( داريو، لست وحدك)
لم يتردد الطيب الصديقي في إبداء أي رأي في تطوير المسرح العربي. لأنه وجد أن أدواته الجديدة، ستظهر نتائجها في المسرح العربي لا في المسرح المغربي وحده. استعمل اللغة، منبع إلهام لا ينضب. اللغة العربية، جامعة لا لغة فقط. بزوغ العربية الفصحى، من جديد، مع الطيب الصديقي، مع حضور كثرة من الفرق الكلامية والفقهية المسرحية. ما أدى إلى أنواع من الانقسام، حول امتلاك الذات باللغة هذه أو بتلك اللغة. لم يقصر الرجل عمله على الفصحى، لأنه وجد أصناف المسرح الجديدة في كل جهات اللغة. يتحقق كل شيء ويتميّز باللغة، أولاً. اللغة هي اللامتناهي عنده. حاضنة التحولات الثقافية. تحولات تعيد اكتشاف بذور الحداثة الكامنة في التراث، بهدف الانتقال من مجتمع عربي تقليدي إلى مجتمع حديث. يبقى المجتمع العربي عربياً في حداثته. مهمة صعبة ومعقدة دعس الصديقي فيها لغاية القفز فوق الجاهلية المسرحية العربية، مع مواقف وأشغال اشتغلت على التراث العربي، لا لإصلاح حال العرب والمسلمين. للدفاع عن الثابت العربي/ الإسلامي بوجه المفاهيم والأشغال الأوروبية، بحيث حنطت الجاهلية التراث وأقعدته على كرسي متحرك. غير أن الميزة الأساسية الخاصة به، دارت عَلى اشتغاله على كل ما هو حي ٌ وحيوي وراسخ في تقاليد الأدب والفكر العربيين، سواء بسواء. احتاج الأمر إلى الكثير من التنظيم، لكي لا يقع الخلط أو المرادفة بين التحديث والتغريب. وجد الصديقي الحقيقة في ذلك.احياء اللغة، لأن اللغة لا تأسر. لأن اللغة تحرر. لأن اللغة ليست قدرها. لا ألغاز ولا مفارقات. عنده : اللغة حرية. لغة لا متعادية ولا متنافرة مع الحاضر والمستقبل.
لم يجد الطيب الصديقي باللغة رسائلها المقتضبة. أو سعي الآخرين، من خلالها، إلى المطلق. رسائل تقود إلى الوهم بقدر ما تقود إلى الواقع. اللغة ضمير عند المخرج المغربي. تطابق الأضداد باللغة، عند واحد من أهم سحرة الآداء على مسارح العالم العربي والعالم . حيث شاهده العالم في بعض الأعمال الأوروبية، كما شاهده بالكثير من الأعمال العربية. نفذ إلى عقول وأفئدة المشاهدين والنقاد، كصاحب مكتبة لا كقارئ كتاب. حيث طفق يوسع ميدان جواهر النظريات والأسس المنهجية الجوهرية بالمسرح العالمي بالمسرح العربي وجواهر النظريات والأسس المنهجية العربية، التراثية، بمسرح الصديقي العالمي. أتم ذلك، حين عاد من باريس، بعلاقة ديالكتيكية، بطروحات هوبير جينيو وجان فيلار. إذ وجد أن المعاني الأوروبية لن تقوم بالمسرح العربي، إلا عبر التقنيات. وجد أن القرب من التقنية، ما لا يفترض إهماله. وجد أن الثقافات لا تتنازع وأنه من الواجب الإقتباس في التقنيات. استيعابها واستعمالها في عمليات الإصلاح والتثوير في المسرح العربي.لا الاستسلام لها. وجد أن ترجمة ما شاهده بالحرف، ترجمة المشاهدات الفرنسية والأوروبية والأميركية، لن يقود إلى سلوك الدروب السليمة الواردة في عقله وإحساسه كالصدمات. صداقة المسرح الآخر ضرورية. الاستسلام أمامه، لن يفيد فكرة الاقتراب من المسرح، بالاستعمالات اللغوية العميقة الخاصة. لأن اللغة عند الطيب الصديقي، في مسرح الطيب الصديقي، لغة ضد الحاجات والأغراض الجاهزة. لغة غير عسيرة. لغة لا تريد أن تنقل ما يرغب المؤلف به. اللغة لغة. لا متحف َ ولا صنم َ. لغة لا مطلقة الحضور. لغة لا سلطة. لغة تُحرِّض على الثورة ضد اللغة، إذا لم تتماشَ أنسابها وأدواتها مع الغرض من الفصول المسرحية أو في المسرحية. مسرحية الطيب الصديق مسرحية فرجة. مسرحية ذات قابليات لا تفسر العلاقة بين النار والماء في مسرحه. لأن النار والماء في مسرحه، غير ما نفهمه من النار والماء. غير ما نفهمه من حذلقات الإصطلاحات المقررة. فكر يتبين الهدف والشرط من بلوغ لوازم المسرح كأحلاف على قدر كبير من الإختلاف.
