة، كما تقول العرب.
وسيكون هذا المستوى بمثابة المقدمة الفنية التي تكشف للقاريء – المحلل – عما يكمن في هذا النص من أفاق فنية توحي اليه بمستويات أخرى للقراءة.
المستوى الحيزي:
ويمكن للقاريء أن ينزلق الى مستوى ثان، باجراءاتنا يتجسد خصوصا في التماس ما نطلق عليه "الحيز" في النص المقروء وهو إجراء من تأسيسنا، إذ لم نصادفه لدى قراء غربيين ولا شرقيين. وتقوم فلسفة الحيز لدينا على أن معظم العناصر اللغوية (السمات ) حاملات للمعاني الحيزية. وقد ينشأ عن هذا السعي أننا نقرأ النص المطروح للتحليل قراءة بهذا الإجراء فنلتمس،مثلا في الشجرة ما يكون كامنا فيها من أحيان عجيبة. إنها تحت كل اعتبار تمنحنا حيزا معلوما. ولا مناص حينئذ من تعويم هذه السمة في السياق الخارجي للنص حتى يمكن تأويل كل الأحيان الممكنة الكامنة: سواء كانت أمامية أم خلفية، فبناء على استعمالها في النص المقروء يتبين لنا هل هي تحيل على شجرة مثمرة أم على شجرة عقيم ؟ وهل على شجرة كبيرة أم على شجرة صغيرة ؟ وهل كانت الغاية في نسج النص منصرفة الى حيزها الأعلى، أم الى حيزها الأسفل ؟ أي هل كان القصد منها ظلالها بما ورفت أم أغصانها بما التفت ؟ وهل كانت الريح ساكنة فيكون لها حيز ثابت، أم هائجة فيكون لها حيز شديد الحركة، أم رخاء فيكون لها حيز بطيء الحركة ؟ وهل كان الزمن نهارا ومشمسا، أما نهارا ومغيما، أم ليلا ومظلما، أم ليلا ومقمرا؟ (والزمن هنا يتكامل مع الحيز ويتضافر معه لتعرية النص والكشف عن مكامن طواياه..) وهل كانت هذه الشجرة قرونية، عتيقة، طالت أغصانها، وتجذرت جذورها وامتدت فروعها في السماء -أفقيا وعموديا – أم كانت شجرة ناشئة فتية لا تبرح تقاوم الطبيعة من أجل أن تمتد في أعماق الثرى بأواخيها؟ أم كان الزمن حياديا لا هو ليل ولا هو نهار، ولا هو صبح ولا هو مساء، ولا هو صحو ولا هو سحاب: فيكون الحيز متمخضا للإطلاق والتوسع. ولكن مثل هذا نادرا ما يحدث.
إن الحيز، كما ترى، ليس كامنا في مثل هذه السمات اللغوية كمونا غنيا فحسب، وانما نلفيه يتنوع ويتجدد عطاؤه بناء على ذكاء القاريء وقدرة قريحته على اختراع الأبعاد الحيزية الكامنة فيه.
وكما ينصرف الحيز، في تمثلنا، الى الامتداد، فهو ينصرف الى امكان اتخاذ الأحجام (هل هي ضخمة أم ضئيلة ؟ ثم علينا أن نتصور حجمها في حد ذاته وهل هو مستدير فقط، أم يتخذ له أشكالا أخرى ثانوية كأن يكون من تحت مستديرا أو شبه مستدير، ويكون من فوق منكسرا؟ وهل هو مستدير من ضر، العمامة الجزائرية والسودانية، أم هو من نوع الشكل الهرمي الذي يبدأ من تحت عريضا مستديرا ولكنه لا يزال يتضاءل في الفضاء الى أن يفتدي مجرد نقطة أم هو من نوع الشكل المستطيل الذي يقوم من فوق الشجرة حين تشذب على نحو معلوم بيد صناع،أم هو من نوع الشكل المربع أو المتبدى على نحو ذلك للعين على الأقل، الذي قد يتشكل بفعل مشذب بارع…؟) كما ينصرف الى الامتدادات التي تتخذها الخطوط والهيئات والأشكال المختلفات كالطرقات، والوديان، والثنايا، والجداول، والأمواج والسحب بديعة الأشكال، والأدخنة المتصاعدة (من التنانير في القرى، ومن المعامل والشاحنات في المدينة. والحيز من الضرب الأول شاعري (مناظر الأدخنة وهي متصاعدة من بيوتات القرى المتجاورة في المساء فترى لها مشاهد حالمة عجيبة )، بينما الحيز من الضرب الأخر دماري تلويثي خانق هالك. ولا سواء دخان يصدر عن احتراق الحطب الطبيعي ودخان يصدر عن احتراق مواد خانقة سامة ).
وكل ما يمكن أن يرسم لدينا رسما، أو يلمس لمسا، أو يبصر بصرا، فهو قادر على أن يكون تحت سلطان الحيز. كما ينصرف الى الأوزان والأثقال التي تتخذها هذه الأشكال الهندسية المتنوعة، بل التي لا حدود لها، حين تتشكل عبر حيز ما.
وكان الحيز قبلنا (وكثيرا ما يطلق عليه أو على ما يقترب منه مصطلح "الفضاء" وقد رأينا أن ما نريده نحن من وراء مفهوم "الحيز" لا يسعه بأي وجه مفهوم "الفضاء" الذي نعده قاصرا عن أن يقدر على احتمال ما نريده له أن يحتمله..) انما يتخذ إجراء في قراءة النصوص السردية (الرواية خصوصا)، لا النصوص الشعرية، بينما نحن توسعنا في استعمال هذا المفهوم،ودققنا من دلالته التي كانت متلابسة مع مفاهيم أخرى مثل المكان الذي نختصه نحن بالحيز الجغرافي الحقيقي، والفضاء الذي نريد به الى كل ما هو فراغ أصلا كما يدل عيه أصل وضعه اللغوي (والحق أن هذا المعنى يطلق أيضا على الحيز الجغرافي الحقيقي حيث إن تعريف "الفضاء" في بعض المعاجم العربية هو "المكان الواسع من الأرض "، بينما نفخنا في لفظ "الحيز" معاني جديدة حيث إنما نريد به الى كل الامتدادات والأبعاد، والأحجام والاثقال، وكل الأشكال المتشكلة على اختلافها وهو لا يمتنع لدينا بحكم هذه التوسعة التي أجريناها عليه، من أن ينصرف اليه مفهوم "الفضاء" لدى المحللين الحداثيين الذين يقفونه على المكان وحده في الغالب. فيشمل كل ما يتحرك، وكل ما يتحرك أيضا من جمادات، وكل ما هو اتجاه وامتداد،وكل ما هو قابل للوزن، وكل ما هو حامل للثقل، وكل ما هو بعامة أهل للتشكل على شكل ما، وقابل للتحرك على نحو ما، وقابل للنتوء والتميز عن أصله على وجه ما.
وأكثر من ذلك إننا اهتدينا الى شيء من الحيز زي علاقة بأصله فأطلقنا عليه الحيز الخلفي وفي هذه الحال يفتدي الحيز الأصلي البادي المدرك "الحيز الأمامي". وربما كان الحيز الخلفي أغنى من منوه الحيز الأمامي وأرحب رحابة، وأوسع سعة، وأبعد بعدا وأكثر امتدادا لقابليته للقراءة الايمائية القائمة على التماس الشيء لمجرد وجود علاقة دالة عليه ومفضية اليه.
فإذا ذكر ذاكر لفظ شجرة مثمرة، وفي مألوف متداولات الحضارة الواهنة فإن حيز الشجرة يكون هو الأصلي. ولكن لا يمتنع من أن يكون له حيز آخر خلفي يجب أن يتمثل في جملة من المظاهر الحيزية التي لا يمكن انكارها: لا عقليا ولا خياليا، مثل:
1- ان الشجرة تنبت، هي أيضا في حيز. وهذا الحيز يجب أن يتسم بشيء من الرطوبة، أي أنه حيز ترابي، لا حجري مبلل أو رطب، وهذا الحيز يتسم بالأواخية بحيث لو كشفت عنه لألفيته يمتد نحو الأسفل في أشكال هندسية تمثل ما يشبه الشبكة من الجذور الضاربة في العمق عموديا وأفقيا، وقل إن شئت في أشكال عمودية طورا، ومائلة نحو الأسفل طورا آخر. فالحيز الأعلى الذي يقوم على أصل الجذع -أو على الجذع الأصلي الذي تتفرع عنه جذوع فرعية – يتخذ شكله في انهواء، على حين أن الحيز الأسفل الذي كان أصلا لحيز الجذع العمودي يتخذ شكله، على الحقيقة والفعل، في أعماق الثرى ولا أحد يستطيع أن ينكر علينا هذا التصور للحيز الخلفي، إذ لو أنكره علينا لكان كمن أنكر أصل الشجرة نفسه، وأنها تخضر في الفراغ وتقوم في الهباء، وهذا أمر مستحيل التصور.
2 – إن الشجرة لا تخضر وتتجذر جذورها إلا بفعل فاعل هو غارسها والقائم على رعاية فسلها باحتفار حفرة لها أو له أولا، ثم بالسقاية ثانيا، ثم الرعاية والمحافظة بدفع العابثين والمخربين والحيوانات التي قد تجتثها اجتثاثا أو تقضم ورق أغصانها فتتأذى من ذلك وتذبل، ثم تتيبس.
واذن فهناك حركة حيزية خلفية هي التي كانت وراء الحيز الأمامي فهو ليس إلا نتيجة، أو ثمرة لحركات أو أنشطة حيزية خلفية، أو خارجية، لولاها لما كان هو أصلا.
ويندرج هذا التصور بحذافيره ضمن ما نطلق عليه مصطلح "الحيززة "، أي النهوض بإفراز المظاهر الحيزية وانتاجها، ولكن ليس بالمفهوم القريماسي (2)، كما ترى، فماذا ترى!؟.
ولقد جعلنا مثل هذا التصور الا نقصر التعامل مع الحيز على النص السردي وحده (فهذا بطبيعته وماهيته يشتمل أصلا، وضرورة، على حيز، أو على مكان، أو عليهما جميعا في تعاملنا نحن (3)، وانما نمتد به نحو النص الشعري الذي بتحليل عناصر الحيز الكامنة في السمات اللغوية يستحيل النص الى ما يمكن أن نطلق عليه "الملحمة الحيزية ": فيزداد عطاء ويتسع نطاقا، وينضر جمالا، ويخرج من الدائرة اللغوية الضيقة، التي تشبه الإطار المعجمي المحدود الى مجال رحيب.
