جيّ . أمّ . كويتزي **
ترجمة: علي عبد الأمير صالح* *
حين يُصبح أكبر سناً يجد نفسه يغدو صعب الإرضاء أكثر فأكثر فيما يتصل باللغة ، فيما يتصل بالاستخدام الضعيف والرخو ، المعايير الهابطة . الوقوع في الحب ، على سبيل المثال . « وقعنا في حب المنزل « ، هكذا يقول أصدقاؤه . كيف يكون بوسعك أن تحب منزلاً عندما لا يستطيع هذا المنزل أن يُبادلك هذا الحب ، يُريد جواباً على هذا السؤال ؟ ما إن تبدأ بحب الأشياء ، ما الذي يتبقى من الحب الحقيقيّ ، الحب كما اعتاد أن يكون عليه ؟ إنما يبدو أنّ لا أحد يكترث . الناس يُغرمون بالأنسجة المُزدانة بالرسوم والصور التي تنجّد بها الكراسي ، يُغرمون بالسيارات القديمة .
كان يرغب أن يصرف النظر عن هذه الألفاظ الجديدة ، هذه البِدع ، إنما لم يستطعْ . ماذا لو أن تكشف شيءٌ ما له ، تغيير طفيف في الطريقة التي يحسّ بها الناس ؟ ماذا لو أن الروح التي كان يحسبُ أنها مصنوعة من مادة سرمدية ، هي لا سرمدية على أية حال ، لكنها في طريقها لأن تغدو أخف ، جادّة أقل ، تكيّف نفسها وفق الأزمنة ؟ ماذا لو لم يعدْ الوقوع في حب الأشياء شيئاً غريباً، بالنسبة للروح ـــــــ لُعبة أطفال، في حقيقة الأمر؟ ماذا لو أن الأشخاص المحيطين به كانوا يحتاجون فعلاً لأن يحسّوا، بمساعدةٍ أرواحهم الجديدة، المُحدّثة ، فيما يتعلّق بالوضع الحقيقي ، الوجع الذي يربطه ذهنياً بالوقوع في الغرام ؟ زيادةً على ذلك ، ماذا لو أنَّ نكد مزاجه لا يعبر عما يُخبر به نفسه أنه يفعل ــــــ صعوبة إرضاء عتيقة الطراز فيما يتصل باللغة ــــــ إنما على العكس ( إنه يواجه الفكرة مباشرةً ) الغيرة ، غيرة امرئٍ ، بات مُسناً جداً ، صلباً جداً ، بحيث لن يكون بوسعه أن يقع في الحب من جديد ؟
إن قصة انشغالاته بملكية الثابتة من السهل أن تُروى . أثناء أعوام حياته ، كان قد حاز ، بالتسلسل ، منزلين وشقة سكنية ، إلى جانب ، على مدى ردحٍ من الزمن ، في الوقت عينه ، كوخٍ على ساحل البحر . في ذلك التاريخ كلّه لا يسعه أن يتذكّر شيئاً ، على الإطلاق ، بحيث يزيّنه باسم الحب . في الحقيقة بمستطاعه أن يتذكّر شعوراً صغيراً ، بأية حال ، إما حين كان يمتلك مسكناً ما ، أو حين ينتقل منه إلى مسكن آخر . ما إن يترك منزلاً حتى يغدو غير مكترث على الإطلاق بمصيره . وفضلاً عن عدم الاكتراث هذا، لم يكن يرغب قط برؤيته ثانيةً . كان فهمه للعلاقة بينه وبين الامتلاك فهماً وظيفياً من البداية إلى النهاية . ما من شيء يضاهي الحب ، ما من شيء يضاهي الزواج .
إنه يفكر بالنساء في حياته ، بزيجتيه بالأخص . ما الذي لا يزال يحمله معه ، في داخله ، فيما يتعلق بأولئك النساء ، بزوجتيه ؟ عواطف متشابكة ، شديدة التعقيد ، في الأعم الأغلب : الندم والحزن تخترقهما ومضات شعور أصعب من أن يفهمه المرء على وجه الدقة ربما يكون له صلةٌ ما بالعار إنما من الجائز أن تكون له على حدّ سواء صلةٌ ما برغبة لم تخمدْ بعد .
