مشكلات الشكلانية الروسية المبكّرة
حين ندرس تاريخ الشكلانية الروسية ونظريتها يواجهنا عدد من المشكلات التاريخية الأدبية والمنهجية البالغة الكبر والأهمية في معالجة المسائل المعاصرة في علم الأدب. وبحكم اعتبارات معينة تقتحم الشكلانية الروسية نقاشاتنا المعاصرة حول مشكلات تفصيلية في نظرية الأدب .
معلوم أنه كان لدى الشكلانية الروسية عدد غير قليل من العشَّاق المتحمسين وعدد لا يقل عنهم من الخصوم الألدَّاء الذين كانوا في أغلب الأحوال يعطون تقييمات أحادية الجانب لهذه الظاهرة المعقدة والمتناقضة. ويبدو أنه آن الأوان لكي نحاول النظر إلى الشكلانية ، لا بمعنى الحديث عن إعادة الاعتبار لها ، ولا عن حلقة جديدة من تفنيدها ، وإنما عن إمكانية إعطاء تقييم موضوعي لأطروحاتها الأساسية وأهميتها التاريخية .
لم تكن الشكلانية مجرد ظاهرة بارزة في الفكر الجمالي الروسي خلال العقدين الأولين من القرن العشرين ، بل هي كذلك نظرية ملحَّة إلى حدٍّ ما بالنسبة لنا اليوم أيضاً. ذلك أن بعض تيارات الفكر الجمالي في الفترة الممتدة من الثلاثينيات حتى الستينيات ضمناً حاول أن يستند وما يزال يستند إلى ما توصل إليه الشكلانيون الروس من استنتاجات .
فما الذي يلفت اهتمام منظّري الفن وبعض الأدباء في الشكلانية ؟
لقد انضم الشكلانيون الغربيون والروس في زمانهم إلى مناقشة ما هو جذري حقاً من قضايا دراسة الفن ودراسة الأدب . وشغل أفكارهم موقعُ الفن بين أشكال الوعي الاجتماعي الأخرى ، وميزاتُ الفن نفسه ، وخصوصيةُ الفن الداخلية وقوانينُه ، ولغته ، وكثيرٌ من المشكلات الأخرى التي تخصّ النظرية والتطبيق في الفن الحديث.
غير أنه ، مهما كان للعودة إلى مناقشة قضايا علم الأدب الكبيرة حقاً والملحَّة فعلاً من أهمية بالنسبة للعلم ، فإنه لأكثر أهمية أن نجد لهذه القضايا إجابات صحيحة ، إجابات تمكّن من الكشف عن المشروعيات الفعلية للظواهر التي ندرسها ، ومن المساعدة على السير قدماً بالفكر الإبداعي الخَّلاق .
– 1 –
تكونت الشكلانية الروسية وتبلورت ، بوصفها تياراً من تيارات التفكير بعلم الأدب ، إبّان العقد الأول من القرن العشرين . فخلال تلك السنوات التي سبقت الثورة كانت تدور سجالات عاصفة حول طرق تطور الفن لاحقاً .
وكانت الرمزية الروسية التي ظهرت إبان تسعينيات القرن التاسع عشر، وعاشت مرحلة ازدهارها في مطلع القرن العشرين ، قد دخلت في مرحلة أزمة قاتلة . ففي عام 1909 كفَّ عن الصدور أبرز مجلات الرمزية ” الميزان” و ” رونو الذهبي” . وفي عام 1910 جرت مناظرة صعبة حول الرمزية شارك فيها أعلام الرمزية فيتشيسلاف إيفانوف وألكسندر بلوك وفاليري بريوسَف وأندريه بيلي. وكشفت تلك المناظرة عن تناقضات عميقة داخل الحركة الرمزية ، وعن انهيار مبادئها الإبداعية .
وقد أحسّ الرمزيون الأحصفُ تفكيراً بضرورة فن جديد يختلف عن الرمزية . إذ كتب فاليري بريوسَف منذ تلك السنوات عن الواقعية قائلاً: «ومع ذلك فإنها في عداد القادة الحقيقيين الفطريين في مجال الفن العظيم». وأصبح واضحاً أن بداية كلّ فنّ هي مراقبة الواقع ، كما ازدادت وضوحاً إلى جانب هذا تلك المخاطر التي يقود إليها الخيال الجامح… وجليٌّ أن المستقبل مُلْكٌ لتركيبٍ ما ، بين «الواقعية» و «المثالية»1، لم يوجد بعدُ. هذه الأقوال التي أدلى بها واحد من رواد شعراء الرمزية ومنظريها لم تغفل عنها الأعين في الصحافة الديموقراطية .
