لبيد العامري*
«ذَهَبَ الذينَ أُحِبُّهُمْ
وبَقِيتُ مَثْلَ السَّيْفِ فَرْدا »
عمر بن معد كرب
العلاقة التي تربطني بأبي وصديقي الأبدي «مبارك العامري» أكثر من كونها علاقة أب بابنه، فهو المعلم، الأخ القريب، رفيق الدرب والداعم الأول لي في توجهي الثقافي والأدبي (الشعري على وجه الخصوص).
أذكر قبل فترة طويلة، حينها كانت بدايتي الشغوفة على صعيد القراءة الجادة، في حين كان أبي يوجهني ويعرفني على العديد من الكتب والأسماء، فاسم أبي قُرن وارتبط بالكتب والمعرفة الموسوعية.
في تلك الفترة كنت مأخوذًا، حدّ الإدمان، بكل ما يكتبه أبي من نصوص (شعرا، رواية ومقالة)، إلى جانب انكبابي على أعمال غسان كنفاني، محمد الماغوط وأمهات الكتب العالمية (شعرا ورواية). بينما كتبت بعض النصوص القصيرة (الومضات)، مدفوعاً بنزق المراهقة ومنصتًا لصوت الروح المحبوس في الأعماق، فحشدت جميع النصوص وبدوري أوصلتها بتوجس إلى أبي، فكان رده على ما قرأه :
– لبيد هل فعلًا أنت من كتب هذه النصوص؟
إنها بحق نصوص جميلة وأدهشتني
– نعم يا أبي. والله أنا من كتب هذه النصوص، دون أي نقل أو تحريف أو تقليد.
فرك يده بغبطة وحبور، ومن ثم قال لي في سعادة غامرة كمن يقدمه مولود جديد:
– ستصبح شاعرا يا لبيد!
حينها، وبعد تلك اللحظة بالذات، لم أستغرب بتاتًا من كون أبي أظهر وأبرز وشدّ بأيدي العديد من الأسماء الشابة، لا أستطيع عدّها، عمانية وغير عمانية، والتي أصبح لها ثقلها، لاحقًا، في الساحة الأدبية والثقافية، المحلية والعربية على السواء.
مرهقٌ أنا يا أبي وتَعِب
فالآن ليسَ ثمة
ابتساماتٌ مضيئةٌ
تثقُبُ وشاحَ السواد
إلى جانب كوْن أبي قامة ثقافية وأدبية ومعرفية كبيرة، كان أيضا رمزًا وقدوة للكثير، نخبة وعامة، في الإعلاء من قيمة الحب، بمفهومه الشامل والعميق، وصفاء السريرة ونقائها الداخلي، وحسن العشرة والمعاملة.
ينبغي علينا هنا، أيضًا، أن لا ننسى نضال أبي ومواقفه البطولية الجسورة ضد جميع أشكال الفساد، القبح والظلامية، ناصبًا راية الحرية عاليًا، في حين كانت معشوقته/عُمان معجونة بها روحه.
« النجمة التي لا وطن لها تشق طريقها
في مرتفعات العصر الأخضر.
وامتيازي في البحار هو أن
أحلم لكم هذا الحلم
عن طريق الواقع..
سموني الغامض وكنت أسكن البرق «
سان جون بيرس
وكما يُقال بأنّ من رحم الألم تولد أجمل القصائد، كتب أبي أروع قصائده وأكثرها إدهاشًا وهو على فراش مرضه، في حين كان «الفيس بوك» فضاءه وعالمه الأزرق الواسع والوثير لإيصال ونشر، على نحو سريع كالبرق، قصائده وكل ما يختلج في روحه من عواطف وأحاسيس يعجنها ويؤطرها في شكل نصوص إبداعية مكثفة، ومفعمة بروح الجمال ووميض المعنى متعدد الأبعاد.
أيَّتُها الحَياةُ
يا ذاتَ المزاجِ المُضْطرب
لَنْ تستطيعي كسري
وإخمادَ جَذْوتي
بغيومِكِ السوداءِ المُتكاثفة
سأَخْتَرِقُها
كما يشقُّ الطَّيْرُ الدُّخان
كشمسٍ تنبجسُ
من لُجَجِ اللّيل
كساقِ شجرةٍ ينعتقُ
من أديمِ الأرض
كابتسامةٍ مُزريةٍ
في وجْهِ الألَم ..
كان أبي مغرمًا بثلّة من الشعراء والكتاب الذين عشق نصوصهم وسيرتهم الحياتية الكفاحية والأدبية الثقافية على السواء، فكانت مكتبته تزخر بالعديد من أعمالهم، على رأسهم الكاتب اليوناني «نيكوس كازانتزاكي»، ويليه «فيديريكو غارثيا لوركا»، «بيير باولو بازوليني»، «محمد الماغوط»، «سركون بولص»، «سان جون بيرس» وغيرهم..