إن الحيز في النص الشعري لا يقل ارتكازا وحركة، وطفوحا ومثولا في الني السردي.
فالسماء، والحديقة والحقل والغابة والنهر والجدول والطير المفردة والطير حين تحلق في الفضاء والأرض الوعرة والأرض السهلة والصحراء الشاسعة والأدغال الملتفة والصخور الصلدة والأشجار المخضرة والحقول الممتدة والروابي المرتفعة والجبال الشاهقة وحركة الرياح وهي تنسج الرمل وحركة المطر الذي يهتن فينبت الزرع، وحركة المشي وهي تتحرك في كل اتجاه، بل الاضطجاع على السرير بل القيام في مقام، بل الاقتعاد في مقعد.. كلها يندرج ضمن مفهوم الحيز لدينا. ولو أهمله مهمل في قراءته لنص شعري لكان أهمل في رأينا أجمل ما فيه وتغاضي عن أبهي ما تنضح به لغته الشعرية من دلالات وظلال.
المستوي الزمني:
قد يكون الزمن أسبق من الحيز وجودا، بيد أن الزمن، في حقيقته لا يستطيع أن يتخذ كينونته إلا من وجود الحيز نفسه، فالزمن خارج الحيز عدم في العدم.
ولكننا نحن لا نريد أن ننزلق الى زمن الفلاسفة، ولا الى زمن الرياضياتيين ولا الى زمن النفسانيين، ولا الى زمن النحاة أيضا، وانما نريد الى الزمن الأدبي الذي لن يتناوله أحد قبلنا، فيما نعلم وعلى الهيئة التي نقرأ نحن بها الزمن في موالج النص ومخارجه.
وتتوازى فلسفة الزمن، لدينا وفي حقيقتها، مع فلسفة الحيز حيث إنه حين يقول قائل "شجرة " (ونحاول التركيز على الشجرة في الزمن، كما كنا ركزنا عليها في الحيز لتوحيد الإطار وتقريب التصور) فان ذلك يعني اشتمالها على شيء من الزمن حتما. فهو لم يقل فسلا، ولا شجيرة ناشئة وانما قال بملء فيه وبعلء الدلالة: شجرة وواضح أننا نعوم قراءة الشجرة في سياقها النصي، ولا نقطعها عن عالمها الخارجي فندفنها في نفسها، فعل بعض التيارات العابثة، وحين نجيء ذلك غالبا ما نضع أمامنا قرينة تدل على ضخامة هذه الشجرة ويسوقها.
ويرتبط الزمن بالشجرة بفضل السياق الذي يمنحها أبعادا وظلالا دلالية كقوله تعالى: (وهزي اليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا) (4) الذي يمتد الى شبكة عجيبة من الدلالات وارفة الظلال:
فالأولى: أن الزمن هنا إعجازي حيث إن مريم، عليها السلام أوحي اليها لتهز الشجرة (النخلة)، فاللحظة الزمنية التي تمتزج بهذه الحركة الحيزية إعجازية، وزمنها مستمد من المقدس والخارق.
والثانية: ان الزمن هنا ماثل، في الغالب وتحت ضوء النهار حيث إن مألوف العادة يقتضي أن يتم ذلك نهارا لا ليلا وان كان زمن الليل غير مدفوع.
والثالثة: أن الزمن هنا، على ظاهره، فصلي أي أنه كان في فصل جني التمور، لكن بعض المفسرين يؤول هذا الثمر على الوجه الإعجازي فيذكر أنه "كان جذع نخلة يابسة في الصحراء ليس لها رأس ولا ثمرة ولا خضرة وكان الوقت شتاء" (5) لكن القرآن العظيم، ذكر النخلة بجذاميرها حين قال: ( وهزي اليك بجذع النخلة )، وبربطها الجني، ولم يذكر جذعا يابسا استحال في تلك اللحظة الى نخلة مخضرة مثمرة بل مثقلة بالرطب اللذيذ. فلم يكن على مريم إلا أن تهز جذع النخلة لتساقط منه عليها ما تريد. فالذهاب الى يبس النخلة وشتائية الزمن، على احتمال وروده بحكم أن الله تعالى قادر على كل شيء، إلا أن المقصود هنا من المعجزة ميلاد عيسى من غير أب، ووضع من غير جماع، لا تحويل الجذع اليابس الى نخلة مخضرة مثقلة بالثمار، والآية على ذلك أن الله تعالى أوحى الى مريم أن تهز النخلة لكي يتساقط عليها رطبها، ولم يجعل النخلة تسقطا عليها وحدها، وهو قادر على ذلك للدفع بالناس الى الحركة والعمل، وعدم الاتكال. وليست حياة الأنبياء اليومية كلها معجزات.
وسواء علينا أكان الزمن شتاء أم ربيعا أم خريفا أم صيفا – فالله وحده أعلم بذلك الزمن لمجرد محاولة قراءة لحظة الهز قراءة إعجازية – فإن الذي يعنينا، خارج إطار الزمن الإعجازي، الشجرة في ذاتها، وأن القرآن العظيم يذكر أن المخاض جاء مريم الى جذع النخله، بالتعريف لا بالتفكير (6)، مما ينشا عن هذا التعريف أنها كانت معروفة لدى الناس في تلك الأرض من قبل، فهي إذن تحمل زمنا عاديا بالضرورة، وبالأساس. أما الزمن الإعجازي فهو تأويلي.
والرابعة: أن هناك زمنا خلفيا يكمن في الأزمن التي تعاقبت على غرس هذه النخلة، وسقيها وتعهدها بالرعاية الى أن اغتدت نخلة مثمرة كريمة.
والخامسة: أن هناك زمنا يكمن في السكون (جذع النخلة)، وزمنا آخر يكمن في الحركة (وهزي اليك بجذع النخلة) واذا كانت حركة الهز في حيز نشأت، فإنها لا تستطيع أن تنشأ أيضا خارج الزمن اذ الهز وقع بعيد اللحظة التي تلقت فيها مريم الوحي من اذ تعالى. فهناك إذن زمن رابع.
والحركة الزمنية برمتها: الناشئة عن هز جذع النخلة، وعن وجود النخلة في حد ذاتها، وعن وجود جذعها الذي هو أصلها، وعن تساقط الرطب والتقاطه من على الأرض تجسد ما نطلق عليه في لغتنا: "الأزمنة " (بفتح الميم ) أو Temporisation.
ولو جئنا نقرأ الزمن في "سمرات الحي في شعر امريء القيس لنشأ عن ذلك زمانان: أمامي، وخلفي، وكلاهما غني قابل للعطاء الثر، والسخاء الدثر. إن كثيرا من السمات اللغوية في النص الأدبي تحتمل معاني الزمن تشتمن بها أمثال الأشجار والأنهار، والأراضي والأبحار، والشمس والقمر، والبنايات والقصور.. وكل حركة مادية تحيل على زمن مثل الأحداث المدلهمة كالحروب، والمناسبات السعيدة كالأعياد وأيام الاحتفالات.
إننا لو نتغاضى عن التعرض لمعاني الزمن الموقرة بها مثل هذه السمات اللغوية لكنا قصرنا تقصيرا شنيعا في قراءتنا، ولكانت القراءة من المستوى الحيزي ربما ظلت ناقصة مبتورة. فالزمنية في مقار بتنا هذه تتكامل مع الحيزية، إذ هما كثيرا ما يتعانقان ويتعاشقان حتى ربما عسر الفصل بينهما. ونحن لم نفزع الى الفصل بينهما إلا من باب تيسير الإجراء في القراءة والا فهما متلازمان لا يكادان يتباينان.
ولقد نعلم أن الزمن، هو أيضا إجراء كان خاصا بقراءة الأعمال السر دية وانصرافه فيها الى الاطار الزمني الذي تضطرب فيه الرواية مثلا، وربما توسع ذلك الى لحنية التعامل مع الزمن عبر الماضي والحاضر والمستقبل. وقد كان الإغريق ينادون، في تأسيس مسرحهم بضرورة وجود الوحدات الثلاث وتضافرها وحدة الزمان ووحدة المكان ووحدة الفعل.
إن اقتصار النظرة على تبادل الأزمنة داخل العمل السردي لا يشبع التحليل الأدبي ولا يمده بكل الطاقات الضرورية له لكي يرقى الى مستوى الإبداع، أي القراءة، لأنه ينهض على تقييد حرية هذه القراءة التي فتمثلها إبداعا آخر، ويجعلها محدودة الأفق محكومة بقوانين لا تعدوها.
التركيب الايقاعي:
نقصد بالتركيب الإيقاعي الى شعرية الايقاع، فما الايقاع ؟
إنا لا نحسب أن هذا السؤال المعقد مما يمكن الجواب عنه بيسر، إذ كان هذا الإيقاع، في حقيقته، إيقاعات متعددة تتخذ لها وظائف جمالية في أغلب الأطوار. ويتسلط الايقاع من الوجهة الفلسفية الخالصة، على كل مظاهر الحياة بما فيها سيرة الكون القائمة على هذه الرتابة المتجددة حركتها بالليل والنهار، والصبح والمساء وتعاقب الفصول، وتعاور النور والديجور.
والحق: إن الإيقاع يتمثل في جملة من المظاهر بحيث كأن كل شيء يشكل في نفسه، ومع غيره أيضا إيقاعا: إذا تكرر على سبيل الانسجام والائتلاف، بل إذا تكرر على سبيل التناقض والاختلاف كتعاقب الفصول.
ويختلف الايقاع عن الوزن في الموسيقى والشعر، إذ إنما الوزن هو انقسام إبداع موسيقي الى أقسام يكون لها، كلها المدة نفسها، على حين إن الايقاع يتشكل من انقسام من جنس آخر مختلف عنه كل الاختلاف: يكون مقحما فوق الذي سلف، ومعطيا أقسام التركيب الماثل مددا زمنية ليست بالضرورة متساوية".(7)
إن الوزن يتشكل من تعاقب منتظم، ومتكرر بغير تحديد، من الأزمنة القوية،والأزمنة اللينة، على حين أن الإيقاع يخضع لقانون آخر مختلف عن الأول، إنه يتشكل من قطع وعناصر جمل ذات امتداد، كما يتشكل من جمل وأدوار أيضا. وان انقسامات الإيقاع يمكن أن تتصاف بالإتفاق مع بعض النقط بالقياس الى الوزن، لكن مثل هذا الاتفاق لا يحدث بصورة مستمرة واجبارية.