المسائل المتعلّقة بالحب والامتلاك تشغل باله ، وثمة سبب لذلك . قبل عام اشترى عقاراً في بلدٍ أجنبيّ : إسبانيا، في إقليم كتالونيا ، بلد يقع في قارة أخرى . لم يكن العقار في إسبانيا غالياً جداً ، لا يبعد كثيراً جداً عن خط الساحل في القرى الخربة لإسبانيا . الأجانب وعددهم ألف ، أغلبهم أوربيون ، إنما من الأمكنة كلّها أيضاً ، حازوا منازل من نوع ما هناك ، « وحدة سكنية» (1) . وقد حاز الآن وحدةً سكنية من هذا الطراز .
في حالته ، هذه النقلة كان لها جانب عملي . كان يكسب رزقه بوصفه كاتباً ؛ وفي هذا اليوم والعمر بمستطاع الكاتب ، أي كاتب ، أن يقيم في أيّ مكان ، وأن يتواصل إلكترونياً بالوكلاء والمحررين بسلاسة من قرية صغيرة كما لو كان مقيماً في مدينة كبيرة . منذ سنوات شبابه ، كان لديه شغف باسبانيا ، إسبانيا الزهو الصموت والرسميات العتيقة . ( هل يحب إسبانيا فعلاً ؟ في الأقل إن حب بلدٍ ما ، حب شعبٍ ما ، حب طريقة حياة ، ليس مفهوماً حديث الطراز . ) لو تسنى له أن يقضي مزيداً ومزيداً من وقته في إسبانيا ، فهو شيءٌ ذو مغزى أن يكون له مكانٌ بوسعه أن يسميه مكانه هو وحده ، منزلٌ تكون فيه أغطية الأسرّة وأدوات المطبخ مألوفة ولن تكون به حاجةٌ لأن يُزيل ما تركه الأشخاص الآخرون من أشياء مُختلَطة من دون نظام .
بطبيعة الحال ، لا يحتاج المرء لأن يمتلك عقاراً إسبانياً كي يقضي وقته في إسبانيا . بمستطاع المرء أن يعمل جيداً بنحو مثاليّ خارج مسكن مستأجَر ، وحتى خارج الفنادق . قد تكون الفنادق الخيار الأغلى ، إنما لا تكون كذلك حين يعمل المرء حسابه ، مضافاً إليها الحوادث العَرَضية كلّها . الفنادق ( الأفكار المتعلّقة بالحب تعاوده دوماً ) على غرار العلاقات الغرامية العابرة . حين يغادرها المرء ، يفارق العِشرة ، وهكذا تكون نهاية العلاقة .
إن شراء منزل ربما لن يكون له معنىً اقتصاديّ ، إلا إنه ذو معنى من نوعٍ أعمق . هو الآن في عقده الخامس : إن لم يكنْ في نهاية العقد تحديداً ، فهو إذاً يدور حول المنعطف المفضي إلى النهاية الصرف . لم يعدْ هنالك وقتٌ للهو ، ولاتباع النزوات والأهواء . المنزل الكائن في كتالونيا ليس حافزاً وليد اللحظة ، كما لم يكنْ علاقةً غراميةً قصيرة الأجل وعابرة . على العكس ، إنه نتيجة عملية اتخاذ قرار عقلانية بنحو بارز . لئن كان ذلك يشبه زواجاً بأية حال ، فهو يشبه زواجاً مُرتباً ، عريس يتوافق مع عروس من خلال وسيط أو وسيطة ، شخص محترف في ترتيب الزواج .
ومع ذلك حتى في الزيجات المُرتبة الزوج والزوجة يُغرمان بأحدهما الآن في بعض الأحيان . هل من المحتمل أن يقع ، وهو في الهزيع الأخير من حياته ، في حب المنزل الذي وجده لنفسه في إسبانيا ؟
المنزل يقوم في شارع قصير عند طرف قرية تُدعى « بيلبيوغ « ، تُطل على حقول زهر الشمس والذرة . وفيه شجرة تين ضخمة ورقعة من حديقة حيث كان بمستطاعه ، إذا شاء ، أن يزرع الحبوب والطماطم العائدة له . كان هنالك قفص أرنب أيضاً ، لو كان لديه ميل لتناول لحم أرنب . كان المنزل قد شُيّد ، إذا تعين عليه أن يصدّق الوكيل ، في القرن الثالث عشر . من خلال ما قراءة عن العصور القديمة الخاصة بكتالونيا ، هذا الشيء ليس مُستحيلاً . الجدران ربما يرجع تاريخها حتماً إلى ذلك الزمن البعيد ، كان سمكها ياردة في بعض المواضع ، وكان القصد من وراء ذلك أن تصد برد الشتاء وحرارة الصيف ، الأحجار المنحوتة جُمعتْ معاً بواسطة مِلاط مُفتَت ربما أصبح الآن رملاً أيضاً .
