مقدمة:
بالنظر الرصين في مصنفات العمانيين القدامى، نتبين أمامنا مشاركتهم في بناء الثقافة العربية الاسلامية، مشاركة بلغوا فيها شأوا لا يستطيع أحد أن يجحده ولو أراد. فقد سبروا أغوار التفسير والحديث، وتضلعوا بالأصول والكلام والفقه، وبرعوا في اللغة والتاريخ، وتفوقوا في الابداع بشقيه المنظوم والمنثور… غير أنني لاحظت منهم بعد مخابرة ومعاشرة. فتورا في الاهتمام ببعض فروع ومباحث علوم القرآن، وقصدي الى علم القراءات وما اليه، حتى اذا بلغنا سنة (1997م) ظهر في معرض عمان الدولي (1) كتاب يحصل عنوان "القراءات الثماني للقرآن الكريم". وضعه رجل عماني اسمه: الحسن بن علي بن سعيد العماني، وكنيته أبو محمد (2).1
أقول: رجل عماني لأنني لم أعرفه من جماع مقدمة التحقيق التي تخصص عادة للتعريف بصاحب الكتاب ورصد سيرته العلمية. واستيعاب مراحلها ومراتبها، حتى تظهر ملامح صورته واضحة القسمات أمام القراء، ولم يزد المحققان الفاضلان في تقديمه لنا على كلام ضئيل دونك نصه: "… نزل مصر بعد الخمسمائة… ومن شيوخه أبو الحسن علي بن زيد بن طلحة.. ولم نهتد الى ترجمته.. وللعماني كتاب في الوقوف لم يصل إلينا.".
وليس هذا الكلام من جنس ما قل ودل متى ننغمر في تفسيره وتأويله. ولكنه كلام يحتاج الى آخر يسنده ويقويه، وذلك ما سأحاوله مساهما مني في إبراز جهود العمانيين في علم القراءات من جهة، واعترافا بفضل هذا البلد الكريم، وحبا لأهله الطيبين الذين صادقتهم فصدقوا، وعاشرتهم عقدا من الزمان فلم أر منهم إلا حميا كريم المعشر. رقيق المحضر، ولعلي بهذا أصحح نظرتي أولا، وافتح باب الكشف عن بعض أسرار هذا الرجل، عسى أن يلجه من أراد من بعدي، وفي يده مصباح أنور مما في يدي الآن.
التعريف بأبي محمد:
ولنبدأ أولا بالاقتراب من القرن الذي عاش فيه، لم نصادف أحدا ممن ركب متن الشك في عمانيته، بل إنه لا يقدم إلا ممهورا بالعماني!
لقد ذكر المحققان أنه نزل مصر بعد الخمسمائة وكان ابن الجزري أكثر تحديدا بقوله: "وقد كان نزل مصر، وذلك بعيد الخمسمائة.. (3) وذكر صاحب كشف الظنون أنه توفي في حدود (400هـ) (4) ونقرأ في مكان آخر انه توفي نحو (669هـ) (5).
وهذه – كما ترى – تواريخ موغلة في التفاوت لا يستطيع الحاذق الماهر أن يؤلف بينها أو يقرب أطرافها، لأنها تتدحرج في خط زمني ينيف امتداده على القرنين ونصف!! وليس لنا إلا أن نزكي أحدها ونفند ما عداه ونلفظه، وذلك أمر يحتاج الى بينة موضوعية سنتمكن – إن وجدناها. من سد فجوة سحيقة، وتصحيح خطأ تاريخي فادح.
وبعد البحث الؤوب، والتحري المتواصلن كدت ارضي من الغنيمة بالاياب، الى أن قرأت جملة في أحد كتب اللغة تقول: حكى العماني عن ابن هشام (6) فلما استنبت وجهت أن العماني هو نفسه أبو محمد المبحوث عنه، وجهت الانتباه الى البحث عن ابن هشام، هذا الذي حكى عنه صاحبنا، ولم يلقه، ولم يأخذ عنه!