إن الوزن حين يمثل لدى بداية تركيب ما يظل قائما بدون أن يعتريه تغيير الى النهاية، فكأنه شكل ميكانيكي. بينما نلفى، الايقاع كأنه خلق جمالي محض (8).
ويتوسع السيمائياتيون في التعامل مع الإيقاع توسعا جديدا ومثيرا حيث إنه مما يعنيه لدى بعضهم أنه شكل دال بحيث يبعد الايقاع عن ارتباطه بالدال الصائت، مما يسمح من هذه الوجهة بإلحاق الإيقاع بالسيمائية البصرية مثلا، كما يمكن عزله عن ارتباطاته بالدال من حيث هو أمر مفض الى
إمكان إيجاد إيقاع على مستوى المضمون (9).
ويبدو أن الايقاع مهما اختلف وتغير وتحول يظل محتفظا أو يجب أن يظل محتفظا، بالقدر الأدنى من التكرار والتواتر. وينطبق هذا على الإيقاع السمعي، كما ينطبق على الايقاع البصري.
ولعل اللغة العربية أن تكون من أغنى اللفات الطبيعية بالإيقاع الذي يجعلها لغة شعرية بالطبيعة، ويمنحها قدرة عجيبة على انتاج العناصر الصوتية فاذا شعرها لا يختلف كثيرا عن نثرها الرفيع. وربما يعود ذلك الى تماثل الصيغ فيها، وتجانس أصواتها وتشاكل قوالبها المرفولوجية مثل: كتب كاتب، وضرب ضارب، وذهب ذاهب، وقال قائل، وسأل سائل، ومال مائل، وعال عائل، وحال حائل، ومثل، أيضا هذه الصيغ الموقرة بالإيقاع والتشاكل الصوتي جميعا: القسي، والجني،والدعي، والسمي، والسخي، والسوي، والنطي، فمثل هذه العبقرية الصوتية التي منها يتشكل الايقاع لا تحظي بها اللغات الغربية فيما نعلم. وهي في أحسن معارضها لا ترقى الى هذا المستوى الفني بالأصوات الذي نصادفه في لغة الضاد مما يجعل الإيقاع فيها كأنه جبلتها الأولى، وعبقريتها الطول. من أجل ذلك ننبهر أمام بلاغة الأعراب في أحاديثهم، وفصاحة الخطباء في خطبهم وجمال الأسلوب لدى المترسلين في رسائلهم، في تراثنا الأدبي، ولا نتحدث عن الشعر لأنه هو الإطار الذي يتبنك فيه الإيقاع ويترهيأ ويتبختر: فيعجب ويطرب.
ولعل الرقص من حيث هو إيقاع حركي، والموسيقى من حيث هي إيقاع صوتي أن يكونا من مظاهر الإيقاع الكثيرة التي تحيط بالإنسان من شدو للطير، وهبوب للنسيم، وعصف للسوا قي وخرير للمياه، وحفيف للأشجار واصطخاب للأمواج كما قد يكون الإيقاع وجها من وجوه تكرار حركة الحياة المتجسدة في مثل وقع الأرجل اللطيفة على الأرض، أو وقع الأيدي الناعمة على الأيدي، أو وقع مكر هذه اليد على آلة مصوتة ما… ولك أن تتمثل بعض هذا حين تنعزل في فضاء رحب، أو تنقطع في طريق لحب، أو تدفع الى منكب مقفر.. فان أي حركة تدل على الدق، أو الطرق أو المشي.. يكون لها صدى يتخذ له عالما إيقاعيا معينا. وليقل نحو ذلك في الأصوات على اختلافها حيث سيغتدي كل صوت قائما بتابعه أو مقابله (صداه ل فمن أزيز الريح غناء، وغثاء الغنم غناء وخوار البقر غناء وهديل الحمام غناء.. وذلك على أساس أن أصل الغناء نفسه صوت قائم على إيقاع مسجوع أو غير مسجوع ولكنه لا يعدم انسجاما.
إننا نفترض أن الحروف (وهي أدنى التقطيعات الصوتية ) إنما جاءت من هذه النغمات الصوتية الطبيعية، ثم لم تلبث السمات اللغوية أن نسجت تركيباتها الصوتية على غرار حروفها المستمدة من طبيعة الطبيعة ذاتها.
ثم لما كانت الحمامة تسجع حين تهدل، واليمامة تسجع حين تفرد، والساقية تسجع حين تخرخر، والأغصان تسجع حين ترف والشفاه تسجع حين ترف… فقد ارتأى الإنسان أن يحسن أدوات التواصل مع صنوه ليتفاهم معه أولا ثم ليؤثر فيه ويقنعه آخر، ثم أيضا ليعبر له عن عواطفه نحوه، أو ليجعله يتحسس الجمال العبقري أو ليبهره ببعض هذا الجمال الكريم ويدهشه به: فنسج اللفظ مع ما يلائمه جمالا ورقة ورونقا، ثم كرر هذه المتلائمات من مثل هذه الألفاظ ذات المواصفات الشعرية لينتهي، آخر الأمر، الى نسج أصوات مقطعة على نحو معلوم بحيث تغتدي لها طبيعة الأصوات الموسيقية (التي هي نفسها، كما كنا أسلفنا القول، أتت أصلا من إيقاع الطبيعة الأولى، في بعض ما نفترض، طبعا) وتقاس بالزمن، لا بالحيز.
وقد عمد الإنسان الى هذه السيرة الإيقاعية فأذابها في معتقداته، ووظفها في طقوسه الروحية فكانت الأسجاع العجيبة لدى الكهان العرب وكان ترتيل القرآن وتجويده والتلذذ الروحي بسماعه لدى المسلمين، وكان الانشاد لدى المسيحيين، وكان الرقص الروحي لدى بعض أهل التصوف… ومن الواضح أن القرآن العظيم قام على الإيقاع العبقري في إعجازه النسجي، فتحدى العرب الفصحاء أصحاب البيان والبلغاء فأفحمهم إفحاما، وبكتهم حتى بكاهم،وما زال بهم حتى أسكتهم، فانتهوا، بعد لأي وحيرة ومكابرة الى الإقرار بألوهيته حين أعجزهم عن أن يأتوا بسورة من مثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.. والذي يعنينا، هنا والآن، إيقاع الشعر الذي يتحسس الألفاظ السخية بالنغم فيتخذها لغة لنسجه: فاذا لغة الشعر هي أرقي الألفاظ المنتسجة، وأجملها وقعا وأحفلها صوتا، وأسخاها نغما.
وعلى أن الحقل السيمائياتي يمكن أن يضيف إضافات نظرية وتحليلية جديدة ومثيرة معا لما يمكن أن يطلق عليه "نظرية الشعر" التي الإيقاع جزء منها، وعنصر جوهري من عناصرها، إذ الدراسات التي أنجزت الى يومنا وفي حدود ما بلغناه من العلم لم تكد تجاوز الوصف دون التحليل والملاحظة دون التعليل، والافتراض دون التقرير، خذ لذلك مسألة تعليل إيثار شاعر من الشعراء إيقاعا شعريا معينا على آخر، فإن ما قيل حواليها وفي حدود ما بلغناه أيضا من العلم، لا يكاد يجاوز مستوى الرأي والاجتهاد: فلم إذن يكون أحد هذه البحور، أو الإيقاعات الستة عشر مثار اختيار لقصيدة ما، ولا يكون إيقاع آخر؟ وما وراء ذلك من علل ؟ وهل المسألة نفسية أم ثقافية أم جمالية أم هل هي تعليمية أم إبداعية ؟ أي هل هي خاضعة لاستحضار إيقاع قصيدة سابقة (تناص إيقاعي)، أم انها تخضع لابنة لحظتها، أي لتلك اللحظة التي يقع فيها الإلهام الشعري فيتجسد عفو الخاطر، وينهال على القرطاس، كما ينهل القطر، وينزل الندى، وكما هو ولا يكون فيه أي تأثير لممارسة من الخارج ؟
ثم هل هذه الإيقاعات التي يختارها الشعراء لمضامين قصائدهم متلائمة في كل الأطوار، مع الإيقاع المؤثر؟ أم أن هناك قصائد ناشزة، إيقاعيا بالقياس الى مضمونها ؟ وهل من سبيل الى وضع قاعدة لا تخرم، أو تأسيس نظرية لا يخرج عنها أحد؟ الى أسئلة كثيرة يمكن أن تثار في هذا المقام. ولعلنا بمقدار ما نثير من مساءلات أن يزداد هم البحث عن الحقيقة وتتوهج نوازعه، ويتضرم التطلع الى المعرفة التي يمكن أن تجيبنا عن كل هذه الأسئلة أو عن بعضها على الأقل، إجابة صارمة ومقنعة.
ولعل أول ما ينبغي التنبيه اليه أن الحرية تظل هي أساس الإبداع في تفاصيل أشكاله. فلا أحد يستطيع أن يتدخل في عمل المبدع سلفا، ولا أن يوجهه بصورة مباشرة الى النحو الذي يجب أن يكتب عليه، أو به، عمله الأدبي. والفرق بين الإبداع والمقالة الصحفية أنك لا تستطيع أن تطلب الى الأول أن يقول فيقول على النحو الذي يخلد ويعظم ؟ وقد يعني هذا أننا نستطيع أن نطلب الى شاعر أن يكتب قصيدة بمناسبة ما ؟ ولكنه إذا لم يك مقتنعا، ولا متشبعا بالفكرة التي يود أن يتناولها، فإن قصيدته ستكون في الغالب مجرد منظومة تعج بالأصوات الجوفاء عجيجا، ثم لا شيء من بعد ذلك بما يرقى بها الى درجة الشعر العبقري.