لم يفكر الطيب الصديقي بفكرة ذات حدود بالتطويرات البنائية في المسرح. جرفته مياه المسرح الهادرة، حين وجد أن المسرح العربي جزء من المسرح العالمي. وجد المسرح العربي جزءاً من التجربة الإنسانية الشاملة بالعالم، مع الإحتفاظ بقوة فنون القتال لاستعمالها حين تدعو الضرورات البشرية. لا غاندي ولا تروتسكي . تأمل في ما حدث في أزمان التاريخ من تحكمات وثورات، ليمضي بالحوافز فوق الغرائز والأهواء الضيقة إلى استخدام المسرح بالوعي الكامل لا بالعقل الكامل. لأن العقل حصوة بالكثير من الأوقات، عند العرب. هكذا تبنى المسرح كفكرة لا كشكل جاهز. فكرة لا تؤدي إلى الدخول في تنشئة الأشكال لا وجودها، بعيداً من الادعاءات. هكذا، لم ترتد مساعيه إلى النقاط الصفر، حين لم ينجح مسعى بالاتفاق بين الفكرة ومسالكها على طريق كل ما هو مجدٍ، بالأشغال العلمية في المسرح ذي النزوع النصي أو النزوع إلى كتابة النص بكل ما هو بدائي. (جرب الكثيرون الشغل على الأشكال الجديدة، وحين لم تواليهم عارضوها بالعودة إلى الشكل الأول. أو المربع الأول. لأن الشغل على الشكل يعيد الشاغل، في حال الفشل، إلى ما صنعته القوى الثقافية الأجنبية، كأداة لتحقيق أغراضها بالسيطرة). أنشأ الصديقي البدائية على طقوسها المجدية بما يتعلق بمستقبل المسرح.نوع من العمل السياسي. بما يحكم على حداثة المسرح من خلال حضور النماذج المسرحية ذات المناظير التاريخانية والثورة عليها بطرق لا عنفية. هنا الصحبة بين الإقناع والشعرية والإمتاع والإبداع، حين تذهب الأشكال البدئية، بعيداً عن الصدف، إلى أحسن أنواع المسرح الحضري. علاج للمشاكل الاجتماعية والنفسية واللغوية، بضربات الأساس. بضربة واحدة.
لم يقف الرجل ذو الجسد الممتلئ، إلا في سنواته الأخيرة، أمام الفوارق الرئيسية بين الأشكال الأصيلة والأشكال المهجنة. لا فرق عنده بين المسرح الإغريقي والمسرح الإنكليزي أو المسرح الآسيوي، إلا بالكنه. لكل مسرح كنهه. قضية عملية لا استنتاجية. لا شيء مغلق، ما دامت التجارب المسرحية العالمية، لا تغور في وسائدها وهي تقدم سيولها الجارفة من الأشكال. مال الصديقي،كثيراً،إلى جان فيلار. لأن الأخير، عاد من الحرب العالمية الثانية بمهرجان أڤينيون وبجمع شمل الكثير من الفرنسيين في «المسرح الوطني الشعبي». Tnp. كوخ أسود،لا يضاء إلا بحضور الإنسان/الممثل . كوخ بغياب الممثل. بغياب الحرية. بغياب الحياة. بغياب الجنوح إلى الإنتشار عبر شعرية المشهد. لم ينعم الرجل الهازئ، بالراحة، منذ عودته من العاصمة الفرنسية. شوهد ماشياً بالمدن والقرى المغربية، داعياً نفسه إلى اللحاق بتجربة جديدة، لا تقوم على المثال وهي تبحث عن الأمثلة. كل مثال أمسية. كل مثال في أمسية. لم يُقِم حدوده الفاصلة بين الشخص المبدع/المحترف/ وبين بقية المجتمع. وصل إلى آبار القرى وهو يبحث عن الحكايات ذات الجدوى وعن جدوى الأشكال التراثية، حتى يعيد ملء دلائها بالماء الجديد. هكذا وُجد في «المسرح المغربي المركزي للأبحاث المسرحية» التابع للشبيبة والرياضة المغربية. هكذا وُجد في «المسرح البلدي» بالدار البيضاء. هكذا وُجد في «الفرقة الوطنية للمسرح». مدير المسرح الوطني بالدار البيضاء أو «مجذوب المسرح المغربي»( درويش المسرح المغربي)، رسم كل الدروب ذات القابلية العالية في كتابة المسرح الجديد وتخليد المسرح هذا.