لقد قدّم النّهوض الجديد لحركة التحرير في روسيا عوناً لكثير من الكتاب كي ينظروا بعين جديدة إلى مهامِّ الفنَّان في حياة بلاده .
ففي الجريدة البلشفية ” طريق الحقيقة” (عدد 6، ديسمبر 1914) ظهرت مقالة ” نهضة الواقعية” .
وجاء في هذه الجريدة أنه كان يسيطر على الساحة الأدبية حتى وقت قريب أمثال كامِنسكي وأرتصيباشِف وتشولكوف وصَلَغوب الذين «كانوا جميعاً يتنكّرون للحياة أو يفهمونها فهماً أحاديَّ الجانب . فكان الكتاب الانحطاطيون (الديكادنيس) يطمحون لخلق «خرافات حلوة» عمّا هو «فتّان وجميل» فوق «الحياة الهائجة» . أما الآن فتلحظ شيئاً من الميل باتجاه الواقعية» . فالأدباء مكسيم غوركي ، وأليكسي تَلْصتوي ، وإيفان بونِن، و إ. شميليوف ، وحتى الانحطاطي سابقاً سيرغييّف- تصينسكي «لايرسمون في أعمالهم «أمداء سحرية» ولا « نساء تاييتي» المُلْغَزَة، بل الحياة الروسية الحقيقيَّة بكل ما فيها من فظائعَ واجترار يومي» .
غير أنه في تلك السنوات بالذات كانت تولد بموازاة ذلك مدارس جديدة وأشباه مدارس للفن المعادي للواقعية . ففي عام 1913 أصدر المستقبليون والأكميّون (الأَوجيّون) بياناً حاولوا فيه التأسيس لمبادئهم الإبداعية .
وفي هذا الوقت نفسه من وثبات وسقطات الأدب الروسي كانت تتشكل مدرسة جديدة لعلم الأدب .
إذ صدر عام 1914 كرَّاس صغير كتبه فيكتَر شكلوفسكي تحت عنوان قيامة الكلمة يُعَدُّ أوَّل تأسيس نظري للشكلانية الروسية .
ثم ظهرت في بيتروغراد عام 1916 “جماعة دراسة الكلمة الشعرية” ( أوبوياز) . وفي عام 1916 نفسه صدر كتاب صغير تحت عنوان مجموعات حول نظرية اللغة الشعرية . الإصدار الأول. وفي عام 1917 صدر العدد الثاني من هذه المطبوعة . ثم في عام 1919 صدر كتاب “الشعرية . مجموعة مقالات حول نظرية اللغة الشعرية” ، وذلك في بيترغراد أيام الثورة وعليه شعار دار النشر « إيمو » ، أي (“فن الشباب”) ، وكان فلاديمِر ماياكوفسكي هو الناشر .
وقد تضمنت هذه المجموعة معظم المقالات التي سبق أن صدرت في العددين الأول والثاني ، بالإضافة إلى عدد من المقالات الجديدة .
فما هي اتجاهات الأدب الروسي التي استند عليها الشكلانيون في استنتاجاتهم النظرية ؟ لقد استندوا قبل كل شيء على النظرية والتطبيق لدى معاصريهم الشكلانيين والأكميّين ، وأسلافهم الرمزيين الذين تكشفت أعمالهم عن نزعات جلية باتجاه الشكلانية.(2)
عندما ندرس منابع الشكلانية الروسية في نظريات «جماعة دراسة اللغة الشعرية» (أوبوياز) والشكلانية والأكمّية والرمزية تواجهنا مسألة كبيرة قلّما أضاءتها الدراسات ، وهي ما إذا كانت الشكلانية الروسية مجرَّد ظاهرة روسية أصيلة ، أم هي حلقة مميزة في سلسلة الاتجاه الشكلاني العالمي . ولم يعطِ علماؤنا بعدُ إجابة مقنعة على هذا التساؤل. على أن أحد أوائل الباحثين في موضوع الشكلانية الروسية ، ب. ن. ميدفيدِف ، أصدر كتاباً غنيَّ المضمون هو “المنهج الشكلاني في علم الأدب”3 عام 1928 وقدَّم فيه إجابة مواربة للغاية . ففي تحليله لمفهوم أعضاء «جماعة دراسة اللغة الشعرية» ومنظِّري الشكلانية الغربيين يقول ميدفيدِف إنه لم يكن هناك ، على ما يبدو ، علاقة نشوئية مباشرة بين الشكلانية الروسية ونظيرتها الغربية . وقد اعتمد أعضاء هذه الجماعة في استنتاجاتهم على أعمالهم الشخصية (ص59) . حتى إن ب. ن. ميدفيدِف يؤكد زاعماً أنه لم يكن في الاتجاه الشكلاني الأوروبي استخفاف بقيمة معنى المضمون ، وأن الشكلانيين الغربيين طرحوا فكرة تقول إن العمل الأدبي بناء مغلق بوصفه منظومة من المعاني .