إن الشعر قبسة إبداعية تلم على الشاعر، كالشحنة النورانية، فيجسدها في قصيدة تبهر وتسحر، وتعجب وتطرب: إذ لا علينا أن يكون الموضوع روحيا كريما مثل بردة البوصيري العجيبة، أم حربيا حماسيا مثل بائية أبي تمام، أم هجائيا خسيسا مثل دالية أبي الطيب في كافور، أم عاطفيا إنسانيا، وفائيا، مثل عينية متمم في أخيه مالك.. فالمضمون كما نرى يفقد من وهجه وعنفوانه كلما مر الزمن عليه ويظل الاعتبار قائما في الشعر وحده، أي في النسج الشعري العبقري،أي في كيفية صياغة القول، وكيفية إفراغ هذه الصياغة في صور طريفة قشيبة عجيبة.
وقد كان زعم جان كوهين شيئا مثل هذا حين قرر مقولة لا تجعل "الشاعر شاعرا بما يفكر أو يحس، ولكن بما يقول. إنه منشيء للألفاظ، لا للأفكار" (10). فكان التفكير، من هذه الوجهة،وما يرتكض حوله: من مجالات المعرفة، على حين أن زخرف القول موقوف على الشعر، إذ قد يكون المضمون خسيسا، لكن الشعر يظل عظيما، إذا كان عبقري النسج حقا. وقد يكون المضمون نبيلا رصين النية ولكن نبله لا يشفع له فتيلا إذا كان النسج الشعري رديئا.
إذن فاختيار الايقاع، وهو مشكل أساس في تركيبة الخطاب الشعري لا ينبغي له أن يخضع لاختيار خارجي، وانما يجب أن يتولد عن اللحظة التي تكتب فيها القصيدة، ثم عن مدى قدرة قريحة الشاعر وعظمة عبقريته في الابتكار والتفرد.
ولكن الأهم في كل هذا، وفي هذا الموطن بالذات، ومما نعتقد أن له صلة وثقى بما نتطلع الى التوصل اليه في هذه الفقرة التي نقفها على جمالية الإيقاع ومكانته في النسج الشعري، هو: ما مدى تلاؤم الإيقاع المؤثر مع المضمون المعالج ؟
ولقد حاول حازم القرطاجني أن يعرض لهذه المسألة اللطيفة في موطنين اثنين على الأقل من كتابه "المنهاج " فأحال أولا على ابن سينا في "الشفاء" الذي لم يختصص في حقيقة الأمر هذا الموضوع بالذات بالرأي وانما تحدث عن بعض مكونات الشعر بعامه (11). ثم حاول هو أن يقرر رأيا تعليليا لاختيار الإيقاع بالقياس الى المضمون المتناول لدى الشاعر فقرر أنه " لما كانت أغراض الشعر شتى وكان منها ما يقصد به الجد والرصانة وما يقصد به الهزل والرشاقة، ومنها ما يقصد به البهاء والتفخيم، وما يقصد به التصغير والتحقير، وجب أن تحاكي تلك المقاصد بما يناسبها من الأوزان ويخيلها للنفوس فإذا قصد الشاعر الفخر حاكى غرضه بالأوزان الفخمة البهية الرصينة، واذا قصد في موضع قصدا هزليا أو استخفافيا، وقصد تحقير شيء أو العبث به حاكى ذلك بما يناسبه من الاوزان الطائشة – قليلة – البهاء. وكذلك في كل مقصد" (12).
لكننا لا نعتقد ذلك، ولم يقنعنا تعليل الشيخ.
إننا نعتقد أن هذه المسألة تخضع، في أغلب الظن، لمعطيات تتعلق باللحظة التي يشرع فيها الشاعر في صب شعره على القرطاس. وتخضع هذه اللحظة الإبداعية نقسها، وهي اللحظة التي تتوهج فيها الشعلة الشعرية الماثلة في طلقة خيالية، لعوامل لعل من أهمها:
1- إن الشاعر قد يكون معجبا بقصيدة حفظها أو قرأها أو سمعها حديثا فأثرت فيه، فجرى شعره على إيقاعها، من حيث يشعر أو من حيث لا يشعر. وهذه مسألة تناصية أكثر منها تقريرية تقعيدية حيث لا مبدع قادر على الإفلات من تأثير القراءات التي تمارس تأثيرها عليه لدى تجسيد الإبداع "الأبيض" الكامن في نفسه على الطبيعة: الى إبداع "أسود" أو حقيقي حين يخرجه الى المتلقين ويبثه اليهم بثا.
2- إن الشاعر قد لا يفكر في أي نص من محفوظاته القديمة أصلا فيكون بريئة، بالمفهوم الإبداعي لا القضائي طبعا، وذلك أننا نفترض أن المبدع حين يعمد الى الكتابة ينطلق من لحظته الإبداعية الماثلة له تحت تأثير طلقة تشبه القبسة الكهربائية: فيقع له صدر بيت (ان كان الشعر عموديا)،ووحدة شعرية، أو سطر شعري (إن كان الشعر جديد): فيندفع وراء النص الذي يجذبه اليه جذبا، ويسوقه نحوه سوقا، فيندفع تلقاءه اندفاع النحلة شطر الزهرة المتفتحة منها ترشف، وحوالها تحلق.إن الشاعر هنا "يقر"، كتابة وهبتها إياه الطبيعة السمحة المعطاء. إن اللحظة الإبداعية توقره بالمشكلات الخيالية، وتحمله بنسائج كلامية عجيبة فلا يستطيع أن يحتملها في نفسه فيفرغها على القرطاس بقلمه.
إن كل العوامل الخارجية (كاختيار البحر أو الإيقاع الذي يجري عليه الشاعر شعر»، فما ذهب اليه القرطاجني يصدق على النظم أكثر مما يصدق على الشعر، فإنه لا نحسب أن أبا تمام فكر وقدر طويلا في الإيقاع الذي يكتب عليه رائعته البائية بعد رفض المعتصم الإذعان لنصائح المنجمين بقصد تأجيل ذهابه الى إنقاذ المرأة المسلمة في عمورية.. إنها لحظة من التاريخ لا يحق فيها لأحد أن يتوانى أو يتراخى، فالمعتصم عجل الى السفر، فكان لا مناص لأبي تمام من أن يجاري الحدث الذي تمضي لحظاته بسرعة مذهلة، ويقول ما يقول، غير مؤثر ذلك الإيقاع بعينه لأنه يلائم ما كان يقول، وانما انهال عليه الإيقاع وما في داخل الإيقاع وما حوله، فأبدع وأعجب..) بالقياس الى الطلقة الإبداعية العارمة تبدو ثانوية. ولو كانت هذه العوامل الخارجية حقيقية وقادرة على ممارسة هذا التأثير بكفاءة لاغتدى كل المتعلمين وغير المتعلمين أيضا (إذا صرفنا الوهم الى الشعر الشعبي): شعراء، فلم يوقف الأمر على طائفة قليلة من الناس دون أخرى؟ وما العلة في كون اثنين من المتعلمين ظلا يعيشان كندماني جذيمة الابرش فيكون أحدهما شاعرا فحلا، من حيث يكون الآخر شعرورا، أولا يكون شيئا من ذلك إطلاقا؟
إن الإيقاع يخضع لإلهامة تنهال، أو تنهل على الشعر لحظة الصفر الإبداعية، فيجسدها نصا شعريا مفرغا على قرطاس. أما ما وراء اختيار هذا الإيقاع، وأن بحر الطويل، أو الوزن الفخم
الباهى الرصين، مثلا، لا يليق إلا بكيت وكيت، وأن الوزن الطائش قليل البهاء، لا يجوز له ان يعبر إلا عن كذا وكذا..(13) فذلك أمر لا ينبغي له أن يجاوز الرأي الذي لا يرقى الى مستوى النظرية، إذ ما أكثر ما ألفينا قصائد طافحة الجمال الى حد السحر والأسر تتناول موضوع الرثاء مثلا دون أن تخضع لإيقاع واحد أمثال مرئيات متمم بن نويرة في أخيه مالك ومرثية أبي الحسن الأنباري في أبي طاهر وزير عضد الدولة حين صلبه هذا بعد قتله، ومراثي الخنساء في أخيها صخر.. فالمضمون واحد وهو الرثاء، لكن الشكل الإيقاعي مختلف من شاعر الى آخر، ومن زمن الى آخر. ومن مكان الى آخر أيضا. ومع ذلك نظل نقر بجمال هذه القصائد وروعتها لأنها حين قيلت، لم يعمد قائلوها، حتما الى التفكير في اختيار الإيقاع الذي كانوا يودون قول الشعر عليه، وانما اندفعوا الى قول الشعر تحت وطأة جشأ العاطفة وجيشانها، فكانت هذه الرائعات من القصائد التي نسجت مادة شعرها بدموع الوفاء وحبر الألم، ولغة الصدق.
ولنا أن نقيس على ذلك المدح والوصف والغزل والهجاء.. فالشكل الإيقاعي يمكن أن يتناول أي مضمون بنجاح فلا يكون المدار على هذا الاختيار، ولكن في عبقرية هذا الاختيار، والارتقاء به من المستوى العادي الى المستوى الباهر الساحر فعل أبي العتاهية حين مدح المهدي بحضور أحبر الشعراء على عهده ومنهم أشجع السلمي، وبشار بن برد، بقصيدته الراقصة والتي يقول في بعضها:
أتته الخلافة منقادة
اليه تجرر أذيالها
فلم تك نصلح إلا له
ولم يك يصلح الا لها
ولو رامها أحد غيره
لزلزلت الأرض زلزالها
فقد علق بشار في شيء من الدهشة، وهو الشاعر الفحل، سائلا أشجع السلمي قائلا: "انظر، ويحك، يا أشجع: هل طار الخليفة عن عرشه " ؟! (14)
فهذا وزن بسيط لا صلة له بوزن الطويل الذي كلفت به الشعراء، ومع ذلك استطاع الشاعر من خلاله أن يبدع ويتفوق في مدحه المهدي. وهذا دليل أخر على أن اختيار الوزن لا صلة له بما رغم القرطاجني، ولا يؤيد مقولته.
إن مصطلح "التشاكل "، كما يفهم ذلك من ظاهر خصائص البناء في الكلام العربي هو تبادل الشكل بين طرفين، أو جملة من الأطراف. بيد أننا نحن نريد التوسع في هذا التبادل الشكلي بحيث نجعله يمتد الى لحل الخصائص المرفولوجية، والنحوية والإيقاعية والمعنوية فهذه هي حدود هذا المفهوم لدينا.