مسرحي درب. الطيب الصديقي مسرحي درب. يتدفق مسرحه بالإختبار كما تتدفق الأحاديث اليومية بالحيوية. لم يلبث أن قدم مسرحاً خاصاً على صورة الْمُلْك العام. دقة في الأسلوب، بدون تفوق الموافقات الشكلية السابقة، على الكثير من الارتجالات. لا حدود بين دقة الصديقي بالمسرح، وبين ارتجالاته. لا حدود بين دقة الصديقي بالحياة وبين ارتجالاته. مسرح الصديقي هو الصديقي. الصديقي هو مسرح الصديقي. كلما حل يحِل المسرح. كلما حل في مطرح يحل مسرحه، يحِل المسرح. كلما تكلم، أصبح الكلام أكثر انطلاقاً وأنصع ألواناً، يسوده النغم والإيقاع، بجسد يترنح حالماً بحركاته، الأشبه بالأسئلة الملهمة. مسرحه منصة لا موضع. منصة ضد القوانين. منصة في محيط عربي واضح وفي محيط إسلامي واضح. طحن بذورها وصنع خبزه من طحين البذور هذه. لم يساوم في صراعه للسيطرة على الطبيعة باستعمال الأدوات المحكومة بقوانين الطيب الصديقي لا بقوانين الآخرين. أبرز الأدوات، هذه، المجانسة. ثم الطقس. لا طقس آرتو. طقس آرتو ميزة من غير ميزات آرتو. من غير ميزات الغرب. جاء إليها المسرحي من الغرب. لم يأخذها من الغرب. عمَّر الصديقي مسرحه على القصص والسيرة. عمَّره على الفرح. لا على الروح الجهِمة. تعلم كيف تحدث الأشياء، ومن ثم كيف يجعلها تحدث، بالقصد والارتجال والغناء والحكاية والنكات والإيماء والبهلوانيات والأدوار الهزلية القصيرة. كل ما هو موجود بالتراث. كل ما هو موجود في مسرح الحلقة أو المسرح الدائري التقليدي. بيد أن حضور الصديقي على خشبة المسرح، حضور «البوهو» في مسرح البساط. البوهو بطل الرواية في مسرح البساط. بكل مواضع الصديقي على معظم منصاته، بوهو. ملك الحكايات. مالك الحكاية. فَقِيهٌ كوالده الفقيه. ملك باذخ. وحش آداء، يلتقط الأشياء، ثم يحولها إلى مشاهد. ببذرها على الخشبة، يسقيها أمام الناس بألماس حضوره، ثم يترك لهم جمع الحاصل. رجوع ٌ دائم إلى الأرض. حين شاهدته في «الغفران» (عن رسالة الغفران للمعري) أدركت كيفية ظهور الإنسان، كعالم ضد العلوم الجاهزة. بالمسرحية، هذه، وفي غيرها، أسكن البوهو في «كبير المجموعة» في مسرح البساط. كبير المجموعة دائم الحضور مع المجموعة بجلد الكبش على جسده. عمل إداري إبداعي كيفي. قائد يدير اللعبة على المنصة، مع أهل الموسيقى والطرب، حيث ينقر هؤلاء على التعريجات والدفوف. استبدل الصديقي جلد الكبش بالقفطان المغربي، لكي يدير العرض بلسانٍ وحضورٍ متوحشين.أقام الفرنكوفوني الكبير كل التعاونات الوثيقة بينه وبين اللغة العربية. لا كامرأة عجوز، أمية، مجردة من أقل المطامح الفنية. كامرأة ملهمة. كامرأة امتلكت، ولا تزال، كل السبل إلى كتابة الجديد بأصل الكلام، بأصول الكلام. مفارقات الصديقي مفارقات من عيارات ثقيلة.هذا الراديكالي النزعة، بدون فخار أو تفاخر.