في بنائه سيكون المنزل غريباً على الدوام . الباب الأمامي المزدَوج ينفتح على فضاء غائر جداً بحيث أنه يناسب لأن يُستخدم فقط كمرآب وورشة ، أو بخلاف ذلك كمَشغل فنان تشكيلي . في إحدى الجهات يوجد سلّم يؤدي ، عبر فتحة صغيرة ، إلى غرف المعيشة والمطبخ . التصميم لن يكون له معنى إلا حين يفهم المرء أن قلب المنزل اعتاد أن يكون حظيرة للماشية ، وأن الفضاء المخصص للسكن شُيّد أعلى الإسطبل وحوله بحيث يكون بمستطاع البشر والماشية أن يتقاسموا دفء دمائهم في الليالي النَجدية الباردة .
خلف المنزل شُيّدت في جانب إحدى التلال قناة تصريف تمتد تحت الأرض كي تأخذ ماء المطر بعيداً . أما السقف ، فالقرميدات حديثة ، مع طابع المبنى القرميدي في « سيربيرا « (2 ) ؛ إلا أن أخشاب البناء نخرتها الديدان بشدّة ، وتهرأت حتى أضحتْ سهلة التفتت ، وربما كانت هي الأخرى تعود إلى قرون . أغلب الظن ، ما إن تمرُّ عقودٌ قليلة أخرى حتى ينهار السقف كلّه على ساكني المنزل ! لكنه عندئذ لن يبالي بالأمر .
المالك السابق للمنزل ( الزوج السابق ، كما يظنّه ) كان بنّاءً من « سانت كليمنت « (3 ) التي تبعد نحو ثلاثين كيلومتراً . كان هو الذي رتّب المنزل ، في وقت فراغه ، وسّع الشبابيك ، كسا الجدران بالجبس ، استبدل إطارات الأبواب ، وضع أسلاكاً جديدة ، نصب غرفة حمام ومرحاضاً غربياً تقليدياً ، قبل أن يبيعه بسعر أعلى من سعر كلفته الأساسية . لا ريب أنه انتقل إلى منزل آخر الآن ، مشروع آخر في قرية أخرى .
لم يكنْ السكان المحليّون ّمرحبين . كانت الاسبانية التي يتكلّم بها ذات طبيعة مُترددة ، مستقاة من الكتب التي طالعها بحيث انها لم تنفعه فتيلاً في أرياف كاتالونيا ، إذ كانت القشتالية (4 ) لغةً أجنبية . كانوا يلصقون به صفة دخيل ما إن يفتح فمه . هذا شيء لا بأس به . لا حقَ له بأن يتوقع ترحيباً . ما كان ينشده ، وما كان يحصلُ عليه ، هو التحمّل . حتى في القرى الصغيرة ، الآن ، تعوّد الناس على الدخلاء الذين ينتقلون للإقامة فيها . الأجانب يشترون الأملاك « العقارات « في فرنسا ، في إسبانيا ، في البرتغال منذ سنوات طويلة . السلطات الإسبانية لم يكنْ لديها اعتراض على ذلك . طالما أنهم لا يمارسون مهناً معينة ، طالما أنهم يجلبون المال ، فثمة مكان لهؤلاء الأجانب .