ونلاحظ أننا حاولنا أن نجاوز بهذا المصطلح مستوى الشكل الخالص، والذي كثيرا ما يكون قاصرا عن احتواء المعنى، في تصور أشياع المعنى على الأقل، على الرغم من أن الشكل، في التمثل الحداثي لحقل الدلالة، قد يشمل مشكوله، ولا حرج، فيحتمل كل ما يدل عليه من معان.
ولعل مفهوم التشاكل، هذا الحداثي، أن يزدلف على نحو ما، من المفهوم البلاغي العربي، التراثي، وهو ما يطلق عليا لدى البلاغيين. "المماثلة " التي قد تعرف على أنها من باب ذكر شيء في الكلام بلفظ سواه لقرينة مصاحبة بينهما، إما لفظا، واما معنى.
والاصل في مصطلح "التشاكل " أنه مأخوذ في اللغة الفرنسية من جذرين يونانيين وهما (Isos) ومعناه يساوي، او مساو، و (Topos) (15) ومعناه المكان،ثم جمع بينهما في لفظ واحد مركب من جذرين اثنين فقيل: (Isotopie ) وببعض ذلك تغتدي هذه التركيبة في اصلها عانية المكان المتساوي او تساوي المكان.
وقد أخذ هذا التركيب فاصطنع في المصطلحات الكيماوية والفيزيائية قبل أن ينقله قريماس الى الاستعمال اللسانياتي، ليتولج من بعد ذلك الى الاستعمال السيمائياتي.
ثم أطلقنا نحن هذا المصطلح من باب التوسع على كل حال في المكان من باب التماس علاقة المجاورة، أو علاقة الحالية ذاتها. فكأننا نريد به أن يفكك الى وحدتين اثنتين من الكلام، أي الى نسجتين اثنتين النسيجة الأولى. وتشمل الآيات الأربع الأول:
(الرحمن. علم القرآن. خلق الإنسان. علمه البيان)
والنسيجة الأخرى وتشمل الآيتين الخامسة والسادسة.
(الشمس والقمر بحسبان. والنجم الشجر يسجدان).
ذلك بأن طبيعة النسج في النسيجة الأولى، لدى إرادة تحليلها، تختلف عنها في النسيجة الأخرى، وذلك على الرغم من أنهما تنتميان معا الى بنية نظمية واحدة، وهي البنية التي تطبع نسج الكلام في السورة كلها.. ولو جئنا نقرأ هذين البيتين الشعريين القديمين:
فبكائي ربما ارقها
وبكاها ربما ارقني
ولقد تشكو فما افهمها
لاقتضي الإجراء أن نقرأهما تشاكليا، واحدا بعد آخر على الرغم من أننا نستطيع الجمع بينهما في وحدة واحدة. لكننا لو أقحمناهما في وحدة واحدة لكنا كمن جمع بين الأضداد، إذ مصاريع البيتين الاثنين تتبادل التشاكل على مستوى البيت الواحد، أكثر مما تتبادله على مستوى البيتين.وما تتبادله على مستوى هذين البيتين هو ضرب آخر من التشاكل يأتي في المنزلة الثانية، ويندرج ضمن القراءة الثانية أيضا، لا الأولى.
والمقاربة التشاكلية، من منظورنا، إجراء قادر على أن يغطي النص بالقراءة الأدبية دون أن يذر فيه شيئا كامنا إلا نبشه، ولا شيئا خفيا إلا أظهره، ولا شيئا متواريا الاكشفه، ذلك بأن قدرتها على الانصراف الى فك الرمز اللغوي وتفسير المعنى الكامن فيه، وتحليل النسج المبثوث بين ثناياه هي خصائص قد تجعلها شديدة القدرة على تناول النص والذهاب فيه الى أبعد الحدود الممكنة.
من أجل ذلك فإننا حين نذكر هذا الإجراء، ضمن الإجراء المستوياتي الذي أقمنا عليه مقاربتنا في قراءة النصوص الأدبية على اختلاف طبائعها وأجناسها ليس إلا من باب التفصيل الداخلي، وإلا فإن الاجراء التشاكلي عجيب التسلط على الكلام لأنه يشمل السطح، كما أسلفنا القول، كما يشمل العمق، وينصرف الى تحليل النسج الأسلوبي، كما ينصرف الى تفسير الرمز اللغوي وما يحتمله من معان ودلالات، بصورة متزامنة، أو جملة واحدة. أريت أن القراءة التشاكلية لا يعجزها أن تتناول الزمن الذي كنا تحدثنا عنه في بعض هذه المقالة، كما لا يعيبها أن تعالج الحيز في كل امتداداته.. وكل ما في الأمر، أننا حين نعوم النص في المستوى الزمني مثلا، نبتغي بذلك أن نختصه بتفصيل داخلي يكون وقفا عليه، خالصا له، على حين أننا حين نعرض له في المستوى التشاكلي العام نفتدي مضطرين الى تناوله ضمن المشكلات الأخرى لعناصر التشاكل، فلا ينال إلا حظه الذي يكون في هذه الحال قليلا شحيحا.
ولعل الذي يضاعف من قدرة هذا الإجراء على تناول النص الأدبي تناولا مقتدرا أنه لا يعييه أن يمتد من التشاكل الى التباين، وأن يجاوزا لإئتلاف الى الاختلاف، وغالبا ما يمثل التباين تحت زاويتين اثنتين:
– تحت زاوية القراءة الثانية، أو الثالثة (وذلك لأن الميل من الشكل الى مضمون الوحدة. من الدال الى مدلولها، كثيرا يمنحنا قراءات إضافية بناء على أمرين اثنين:
1- على المعطيات المعجمية للغة.
2- على سياق النسج داخل الوحدة المطروحة للقراءة وهو وجه من القراءة ينهض على التأويل.
– تحت زاوية الدلالة المعجمية الأولى التي تتطلب، في أطوار كثيرة، أكثر من قراءة واحدة.
وواضح أن مفهوم التشاكل، كما يذهب الى ذلك قريماس نفسه (17) لا يبرح مضطربا مرجا، وهو من أجل ذلك، مفتقر الى بلورة تبلوره، وصقلة مفهمية تصقله. وتغرينا حداثة نشأة هذا
المفهوم من وجهة، واضطرابه من وجهة أخرى. بأن نفيد من هذا الضعف المفهومي لنشق لنا سبيلا خاصة بنا في ممارسة القراءة الأدبية.
ولا نحسب أن هذا الضرب من القراءة هو عناية لاهثة بالشكل وحده، ذلك بأن العناية بهذا الشكل ما كانت قط منعزلة عن معنى هذا الشكل، أو عن معنى معناه، كما يقول عبدالقاهر الجرجاني. ذلك بأن تناول أي دال، في مذهب أو سو سير، يقتني حتما تناولا لمدلوله، ولو لم نرد الى ذلك ومن حيث نشعر أو من حيث لا نشعر. فقولنا: "الرجل" ينصرف الى شكه والى جوهره، الى جنسا وقيمته، مثل قولنا: "المرأة " الذي يعني أن هذا الكائن الإنساني يختلف في كثير من المركبات الفيزيولوجية والنفسية عن الرجل وملم جرا.. فاللغة تستلزم المعنى. والمعنى يستلزم اللغة وليست مسألة الشكل والمضمون، لدى نهاية الأمر وأوله، إلا خرافة من خرافات أم عمرو! فهناك اتحاد تام،واندماج مطلق بين ما يسمى لغة، أو ألفاظا أو سمات،وبين ما يسمى مضمونها أو مداليلها. فالدال يحيل على المدلول، وغايته من وجوده هي ذلك، والمدلول يستمد دلالته من الدال، مصيره مرهون بعطاء الدال وما يبثه من معان تنعكس عليه مباشرة. فإنما المدلول يتخذ وجوده من داله، كالقمر الذي يتخذ نوره من الشمس. بيد أن الدال أسبق في الوجود، وأشرف في المثول. فبدون دال لا يمكن أن يكون مدلول، فالدال أصل والمدلول فرع، والدال أول والمدلول ثان.. وهما على كل حال كالروح والجسد، إذا ذهب أحدهما ذهب الآخر. فلا روح بلا جسد، ولا جسد بلا روح.
ذلك، واننا استكشفنا داخل إجراء التشاكل أن الكلام البشري كله يقوم، من الوجهة المعنوية، على قطبين سيمائيين: قطب انتشاري، وقطب انحصاري، أو على ما يمكن أن نطلق عليه أيضا: "الطي والنشر" وقد فتح لنا هذا الكشف مجالا رحيبا لاثراء مفهوم التشاكل والذهاب به، تأويليا الى أبعد الحدود الممكنة. إن التوقف لدى ما كان توقف لديه قريماس لايعني، لدينا، شيئا كثيرا، فهو لا يشبعنا من جوع، ولا يروينا من ظمأ. ذلك بأننا ألفيناه عاجزا بكيا، ومتلعثما عييا، ونحن نريد لمجال القراءة الأدبية أن يتسع الى أبعد ما يمكن أن يتسع اليه. ومن أجل أن نبلغ بعض ذلك كان لا مناص في التفكير في إجراء جديد يكون مطية الى الذهاب في هذه القراءة الى أقصى آفاقها الممكنة.
فهذا الإجراء القائم على ثنائية الطي والنشر، أو الانحصار والانتشار، وهو الذي نزعم مثوله في كل كلام بشري على سبيل الاطلاق، جعلنا إذن نفتح بابا واسعا، ونمتطي طريقا لحب القراءة الأدبية التي تبادر ولا تناذر، وتكشف ولا تقف وتتطلع ولا تتطلع.