لم يقسِّم الطيب، بين الوظائف في الأشكال المسرحية التقليدية. الحلقة والبساط والحكواتي والمداح وسلطان الطبلة. إبن الصويرة، أشهر الرواة على الخشبات، نظَّم رحلاته بين الترجمة والاقتباس، وهو في طريقه إلى مسرحه الخاص. مسرح ٌغابة. مسرحُ تعاونٍ وثيق ٍبين السمعِ والبصرِ واللمسِ والرؤيةِ الأمامية (البصر) والرؤية الداخلية (البصيرة) والسيطرة العضلية والسيطرة الحسية ذات الحساسية الفائقة. أخذ الوظائف، من أرواحها الكثيرة، بفهم ضروراتها الموضوعية، إلى قوانين مسرحه، في «جنان الشيبة» و«ديوان عبد الرحمن المجذوب» و«بديع الزمان الهمذاني» و«الفيل والسراويل» و«قفطان الحب» و«سيدي ياسين في الطريق» و«الحراز» وغيرها من الأشغال المسرحية الخاصة بالطيب الصديقي وحده. لم تقتصر تأثيراته على أصابع المسرحيين العرب والمغاربة وورش المسرح وحدها، إذ تعدتها إلى المجالات الأخرى. حين وجد بعض من داوم في فرقه وتجاربه ومنصاته كمالاتهم في ما صرفه الرجل الضخم، لا على المسرح العربي، بل على الثقافة العربية بكلها. فهمهم التام لذلك، أخذهم، إلى غيومهم الجديدة بالأغنية. حافظوا على الجزء الصوتي بالتجربة، في وظائفه السحرية، في إنشاء فرقتين، صدق ما قدمتاه على صعيد التوازن بين الواقع والخيال.بين كل ما هو متوفر باللغات البدائية وبين اللغة الإعتيادية غيرالكاملة نسبياً. «جل جلاله» و«ناس الغيوان». لا دعوات إلى الاقتداء بتجربة الصديقي، غير أن التجربة زجت الكثيرين في مدنها بعيداً من خزي الكثير من الأعمال الفنية والثقافية وعارها. لا تبشير بتجربة الصديقي. تجربة ضد التبشير، غير أنها تركت كل من لم يلتحق بالجديد، منبوذاً، وحيداً.
اشتغل الصديقي بالمسرح ببداياته، كما يعمل عمال المناجم في المناجم. أحب أن تغير الأرض المسرحية نغماتها. حصَّل ذلك، بمسرحيات عنونها من نفسه إلى نفسه، بعيداً من اللغة التأبينية للتجارب الأخرى. استيعاب الثقافة المسرحية الأوروبية، أنعش ثقافته الجديدة على أرضه القديمة. ظاهرته ظاهرة حتمية، ما دام لم يُقِم حضوره على حركة واحدة. أقامها على الأساس/ الثقافة الشعبية/ وعلى الجانبين المتممين. الفن التشكيلي والنص. لا شك في ذلك، لأن الطيب الصديقي فنان تشكيلي. هذا أولاً. ثانياً، فتح الرجل حساباً للنصوص في مصرفه المسرحي السري. علاقته بالنصوص، لا علاقة لها بالإلقاء. علاقته بالنص علاقة بسلاح جدي ازدهر حضوره بتلك المرحلة، قبل أن يستأصل بصالح التجارب ذات المحتويات الثورية. تجارب الجماعات. أو تجارب الحكومات المسرحية. لكل حكومة نصوص وزرائها، يكتبها الوزراء برؤوس أقلامهم الكثيرة. سعادة الإنسان الشاملة في مجتمع مسرحي ضد الطبقية. لا كتاب بالتجارب الجماعية. كلٌ رفيق. لا يمحى رفيق لحساب رفيق آخر. الرفاق شركاء بالثورة على كاتب النص والنص الوطني، إذا ما جاز التعبير. وجد الصديقي بالعمل الجماعي وهماً من أوهام مجموعة من كهان المسرح في سبعينيات وبدايات الثمانينيّات