لست أدري متى ولا أين ولا لأجل مَنْ كانتْ قد كُتِبَتِ القصَّةُ المعنونةُ بـ: “متجر الدمى”. ولا أعرف أيضاً ما إذا كانَ هذا مجرَّدَ خيالٍ أو حكاية لأشياء ووقائع حقيقية، كما يؤكد ذلك المؤلف المجهول، ولكن باختصار، وبِغَضِّ النظر عمَّا إذا كانتِ الحكاية الصغيرة التي تجري في متجرٍ صغيرٍ غيرَ حقيقيةٍ أو حقيقيةً، فإن الصدفة هي التي وضعتْ هذه الصفحاتِ بين يديَّ، وأنا أسارع إلى الاستيلاء عليها. وها هي ذي هنا:
لم يكن لديَّ ما يكفي من فلسفةٍ لاستعادةِ الرهانات المتعالية للفكر. وهذا يفسِّرُ شُؤُونِي التافهة، ولماذا أحاول الآن أن أغلق في بضعةِ أسطرٍ حكايةَ -إذا كان بإمكاننا أن نسميها كذلك-متجر الدمى القديم لجدي الذي أصبح فيما بعد ملكاً لعرابي، ومن ملكيته انتقل إلى ملكيتي. هذا المتجر له في عيني سحرُ الذكريات الأسرية؛ ومثلما يحافظ آخرون على بورتريهات أسلافهم، يكفيني لكي أتذكرَ أنا أسلافي أنْ أمرِّرَ النظرة على الرُّفوف، حيث تنتظمُ في صفوفٍ الدمى القديمة التي لم يتيسر لي قط أن ألعب بها. منذ الطفولة كنت معتادا على النظر إليها بجدية. وقد كان جدي، ثم من بعده عرابي يقولان في إشارة إليها:
– نحن مدينون لها بحياتنا!
ولم يكن ممكنا بالنسبة لي، أنا الذي أحببتهما بِوُدٍّ على حدٍّ سواء، أن أنظر باستخفافٍ لِمَنْ كنتُ مدينا له بالهبة الثمينة للوجود.
بعد أن توفي جدي، لم يسمح لي عرابي أيضا أن ألعب بالدُّمى التي ظلتْ على رفوف المتجر، مُرتبة في تنظيم صارمٍ، خاضعة لتَراتُبٍ دقيقٍ، ودون أن تستطيعَ أبداً أن تتعاشَرَ للحظةٍ معَ نماذجَ من أشكالٍ مختلفةٍ. لا تلك التي من العوام والتي تمشي ولها زنبرك يدفعها ما يكفي لتمشيَ لمسافةِ مترٍ ونصف في مساحة منبسطة، مع الدمى الفاخرة والأرستقراطية ذاتِ القبَّعَة والمعطفِ، والتي بالكاد تعرفُ رفع أطراف الأقدام المنتعلة لأحذية في أناقة. لم يكن عرابي يمنح العناية لا لهذه ولا لتلك، أكثر مما هو لازمٌ وضروريٌّ للحفاظ على نظافة الرُّفوفِ التي كانت تصطف فوقها. لم يتخذ أي ألفة تجاهها ولم يكن يسمح لنفسه بأدنى مزحة معها. كان قد أرسى في المتجر الصغير نظاماً يجبُ أن يدخل مرحلة تدهور لما أتولى أنا حيازة المؤسسة، لأن روحي لن يكون لها نفس المزاج الذي كان لديه، وسيبدو ذلك جليّاً من الأفكار والاتجاهات المتحررة التي ستزدهر في أجواء الأيام الجديدة.