ويمثل إجراؤنا التشاكلي، من الوجهة النظرية اثنتين، اساسا (18). احداهما: المقاربه التركيبية وهي التي تجعل القراءة الأدبية للوحدة من الكلام، تنطلق من بداية الوحدة ثم تدور على كل عناصرها اللغوية. من البداية الى النهاية. وتنهض هذه المقاربة، في استكشافاتها التحليلية، على تزاوج السمة اللغوية الأولى، في الوحدة – تزاوجا اعتباطيا على لحل حال – مع الثاني، ثم مع الثالث، ثم مع الرابع، ثم مع الخامس الى نهاية الدورة السيمائية، ثم يقع الانطلاق، من بعد ذلك، من العنصر اللغوي الثاني، أصلا، في الوحدة لمزاوجته مع الثالث، ثم مع الرابع، ثم مع الخامس، الى نهاية الدورة السيمائية (ان لم تكن قد انتهت فعلا). ثم يجاء الى العنصر اللغوي الثالث، في الوحدة المطروحة للقراءة، لمزاوجته مع العنصر اللغوي، ثم مع الخامس الى نهاية الدورة السيمائية..
وكل إجراء تحليلي، منذ منطلقه من العنصر الأول (والأول، كما كان قرر برس في بعض تأملاته المنطقية، قد يكون الثاني، كما قد يكون الثالث، كما قد يكون الرابع، كما قد يكون أي رقم آخر في التصور..) الى الانتهاء الى العنصر الأخير في الوحدة نطلق عليه "الدورة السيمائية".
وأما العلاقة التي تربط بين سمتين اثنتين متجاورتين من اللغة، ربطا اعتباطيا، فإنما نطلق عليها "المزاوجة ". على حين أننا نطلق على العلاقة الاعتباطية المحتملة بين السمتين الاثنتين المتجاورتين الواقعتين تحت تفاعل الدورة السيمائية "قابلية التزاوج " فالزوجان السيمائيان، في هذا التصور، هما كل عنصرين اثنين متجاورين، وعلى أن مصطلح العنصر، هنا بالذات، قد ينصرف الى مجرد معنى، أو سمة مفردة، كما قد لا يمتنع من أن يمتد الى وحدة من الكلام، أو بيت من الشعر.
ويمكن ترجمة هذا السعي الى هذه القيم الرياضياتية.
نشاط الدورة السيمائية أثناء إجراء تحليل الوحدة.
ينطلق السعي من:
آ – ب – جـ -د -هـ ؛
ثم من: ب – جـ -د – هـ ؛
ثم من: جـ -د – هـ ؛
ثم من: د – هـ الخ.
فيحدث التزاوج السيمائي، خصوصا على مستويي الانحصار والانتشار (حيث إن تعويم اللغة ضمن هذا الاجراء ينشأ عنه حتما إما تشاكل، واما تباين ) بين:
آ –
آ – ب ؛
ثم بين: آ – جـ ؛
ثم بين: آ – د ؛
ثم بين: آ – هـ.
ث تنطلق المزاوجة بين:
ب – جـ ؛
ثم بين: ب – د ؛
ثم بين: ب – هـ ؛
وهلم جرا…
والذي نريد أن نؤكده توكيدا ان العنصر قد ينصرف الى مجرد جزء من الوحدة، أو حتي الى وحدة برمتها، كما يتجسد ذك في قوه تعالى: (الشمس والقمر بحسبان)
بالقياس الى قوله:
(والنجم والشجر يسجدان)
فالعنصر هنا، كما رأينا، يتمخض للآية بجذورها، لوفرة شروط الوحدة العنصرية فيها.
والمقاربة الأخرى نطلق عليها "المقاربة الإفرادية ". وهي تتجسد في الإجراء الذي يجتزيء بتحليل العلاقة السيمائية بين سمتين اثنتين أو أكثر، ولكن بدون إخضاع هذا السعي الى الدورة السيمائية. ونحن كثيرا ما راوحنا بين هذين الاجراءين معا في قراءة بعض النصوص الأدبية لتضافرهما وتكاملهما.
ويمكن أن نقرأ بيتين من الأبيات الأربعة التي كنا عرضنا لتحليلها من الوجهة الإيقاعية، في بعض هذه المقالة، قراءة تشاكلية، (ونقتصر على بيتين اثنين فحسب التماسا لعدم الوقوع في فخ الإطناب، بالنظر الى النفس الطويل الذي يفسره هذا الاجراء:
رب ورقاء هتوف في الضحى
ذات شجو صدحت في فنن
ذكرت إلفا ودهرا سالفا
فبكت حزنا فهاجت حزني
رب – ورقاء:
رب: قيد وضع في العربية لتضييق دلالة الحدوث والازدلاف بها من دائرة الشك، أو التوقع والترقب، فهو يحيل على المعنى الانحصاري صراحة حيث إنه يركز الدلالة ويضيقها بالقياس الى السمة التي يعمل فيها، فوظيفة "رب " كأنها كبح جماح دلالة السمة الموالية وجعلها تتسم بالضآلة.
ورقاء: سمة تسم حيوانا، حيا غير عاقل (طائرا) وبحكم هذه المواصفات التي تصفها تتمخض للمعني الانتشاري بحكم أن هذه الورقاء تطير، وهي إذ تطير تتخذ حيزا متحركا في الهواء، كما يكون لو حيز آخر لدى جثومها على الفنن ابتغاء الهديل.
والحيز الآخر هو الوارد في سياق هذه السمة، فهو اذن حيز قار ساكن، قائم في بعض الشجر، ويتسم الى ذلك بموجات صوتية تنتشر من حوله على شكل سجعات متوالية.
والانحصار والانتشار إذا تزاوجا شكلا تباينا لا تشاكلا.
هتوف – في الضحي:
هتوف: صوت منتشر التموجات في الفضاء من حوله، وهذا الصوت بحكم صوتيته يتصف بالزمنية من وجهة، وبحكم صدوره عن حيز حي، وفي حي قائم على كائن حي أيضا
(شجرة ذات أغصان وأفنان ) يتصف حتما بالحيزية، ففي داخل دلالة هذا العنصر اللغوي تزاحم الأضداد، فكأنه شيئان لا شيء واحد. في الضحى: " في " قيد وضع لظرف العناصر اللغوية
الواقعة بعده، ولاحتوائها في داخل حيزه المنغلق، فمعناه انحصاري. ونتيجة لذلك فإنه يحول معنى. السمة الواقعة تحت سلطانه الى معنى منحصر فيه، وتأسيسا على ذلك فإن هذين الزوجين يتباينان (هتوف – في الضحى) ولا يتشاكلان.
لكن التشاكل، يمكن أن يمثل في قراءات أخرى كأن ننظر الى الهتاف على أنه صوت عال شديد جاف، فهو إذن منتشر على سبيل الحتمية، وكأن يمكن أن نجرد سمة "الضحى" من ظارفها ومقيدها " في " ونقرأها في إطار الدلالة العامة لوضعها لتغتدي منتشرة هي أيضا بحكم الزمنية التي تقرها وتتمتع بها فالضحى هو صدر النهار بما فيه من ضياء وأصوات وحركات.. مما يجعل هذين الزوجين منتشرين معا، فيقعان تحت سلطان التشاكل.
ويمكن أن نؤول علاقة تشاطية أخرى نستقيها من منابع تلازم العلاقة بين هتف الورقاء الذي لا يكون، في معظم الأطوار إلا في الضحى. فالتشاكل هنا يقوم على تلازم العلاقة.
كما أن سمة الضحى بعد أن قرأناها في إطار الانتشار، يمكن أن نعود الى قراءتها في إطار الانحصار، وذلك اذا عومنا زمن الضحى في الزمن العام أو في الدهر، إذ سيفتدي منحصرا بين الصبح والظهر بحيث لا يكاد يجاوز ساعتين اثنتين من الزمان. وببعض هذا التأويل تفتدي العلاقة بين "هتوف " وبين "في الضحى" تباينية لا تشاكلية.
فهي إذن علاقة طيعة لدنة ذات قابلية عجيبة لأن تتجه أنى وجهتها.
ذات – شجو:
ذات: قيد انحصاري بحكم علاقة الارتباط بالشجر، وبحكم القصور الوضعي له، فهو لا يستعمل الا مضافا الى سوائه، واذا كان "رب " محكوما بالتقليل والتضييق وما في حكمهما، فإن "ذات " (مذكرة "ذو") قادرة على أن تجعل ما بعدها، أو ما يضاف اليها، يتمتع بالكثرة الكثيرة، فلا يتوقف ذلك إذن إلا على طبيعة السمة اللاحقة بها، أو المضافة اليها.
شجو: سمة انحصارية بحكم أن الشجي الحزين ينطوي على نفسه، ويتجشم الهم وحده في قلبه فهذه قراءة أولى.
ويمكن أن نقرأه قراءة ثانية نمحضها للانتشار المعنوي اذا اعتبرنا أن شجو الحزين يبدو على وجهه فيقطب، وعلى لسانه فيجم،وعلى حاله فتحدر، وقد تستحيل هذه الأطوار الى دموع تذرف،أو أنات تؤن، أو أهات تسمع.. ومثل هذه القراءة تجعل من هذين العنصرين متباينين أيضا، بعد أن كانا متشاكلين.
صدحت في فنن:
صدحت: الصدح يشبه "الصدح في الجهر والاسماع واظهار ما في الداخل من عواطف كامنة ومشاعر متخفية، فهو سمة إذن انتشارية.
في: يتقوقع هذا القيد الذي لا يرقى الى مستوى السمة المتمكنة بنفسها في اللغة، بحكم ظرفيته المنحصرة، في إطار انحصاري على سبيل الحتمية. ولكن لما كان قاصرا، فمن الأمثل تعويمه فيما يأتي بعده إذن.
فنن: الفنن سمة تتمخض للجزئية، قائمة في كلية. وهي تتسم بالاخضرار واللدونة وربما الرائحة أيضا، وهي بحكم ذلك قابلة لأن ترى وتمس، لأنها مشرقة بادية وظاهرة ناضرة: فهي إذن منتشرة مما يجعلها تتشاكل مع سمة صدحت على سبيل الانتشار.
لكن يمكن التماس التباين بين هذين العنصرين من توجهات أخرى كالتوجه النحوي، الذي يجعل منهما متباينين على أساس أن السمة الأولى فعلية، والأخرى اسمية وأن السمة الأولى تنصرف أساسا، الى الزمان والأخرى تنصرف الى الحيز، وان السمة الأولى سمعية، وان السمة الأخرى بصرية ولا تمتنع من أن تكون الى ذلك شمية.
وسيتبين أمر هذه القراءة، للبيت الأول، حين إخضاعها لإجراء التدوير السيمائي:
رب ورقاء هتوف في الضحى:
الدورة السيمائية الأولى
رب مع ورقاء: يجسدان تباينا (قائما على الانحصارية والانتشارية ).
