صحافية وناشطة من كرواتيا، نالت درجة الماجستير في الصحافة من جامعة زغرب، عن الأطروحة التي قدّمتها بعنوان: «الاستشراق والصراع الإسرائيلي-الفلسطيني». تركّز في كتاباتها على شؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتتحدّث في هذا المقال عن النسوية في شعر نزار قباني، وتتطرّق لعدّة محطات من حياته وتجربته: (1)
يعتبر نزار قباني واحدًا من أشهر الشعراء العرب في القرن العشرين، بدءًا من شعره الإيروتيكي المباشر، وشغفه بالنساء، وقصائده العاطفية الملتهبة؛ إلى انتقاده المتواصل للقادة العرب، ودعواته الصارخة للحرية والعدالة. وبعد مرور ستّ عشرة سنةً على رحيله، لا يزال القباني صوتًا حيًّا وفاعلًا في العالم العربي.
ولكي نفهمَ عظمةَ أعمال نزار قباني، علينا أنْ ندركَ القمم التي وصلَ إليها الشعرُ في العالم العربي، وخصوصًا في المائة سنة الأخيرة. فخلال القرن العشرين، كان الشعرُ شكلًا أساسيًّا من أشكال المقاومة في البلدان العربية، واتّسمَ شعرُ هذه المرحلة بالقوّة والتجديد، لقد كان الشعراءُ محاربين، وكان الشعرُ سلاحهم الأمضى. في فلسطين، كان الشاعران محمود درويش وراشد حسين أشْبَهَ بناطقين رسميّين باسم نضال شعبهما. وبدوره دعا القباني إلى الوحدة العربية، وكافح من أجل حقوق المرأة في سوريا.
بالنسبة إلى القباني، فإن الكتابة «فنُّ التورّط»، إذ يقول في مقاله «أتوبوسات الشعر»(2) : «ثلاثة أرباع الكتّاب العرب موظّفون أميـريّون، يكتبون وفي جيوبهم بوليصة تأمين ضدّ الفقر والمرض والشيخوخة والطرد التعسفي…».
وعلى الرغم من أنّ القباني كان قادرًا على كتابة قصائد تجريدية معقّدة، إلّا أن شعره ظلَّ بسيطًا وقادرًا على الوصول إلى الشخص العادي، إذ كان القباني من أوائل الشعراء العرب الذين استخدموا لغة الحياة اليومية. وفي مقدّمته لديوان الشاعر الفلسطيني طه محمد علي، يؤكّد المترجم الفرنسي غابرييل ليفين(3) هذه الملاحظة: «بدأ الشعراءُ المتفرّدون، من بينهم المصري صلاح عبد الصبور والسوري نزار قباني، بتوظيف لغة الحوار اليومي واللهجة المحلية وإيقاعات الكلام الدارج».
لكنّ ثورة القباني الكبرى كانت في الكتابة عن المرأة بطريقة لم يسبقه إليها إلّا القليل من شعراء المنطقة، فكانت صُوَره الحسيّة الجريئة تبعثُ الروحَ في جمال النساء وأجسادهنّ العارية، وتدعوهنّ إلى الحرية. وفي مقابل ذلك، وجّهَ القباني انتقادًا لاذعًا وشاملًا للرجال العرب، فانتقدَ قبولهم بالمعايير الاجتماعية القديمة والمتوارثة، لا سيّما عندما يتعلّق الأمرُ بحقوق النساء وقدراتهنّ. يقول في كتابه «قصتي مع الشعر»: «يسألونني لماذا أكتب عن المرأة؟ وأجيبُ بمنتهى البساطة والبراءة: ولماذا لا أكتب عنها؟».
حين كان القباني في الخامسة عشرة من عمره، انتحرتْ أخته التي كانت في الخامسة والعشرين، بعد أنْ مُنعتْ من الزواج بالرجل الذي تحبّه. كان لهذه الحادثة أثرٌ كبير في شخصية القباني وشعره، فتساءلَ في عددٍ من قصائده؛ كيف لمجتمعٍ يُـهمِّـشُ نصفَ سكّانه، أنْ يحلمَ يومًا بمنافسة الغرب؟. يقول في «الأعمال السياسية الكاملة»:
«أنا أنثى، أنا أنثى
نهارَ أتيتُ للدنيا، وجدتُ قرارَ إعداميْ
ولم أرَ بابَ محكمتي، ولم أرَ وجهَ حكّاميْ».