الشيء نفسه في بلده هو ، حيث تحوّلت أفضل العقارات الساحلية إلى أيدي الأجانب . لم يكنْ بالضرورة يحب هؤلاء الأجانب ، ذوي العادات الشبيهة بعادات الطيور المهاجرة ، لكن ماذا تهمّ الأشياء التي يحبها والتي لا يحبها ؟ جيرانه الكتالونيون ، يعتقد هو ، يحسّون الإحساس نفسه حياله : هم لا يحبونه بالضرورة ؛ فيما بينهم ربما كانوا يتذمرون منه ومن أمثاله ؛ كان أصحاب الحوانيت والمخازن يحتالون عليه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً ، يبررون أفعالهم استناداً إلى حقيقة كون الأجانب يملكون أموالاً طائلة جداً وهم أغبياء على أية حال . لكن فيما هم يخططون بنشاط لإلحاق الأذى به ، كان يشك أن يكون بوسعهم الوصول إلى ذلك الحدّ . لن يقوموا بأيّ شيء من شأنه أن يجعله يشعر بالحرية كما لو أنه في دياره ، مثلما يفعل هو ، حين يكون في وطنه ، لا يقوم بأيّ شيء من شأنه أن يجعل الألمان أو الإنكليز يشعرون بالحرية كما لو أنهم في ديارهم .
خلال الشهور الأولى من إقامته كان يقضي ساعات عدّة يومياً يعمل على المظهر الخارجي للمنزل . خلع الباب الأمامي ، كشطه، صبغه، وعلّقه ثانيةً . فعل الشيء نفسه فيما يتصل بالشبابيك الخشبية . مع أن ذوقه يميل نحو ألوان أخرى ، لوح ألوان مختلف تماماً ، إلا أنه اتبع اللونين السائدين في القرية : لون أزرق ــــــ رمادي باهت ؛ أحمر غامق ، يُسمى هنا « باسك « .
فكك قفل الباب . كانت آلية القفل نفسها بدائية إلى درجة أنها تبدو مُضحكة. في مستطاع طفل أن ينزعه من مكانه . على الرغم من ذلك لم يستبدله ، لكنه اكتفى فقط بتنظيفه ، تشحيمه ، وإعادته إلى موضعه مجدداً . في هذا العالم ، حدّث نفسه ، الأقفال أشياءٌ رمزية . القفل هنا وظيفته أن يترك انطباعاً لدى الناس فيما يتعلّق بالامتلاك ، لا أن يمنعهم من اقتحام المنزل ، إذا ما أراد فردٌ يعادي المجتمع ويتجاوز على حقوق الآخرين أن يقتحم المنزل عنوة .
كان قد اشترى المنزل ، المنزل يعود له، إنما بمعنىً معين ليس إلا ، بمعنى آخر لا يزال المنزل عائداً للقرية التي كان مطموراً فيها . حسناً ، لم يكنْ لديه طموح بأن يخلخل المنزل ويرفعه بالقوة من القرية . لم يكنْ يرغب بأن يكون أيَّ شيء باستثناء ما هو عليه الآن .
كانت خطته في أول الأمر أن يقضي فصلين من السنة هنا . كان يتحاشى فصول الصيف لأنها شديدة الحرارة ، وفصول الشتاء لأنها شديدة البرودة . رجال كثيرون يتزوجون على هذا المنوال ، حدّث نفسه . البحارة ، في سبيل المثال ، يقضون نصف حياتهم في البحر .
لكن بمرور الأشهر وجد شيئاً ما يجري له . لم يكنْ بمستطاعه أن يصرف المنزل من ذهنه . كان يستلقي صاحياً أثناء الليل ، على بُعد خمسة آلاف ميل عنه ، يطفو من حجرة إلى حجرة عبر داخل معتم وخال . بدا كما لو أنَّه يُرسل روحه عبر البحار ، عبر الجبال ، إلى القرية المُغلّفة بالنوم ، يرسل روحه أو يستدعيها ، حتى في ساعات النهار كانت لديه رؤى ذات وضوح عفوي ، مُروِّع : حدوة الحصان الصدئة مُثبتة بمسامير على الباب الخلفي ؛ القالب تحت أنابيب الحمّام ؛ اللطخة ، في أعلى جدار غرفة المعيشة ، حيث سُحِق هناك عنكبوت بضربة مكنسة . ثمة لحظات اقتنع خلالها أنه بقوة الانتباه الشديد وحدها يُمكن إنقاذ المنزل من عدم الوجود.
وها هو ذا هنا، في منتصف الصيف ، في كتالونيا. في برد الصباح يصعد إلى السطح. على يديه وركبتيه ، ومعه مالج ، يبدأ بكشط الطحالب التي نمتْ بين الآجرات. من شرفتها على بعد بابين في عمق الشارع كانت تراقبه امرأةٌ عجوز مجللة بالسواد. كان يأمل أن تستحسن ما يقوم به. « رجل غريب إلا إنه جاد « : هذا ما يأمل أن تفكر فيه .
