عن مدن غريبة ستحكي، عن أناس بعيدين، عن رجل بقبعة خوص ينزل سلما اسمنتيا يؤدي الى نهر، يتوقف على أحدى الدرجات ثم يخلع قبعته ويضعها تحت إبطه ليخرج، باليد نفسها، شيئا ما من جيب بنطلونه (قنينة أو رسالة، أو شمعة، أو صورة فوتوغرافية ) ثم يلقي به الى النهر، سيلتقطه، بعد أن يختفي ظل الرجل من على سطح الماء، أناس لا يتذكرون ويمرون بلا ذكرى، ليخوض عبيد بخيولهم في النهر حيث تنتظرهم في الجهة المقابلة خناجر قصيرة معقوفة لامعة الحواف، ثم يتبعهم جمع من القتلى بجراح بليغة طازجة، ثم تحكي عن جموع السحرة وهم يقودون قطعانا من القطط البرية ويلوحون، لأيديهم المنفعلة معنى واحد، تلتقطه من بين الجلبة الحيوانية وتقول : إنهم يصرون على أن لرغباتهم حياة أخرى، ترد بعد ذلك مبتسما : يا للسحرة كل ذلك يحدث قبل أن تعبر الصبية من أدنى الخنصر في يدك اليسرى الى أعلى السبابة في يدك اليمنى، تتبعها رياح الحقول المحروثة والغا بات وهي تمر بمعلف، وغرفة ماكينة سقي، وكراج متروك، ثم تفتح بابا خلفيا وتدخل منزلا، ستائره القرمزية قديمة لكنها مزهرة ولامعة، الفتاة ستصعد سلما خشبيا، يدها تمس الدرابزين بإلغة بادية، وتمضي هادئة الخطي الى آخر غرف الطابق العلوي تفتح الباب وتدخل أمام المرآة ستستجيب لنداء الحقول المحروثة ونداء الفا بات فتفك أزرار قميصها، تمنح عريها لفضاء الغرفة، هكذا تقول الحكاية، كما تقول أشياء لا عد لها عن وصايا واغراءات، عن خيبات ودسائس، عن مذابح وتصورات، عن طقوس لن تتم إلا في راحتيك، ثم تعرف الطريقة التي تنتهي بها الحكاية، والطريق الذي يؤدي غالبا الى حكاية أخرى، هي صورة الأولى أو صداها، بالطريقة التي انتهت بها والطريق الذي قادك، حيث الرمال تؤدي الى مدن والمدن الى فسحات، فتعرف بأنك في طريق الحكاية من دون أن تعلم : هل أنت في بدئه أو في منتهاه ؟
في الصباح التالي سترى خطا مستقيما من البجع يمشي مزهوا على الرمال فيذهلك المشهد بفتنة الطيور الغريبة المتتابعة وقد امتدت السماء فوقها بزرقتها الشذرية، ستنزل بندقيتك السبورتنغ عن كتفك اليسرى، وكنت قد تعلمت أن تحملها على طريقة عرب الصحراء، أفقية على الكتف ويدك تمسك ما سورتها الموجهة الى الأسفل، كنت مأخوذا بقوة المكان وسطوته وأنت تحاول أن تحدس ما فكر به (ولفريد ثيسيجر) في مثل هذه اللحظة وهو يتأمل في زمن بعيد على رقعة الرمال ذاتها أو على غيرها سربا من طيور البجع، وتحدث نفسك أنه ربما حاول أن يتذكر ما ورد في الانجيل عن البجع البرية.
سيكون من الصعب أن تتبين من كان يتحدث، ولمن يعود هذا الصوت بلهجته البدوية الصارمة وهو يتنقل طليقا فوق الرمال، متكررا بايقاع واحد في أصوات لا انتهاء لها، ما إن تتلاقح أنقاس الصحراء بنكهتها المرة في صدور أصحابها حتى ترسم لخطواتها ملاذا فسيحا لن يكون بمقدور خطي إنسان واحد أن تلامس قاعه أو تفتح باهتزاز قامته المتصل على ظهر فاقته مغاليق الرمال وهي تعبر فلاة إثر فلاة مجدولة في غيب الصحراء المغلق برعب كائناته العادية، فيعلم، عندئذ، انه قد غار بعيدا في جوف الصحراء حتى غدا من الصعب عليه أن يدرك المعاني الشفيقة لتغيرات ملامح الدليل، لانفتاح منخريه إذ يستان في هبوب الرياح نكهة منذرة ولارتجافة جفنه انحر وق وهو يترصد بحذر السحالي فلتات القدرة الرملية وممراتها المبهمة قبل أن يشد على فاقته ويستدير ليطن ما ثم يؤمن به ذات يوم من أن الصحراء لن تتخل عن أبنائها أبدا.