إنه محمد بن أحمد بن هشام بن ابراهيم بن خلف السبتي الأندلسي، نحوي، لغوي، مشارك في بعض العلوم، عالم بالأدب… سكن سبته.. قال ابن الابار: وجدت الأخذ عنه والسماع عنه في سنة (557هـ) توفي باشبيلية عام (557هـ) (7) وحدد صاحب معجم المؤلفين وفاته في (570هـ) بينما تقدمت بها الموسوعة المغربية الى عام (557هـ) (9).
وتلك تواريخ متقاربة لا تطرح مشكلا البتة بقدرها تشجع على السير في ركاب من أرخ لموته بحوالي (669هـ) لأن العماني كان – كما سنرى – ينقل عن ابن هشام. رحمهما الله –
ولا نقدر على الاقتراب هن حياته أكثر من هذا القدر، ذلك أن كتب التراجم والطبقات والأخبار أغفلته إغفالا مريبا حال دون اقتحام تفاصيل نشأته، وأولويات دراسته، وسيرته العلمية طالبا ومطلوبا، ومواطن وروده وصدوره، ومقر وفاته وعدد كتبه.. الخ.
وشكرا لشمس الدين أبي الخير محمد بن الجزري (توفي 833هـ) الذي خص له ترجمة نافعة على قصرها، يقول: "الحسن بن علي بن سعيد، أبو محمد، العماني المقريء، صاحب الوقف والابتداء، امام فاضل، محقق. له في الوقوف كتابان أحدهما (….) (10) والاخر المرشد، وهو أتم منه وابسط، أحسن فيه وأفاد…" (11) ولعل كل الذين ترجموا له من بعده استندوا عليه، ورجعوا اليه (12).
أما الزركشي فقد عده من أشهر المؤلفين في وقوف القرآن (13).
وأما أبو الحسن علي بن محمد السخاوي المتوفى عام (643هـ)، وهو من معاصري العماني، فأورد في كتابه "جمال القراء وكمال الاقراء" نماذج من آرائه في الوقوف ثم عقب عليها محللا ومناقشا (14)، هما يوحي بقوة أن العماني عاش في مصر، وأن مؤلفاته كانت مشهورة متداولة في حينها.
والظاهر من خلال التحليات والنعوت التي خلعها عليا ابن الجزري: (مقريء، امام، فاضل، محقق) أننا أمام عالم مرموق، متضلع بعلوم القراءات حتى نسب اليها واختص بها، ثقة، أمين. واذا عززنا بصفة الحافظ (15) وثقنا في تفوقه وبروزه وسعة اطلاعه. وما أظن أن في هذه الصفات الدالة مبالغة أو غلوا، إذ لم نسمع عن ابن الجزري إلا كل خير!
مؤلفات أبي محمد:
إن الحديث عن أي عالم مشارك دون مؤلفاته حديث ناقص كالطعام المسيخ، وكلام مشوه لا يقبله إلا مضطر، ولذا رأيتني أشتد وأحتد في طلب إضافة مميزة لكتابه القراءات الثماني المتداول، فوجدت له ثلاثة كتب أقدمها فيما يلي:
أ- في القراءات:
* كتاب المغني:
وموضوعه معرفة وقوف القرآن الكريم، ولا أعلم أن أحدا ذكره أو أشار اليه أو حدد مقرا لوجوده في الخزانات العامة والخاصة، إلا ما كان من صاحبه نفسه حيث قال في مقدمة كتابه المرشد: " لما وقع الفراغ من الكتاب المرسوم بالمغني في معرفة وقوف القرآن على شرط ما ذكره أبو حاتم وأبوبكر – رحمهما الله – وكنت اقتديت في إملائه بهما على ما ذكراه…" (16).
المرشد:
وهو أسعد حالا، وأوفر حظا من سابقه إذ اعرفنا أنا موجود في موضعين على الأقل هما:
1- مكتبة الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة، ودونك الافادات التي تمهد سبيل الوصول اليه:
اسم الكتاب: المرشد
اسم المؤلف: العماني أبو محمد الحسن بن علي بن سعيد (ت نحو: 669هـ).