يزرع نبتة الجيرانيوم ، الوردية والحمراء ، في أصص الفخار ، ويضعها في كلا جانبيْ الباب الأمامي ، مثلما يفعل الجيران . « ملاطفة صغيرة « ، يسميها . ملاطفة صغيرة للمنزل ، مثل الملاطفة التي يقوم بها الرجل من أجل الفوز بقلب امرأة .
لو كان هذا زواجاً ، يقول لنفسه ، فهي إذاً أرملة هذه المرأة التي أتزوجها ، امرأة ناضجة ، تصرّفتْ على وفق ما تعوّدتْ عليه . مثلما لا يسعني أن أكون رجلاً مختلفاً ، لذا يجب عليَّ ألا أريدها أن تغدو ، من أجلي ، امرأةً مختلفة ، أصغر سناً ، أكثر بهرجة ، أكثر أنوثةً وجاذبية .
إنه ، بجهوده هذه ، ينقض ، إلى حدٍّ ما ، اتفاقه غير المكتوب مع القرية . حين ينتقل دخيلٌ إلى هنا ويشتري مِلكاً ، يقول الاتفاق ، يلزمه أن يجلب الفائدة للسكان المحليين : يشتري من التجار المحليين ، يُعطي الأعمال للحِرفيين المحليين . إن العمل الذي ينجزه على المنزل ينتمي بالحق إلى أولئك الحِرفيين . لكن فيما يخص هذه المسألة هو لن يستسلم . إن الشيء الذي انخرط فيه أكثر جدّيةً مما لو كان مجرّد صيانة . إنه عملٌ جوهري ، عملٌ يتعين عليه أن يؤديه بيديه . عاجلاً أم آجلاً ، يأمل هو سوف يكون بمستطاع السكان المحليين أن يفهموا .
القرية ، بطبيعة الحال ، لها ذكريات تتصل بالمنزل تعود إلى زمنٍ يسبق زمنه هو ، وقبل زمن السيد توراس صاحب الصنائع السبع من سانت كليمنت. القرويون يعرفون ـــــــ أو إذا كانوا لا يعرفون ، فآباؤهم أو عماتهم وخالاتهم وأعمامهم وأخوالهم كانوا يعرفون ـــــــ أن الأسرة التي دأبتْ على السكن هنا ، الأسرة التي كبر أولادها وهم يكرهون الغرف المظلمة ، الضيقة ، الجدران الرطبة ، أنابيب المياه عتيقة الطراز ، وما إن فارق والداهما الحياة حتى غسلوا أيديهم من المكان ، وباعوه بثمنٍ بخس إلى السيد توراس ، الذي رتّبه وباعه من جديد إلى رجل غريب لأن الغرباء ( بنحوٍ لا يُمكن تفسيره ) يفضلون المنازل العتيقة وهم مستعدّون لأن يدفعوا أكثر من قيمتها من أجل حيازتها .
لمّا يتزوج المرءٌ امرأةً ، يهتم كثيراً بالرجل الذي تزوجت منه سابقاً ، وحتى بالرجل الذي نامت معه قبلاً، فيما يخص المنزل ، لا يُفترض بالمرء أن يبالي بمَن سبقه في الإقامة فيه . هذه طريقةٌ أخرى يكون فيها التناظر بين الامتلاك والزواج ، بين المنازل والزوجات ، من المفترض أن تتعطل . إنما ليس في هذه الحالة . بين هذه الجدران رجال ونساء ، جيلاً بعد جيل ، عاشوا حياتهم الحميمة ، تحدّثوا وتشاجروا ومارسوا الحب بلغةٍ قلّما يعرفها هو ، وفق عاداتٍ تبدو غريبةً بالنسبة له . لم يتركوا وراءهم أشباحاً ، لا يوجد شبحٌ بوسعه أن يحسّ به . بيد أن هذا لا يهم . إنه يُطيل التفكير فيهم ، بقدر ما يستطيع المرء أن يُطيل التفكير في أشخاص لم يسبقْ له أن لمحهم . لئن كانت لديه صورٌ فوتوغرافية لهم فسوف يعلّقها على الحيطان ، أزواج قساة بثيابهم الداكنة ، أبهى ثياب الأحد ، صحبة أولادهم الجاثمين عند أقدامهم ، الذليلين كالأرانب.