تعلم أن (ثيسيجر) قد تحسس ذلك منذ أكثر من نصف قرن، وهو ينطلق عبر الصحراء التي راها لأول مرة وشعر بها: شهبا، وكتوما وقاحلة، وتعرف في أحضان الربع الخالي القاسية على الكيفية التي تبدل الرمال فيها أحوالها فتلبس لونا بعد لون، وتتحدث عن أسرار حياتها بألف لسان، وتفتح أبواب مردتها القاسية فيهيم المرء في عجيب متاهاتها، يقوده في ذلك أدلاء مدربون ساحبين وراءهم خطي العشرات من مريدي الصحراء وعشا قها المجهولين إذ تلتبس خطاهم فوق رمال أبدية بعد أن تختلط ظلالهم في انكسار أشعة الشمس المريرة فينصتون في سكون الرياح ليستمعوا لنداءات أسلافهم طراق الرمال وهم ينادون بعضهم عبر الفيا في والأزمان.. لن يكون بمقدورك أن تتبين بوضوح لمن كان نداء الليلة السابقة : هات البندقية، ابن تبينة، فقد تلاشى الصوت في امتداد الجهات قبل أن تتمكن من معرفة لهجته حضرمية كانت أم عمانية أم هي لهجة اعراب الربع الخالي الذين تستند الى اكتافهم الصحراء. سيكون الصباح ثقيلا، لكابته جسامة تبعثرها رياح الشمال الشرقي القارسة، وسيجمع ابن تبينة خبات تمر وفتات خبز متروكا من الليلة السابقة. لن تفكر في السنوات التي تسلخها أصابعه وهي تبحث في رماد الليالي لأنك ستكون منشغلا بإحساسك المرير، يوهنك شعور طاغ بأنك تقود أدلاءك، دونما دليل، الى الموت.
تتمدد على الرمل، بعد ذلك وتراقب نسرا يحوم تحت السماء الغبراء. عند الظهر ستمرون بهياكل جمال نافقة وتكملون مسيركم بلا أدنى إشارة أو اهتمام حتى تبصروا تلالا عالية على طيات رمالها آثار خطي حيوانية تراما النيات فيلهو رغاؤها، ثم تأخذ الرمال بالارتفاع كأن أيد خفية تسحبها. الى أعلى، تنظر حولك فتظن أن التلال الرملية تسد دونكم المنافذ وتفلق الفلوات وهي ترتفع ببط ء وهدوء مستجيبة لقوة اليد الخفية وتتخيلها تتكاتف حتى لا يعود بامكانكم رؤية الطرق. لن نتمكن من العودة مهما حدث. قبل أس من سبقين عاما قال (ثيسيجر) ذلك، بعد أن تاه مع أدلائه في الصحراء ولم يعد يرى أمامه الا حائطا من الرمل.
في حائط الرمل ستنبثق الفجوة عميقة، بحجم قبضة، ثم تأخذ بالاتساع كأن ريحا عاصفة تمر خلالها حتى يصبح من السهل لرجل المرور عبرها. تسكن النيات، ويصمت الأدلاء، وباحساسك المرير ذاته تتقدم باتجاهها مدفوعا بشعورك النابض بالصحراء وهو يتجدد من (ظفارة ) الى (وملة الغافة ) حتى (صحراء غنيم )، فترى النمر وقد تجسد بطيء الخطي من بين الموجات الرملية لينتصب وسط الفجوة، تنبت قدماه الأماميتان على الحافة ثم يندفع بشراسة الى أمام.