تصدّى القباني لمواجهة عدّة تابوهات مرتبطة بالجندر، من إحباط امرأةٍ التي لا يقوم زوجُها بإشباع حاجاتها الجنسية، إلى معاناة امرأةٍ حُبلى، رماها عاشقُها في الشارع لأنها رفضتْ إجهاضَ جنينها (4). ويكشف القباني اللثامَ عن نفاق المجتمع وتلاعبه الأجوف بالدين، قائلًا:
«وزوَّرنا كلامَ الله بالشكلِ الذي ينفعْ
ولم نأخذْ سوى زوجاتنا الأربعْ».
ولكونه مريضًا برومانسيةٍ عُضَال، وثائرًا صارخًا ومتهوّرًا، يشبِه القباني شاعرَ تشيلي الكبير بابلو نيرودا، فقد كانت حياتهما وأشعارهما دليلًا على أهمية الشعراء وإبداعهم. في كتاب «سياسة النوستالجيا في الرواية العربية: الدولة-الأمة، المعاصرة والتراث»، تقول البروفيسورة وين تشين أويانغ (5) :
«كتاب (100 رسالة حبّ) الذي أصدره نزار قباني عام 1970، هو في إحدى جوانبه الهامة، إطراءٌ وتبجيلٌ لديوان بابلو نيرودا (100 سونيتة حبّ). من غير الممكن، في سونيتات نيرودا أو رسائل القباني، أن تفصل المرأة عن الوطن. لكنّ نيرودا والقباني لا يحملان الأجندة السياسية ذاتها في قصائد الكتابين البالغة التقدير، فبينما ينحتُ نيرودا المنفيّ، بشوقٍ حارّ، جغرافيا تشيلي على شكل جسدِ حبيبته ماتيلده. يحاول القباني تثويرَ اللغة العربية، ليس من خلال دفعها إلى الأمام، نحو الواقع المخفيّ تحت المكبوت الجنسي، كما فعل نجيب محفوظ في «قصر الشوق» فحسب، بل أيضًا من خلال دفع القوالب التقليدية إلى نهايتها. فالقباني يُقيّم ويُحاكِم ويقرّر… كيف يجب على اللغة العربية أن تُستخدَم».
في عام 1981، قُتلتْ زوجةُ القباني الثانية وحبيبة عمره، بلقيس الراوي، في حادثة تفجير السفارة العراقية في بيروت. تحطّم قلبُ الشاعر، لكنه واصل الكتابة. وقد أرّخ قصيدته التحفة «بلقيس» بنفس تاريخ يوم رحيلها:
«الحزنُ يا بلقيسُ…
يعصرُ مهجتي كالبرتقالةْ
الآنَ أعرفُ مأزقَ الكلماتِ
أعرفُ ورطةَ اللغة الـمُحالةْ
وأنا الذي اخترعَ الرسائلَ
لستُ أدري كيف أبتدئُ الرسالةْ».
محاولًا إبقاء زوجته على قيد الحياة، ابتكرَ القباني عالمًا موازيًا لأجلها، ولغيرها من النساء العربيات، عالمًا يختبرنَ فيه حياةً لا يستطعنَ مقاربتها في الواقع. ففي شعر القباني، تظلُّ النسوةُ محبوباتٍ ومحترماتٍ وممجدّاتٍ إلى الأبد.
لطالما تغنّى القباني بالجمال المختبئ في كل ركنٍ من العالم العربي، وخصّصَ أكثر قصائده عاطفيّةً وغنائيّةً لمدينته دمشق وعطر الياسمين، ولم ينسَ يومًا كيف باعتْ والدته الأميّة حُـلِـيَّـها، لكي تؤمّن له المال اللازم لنشر ديوانه الأول.
من صميم عشقه العظيم للعالم العربي، انتقد القباني المشكلات التي تعاني منها المنطقة، على أمل أنْ يحدث تغييرًا وتقدّمًا نحو الأفضل.
هوامش:
(1) Ivana Peric: The Feminism of Nizar Qabbani. Muftah, 8/9/2014.
http://muftah.org/feminism-nizar-qabbani/#.WJECphkrLIU
(2) المقال منشور في كتابه: «الكتابة فعل انقلابي»، منشورات نزار قباني، بيروت 1975.
(3) غابرييل ليفن: كاتب ومترجم فرنسي، يقيم في القدس ويجيد اللغتين العربية والعبرية.
(4) تقصد قصيدتي: «أوعية الصديد» و «حبلى».
(5) وين تشين أويانغ: أستاذة الأدب العربي والمقارن في جامعة لندن، من كتبها: «شعرية الحبّ في الرواية العربية» و «النقد الأدبي في الثقافة العربية الإسلامية في العصور الوسطى».
ترجمة: عبد الكريم بدرخان