قبل كلِّ شيء كان يفرضُ على الدمى مبدأ السلطة والاحترام الخرافيّ للنِّظام والعادات السارية في المتجر منذ القديم. فقد كان يرى أنه من المستحسن أن يبث فيهم بعضا من الرهبة ويعاملهم بشيء من القسوة لأجل تجنب البلبلة والاضطراب والفوضى التي تحمل الخراب إلى المتاجر الصغيرة المتواضعة مثلما في الامبراطوريات العظمى. لقد كان مشبعا بتلك المبادئ الخاطئة التي كان قد تربى عليها والتي سعى إلى غرسها فيَّ بكل الوسائل. وإذ وجد فيَّ وريثه الشرعيَّ في تدبير شؤون المتجر، بدأ يعلمني إجراءاتِ التقشفِ لرجلٍ يُعنى تدبير الأعمال. أما بالنسبة لهيريبيرتو، الخادم الذي كان ومنذ زمن طويل متكفلا بالمساعدة في خدمة شؤون أعمال المتجر، فكان عرابي يساويه بأسوأ الدُّمى تلك التي تشحن بتدوير الحبل، ويعامله مثل البهلوانات الخشبية والمهرجين الذين يتم ملؤهم بنشارة الخشب، والتي كانت تعرف رواجا كبيرا في ذلك الحين. لقد كان هيريبيرتو، حسب رأيه، لا يمتلك عقلا أذكى من الدمى التي من فرط عمله الدائم في تجارتها انتهي إلى اكتساب عاداتها الطائشة والمخنثة، إلى الحد الذي زادت معه شكوكه بهذا الخصوص إلى درجة أنه كان يرتاب من تلك الدمى التي غادرت المتجر في وقت ما برفقة هيريبيرتو دون أن تباع نهائيا. ولهذا كان يفصل هؤلاء التعساء عن بقية الدمى، متشككا ربما من أنها اكتسبت عاداتٍ ضارةً على يدِ هيريبيرتو.
وهكذا انصرمت سنوات طويلة، حتى صرت أنا رجلا ناضجا، وصار عرابي عجوزا متطابق الصفات مع جدي كما عرفته أثناء طفولتي. كنا نسكن في المحل الخلفي للمتجر، حيث كنا لا نستطيع أن نتحرك إلا بصعوبة بالغة بين الدمى. هناك ولدت أنا، ولذلك، وعلى الرغم من أني ابن شرعي لأبوين كريمين، يمكن أن أعتبر نفسي ثمرة لحكاية حب حدثت في الجهة الخلفية للمتجر، مثلما يحدث عادة مع أبطال الحكايات الشطارية.
وفي يوم ما شعر عرابي بأن حالته الصحية جد سيئة.
– لقد غامَتْ عيناي، قال لي، وصرْت أخلط بين المُحَامِينَ والكُرَاتِ المَطَّاطِيَّة، التي توجد في الواقع في موضعٍ أعلى من ذلك بكثيرٍ.
واصل وهو يمسك يدِي بِوُدٍّ:
– أحِسُّ ساقيَّ واهنتين، ولا أستطيع أن أقطع المسافة القصيرة التي تفصل بينك وبين قُطَّاعِ الطرق دونما تعبٍ. ومن خلال هذه العلامات أعرف أنني سأموت، وأنا لا أعد نفسي بساعاتٍ طويلةٍ من الحياة، ومنذ الآن أنتَ ترثُ متجر الدمى.
انتقل عَرَّابي إلى إعطائي مجموعة من التوصيات المكثفة عن الأعمال. ثم قام بتوقفٍ رأيتُه أثناءَهُ يتجولُ عبر المتجر والجهة الخلفية منه وعيناه على وشك الانطفاء. تطوي بالتأكيد مشاهد واسعة من الحاضر والماضي، داخل الجدران الضيقة المغطاة بكائنات صغيرة تقوم بحركاتها المعتادة، وكانت تبدو في أوضاعها المألوفة. وفجأة، وهو يركز نظرته على الجنود الذين احتلوا جهة كاملة على الرفوف، ففكَّرَ:
– نحن مدينون لهؤلاء المقاتلين بساعات طويلة من السلام. لقد منحونا فوائد جيدة. بَيْعُ الجيوش تجارةٌ مُربِحَة.
وأنا بالقرب منه، كنتُ أصِرُّ على أن يُوافقَ على استدعاء الأطباء ليفْحَصوه، لكنه اكتفي فقط بأن يُظهِرَ لي علبةً كبيرةً كانتْ في زاويةٍ ما.