يتساءل ابن قبينة :
– رش اتشرف يا صاحب ؟
ويتقدم النمر خطوة أخرى فتعلم أن ليس بامكان أحد غيرك أن يرده ويتحسس القدرة الحيوانية الصامتة وهي تطبع آثارها على الرمال بعد أن توغل ونظر لحظات ثبتت فيها عيناه باتجاهك، فتعرف أن حضوره نداء لك وان عليك أن تستجيب، دونما إرادة للنداء.
سينسجب النمر فتتبعه مأخوذا بقوة أقدامه وهي تنتقل بلا صوت، وبحركة جسده الرشيقة إذ يندفع، أو ينحني أو يستدير، وهي تنتمي انتماء كاملا لما حولها: للضوء والريح والرمال، كأنه بقدرته الحيوانية العجماء تجسيد لارادة تلك العناصر، فيتها القوية القادرة وقد انبعثت من فجوة في الرمال. سيستمر اندفاع النمر وتستمر بمشيك وراءه ناسيا السبورتنغ أفقية في يدك اليمنى من دون أن تعيدها على كتفك فتظل مهملة، خارج وظيفتها في المحس اه كل شي ء في مكانه : الحجر والبئر وزهر الرفات الأبيض وذدات الرمال، لذلك تمتليء الفلوات الفسيحة بأشيائها القليلة وتحيا الى الجهة الجنوبية سترى المنحدرات المعشوشبة والغابات والأودية الظليلة قد امتدت حتى سهول (جربيب ) والى الشمال مباشرة ترى انحدار مساحة من الصخور السوداء والرمل الأصفر الى الربع الخالي، ثم تتطلع فتجد الصحراء منبسطة أمامك تمتد ألفا وخمسمائة ميل حتى البساتين المحيطة بـ(دمشق )، تهب نسمة صحراوية حولك فيتراءى اليك (قصر السعادة ) منبثقا من الرمال بشرفاته الواسعة، وأبوابه العالية أسيجته الملظومة بعقود من لبلاب حجري، ثم تلتفت باتجاه النمر مدفوعا برغبتك لأن تجد لكل ذلك معنى فتراه وقد انحرف ليتوقف عند قدمي بدوي.يرتدي عباءة بيضاء، ذراعه اليعنس تستقر على كتفه اليسرى رافعة ذيل عباءته، كان ينتظر التفانتك لينزل يده ويترك العباءة لمشيئة الريح، ترتسم على شفتيه ابتسامة الغة ويقول :
مرحبا ياصاحب.
كان وجهه قد بدا لعينيك أدكن السمرة بملامح مخحوتة،
لكنه مع طيف ابتسامته صار أشبه بحجر كريم في ضوء الفجر: صلبا، وافر الجمال.
قال:
– تأخرت هذه المرة ياصاحب.
كان بودك أن تقول أنك لم تكلأ رمال الربع الخال من قبل لكنه سبق كلماتك بعد أن لمح ذهولك واقترب ليقول بصوت خفيض.
– ستقول انها المرة الأولى التي تجيء فيها، ربما قلت أنك أول من يجوس خلال رمال الربع الخالي من الغرباء، وأول من يخط الخرائط لطرق الصحراء، لكنك تعرف من نداء النمر ومن ذكرى (قصر السعادة ) أن الصحراء بلا طرق ولا خرائط ولا أسماء، كان اسمك في المرة الأولى لورنس، وعلى مشارف الصحراء أسميت نفسك لورنس العرب، وف الثانية عدت مختلفا باسم ثيسيجر، ولفريد ثيسيجر، أحفظ الاسم على الرغم من صعوبته، وها أنت للمرة الثالثة وقد ندداك أولادك بالصاحب.. ستضيء أحدى غرف (قصر السعادة ) الكثيرات اسمك الحقيقي بعد أن تذهب فقد ناديتك مرات بالصاحب، هل تذكر ذلك ؟
كنت ترده رشيقا، صلب العود، طويل القامة مثل رمح مفروز في الرمل، وتشعر به غريبا بملامحه المنحوتة ونظراته النافذة وهي تقرأ عينيك وتستجلي في ارتجاف أجفانها حذر الغريزة الدائم من طوايا الصحراء ومفاجآتها، تكتم احساسك بالغرابة متسائلا:
– هل دخل الاثنان (قصر السعادة ) من قبل ؟
– كما ستدخله الآن لترى ما لم تره في المرات السابقة، ولتستمر الصحراء في إطلاق ندائها مرة بعد أخرى..