اسم الناسخ:محمد ناصر.
تاريخ النسخ: 760هـ.
نوع الخط: مشرقي
عدد الأوراق: 205
عدد الأسطر: 17.
رقمه في القسم: 5709 رقم الحاسب:
576/04
مصدره: تركيا – اسطنبول – مكتبة جامعة استانبول رقم (6827).
2- الخزانة العامة بالرباط، وعنوانه فيها:"المشرد في تهذيب وقوف القرآن، وتحقيقها" ووجوه تقاسيمها وعللها وأحكامها. تصنيف الشيخ الفقيه الامام المحقق: أبو محمد الحسن بن علي العماني المقريء. رحمة الله عليه، ورضوانه اليه". وهو الجزء الثاني منه، مرتب تحت رقم: ق 566، عدد أوراقه (273 صفحة). خال من اسم الناسخ وتاريخ النسخ. وعليه عدة تملكات..
أما جزؤه الأول فكان موجودا بخزانة دار العدة بواحه فجيج (17) وهي خزانه كان لها شأن عظيم شرق وغرب، وسار به الركبان. ثم تفوقت شذر مذر حتى لم يبق منها إلا الأثر على حد تعبير أحد العلماء الرحالين المغاربة حين زارها قبل بضعة قرون، ولم يبق منه بها الآن الا صفحته الأولى نورد منها ما نرى أنه مهم في التعريف به.
"… قال أبو محمد الحسن بن سعيد العماني – غفر الله له ولوا لديه ولجماعة و المسلمين: أما بعد، فلما وقع الفراغ من الكتاب الموسوم بالمغني في معرفة وقوف القرآن على شرط ما ذكراه أبو حاتم وابوبكر – و رحمهما الله – وكنت اقتديت في املائه بهما على ما ذكره، وسلكت فيهما طريق الاختصار والايجاز عليه بهذا الكتاب الذي هو أتم منه، ومن سائر الكتب المعمولة في هذا العلم، وأن أورد فيه جميع ما أورده أهل الوقوف متفرقة في كتبهم على اختلاف آرائهم فيها، ووجوه ة اختياراتهم في تقاسيمها متقصيا لحقائقها، وسالكا في شرحها، والكشف عن أسرارها وفهم ما يتجاذبه من خلاف أهل النحو والقراءات فيها ليكون كتابي هذا قائما بنفسه ومتقدما في جنسه، وسميته المرشد، وسميته لخزانة القائد الجليل أبي علي الحسن. أطال الله مدته وحرس على العلم وأهله مهجته وأدام لهم دولته، وأحسن على الأحرار وأهل الفضل جزاءه، ولا أزال عنهم بماله ونهاه قاضيا لحقوقه، وإن كان أكثر من أن يأتي: عليها شكري، ويبلغها وصفي ونشري، والله ولي حراسته واياه نسأل العصمة من الزلل، والتوفيق للصواب بمنه وجوده.
قال أبو محمد: ينبغي لقاريء القرآن أن يجود قراءته ويحسن تلاوته… الخ.
لقد أعطت هذه الديباجة المكثفة للمرشد طابعه الخاص وكشفت عن منزلقه ومستواه قبل أن نطلع على تفاصيله، وننغمر في استغراقاته،وكيف لا، وهو قائم بنفسه ؟! متقدم في جنسه ؟! وزاده أهمية أن قبله القائد أبوعلي الحسن مصدرا من مصادر خزانته، وان كنا لا نعرف عنه إلا انه محب للعلم، راع للعلماء، محتف بأعمالهم.
ويبدو أن الجزء الأول ينتهي عند آخر سورة النساء ثم يبدأ الجزء الثاني بسورة المائدة هكذا: "أوفوا بالعقود وقف تام، وهو رأس آية عند غير أهل الكوفة، وأنتم حرم كاف. ذكرها أبوحاتم. ووسمه الأول بالتمام. ما يريد تام. ورضوانا مفهوم نص عليه أبوحاتم. فاصطادوا حسن. أن تعتدوا حسن. ذكر هذه الثلاثة أبوحاتم. (18).