في كتابه “الآخر الشكلانية والشكلانيون” الصادر عام 1934 يغير ب. ن. ميدفيدِف لهجته بعض الشيء . إذ يفترض أن الشكلانيين الغربيين لم يتخطّوا مشكلة المعرفة . ولتأكيد هذه الفكرة يورد ب. ن. ميدفيدِف قول فيدلِر عن الفنان بأنه «يحيط بجانب من الحياة لا يستطيع غيرُه أن يحيط به ، ويبلغ قدْراً من معرفة الواقع يعجز عن بلوغه أي تفكير آخر» (ص32) . ويرى ميدفيدِف أن الشكلانية الروسية تختلف اختلافاً حاداً عن نظيرتها الغربية ، لأنها تضع حل المهام البنائية في مواجهة المهام الأيديولوجية (ص70) .
وكان أ.غ. تصيتلِن أكثر قطعية في نظرته إلى منابع الشكلانية الروسية على صفحات «الموسوعة الأدبية» القديمة ، حيث يقول: « لم يجد الشكلانيون في العلم الروسي الخاص بالأدب أسلافاً مباشرين ، ولذلك كانوا مرغمين على الاستناد إلى الشكلانيين الأوروبيين الغربيين الذين كانوا ، على غرار أتباعهم الروس ، قد اجتازوا بحلول مطلع القرن العشرين طريق مقارعة كل من الوضعية والتجريد المثالي»4. وقد تبين أن وجهة نظر أ.غ. تصيتلِن ليست دقيقة . فالمواد التي نوردها في هذه الدراسة تشهد على أنه لم يكن لدى الشكلانيين الروس أسلاف غربيون وحسب ، بل وأسلاف روس أيضاً .
وثمة وجهة نظر أخرى إزاء العلاقة بين الشكلانية الروسية ونظيرتها الغربية تبنَّاها د. إيفلِف مؤلف المادّة الخاصة بـ “جماعة دراسة اللغة الشعرية” في المجلد الخامس من « الموسوعة الأدبية الموجزة» الصادرة علم 1968، حيث يقول: «… فالمدرسة الشكلانية» لم يكن لها مثيل في علم الأدب الأجنبي ، وإن كنا لا نعدم وجود نزعات مشتركة (الوضعية بوصفها أساساً منهجياً لدراسة الفن) وتطابقات معينة (مثلاً، فهم الفن بوصفه «نسقاً محايثاً» يتطور وَفقاً لقوانينه الداخلية ؛ قارنوا ذلك بمعادلة غ. فيولفلِن ” تاريخ الفن من دون أسماء” ) (العمود 448) .
لدينا أساس للافتراض بأن هذه الصياغات لا تنهي مشكلة العلاقة بين الشكلانيتين الروسية والغربية ، وأكرر أنها مشكلة تكاد تكون غير مدروسة تقريباً .
إن زمننا ، سبعينيات القرن العشرين ، يتيح لنا أن نعالج هذه المسألة في أبعاد أوسع مدى ، وأن لا نقصر نظرنا على سمات تاريخية ملموسة تتميز بها الشكلانية الروسية ، بل وأن نلتفت إلى الوراء للتفكير بما في الفن من أصول للشكلانية . ومفيد أن ننظر إلى الأمام أيضاً ، فنبحث مسألة العلاقة بين الشكلانية الروسية وحلقة باريس اللسانية ، و«النقد الجديد» ، وأعمال ف.كايزر وإ. شتايغر ، والبنيوية الحديثة ، والاتجاهات الأخرى في الفكر الجمالي من عشرينيات القرن العشرين إلى سبعينياته . وعندئذ نكون قد نظرنا إلى الشكلانية الروسية من منظور تطور الفكر الجمالي في القرن العشرين . وهذا موضوع يتطلب جهداً كبيراً ومرهقاً لم يبذل من قبلُ قَطّ .