من القرن العشرين. الصديقي الكاتب، ما حَرمَ الآخرين من إعلانه الدائم عن تعلقه بالنص، حتى بنصوص كتبه المنشورة في حقبات مختلفة. آخر كتبه المنشورة بعنوان «المهووس النصي». اكتسح النضال النصي العالم في فترة. بعدها، عاد النص إلى تصدر عالم المسرح. لا مسرح بلا نص، بعد زمن اعتبار النص جزءاً من المسرحية. حيث تشكل المسرحية النص، بكل أجزائها. النص والسينوغرافيا والإخراج والآداء والصوت والصمت والفراغ والموسيقى والإضاءة. مهووس ٌ بالنص. هذا هو الطيب الصديقي. عنده كتب أخرى. أبرز الكتب هذه «بشكل فضفاض» و«نقطة فاصلة». كل الكتب باللغة الفرنسية. لم تلطخه الفرنسية. أغنته بنقد الباطل والجهل، لأنها لم تحلق في حياته كأشباح مزروبة في معبد مهجور.
الفرنسية صولجانه الآخر. ملك بصولجانين. عقله فرنسي وإحساسه عربي. هذا جزء من جاذبيته. هذا جزء من قوته. لن يمقت لغة بصالح لغة أخرى. اللغتان في خدمة أشغاله. اللغتان في خدمة مسرحه. اضطلع بإدارة ذلك، بحيث ما عاد بوسعه أن يعرف الحلقات الوسيطة بين اللغتين. كل لغة جنس. إلا أن اللغة العربية، لغة الأب الفقيه. لغة الأب المفتي. لغة الأجداد. لغة الفطرة. لن يدخلها إلى بلاطه لأنها موجودة بالبلاط. لم ينجح بالعمل على النصوص العربية، التراثية، إلا عدد قليل من الصناع. واحد من الأبرز فيهم الطيب الصديقي. لم تقوض لغة اللغة الأخرى في حياته. لم ينافس ما ورثه، ما حصَّله. تفجرت الطقوس عنده، إلى دراما. كما تفجرت الطقوس إلى دراما بالقرون الوسطى. بظهور البرجوازية، انتقلت المسرحيات الدينية من الكنيسة إلى السوق. تناولتها النقابات من يد القسس. أصبحت دنيوية بالشكل هذا. ملك المسرح، أرستقراطي المسرح، نقل النص التراثي (الديني ببعض المعاني) من الجمعيات التأليهية إلى السوق. نشر حضوره على نصوص عادية صنعت حضوره، بالطريق إلى نصوص غير عادية (التراثية) صنع حضورها. «الوارث» لأحمد الطيب العلج. «يوم وليلة» لتوفيق الحكيم. «المفتش» لغوغول. «برلمان النساء» لأريستوفان. «بانتظار غودو » لصموئيل بيكت. «فولبوني » لبن جونسون. «سلطان الطبلة» لعبد الصمد الكنفاوي. طرح عبر الأسلاف الثقافة المغربية الإسلامية، ببعدها التراثي. لا دراما أثينية بعد. لا شرح ولا تفسير. الدراما درامانا. ولادةٌ جديدة. لا إله دراما قديم ولا بديل عنه. لا لغة مصطنعة. هرع الجميع لمشاهدة الصديقي ومسرح الطيب الصديقي. لأن مشاهدة مسرحه متعة ورؤيته على مسرحه متعة. لا تناسب، بعد، مع ما يقتضيه واقع الحال. سرت مسألة شرعية المسرح هذا، سريان الجسارة غير الطائشة، بدون تقطع أنفاس. لن يترجم النغم من الأصل الإغريقي. لا تكرار ولا محاكاة للقطع المسرحية القديمة. استقر الأمر بدون فصاحة. فصاحة المسرح غير فصاحة اللغة. فن ناضج، بكل ما يصيبه من المهارات الدقيقة والنقد الذاتي للذات بالوقت ذاته. اقتضى ذلك الكثير من التجارب والأطر، من «فرقة البركة» إلى «فرقة المسرح المغربي».