ولنن كان وقوف القرآن هو مركز الثقل في الكتاب، واتجاهه الغالب عليه فإنه يحتضن كثيرا من الفوائد المتعلقة بالمعاني والاعراب والأخبار والآراء الطريفة، مما يجعله جديرا بإخراجه الى الوجود ليكون متداولا بايدي الناس من جهة وشاهدا على جهود العمانيين في علوم القرآن من جهة ثانية. وحتى يكون كلامنا موثقا وموثوقا نختار هذا النموذج الذي يجمع بين المعاني والاعراب دون القراءات: «… وقوله تعالى: "وتعاونوا في موضع جزم بالأمر، والواو فيه للاستئناف، وليست معقوفة على قوله أن تعتدوا. ومعنى قوله: "ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا". أي: «ولا يكسبنكم بغضكم قوما لصدهم إياكم او بصدهم إياكم عن المسجد الحرام الاعتداء. فإن الأولى اللام معها مقدرة والباء وموضعه من الاعراب النصب، وقيل الخفض وأن الثانية وما بعدها بمعنى المصدر، وهو في موضع النصب..الخ » (19).
وهذا نموذج آخر من الفوائد التي كان يطرز بها العماني مرشده:
سورة المسجدة: «روي عن النبي (ص) أنه كان يقرأ في كل ليلة سورة السجدة: ألم تنزيل… وسورة تبارك الملك. وروي عن كعب الأحبار بأنه قال من قرأ سورة السجدة كتبت له سبعون حسنة، وحطت عنه سبعون خطيئه، ورفعت له سبعون درجة (20).
وللعماني في المرشد منهاجه وأسلوبه وأدواته ومصادره، وسنكتفي بوقفة قصيرة أمام بعض الخطوات التي تتعلق بالمنهاج معترفين أننا لم نتعمق فيه طمعا في وقفة أخرى تكون أكثر دقة وتأنيا.
أبومحمد يعلل ويناقش:
إن من يطلع على هذا الكتاب سيجد، العماني يتعدى تقديم النتائج الى المناقشة والتحليل والتعليل ثم يقض بحكمه، أو يعتمد حكما مختارا من قبل كما هي الحال في هذا النموذج التمثيلي.
«قوله تعالى: وعد اشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات هو تمام الكلام، لأنك إذا قلت: وعدت الرجل. علم أنك تريد: وعدته خيرا واذا قلت: أوعدته. تريد أوعدته شرا. فإذا ذكرت الموعود فانت مخير، إن شئت قلت وعدت وفي الشر أوعدت، فقوله: وعدائه الذين آمنوا وعملوا الصالحات يدل على الخير، كأنه قال: وعدهم وعدا حسنا ثم بين الوعد الحسن. أو الخير الذي يدل عليه وعد، فقال: لهم مغفرة وأجر عظيم، وهذا هو اختيار الزجاج (21).
ودونك نموذج آخر يكشف بصورة أوفى عن شخصية العماني وطريقته التي تعتمد على الاستخدام العقلي. والحوار الشفاف: «لا يستوون» (سورة السجدة الآية: 18) حسن. ذكره أبوحاتم وصاحبه. وزعم بعضهم أن الوقف عند قوله:فاسقا، وقال والمعنى لا يستوي المؤمن والفاسق وليس هذا الوقف عندي بشيء. والوقف هو الذي نص عليه أبوحاتم والمعنى الذي ذكره هذا الزاعم هو الذي يوجب الوقف على قوله: لا يستوون، لأنه لما قال: أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا، نفى التسوية بينهما، ثم أكد النفى بقوله: لا يستوون، فهو الوقف الحسن (22).