لماذا ؟ لماذا يُريد أن يتذكر أناساً لم يسبق له أن عرفهم من قبل ؟ لسبب وجيه. حين ينقضي وقته هنا، لا يُريد هو أن يكون نَسياً مَنسياً. إن لم تتذكره القرية ( سوف يموت في مكانٍ قصيّ ؛ بعد مدّة زمنية مقبولة سوف يظهر للعيان ، من دون تفسير ، مالكٌ جديد ، وجهٌ جديد ، وهلمّ جرّاً ) ، وبعدها يأمل ( يأمل أن يحصل ذلك مع إنه يبدو شيئاً مستحيلاً ) بأن يحمل المنزلُ نفسه ، بمعنىً من المعاني ، ذكراه.
إن الشيء الذي توصل إليه ، بنحو مدهش ، هو إنه يُريد أن يُقيم علاقةً مع هذا المنزل في بلدٍ أجنبي ، علاقةً إنسانية ، مهما يُحتمل أن تكون سفيهة مسألة إقامة علاقة إنسانية مع حجر وبلاط . من أجل إقامة هذه العلاقة ، مع هذا المنزل وتاريخه والقرية ككل ، قرية تبدو من الطريق السريع ، كما لو أن عقلاً واحداً هو الذي تخيّلها وشيّدتها يدا رجل واحد ـــــــ مقابل تلك العلاقة هو مستعد لأن يعامل المنزل كما يعاملُ الرجلُ المرأة ، يلبي احتياجاتها وحتى مراوغاتها ، ينفق النقود عليها ، يخفف عنها معاناتها خلال أيامها الصعبة ، يعاملها بلطف ورقة .
اللطف .. الإخلاص .. التكريس .. الخدمة .. لا الحب ، ليس بعد ، إنما شيءٌ يشبهه . شكلٌ من أشكال الزواج بين رجل يغدو مُسناً ومنزلٍ لم يعدْ في مقتبل العمر .
المصدر :
Three Stories , The Text Publishing Company , Australia
2014 ، الصفحات 3 – 20 ( الكتاب من الحجم الصغير ، وعدد صفحاته 71 صفحة )
** المؤلف : جون ماكسويل كويتزي John Maxwell Coetzee : روائي ، كاتب مقالات ، وأستاذ لسانيات ، ومترجم من جنوب أفريقيا ، نال جائزة نوبل للآداب سنة 2003 ليصبح ثاني كاتب جنوب أفريقي يفوز بالجائزة بعد نادين غورديمير. كما نال جائزة البوكر العالمية مرتين ، وجائزة فيمينا الفرنسية الخاصة بالآداب الأجنبية ؛ يحمل شهادات دكتوراه فخرية عدّة ، وهو أحد كتاب الإنجليزية الذين ينالون مديحاً بالغاً ويحظون بتكريم وتقدير عاليين . ولد كويتزي العام 1940 في كيب تاون ، جنوب أفريقيا ، وبدأ حياته الروائية سنة 1974. نشأ في بيت يتحدث الإنجليزية رغم أصوله الهولندية وهو يتحدث اللغتين بطلاقة . ومن أعماله الروائية المترجمة إلى العربية : « في انتظار البرابرة « ، « خزي « ، « إليزابيث كستلو « ، « الرجل البطيء « . كما نشر ثلاثة مجلّدات من المذكرات الأدبية .
الهوامش
1 – وحدة سكنية : وردت بالفرنسية pied-à-terre في النص الإنجليزي الأصل – م .
2 سيربيرا Cervera : مدينة ومركز مقاطعات سيغارّا ، محافظة ليدا ، إقليم كتالونيا ، إسبانيا – م .
3 سانت كليمنت Sant Climent : هي إحدى بلديات مقاطعة برشلونة ، والتي تقع في منطقة كاتالونيا ، شرق إسبانيا. يبلغ عدد سكانها نحو أربعة آلاف نسمة . اسمها الكامل : سانت كليمنت دي يوبريغات – م .
4 الإسبانية أو القشتالية Castilan : هي اللغة الرسمية للمملكة الأسبانية وهي أيضاً اللغة الرسمية لمعظم بلدان أمريكا اللاتينية – م .