لم يشتغل الطيب الصديقي بالفن «المقدس» دائماً. هج إلى بعض المكرمات المسرحية، كمسرحية «ألف حكاية وحكاية في سوق عكاظ» مع فرقة الممثلين العرب، مع نضال الأشقر. فردٌ أو فردان من كل دولة عربية. مزيج زجاجي ملون من التنويعات العضوية، ضبطت لتناسب مقتضيات بناء فرقة مسرحية عربية. شيء مثبط أن لا تقدم الفرقة سوى مسرحية واحدة. لم يتجاوز أحد ٌ حدودَ تهذيبِ المادة ِوالحضور. أخذت المسرحية ألواناً جديدة، كلما انتقلت من اجتماع مهرجاني إلى اجتماع مهرجاني آخر.
ثقف الطيب الصديقي الكثير من المسرحيين المغاربة والعرب.لا ينكر أحدٌ ذلك. عبد الحق الزروالي واحد من هؤلاء. وسِع َالمنشد ُأن يملي على الآخرين، ما ألقاه بنار مستعرة. كتلة مزايا الصديقي. منظومة سوف يستفيد المسرح العربي منها، على مدى السنوات الطويلة المقبلة، بجميع نواحيها. أقام فيهم الوعي، أقام فيهم الشعور. وهلمجرا. لم يسع ْأحدٌ علاج ما آلت إليه أحوال الطيب الصديقي في السنوات الأخيرة، لا بالمقدمات ولا بالأحوال ولا بالأفعال. تراجع مسرحه وتراجعت أحوله، بعد أن كرس حياته وأحواله بصالح المسرح والمسرحيين. لا علاقة لذلك بالقفز فوق جوهوية الصراع العربي/ الإسرائيلي، بعد أن وجده العرب في اسرائيل في وفد مغاربي. عاد واعتذر عن الزيارة وعن مقولاته حول الصداقة المستجدة بينه وبين شيمون بيريز. تفهم الرجل عقيدة تقاسم الدولة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. سلوك راهب ملكي.أو سلوك رجل براجماتي. للطيب صولات وجولات، ما اخطأت اللفظ، بصالح فلسطين والفلسطينيين. الصديقي ليس الغزالي. الصديقي هو ذاته. مسلم ٌ شديدُ النقد للمسلمين لا للإسلام. وإذ تعرض إلى مسائل سياسية واجتماعية، لأنه أمل بتحول العالم إلى عالم أكثر إنسانية. موقف. تراجع مسرحه وتراجعت أحواله الشخصية. لم يرد أن يؤكد صحة اعتقاد الآخرين بصعوبة وضعه المسرحي والإنساني. مرض. ما وجد من يمجد ذكرى ألبومه المسرحي الساخن. هكذا انبرى إلى بناء مسرحه الخاص، بدون مران كثير. أدرج أحلامه الأخيرة في البناء الأخير. بصورة ملحوظة، تدهورت أحوال الرجل. تدهورت الأحوال الاقتصادية، بعد الحروب الأخيرة غير المظفرة بالعالم العربي. إبن الطبقة الحاكمة، النشطة، المنتظمة في علاقات أشبه بالعلاقات الإقطاعية في المراكز الرئيسية، اضطر إلى تأجير مسرحه. حولوه إلى مطعم. أحسب أن الصديقي راقب ذلك كما يراقب محاصر غارة، سوف تكدس الأنقاض على بعضها. حين أقام الأمراء التجار بلاطاتهم الخاصة على الثقافة، مات الطيب الصديقي، الطيب، الهازئ، المهيمن على نوع من المسرح الجديد. مسرح المقامة في المقام والمقام في المقامة. انتهت ملحمته هنا. هنا فقد شيئاً من صفاته الأساسية.سوف يبقى منه الكثير، غير المجادلات. حضوره الجوهري في المهرجانات العربية. كرهه لكل متآكل. فصوله المسرحية. مقالاته النظرية، عمره. عيناه الزيتونيتان، المبصرتان، كزرقاء اليمامة. شخصه الأمة وأمته في شخصه.
عبيدو باشا*