أبومحمد يذكر الآراء المختلفة:
ومما يميز طريقته المنهجية عدم اجتزائه برأي واحد قد لا يكفي لنصوع رأي أو وضوح فكرة، والا فلماذا تتنوع الأفكار وتختلف الآراء ؟ يقول: "قوله تعالى: قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله (سورة المائدة – الآية 60) اختلفوا في إعراب قوله: من لعنه الله. فقال قوم: هو خفض على تقدير بشر من ذلك من لعنه الله. وقال آخرون: هو رفع بإضمار هو، كأن قائلا قال: من ذلك ؟ قيل: هو من لعنه الله. وشبهه الزجاج بقوله تعالى: قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار (23) (سورة الحج الآية 72).
ويقول في موضع آخر: «قال (أبوحاتم) فبشر عباد تام لأنه رأس آية. قلت أنا: هو وقف مختلف فيه إن جعلت الذين يستمعون القول صفة لعبادي لم تفصل بينهما ووقفت على قوله فيتبعون أحسنه، ثم تبتديء: أولئك، على أن يكون مبتدأ وخبره الذين هداهم الله. وان جعلته مبتدأ ولم تجعله صفة لما قبله كان الوقف على قوله: فبشر عباد تاما، وتبتديء: الذين يستمعون على أنه مبتدأ، وخبره أولئك الذين هداهم الله. ولا تقف على: فيتبعون أحسنه. لأنك تفصل بين المبتدأ وخبره. وعلى الوجهين جميعا الوقف عند قوله: هداهم الله جائز. والوقف التام: أولو
الألباب (24).
أبو محمد يدل بآرائه الشخصية:
والذي يبين لنا بجلاء أن أبا محمد رحمه الله – ليس جماعا ولا حاطب ليل تلك الآراء المتدفتة من صميم شخصيته وأصالة فكره. يميزها بالصيغة المشهورة بين القدماء: قلت أو قلت أنا أو قال أبومحمد..
وأمثلتها كثيرة منها: "قال الزجاج: المعنى ووصينا الانسان أن أشكر لي ولوالديك أي وصيناه بشكرنا وشكر والديه. قلت: فإذا كان الأمر كذلك، فلا وقف حتى يبلغ والديك، وهو الوقف الحسن، ثم الوقف التام الى المصير (25).
وفي قوله تعالى من سورة القيامة: أين المفر كلا… يقول العماني: الابتداء بها. أي بكلا – على معنى حقا أقوى من معنى الا.. (26).
واذا أضفنا الى ما خلا تحريه في نقل النصوص، ونقدها كلما دعت الحاجة الى نقد استطعنا أن نكون صورة أولية عن خطواته المنهجية السديدة المطبوعة بشخصيته.
وأختم الحديث عن المرشد بالاشارة الى أنه قد وقع تلخيصه في كتاب تحت عنوان: "المقصد لتلخيص المرشد" وضعه الشيخ زكريا بن محمد الأنصاري (824-926هـ) وهو عالم مشارك في شتى صفوف العلم والمعرفة (27).
شرح الفصيح:
والفصيح في اللغة لأحمد بن يحيى المعروف بثعلب (200-291هـ) أشهر من فلق الصبح، اهتم به اللغويون أيما اهتمام فشرحوه، ونظموه في أراجيز وأبيات وعلقوا عليه.. ووضعوا حوله الحواشي.. ومن جملة هؤلاء أبو محمد إلا أن شرحه ظل مغمورا لم يعرفه أحد غير قلة قليلة من نجبة اللغويين، ونبهائهم، وهذا لا يقدح في قيمته، ولا ينقص من أهميته فتيلا لأنها مسؤولية التاريخ الذي طمس تعاقبه كثيرا من أعلاق المخطوطات ونفائسها، لأعلام أشد شهرة من أبي محمد! ولو نفض الغبار عن آثار أجدادنا الخطية وطبعت لرأينا لأبي محمد وغير أبي محمد شأنا أكبر وصيته أشهر، ومصنفات عدا التي اجتهدنا في الكشف عنها. فهل كنا سنعرف شرحه هذا لو لم يحقق كتاب أحمد بن يوسف الليلي الفهري (613- 691) الموسوم: بتحفة المجد الصريح في شرح كتاب (28) ؟ وهل سنستبعد بعد هذا أن يكون مصدرا من مصادر كب أخرى غير تحفة الليلي ؟
لقد استأنس الليلي بآرائه واستشارها في عشرة مواضع، نوردها لك تباعا لتتقرب من حقيقة هذا العالم الفذ الذي اهتضم حقه، وتتأكد من الاتجاه الثقافي الذي اكتسبه وميزه، وتقف على مهارته وتصرفه في اللغة.
