مدخل .. .
في الصباح أسكب حياتي من قارورة الموت …
في المساء …. أمشط عيني…
أسرح رئتي ….
أغسل بالفرشاة أنفي …..
أحلق لساني …
كي أثبت أني عاقل … لو لليلة واحدة
تقف لتصطاد الملائكة ليلا.. وفي الصباح تجمع اعقاب
سجائر تلك الليلة من تحت السرير، تبسط جثتك على السرير المهتريء مثلها،…. وبينما الأجساد تلتحف بالأجساد تتلذذ أنت
بمياه الهزيمة . وأمامك باب ما ينفك ينفلق حتى ينفتح جالبا
أرواح الشياطين ورائحتهم .
تبيت المساءات الأكثر حزنا للصباح ، وما إن تنسى ذلك حتى
تقوم لتكتب قصيدة لتكتشف أنها لم تكن إلا وصية .
وأنفاسك التي عهرتها المدن تمتصك حتى تصحو في
الصباح بجثة مهزوزة ، تسوق أمامك خطاياك الليلية – التي
سميتها أخطاء.
أطرق بابك ،…. أدخل .. لا ترد السلام .
تشعل سيجارة .
أسألك : …. أترد السلام بالتدخين …
تمتص سجائرك بعنف …
تقف أمامي كتمثال نحته الليل ، أمامك علبة سجائر…
والغرفة كأنها منفضة لتلك السجائر، أقرأ تفاسير جسدك النحيل .
" قبل ساعة بدأ الليل نباحه في وجهه ، قام ليزوج نفسه
لنفسه ، بعدها ذهب للمرحاض كعجوز يحمل سبعين عاما على
ظهره … رجع ليبدأ في تكوين الكون من جديد.. يهدم عوالم
ليخلق عوالم أخرى ليفتفهن كالفقاعات ، يرسم الخرائط ويسيس الأمور… ومن ثم دخلت أنا …. دخلت أنا…. كان هو والليل يلتهم كل منهما الآخر لكنه كان تعسا لدرجة أنه لم ينجح في أن يصبح مجنونا كالليل .. كان يبني أحلاما لتهدمها أحلام أخرى.. أو بالأحرى كان يضاجع الأحلام … شيطنة تلحس البطولة من أخمص قدميها لآخر شعرة من رأسها، كان متمتعا لأنه يقتنع أن الجوع لم يأت بعد.
تشعل الآن لفافة …
.. تصمت لتدخن لخافتك ، تبعث في الأفق دخانا بلون الدموع .
– : أنصحك بالكف هن التدخين .. قلت لك ذات مساء. قلت لي _ : العالم تعس لدرجة أننا ما زلنا أحياء.
لخافتك تنصهر ببطء.. تبعث في الأفق سحب دخان بلون الدموع مرة أخرى أحترم سجائرك … أسكت .
أنظر اليك ، أتذكر الأعوام التي كانت كعين تفقأ العين الأخرى، هي هكذا السنون تلاحقنا، عام يأكل العام الآخر، وخلال الأعوام هذه كنت تحاول أن تضع العالم ،، بعيدا جدا… هنا في قلبي.. حيث كل شي ء يضيع من تلقاء الضحك .. ويومها كنت أنت صفيرا… كنت تدخن وأقول لك :
– التدخين سيقتلك .
– : إنني سيجارة يدخنها الزمن ….، هكذا رددت على ، كنت مراهقا .. أقوالك أيضا كانت مراهقة .
تدخن الآن لفافة جديدة .
– : التدخين سيقتلك ..
لكنك صامت لا تتكلم … تدخن وتهز شفتيك ضحكا.
لماذا لا تتكلم ، هل تخاف أن أفضحك وأخبرهم بأنك كنت تود أن تبصق على العالم .. وتغرقه ببصاقك ومن ثم تموت معه عندما أخبرتك – : أنني بحثت عن نفسي في السماء .. وفي المزابل .. ولم أجدها أعتقد أنني فقدت ما تبقى مني … كنت يومها تناطح عشرين عاما من عمرك … ويومها بكيت أنا وقلت لك :
– : لم أكتشف أنني تعس إلا الآن … والآن أكثر تعاسة ولتوقف الكارثة كارثة أن تفقد نفسك … يلزمك الضحك حتى تموت ، وعندما يأتي الكناسون صباحا ليزيلوا جثتك من الشارع ويغسلوا دعاءك المتخثرة لتبقى الشوارع (أبيض في أبيض ) يكتشفون أنك ميت لكن لسانك ما يزال يضحك .. هم الكناسون طيبون لدرجة أنهم يقطعون لسانك لتموت كأي كائن بشري، كذلك لا يعطون جثتك لحراس المقابر لتصبح جنينا من جديد في المقبرة ، بل يرمونه لأقرب مزبلة هم طيبون .
أخبرتك بهذا،… وضحكت ودخنت سيجارة وقلت لي – : لا يلزمك الضحك .. بل يلزمك البصق . لكنك الآن صامت .. لا تتكلم . تعدم سيجارتك في المنفضة … تضحك ..
أتذكر … أتذكر الأموات .. أمواتك .. لم تكن تبكي كثيرا بل تبكي وبعدها تنفجر ضحكا، وكنت تدخن أيضا.
… تشعل الآن سيجارة جديدة .
تبدأ في رشفها ، تعوم الغرفة في الدخان من جديد.
– : أتحس نفسك عالما لدخان السجائر … بالون مثلا!
يتقلص وجهك غضبا وحزنا ! لكدن ضحكتك لا تختفي عيناك تدوران في محجريهما… تحلقان الى الأعلى ..ويصطدمان بالسقف .
آه .. يا لتفاهتي .. لقد ذكرتك بالموتى ، كانوا يتسربون من بين يديك كالما، من بين الأصابع ، وتبدو الآن بدونهم ككهف مهجور .
تأخذ رشفة أخرى.
تحويك ثرثرتي والظلام … يحويك الدخان – كمن يحضن امرأة ليضاجعها – كلمك ولا تجيب ، بل ترشف لفافتك بسرعة ونهم .
تدخن سيجارة جديدة ، بعينيك تحاول أن تخنق هل من يحاول أن يوقفك عنها ، تمتصها بشراهة ، تمررها بين شفتيك كالحلمة ، تنفث دخانها فقاعات كأنك تعذبها في فمك ، تتفنن في الرشف دوائر ودوائر أصفر بعدها دوائر بحجم رأسك وأخرى
بحجم عينيك … بهمس أقول لك :
– : التدخين يقتلك .
مرة أخرى تغضب ، عينك تنفث في الشرر، لكنك تعود
لتضحك ، ولا تتكلم . لأسليك … أو لأسلي نفسي أحدثك عن النساء حيث يحملن الحزن .. الفرح والجنون … وأشياء أخرى:
– : هل أحببت المرأة التي حدثتني عنها.
تنظر الي كالمخنوق ! .. نظراتك تلتهمني ترشف سجائرك
بنهم.
آه … أي تافه أنا أحدثك عن النساء والشياطين والموتى إنني أثرثر وكأن كل هذا لم يحدث لك !..
إنني أتذكر … بعدما حدثتني عنها قبل خمس سنوات ، جئتني بعدها بأسبوع وقلت لي –
– : إن النساء جواهر خلقن لنا…. لكن المشكلة أنهن هنا.. في قلوبنا ليس في جيوبنا!
بعدها ضحكت … ودخنت سيجارة .
آه أي سادي أنا … أنني أنبش قلبك حيث يجتمع كل شيء النساء والتبغ والشياطين والنبيذ.
ناصر المنجي (قاص من سلطنة عمان)