أمام باب القصر زي الخشب اللامع الصقيل ستقفان ثم يرفع يده ليفتحه دافعا أحد مصراعيه الى الداخل، فترى أن اليد لم تكن تمس خشب الباب حقا، كانت تدفع المصراع بغير جهد ومن دون أن تستقر عليه.
– لقد بناه أحد أمراء العرب ليكون القصر الصحراوي لمملكته، قلت ذلك من قبل، وأقول لك الآن بأن سموه شاء أن يكون قصرا يتيما لا ترين له بين عجائب الدهر وغرائب الأمصار، فقد زعموا أن طينه معجون بعصير الزهر والدم والأفكار.
هنا سيكون لصمت العشاق معنى ولنظراتهم معنى، ولارتجاف شفاههم معنى. هنا لن يكون بمقدور أصحاب القلوب السوداء أن يشموا شيئا ولن يروا غير الفراغ، وهم لن يفكروا بالصحراء الممتلئة في فراغها القاحل لأنهم سيكونون في غرفة البنفسج، الغرفة الواسعة التي بلا باب ولها رغم ذلك رائحة بنفسج في المساء.. وهنا الغرفة التي يتيه في أعماقها السادة ويهيم في أرجائها العبيد، الروح وحدها تحوم في سمائها فتية في احترابها الطويل انها الغرفة التي لن يكون فيها سوى الرائحة القوية المدوخة، عرفتها: رائحة الحرية التي تملأ منذ زمن بعيد غرفة الصقور.. ومنا سيكون لك أن تتنسم ريح الجهات وتحسه غامرا بفتنة المجامل والمقاور والمفارز والشهاب، إنها الغرفة التي لم تفتح لسواك هي زي الغرفة التي ستعلن إسمك أيها الغريب لأنها غرفة الغرباء..
سترى ذلك كله يمور في راحتيك، وتسمع حكاية الأعمار والأرزاق، والوساوس والآمال، وتمر بمدن لا عد لها، وتخوض حروبا، بعدها تحكي عن رجل يخلع قبعته الخوص، يرنو الى ماء النهر ثم يغط القبعة فيه ليعيدها مبللة الى رأسه، سيتأكد بعد أن يسيل الماء باردا على عينيه بأن لا شيء يخصه سوى اللحظة التي يرنو فيها وهي لحظة زائلة لاريب، سيثقل تصوره البسيط عن النهاية صدره فيجلس على أحدى درجات السلم، أو سيرتقي الدرجات، بحكم التصور ذاته، ليغيب مثلما جاء تحت أصبع أو في خط من خطوط يديك، وكذا الأمر بالنسبة للعبيد بعد أن خاضوا النهر بخيولهم عابرين الى الجهة المقابلة حيث تنتظرهم خناجر قصيرة معقوفة لامعة الحواف، سيعود القليل منهم، بعضهم على فيول، والبعض الآخر راكضين، عندما يصيرون على ضفة النهر يخرون مثخنين بإحساسهم الباهظ بالعبودية، هذا ما ستعلمهم الخناجر، أو ما تشير خطوط يديك الى أنهم بطريقة ما سيتعلمونه، ثم يرجع السحرة بلا قطط برية ولا رغبات وقد يمر فتى من ابهام اليد اليسرى عابرا خطوطا قصيرة وطويلة، رفيعة وثخينة، طولية وعرضية، كل خط يعني، كبا تعلم، عقبة : جبل، أو حيوان، أو نار، أو صورة الفتى وهي تتكرر الى أعداء بلا عدد حتى يصل الى منزل الستائر القرمزية ويفتح الباب القديم ثم يصعد السلم، وبعد أن يلج الغرفة تخبره المرآة عن نداء الغابات فوق صدر الفتاة الطليق.
هل تقول الحكاية ذلك كله ؟
هل تقول يداك ؟
لؤي حمزة عباس (قاص من العراق)