1- نمى الشيء ينمي، ولا يقال: ينمو. وقال الزمخشري في شرحه لهذا الكتاب: ينمي بالياء. اختيار نقله أهل اللغة كالفراء، والكسائي.. وكذا قال العماني في شرحه، وهو الحسن بن علي بن سعيد: أن ينمي بالياء أكثر وأفصح (ص 14).
2- غوى الرجل: إذا فسد عليه عيشه، ومنه قوله عز وجل: وعصى آدم ربه فغوى (طه 121)، أي: فسد عليه عيشه في الجنة، قاله المطرز، وابن خالويه، وغيرهما. وقال العماني في شرحه: ويقال معنى غوى: خاب وحرم، قال لا تبعد أن تحمل الآية على هذا. أو أن الغوى الرجل اذا جهل وضل (ص 25)
3- عسى من أفعال المقاربة: وفيه طمع واشفاق.. يقال: عسيت أعسى. قال: فعلى هذا يجوز أن يقال: عاس في اسم الفاعل. قال الشيخ أبو جعفر (أي المؤلف): وقال العماني في شرحه: وزعم بعضهم انه يقال: عسا يعسو، وعسي يعسى، فتكون على هذه الحكاية متصرفة (ص 41- 42).
4- نقمت على الرجل، ونقمت بفتح القاف وكسرها، أي أنكرت عليه قولا قاله.. قال أبو جعفر: ويقال: نقمت منه كما في الآية الكريمة (أي وما نقموا منهم – البر وج: 8) قال العماني: أهل العربية يستعملون معه مرة (من) ومرة (على) قال: ولم أر لهم زيادة قول فيه. والذي أرى أنهم إذا ذهبوا الى معنى الانكار استعملوا معه (على) و (من) جميعا، لأنك تقول: أنكرت عليه، وأنكرت منه هذا الفعل، واذا ذهبوا الى معنى الكرامة استعملوا معه (من) لا غير، لأنك تقول: كرهت منه ذلك ولا تقول كرهت عليه. قال: هذا شيء عريني. وحكى المطرز في شرحه، ومكي في مصدر المفتوح: نقمة ونقمة ونقما. قال العماني ونقيمة (ص 78).
5- وحكى ابن هشام السبتي في شرحه، ومن خطه نقلته: غدر بالكسر، اذا نقض العهد، قال الشيخ أبو جعفر حكي غدر بالكسر عن ابن هشام، حكاها عنه العماني في شرح الفصيح، قال: وغدر بالفتح أفصح (ص 80).
6- ويقال في الماضي. كللت بالكسر. عن العماني. قال والأفصح كللت بالفتح (ص 106).
7- قال أبو جعفر: ونقلت من خط التدميري إنما سمي قيس الرقيات لأنه قال:
رقية لا رقية لا رقية أيها الرجل
قال وقيل: لأنه شبب بجماعة نساء، كل واحدة منهن يقال لها رقية، وقيل غير ذلك قال أبو جعفر: ونسب البيت الجوهري في الصحاح لأبي زبيد، وقال العماني: هو لابن هرمة.. (ص 118).
8- ربض الكلب يربض.. قال العماني الربض أن يلصق بطنه بالأرض، ويمد يديه أمامه (ص 133).
9- قال أبو جعفر: ويقال في المصدر: ربض وربوض، عن ابن أريد في الجمهرة ولا أذكر الآن في الماضي سوى الفتح قال العماني: ولم يسمع يربض بالضم في المستقبل (ص 134).
10- ويقال في المصدر: ربط ورباط، عن المطرز… وحكى العماني في المصدر: ربط وربوط، ورباط (ص 135).