حتى أنني أذكر، ذات يوم، أتى «سركون بولص» لزيارة أبي في منزله في مسقط، حيث كانت تربطهم صداقة وزمالة أدبية.
وعندما كنّا، أبي وأنا،نطوي المسافات في أرجاء ولايات السلطنة، كانت أغاني «فيروز»، «طلال مداح»، «سعدون جابر» ،»وردة الجزائرية» و»أسمهان» تضمخ الرحلة وتختصر المسافات. فيما إذا ما صاحبنا البحر في رحلتنا التنزهية ردد أبي مقطع من قصيدة لسان جون بيرس:
« للبحرِ وحده سَنَقول
كَمْ كُنَّا غُرَباء في أعيادِ المَدينَة «
حياة أبي الشخصية لم تختلف عن كتاباته، فنصوصه كانت تحاكي وتعكس نقاءه الروحي والجمالي، بمعنى آخر فمن يعرف كتابات «مبارك العامري» فهو بالكاد يعرف حياة «مبارك العامري» الشخصية، الروحية والجمالية.
كان أبي مأخوذًا بالجمال، بجميع أصنافه وأشكاله،جمال الوجود، جمال الطبيعة، جمال الكائن البشري وغيرها، في حين كان يستاء ويبغض جميع أشكال التكبيل والتقييد، حتى أنه كان دائما ما يخبرني عندما تجتاحه عاصفة الضجر والملل وهو محجور في كبوة المنزل:
– يا لبيد دعنا نخرج نتمشى لنشم ونستشعر جمال العالم والوجود،
فأنا لا أحب بتاتا قعدة البيت.
أليس هذا هو حال العصفور الطليق عندما يحشر في قفص منزلي؟!
قال أبي في وصيته الأخيرة وهو على فراش مرضه (ثمة مقطع مصور لهذه الوصية نُشر على صفحتي في الفيس بوك ):
«أحبوا العالم من حولكم، أحبوا الناس، أحبوا الله، أحبوا الوطن، أحبوا الطبيعة، أحبوا كل الأشياء الجميلة.
أحبوها. سترتاحون نفسياً وروحياً..
لا شيء مثل الحب منجى. منجى من كل ألم. منجى من كل شيء..
– أفادك الحُب يا أبي ؟
لو لم يفدنِ الحب لكنت راحلاً منذ زمن.
أحببت الحياة، أحببت الناس، أحببت الأشياء البسيطة، أحببت كل شيء في الحياة..»
في الأيام التي تسبق رحيل أبي الأبدي، لم تخامرني فكرة أن المنية ستدرك أبي بهمجية ودون انتظار، فهو الصامد والقوي، ذو الإرادة التي لا تلين، الذي انفلت وخرج من قبضات أقسى وحشية من عتمة هذا الإلتهاب الذي سابق الدم وصولاً إلى القلب مطوحًا به في مهاوي الردى.
في الساعة ٢:١٠م، من ذلك اليوم المشؤوم، حاولت الدخول إلى المستشفى يكتنفني شعور مجهول ورعشة توجس، لكن أعاقت طريقي العديد من التشديدات المتزامنة إزاء جائحة كورونا. بمراوغة تحفها صعوبة دلفت المستشفى. ما أعرفه في تلك اللحظة أن الدكتور اتصل لأخي الأكبر مخبرًا إياه أن حالة أبي سيئة للغاية، وعليه أن يقدم في الحال. من البعيد أرى أخي الكبير متكورا في الكرسي في حين قطرات اليأس تغسل الصقيل. بتوتر أسأله:
– أين أبي؟
فيشير إلى حيث يقبع أبي.
أهرع إلى أبي،
لكن، ويا للحسرة،
إنّ أبي جثة هامدة !!
إنه العالم عندما يغدو صنوًا بالجنون….
* * *
لن أنساكَ ما حييت
أيها القاربُ المجروح
يا من شقَقَت
ذات عتمةٍ،
بمجدافيْ الحبِّ والنَّقاء،
سوْرَةَ العاصفة
ممتطياً العبابَ الهائج
في حين كان عاتِقُك
ينوءُ بالحشود..
اهبطوا هنا
إنَّه الشاطئُ
مرفأُ العُشَّاق
فيما أنا
سأحلق عائداً
كنورسٍ طليقٍ
إلى حيث ثمةَ
أرخبيلات يكسوها
اخضرارٌ أبَدِيٌ
وحُب..