– إنها تشتملُ بالتحديد على كثير من العلماء والأساتذة والدكاترة ونوابغ آخرين من الكرتون وأعماقها من نشارة الخشب، بقيتْ هناك دون أن تُبَاعَ في العتمة التي تناسبها. وإذن، لا تعلق آمالا كبرى على فائدة مثل هذا السَّطر. وبدلا من ذلك فإن دمى الخزف كان مرغوبا فيها، ويتمُّ اقترانُها دَوْماً بالرِّبح. وأيْضاً الدمى المصنوعة من العجائن والسُّليولويد التي كانت عادة مطلوبة، وحتى تلك المصنوعة من الخِرَقِ كانت تجد سبيلها إلى البيع. وبين الحيوانات -لا تنس ذلك-، أوصيك على الأخص بالحمير والدببة التي كانت الدعامة الأساسية لبيتنا في كل الأوقات.
بعد هذه الكلمات شعر عرابي بأن حاله يزداد سوءا، وجعلني أستقدمُ على عجلٍ كاهناً وراهبتين. مددْتُ ذراعيَّ وأخذتهم من الرف المجاور للفراش.
– لقد مضى زمن طويل، قال وهو يَجُسُّها بلطفٍ، مضى زمن طويل وأنا أحتفظ هنا بهذه الدمى التي يصعب بيعها. يمكنك أن تقدِّمَها بخصم عشرة في المئة، أي بما يعادل العُشُر فيما يتعلق بالكهنة. أما بالنسبة للراهبات، فتكفلْ أنتَ بأعبائِها وقدِّمْ لهن واحدة.
في هذه اللحظة قطع كلامَ عرَّابي بكاءُ هيريبيرتو الذي كان في زاوية من الغرفة الخلفية للمتجر ممسكا برأسه بين يديه، وهو لا يستطيع أن يستمع من دون ألمٍ الكلمات الأخيرة لصاحب متجر الدمى.
– هيريبيرتو، قال وهو يتوجه إلى هذا الأخير: ليس لدي ما أكرره لك مما سبق لي أن قلته لك مراتٍ عديدةً من قبل: لا ترفع بشكلٍ نِدِّيٍّ صوتك ولا تلمَس الدمى.
ولم يجب هيريبيرتو بشيء لكن تنهداته ترددت من جديد بشكلٍ أعلى من أي وقتٍ مضى ومُقْشَعِرَّةً بشكلٍ أكبر.
مما لا شك فيه أن هذه المعاكسة عجلت بنهاية عَرَّابي الذي لفظ أنفاسه الأخيرة لحظات قليلة بعد أن نطق بتلك الكلمات. أغلقتُ بوَرَعٍ عينيه ومسحتُ في صمتٍ دمعة. وكان يعذبني، مع ذلك، أن يُظهِرَ هيريبيرتو أكثر مِنِّي، علاماتٍ أكبرَ من الحزن والألم. كان ينتحب مختنقا بالدموع، كان ينتشُ شَعْرَهُ ويركض كئيبا من الطرف الأقصى للغرفة الخلفية إلى طرفها الآخر. وأخيرا ضَمَّني بين ذراعيه:
– نحن وحيدان! نحن وحيدان! صاح.
تخلصتُ منه دونما عنفٍ، ثم أشرتُ له على الكاهن والطبيب القبيح والممرضات البيضاوات وباقي الدمى المتناثرة في فوضى جنب السرير، وقمتُ له بإشاراتٍ بأن يضعَها مرَّة أخرى في أماكنها…
* خوليو غارمينديا: Julio Garmendia كاتب وصحفي ودبلوماسي فنزويلي، وُلد في إيلطكويو 1898، وتوفي في كاراكاس 1977، أحد أهم كتاب القصة القصيرة في فنزويلا، هو أحد أعضاء جيل 28، حصل على الجائزة الوطنية للآداب في صنف السرد سنة 1974، يعتبر من مؤسسي الواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية. من أهم أعماله السردية: متجر الدمى، التين الشوكي الذهبي، الورقة التي لم تسقط في خريفها، الميت أنا، طبيب الموتى… وغيرها
ترجمة خالد الريسوني*