هذه بعض ملامح أبي محمد العماني – رحمه الله – قدمتها لتكون خطوة أولى في درب إجلاء صورته وصور أمثاله ممن شملهم الاهمال، وغطى الاجحاف عنهم وعلى آثارهم ولعك بالبحث عن كتابيه: المغني وشرح الفصيح، وتحقيق كتابه المرشد نكون قد دخلنا في دائرة انصافه وانصاف علمه وعطاءاته واني لأرجو- مخلصا – أن تكون هذه المساهمة حافزا للشبان الباحثين على الاهتمام بهذه الشخصية العلمية المتميزة، واحياء تراثه المفيد.
الهوامش:
1- القصد الى المعرض الذي أقيم من 15/3/97 الى 28/3/98.
الكتاب حققه الفاضلان: ابراهيم عطوة عوض وأحمد حسين صقر من علماء الأزهر.
3- غاية النهاية في طبقات القراء: ج1 ص 233 ترجمة: 1013 (عني بنشره:ج-برجستراسر. دار الكتب العلمية بيروت ط3/1082).
4- حاجي خليفة: كشف الظنون ج2 ص1654 (دار الفكر بيروت-1990).
5- فهرس كتب علوم القرآن في مكتبة الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة من عام 1417م-ص 324-مسلسل: 415.
6- أبوجعفر اللبلي-تحفة المجد الصريح في شرح الكتاب الفصيح- ج1 ص 80.
7- الزركلي –الاعلام: ج5 ص 218 (دار العلم للملايين- بيروت. الطبعة 5/1980.
8- كحالة – معجم المؤلفين: ج3 ص 313 0مؤسسة الرسالة – الطبعة 1/1993).
9- عبدالعزيز بنعبدالله – الموسوعة المغربية للاعلام البشرية ج2 ص 141 (مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية / 1975).
10- بياض في الأصل، ولعله كان يريد الاشارة الى كتابه: المغني إذ هو والمرشد متلازمان.
11- غاية النهاية (مصدر سابق).
12- انظر على سبيل المثال ترجمته في: معجم المؤلفين: 1/569.
13- البرهان في علوم القرآن: ج1 ص 342 (دار الفكر بيروت – الطبعة 3/1980).
14- انظر على سبيل المثال: ج2 ص 588 و 601 و 622.
15- كشف الظنون (مرجع سابق).
16- الصفحة الأولى من كتاب المرشد (المخطوطة بخزانة الامام سيدي عبدالجبار- فجيج – المملكة المغربية).
17- مدينة على حدود الجزائرية تقع في الجنوب الشرقي من المغرب على بعد حوالي 365كم من وجدة.
18- المرشد. الجزء الثاني: 2 (مخطوط الخزانة العامة بالرباط – المغرب).
19- المصدر السابق: نفس الصفحة 2.
20- نفس المصدر ص 181.
21- نفسه: ص 4.
22- نفسه: ص 183 (والآية المقصودة هي، أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا، لا يستوون) السجدة 18.
23- نفسه ص 9.
24- نفسه ص 210 (والآية من سورة الزمر: فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله 17 أو 18.
25- نفسه ص 180 (والآية من سورة لقمان: ووصينا الانسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن..14).
26- جمال القراء وكمال الاقراء، للسخاوي ج2 ص 601 0تحقيق على حسين البواب).
27- ترجم له الغزي في الكواكب السائرة: 10-196 و207 وابن العماد في شذرات الذهب: 8-134و136- والسيوطي في نظم البيان: 113 وحاجي خليفة في كشف الظنون: 41 – 48 – 92 – 152.. الخ، أما كتابه المقصد فطبع بهامش منار الهدى في الوقف والابتداء للأشموني (القاهرة 1973).
28- حققه الدكتور عبدالملك بن عيضة بن رداد الثبيتي – مكتبة الآداب – القاهرة 1997م.
بنعلي محمد بوزيان بنعلي (كاتب من المغرب)