لقد نشأت الشكلانية الأجنبية في أواخر القرن التاسع عشر إبَّان أزمة شملت مختلف مدارس الاتجاه الثقافي التاريخي والسيكولوجي ، نشأت عبر صراعها مع هذه المدارس . إذ كانت تسعى لحل مشكلات العصر الجمالية ذات الصلة بالعلاقة بين الفن وأشكال الوعي الاجتماعي الأخرى ، ولا سيما الفلسفة والسوسيولوجيا ، وكذلك بخصوصية الفن وقوانينه الداخلية ، وبالعلاقة بين الفن والحياة وبكثير من المشكلات الأخرى . وقد أسهمت الشكلانية الأجنبية بأكبر قدْر من النشاط في السجالات التي دارت منذ الثلث الأخير من القرن التاسع عشر بين الأدباء والمنظِّرين حول ما إذا كان يجب على الفن أن يعكس الحياة ، أن يغيِّرها ، أم أن يخلق تصميمات جديدة ، واقعاً جمالياً جديداً ، أبنية فنية مستقلة ذاتياً . وكان الشكلانيون يؤكدون زاعمين أنه كان لوظائف المحاكاة وإعادة الخلق في الفن القديم أولوية على الوظائف البنائية .
ويكمن واحد من أخطاء الشكلانيين الرئيسية في أنهم كانوا يرون أن خصوصية الفن الموجودة حقاً تتمثل في استقلالية الفن الكاملة عن باقي أشكال الوعي الاجتماعي .
وما من شك في أن كثيرين من الشكلانيين الروس كانوا يعرفون نظريات الشكلانيين الأجانب. إذ نجد في مؤلفاتهم إشارات إلى أعمال المنظّرين الأجانب وعرضاً لبعض من أطروحاتهم ، واقتباسات متفِّرقة من أعمالهم ، حَرفية أو مشروحة . ومن السهولة بمكان أن نكشف عن ذلك كله. ولكنَّ صلة القربى بين الشكلانية الروسية ونظيرتها الغربية ، وفقاً لما يبدو لي ، لا تتكشف من خلال هذه المقارنة التي قد تكون ضرورية أيضاً ، وإنما تتكشف عبر دراسة مدى القربى بين الشكلانيين الروس والغربيين في النظر إلى أهم المشكلات الجمالية .
إننا ، للأسف ، لا نتوفَّر على إمكان الاستشهاد بتاريخ علم الأدب في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، وذلك لأنه لم يوضع كتاب في هذا المجال بعد . غير أن فهم تلك السيرورات التي كانت تجري إبان ذلك الزمن في دراسات الفن ، ولا سيما في صيرورة المدرسة الشكلانية ، ممكن من خلال مادة كبيرة يتضمنها كتاب « تاريخ دراسات الفن الأوروبي. النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. الكتاب الثاني» الذي أصدرته دار «ناووكا» عام 1969.
فعند الحديث عن منابع الشكلانية الأجنبية يشير الباحثون المعاصرون عادة إلى اسم إدوارد غانسْليك (1825-1904) الذي كان أستاذاً في جامعة فينّا . فقد نشر سنة 1854 رسالة ” في الجميل موسيقيا”، ثم أدرج غانسليك في الطبعة السادسة من هذه الرسالة (عام 1881) إضافات جوهرية جعلت مواقفه أكثر دقة . وقد ترجمت رسالة غانسليك هذه إلى اللغة الروسية سنة 1895 . على أن مؤلفها كان يفترض أنه يجب أن نفرِّق في الفن بين الشكل الفني ، بوصفه الوجود المباشر للفن ، بوصفه واقعاً لمرة واحدة ، وبين العناصر غير الفنيَّة التي تفضي ، على وجه الخصوص ، بالموسيقى إلى أفكار وتداعيات خارج الموسيقى . وكان غانسليك قد عّرَّف الموسيقى بأنها «أشكال صوتية متحركة»(5) . كما كان على يقين من أن «الموسيقى تتكلم بالأصوات حصراً ، بل وهي لا تقول إلا الأصوات»(6) . ولذلك يرى غانسليك أن الموسيقى تخلو من الموضوع أو المضمون الذي يمكن التعبير عنه بالكلمات ، ويمكن فصله عن وسائل التعبير الموسيقية .
ولعل هذه وكثيراً غيرها من أطروحات غانسليك كانت تبدو لبعض الرمزيين الروس غير قابلة للنقاش. ذلك أن أندريه بيلي ، مثلاً ، في واحدة من مقالاته التي تمثل برنامجاً ، وهي «أشكال الفن» ، يستشهد بغانسليك وكأنه حُجَّة تحظى باعتراف الجميع . ويورد بيلي مقتطفات من أعمال غانسليك دون أن يرفقها بأية تعقيبات أو شروح ، وذلك، كما هو واضح ، دليل موافقة كلية على الأطروحات التي تقدَّم بها واحد من مؤسِّسي الشكلانية الأوروبية(7) .