رب مع هتوف: يجسدان تباينا.
رب مع في: يجسدان تشاكلا (انحصارا وانحصارا آخر)
رب مع الضحى: يجسدان تباينا ( انحصارا فانتشارا )
رب مع الضحى: يجسدان تشاكلا (انحصارا وانحصارا آخر في القراءة الأخرى).
الدورة السيمائية الثانية
ورقاء مع هتوف: يجسدان تشكالا انتشاريا.
ورقاء مع في: يجسدان تباينا.
ورقاء مع الضحى: يجسدان تشاكلا انتشاريا.
ورقاء مع الضحى: يجسدان تباينا (بحصر زمن الضحى بين الصبح والظهر).
ورقاء مع الضحى: يجسدان تشاكلا علاقاتيا (إنما الورقاء تهتف في الضحى)
الدورة السيمائية الثالثة
هتوف مع في: يجسدان تباينا قائما على الانتشار ثم الانحصار.
هتوف مع الضحى: يجسدان تشاكلا انتشاريا.
هتوف مع الضحى: يجسدان تشاكلا علاقاتيا.
الدورة السيمائية الرابعة
في مع الضحى: يجسدان تباينا باعتبار أن الضحى نور منتشر و"في" تحاول قرقعته وحصره.
في مع الضحى: يجسدان علاقة تشاكلية قائمة على الانحصار باعتبار أن في حاصر منحصر وان "الضحى" لدى تعويمه في زمن الدهر المتطاول، يغتدي مجرد لحظات منحصرة بين زمني الصبح والزوال.
ذات شجو صدحت في فنن:
الدورة السيمائية الأولى
ذات مع شجو: يجسدان تباينا قائما على الانحصار المناقض للانتشار.
ذات مع شجو: يجسدان تشاكلا قائما على الانحصارية في كل منهما (قراءة أخرى).
ذات مع في: يجسدان تشاكلا انحصاريا.
ذات مع فنن: يجسدان تباينا
الدورة السيمائية الثانية
شجو مع صدحت: يجسدان تشاكلا انتشاريا.
شجو مع صدحت: يجسدان تباينا (الحزن يتخفى، والصدح منتشر مسموع ).
شجو مع في: يجسدان تشاكلا قائما على الانحصار.
شجو مع في: يجسدان تباينا (بالتأويل الآخر لسمة الشجو التي قد تبدو على ملامح المحيا، وفي نبرات الصوت..)
الدورة السيمائية الثالثة.
صدحت مع في: يجسدان تباينا.
صدحت مع فنن: يجسدان تشاكلا انتشاريا.
صدحت مع فنن: يجسدان تباينا من الوجهة النحوية.
صدحت مع فنن: يجسدان تباينا (يتمخض الأول للزمن، والآخر للحيز).
صدحت مع فنن: يجسدان تباينا (يتمخض الأول للسمع، والآخر للبصر وربما الشم ).
الدورة السيمائية الرابعة
في مع فنن: يجسدان تباينا.
ذكرت إلفا ودهرا سالفا فبكت حزنا فهاجت حزني
ذكرت: الذكر إلفا:
ينصرف الذكر هنا، ومن الوجهة المعجمية، الى الذكر (بكسر الذال) الذي يكون باللسان: وذلك بحكم أن هذه الورقاء تذكر هذا العهد الذاهب بصوتها فهو لسانها، ولكن قد ينصرف الى الذكر (بضم الذال ) الذي يكون بالقلب والذاكرة، وذلك لأنها لم تهتف إلا بعد أن وقعت منها الذكرى موقعها.. والذكرى هي إعادة تمثل زهريات وأفعال وتصرفات وأحاديث وكل علاقة تقع بين شخص وآخر، أو بين شخص وآخرين، في أمكنة مختلفة، وعبر أزمنة مختلفة: متقاربة ومتباعدة معا. فكأن سمة "ذكرت " تعني مركزة كل المعلومات التي وقعت في ماضي الحياة وتجميعها وتكثيفها في لحظة من الزمن واحدة، فإذا راعينا أن الادكار هنا قائم في وضع الحال التي تستقبل، فإن المعنى يكون انحصاريا. لكننا إذا راعينا حركة التوارد والتواقع تمحض المعنى الى الانتشار فذكرت إذن سمة تقرأ قراءتين.
إلفا: الإلف هنا وارد بمعنى الرفيق والحبيب والعزيز، وهو كائن حي غير عاقل، ولكنه مجسد، متحرك، طائر فهو إذن انتشاري المعنى وتأسيسا على ذلك فان هذين العنصرين اللغويين يجسدان تشاكلا من الوجهة الانتشارية.
لكن لما كنا قرأنا "ذكرت " بمعنيين: انحصاري ثم انتشاري، فان التباين يغتدي متجسدا في هذين الزوجين اللغويين.
وهناك تباين آخر يمثل على المستوى النحوي (الذي كثيرا ما نهمله في تحليلنا لأهميته الثانوية في هذا الإجراء): حيث إن العنصر الأول فعل، والأخر اسم، فهما اذن متباينان من هذا الاعتبار، بيد أن هناك تشاكلا آخر يمثل على المستوى الزمني إذ نلفى زمن الذكرى يتمخض للماضي المنقطع في حين اننا نلاحظ وجود زمن آخر في سمة "إلفا" يحيل، هو أيضا على ماض غابر. ففي السمتين زمنية من وجهة، وهذه الزمنية متمحضة للماضي الذاهب من وجهة أخرى.
وهناك تشاكل آخر يمثل على مستوى الحيز، ويمكن أن يتجسد في حيث إن الذكرى تنصرف الى جملة من الأحيان التي وقع فيها ما وقع للورقاء (هي الحالة التي أسقطت بجذاميرها على حالة الشخصية الشعرية ). فسمة ذكرت تحيل على شبكة من الأحيان حتما (بالإضافة الى دلالتها الزمنية )، بينما نلفى "إلفا" يتمحض للحيزية بحكم حياته وحركيته وقيامه في حيز على سبيل الوجوب.
فالعلاقة بين هاتين السمتين خماسية 0تشاكلات ثلاثة، وتباينان اثنان.
ودهرا – سالفا:
دهرا:
يتمحض "الدهر" للزمن الطويل على الرغم من اختلاف المعجميين العرب في تحديد مداه (19)، ولكننا نتصوره وقد اتخذ دلالة الزمن على شيء من الإطلاق أو على سبيل الإطلاق المطلق.
ويقتضي سياق القراءة هنا انصرافه الى زمن ماض ليس بالطويل ولا بالقصير، كأنه يعني مجرد فترة من حياة أو عمر. ولما كان عمر الحمامة قصيرا، فان فترة هذا الزمن يجب أن تكون منصرفة الى فصل زمني بعينه.
ولما كان الدهر ممتدا، امتدادا مجردا على كل حال، للدلالة على حال زمنية فهو أميل الى أن يتخذ هيئة الانتشار. سالفا:
سلوف الزمن وسلفه: تقدمه والتقدم هنا منصرف الى المضي والذهاب نحو الوراء، لا نحو الامام. ولذلك كان من الأولى تعريف هذا التركيب بأنه ما مضى من الزمن، ولكن تعريف ابن منظور ماض على أصل الاستعمال القديم للغة العربية حيث يستخدم التقدم مضادا للتأخر. على حين أن التقدم في الاستعمالات العربية المعاصرة يتمخض للمعني الدال على الامام، ومنه قولهم: الأم المتقدمة "بمعنى المتطورة " والتي تستشرف المستقبل.. ويعني "السلوف " في إطلاق العربية: المضي والذهاب، ومنه قوله تعالى: ( عفا الله عما سلف، ومن عاد فينتقم الله منه ). (21) وقوله: (ولا تنكحوا ما نكح اباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ) (22).
وتأسيسا على بعض ذلك فإن سمة "سالفا" تنصرف حتما الى زمن الماضي المنقطع عن الحاضر. ولما كان الزمن لا يضطرب في هباء،فإنه يرتبط حتما بحيز، لكن هذا الحيز كانه دارس عاف، فهو مذاب في زمنه الماضي، وهو مطوي فيه مغمور تحت العدمية الماضية، فهو أميل الى أن يتخذ هيئة الانحصار. لكن ذلك لا يمنع من أن يقرأ على سبيل الانتشار اذا راعينا فيه الحركة التي وقه تحت تأثيرها وهو يسلف وينقضي لحظة لحظة بكل ما ينشأ عن ذلك من علاقة بين كائنين حيين: الورقاء وإلفها مما يجعل من هذه العلاقة تباينية.
ولما كان الدهر زمنا، والسلوف مفعولا للزمن: إذ هو تقطعه وتصرمه وتقضيه انتغابا، فإن هناك زمنية تجعلهما متشاكلين. واذا راعينا أن الدهر لا يكون عدما في معزل عن الحياة والحيز، وان السلوف هنا منصرف، مثل الدهر الى عالم بعينه: كان ثم ذهب، ووقع ثم مضى وظهر ثم غبر، فان الحيزية الخلفية تجعل هذين الزوجين متشاكلين أيضا، فالعلاقة هنا رباعية تشاكلان، وتباينان.
البكاء تذراف الدموع تحت وطأة عوامل خارجية تتسرب الى مجامل النفس التي تجشأ ثم تجيش بفعل حزن (فقدان عزيز) أو ألم ووجوم وخيبة (تهمة أو عقوق..) أو تعرض لضرب مبرح وايجاع شديد (تعذيب ) ولا يكون البكى في اللغات الإنسانية بعامة إلا مصطحبا بصوت، وهو يعرف في العربية تحت سمات كثيرة منها الإجهاش، ومنها الانتحاب ومنها العويل ومنها النوح… فالبكي كما نرى انتشاري المعنى.
حزنا:
على حين أن الحزن وقوع النفس تحت صدمة خارجية فتتسرب الى مطاوي النفس فتستقر فيها ثم تشرع في إفراز جملة من المظاهر التي تبدو على تقاسيم المحيا، وتركب نبرات الصوت وتطفو فوق رنوات البصر، بل ربما تمثلت في حال الصمت الحزين الذي هو الوجوم. فكان الحزن ثمرة من ثمرات البكاء في طور وعامل من عوامله في طور آخر.
فالحزن والبكاء متشاكلان على سبيل الانتشار في كل منهما.
بيد أنهما يتباينان إذا قرأناهما نحويا حيث إن أحدهما فعل والآخر اسم، ولكنهما يعودان الى الانتشار إذا قرأناهما من الوجهة الحيزية إذ البكاء لا يقع إلا في حيز (سيلان الدموع وانهمارها من العينين )، ثم انتشار صوت البكاء في ه ساحة معينة من حول حيز الباكي. على حين أن الحزن لا يقع في عدم، وانما يقع في حيز، وينشأ عن حيز، ليمتد الى حيز آخر (انتشار الحزن في قلوب الناس لدى رؤيتهم منظرا محزنا..)
ونلاحظ أن العلاقات على اختلاف وظائفها ظلت محصورة في إطار الورقاء مع نفسها.
هاج في اللغة العالية متعد فهو وارد هنا إذن بمعنى التهييج هو الدفع بشيء ما كامن خفي، ليظهر ويبدو في حركة حتمية، جسدية كأن تتكون صراخا، أو ضربا، أو بكاء، أو اضطرابا، أو ثورة، أو اتخاذ أي حال من الأحوال الأخريات المماثلة. ففيه اذن معنى الانتشار.
حزني: تقع هذه السمة تحت الوطأة المباشرة لفعل التهييج الذي تعرضت له الشخصية الشعرية التي لم يغمرها الحزن من تلقاء نفسه، وانما جاء بفعل تهييج الورقاء إياه. فلولا التهييج لما كان حزن.
وتتزاوج هذه السمة مع صنوتها السابقة على سبيل التشاكل الانتشاري.
ولكن يمكن أن نذهب بعيدا في قراءة هاتين السمتين بالمشاكلة بينهما حيزيا، وزمنيا، ويمكن التماس تشاكل آخر ينصرف الى أن كلا منهما كائن حي. بيد أن هذا التشاكل يستحيل تباينا إذا راعينا أن الورقاء حيوان أعجم، وأن الشاعر حيوان ناطق عاقل.
ويمكن، من باب العود على البدء قراءة جملة من السمات في البيتين الاثنين في علاقاتهما العامة مثل اغتداء:
صدحت – ذكرت – فبكت – فهاجت
متشاكلة فيما بينها على سبيل المرفولوجيا والإيقاعية والنحوية والإنتشارية جميعا، ومثل سمات:
ورقاء – الضحى – إلفا – دهرا – سالفا -حزنا.
التي يبدو بينها تقارب مرفولوجي وايقاعي عجيبان، ومثل سمات:
هتوف (هتوفن ) – شجو (شجون )، فنن (فننن )، ومثل سمتي:
– فنن – حزني
فهي كلها سمات متشاكلة إما على نحو واما على آخر.
ولعل مقاربة هذه القراءة أن تتضح اتضاحا أكثر، حين إخضاعها لإجراء التدوير السيمائي.
ذكرت إلفا ودهرا سالفا:
الدورة السيمائية الأولى
ذكرت مع إلفا: يجسدان تشاكلا قائما على الانتشارية في كل منهما.
ذكرت مع إلفا: يجسدان تباينا بناء على انحصارية "ذكرت " في القراءة الثانية.
ذكرت مع إلفا. يجسدان تشاكلا قائما على اعتبار القابلية الزمنية في كل منهما.
ذكرت مع إلفا: يجسدان تشاكلا قائما على اعتبار القابلية الحيزية في كل منهما.
ذكرت مع إلفا: يجسدان تباينا مركبا قائما على جملة من الخصائص الشكلية.
مثل أن السمة الأولى فعل والأخرى اسم (من الوجهة النحوية )، ومثل اختلاف البنية المرفولوجية لكل منهما.
ذكرت مع دهرا: يجسدان تشاكلا انتشاريا.
ذكرت مع دهرا. يجسدان تباينا قائما على أساس انحصارية السمة الأولى وانتشارية الأخرى.
ذكرت مع سالفا: يجسدان تشاكلا انحصاريا.
ذكرت مع سالفا: يجسدان تشاكلا قائما على انتشارية كل منهما، كما كنا رأينا لدى تحليل هاتين السمتين.
ذكرت مع سالفا: يجسدان تشاكلا قائما على القابلية الزمنية في كل منهما، مثلهما مثل زوجي "ذكرت مع دهرا" أيضا.
ذكرت مع سالفا: يجسدان تشاكلا قائما على قابليتهما معا للحيزية.
الدورة السيمائية الثانية
إلفا مع دهرا: يجسدان تشاكلا قائما على الانتشارية.
إلفا مع دهرا: يجسدان تباينا قائما على اعتبار أن السمة الأولى تحيل على كائن حي، والأخرى تحيل على معنى مجرد لا حياة فيه.
إلفا مع سالفا: يجسدان الانتشارية.
إلفا مع سالفا: يجسدان تشاكلا قائما على قابليتهما الزمنية.
إلفا مع سالفا: يجسدان تشاكلا قائما على اعتبار الحيزية في كل منهما.
إلفا مع سالفا: يمثلان تباينا على أساس انتشارية الزوج الأول، وانحصارية الآخر.
وتبقى تشاكلات أخرى تشاكل بين هذين الزوجين مثل التشاكل النحوي.
الدورة السيمائية الثالثة
دهرا مع سالفا: يقتضيان تشاكلا قائما على اعتبار الانتشارية في كل منهما.
دهرا مع سالفا: يقتضيان تشاكلا قائما على اعتبار الزمنية في كل منهما.
دهرا مع سالفا: قد يقتضيان تشاكلا آخر يراعى فيه قابليتهما للحيزية.
دهرا مع سالفا: يجسدان في القراءة السياقية تشاكلا آخر انحصاريا، كما كنا رأينا لدى التحليل.
فبكت حزنا فهاجت حزني:
الدورة السيمائية الأولى
فبكت مع حزنا: يجسدان تشاكلا قائما على انتشارية كل منهما.
فبكت حزنا: يقتضيان تشاكلا أخر قائما على حميمية العلاقة بين البكاء الذي هو تذراف الدموع والحزن الذي يفضي الى تفجير هذا البكاء.
فبكت مع فهاجت: يجسدان تشاكلا مرفولوجيا.
فبكت مع فهاجت: يقتضيان تشاكلا قائما على انتشارية كل منهما.
فبكت مع حزني: يقتضيان تشاكلا انتشاريا.
الدورة السيمائية الثانية
حزنا مع فهاجت: يقتضيان تشاكلا انتشاريا.
حزنا مع فهاجت: قد يقتضيان تشاكلا قائما على الحيزية.
حزنا مع فهاجت: قد يقتضيان تشاكلا قائما على قابلية الزمن في كل منهما.
حزنا مع حزني: يقتضيان تشاكلا جنسيا (كل منهما ينتمي الى جنس الحزن، فهما متآخيان معنويا ولفظيا).
حزنا مع حزني: يجسدان تشاكلا قائما على انتشارية كل منهما.
حزنا مع حزني: يمثلان تشاكلا قائما على قابلية كل منهما للحيزية حيث إن الحزن لا يمكن فصله عن حيزها.
حزنا مع حزني. يمثلان تشاكلا قائما على قابلية كل منهما للزمنية إذ يستحيل عزل أي حزن عن الارتباط الحميم بالزمن.
الدور ة السيمائية الثالثة
فهاجت مع حزني: يجسدان تشاكلا قائما على انتشارية كل من هذين الزوجين.
فهاجت مع حزني: يمثلان تشاكلا قائما على التماس العلاقة التي نشأت للحزن فمكنت له في الظهور والبدو بفعل التهييج الذي وقع عليه.
فهاجت مع حزني: هناك تشاكل يشاكل ما بين هذين الزوجين لقابلية كل منهما للحيزية (التهييج لا يجوز أن يقع في عدم، والحزن لا مناص له من أن يرتبط بحيز حي متحرك والحي هنا عاقل إذ هو الشخصية الشعرية نفسها.)
وهناك تشاكلات أخرى كنا عرضنا لها لدى تحليل البيت الأول مثل:
ذكرت – بكت – فهاجت (التشاكل هنا مرفولوجي وايقاعي ونحوي)، ومثل:
إلفا – دهرا – سالفا – حزنا (فن -رن – فن – نن ) (إذ التشاكل نحوي وايقاعي ومرفولوجي..).
احالات وتعليقات
1- ابن منظور، لسان العرب (فضا).
ويجمع الفضاء على أفضية، لا على "فضاءات "، وهو الجمع الشائع بين من لا يعرفون العربية.
2- Cjourtes et Greimas, Semiotique (Spatialisation).
3 – يراجع عبدالملك مرتاض، ألف ليلة وليلة، الفصل الرابع، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1993. بغداد 1989.
4- سورة مريم، الآية:25
5- الزمخشري، الكشاف، 3. ا 1، وينظر أيضا ابن كثير،تفسير القرآن العظيم، 4. 450.
6- الزمخشري، م. م. س.
7. Jean Dubois et autres, Dictionnaire de Linquistique (Rythme).
8. J. Cohen, Structure du langage poetique, p.42.
9. Courtes et Greimas, Op. Cit. (Rythme).
10. Jean Cohen, op. cit
11- أرسطو، فن الشعر، شرح عبدالرحمن بدوي، القاهرة، 1939، ص 163.
وينظر أيضا حازم القرطاجني، منهاج البلغاء، وسراج الأدباء، ص 205، 265- 270، تحقيق ابن الخوجة، دار الغرب الاسلامي، 37، 1986.
12- م.س. ص 266.
13- م، س.
14- ابن خلكان، وفيات الأعيان، وأنباء أبناء الزمان، 1. 221- 222.
15. Grand Robert, (Isotopie).
16- سورة الرحمن، الآيات: ا -6.
17. Cortes et Greimas, op.cit. (Isotopie)
18 – عولنا في تدبيج هذه الفقرة من التنظير على ما كنا كتبناه في مقدمة كتابنا: نظام الخطاب القرآني، دار الثقافة،الجزائر 1995.
19- ابن منظور م. م. س. (دهر).
20- م. س. (سلف ).
21- سورة المائدة 59.
22- سورة النساء 22.
عبدالملك مرتاض ( ناقد واستاذ جامعي من الجزائر)