لقد لعبت دوراً مميزاً في تاريخ الشكلانية حلقةٌ صغيرة ظهرت في أواخر ستينيات القرن التاسع عشر كانت تتألف من المنظِّر والمشجِّع للفنون كونراد فيدلِر (1841-1895) ، والرسَّام هانس فون ماري (1873-1887) ، والنحَّات أدولف فون هيلديبراند (1872-1921) . على أن الدور الرائد في هذه المجموعة يعود إلى كونراد فيدلر . هنا تكونت أسس النظريات الشكلانية التي لاقت هذا الانتشار في القرن العشرين، والتي تدور حولها ، كما هو معروف ، سجالات حامية الوطيس في أيامنا .
ومن المناسب أن نتذكر هنا قولاً بالغ الأهمية أدلى به بليخانَف ، وهو قول ذو أهمية منهجية كبيرة ، سواء بالنسبة للفهم العام للشكلانية ، أو لتوضيح الخطأ في تفسيرها الأحادي الجانب من قبل المدافعين عنها كما من قبل رافضيها .
فمعلوم أن بليخانَف فكّر كثيراً وعلى نحو مثمر بمشكلة العلاقة بين الفن والحياة الاجتماعية. وقد بيَّن أن ذلك ليس مشكلة سهلة على الإطلاق .
ففي تخطيطه لدراسة تتناول موضوع «الفن والحياة» (1908) أشار بليخانَف إلى أن «الفن الإيطالي العظيم نما على أساس وحدة المزاج بين الجمهور والفنانين»8 . غير أن الفن الحقيقي قلَّما ينشأ على أساس هذه الوحدة .
يتحدث بليخانَف عن المفارقة الاجتماعية التالية . فقد قاتل الرومانسيون ضد الفن الذي يمجِّد النثر ، النثرَ المبتذل للوجود البرجوازي المكرور … يقول بليخانَف: «حسناً يفعل الفنان إذ يدير ظهره للحياة الاجتماعية حين يسيطر عليها الركود والابتذال . فماذا يفعل عندما لا يكون الأمر كذلك ؟ عندئذ تنعكس الصورة ، فيربح الفنَّان إذ يلتفت إلى الحياة ويلتصق بها»9 . ويناقش بليخانَف باستفاضةٍ مواقفَ الرومنسيين في مختلف مراحل تطور الحياة الاجتماعية ، وإليك الاستنتاج البالغ الأهمية الذي يتوصَّل إليه: «إن الفن يربح إذ يدير ظهره للابتذال . ولكن عندما يدير ظهره للحركات التاريخية العظيمة فإنه هو نفسه من يتشبّع بعنصر الابتذال» (ص 307) . ثم يمضي بليخانَف يحدثنا كيف وقف غوتيه ضد الاشتراكيين وهو من كان لا يطيق العالم البرجوازي ، وكيف كان بودلير متشبَّعاً أحياناً بالأهواء الأرستقراطية تحت تأثير (الدندية) الفنية ، رغم استمراره في بغضه للبرجوازية ، ولكن دون أن يتعاطف مع الطبقة العاملة . ويشير بليخانَف إلى أن هذه الملامح وهذه الازدواجية ليست لصيقة بالرومنسية وحدها ، بل وبالرومنسية الجديدة أيضاً (ص308) .
هذه المعارف الاجتماعية التي تحدث عنها بليخانَف لصيقة أيضاً بذلك العصر الذي تكونت خلاله النظريات الجمالية لدى كل من ك. فيدلر وهـ . ماري و أ. هليديبراند.
ذلك أن الابتذال البرجوازي يهيمن على المشاعر الجمالية لدى كل من فيدلر وماري . فهما يتعقبان خطى الرومنسيين فيكرهان المذهب الطبيعي (ناتوراليزم) الضيق الأفق . ويدين فيدلر فن الصالونات إدانة حادة ، ويتحدث هو وماري بحماسة عن خلق «أسلوب كبير» في الفن .
فما الذي يطرحانه بديلاً من العالم الذي يرفضانه ؟
إن ماري وبعده فيدلر هما من يضعان نظرية «الرؤية» و «إبداع الشكل» . فالعالم فوضوي، وفوضوية تلك المشاعر والأفكار التي تنجم عنه توجب على المرء أن يطوِّر في نفسه «بصيرة مطلقة» ، «تأملاً نقيَّاً» منفصلاً عن كل مزيج أخلاقي أو منطقي أو اجتماعي . وهكذا يكون الفنان كمن يجلو لنفسه بنية الموضوع، «شكله النقي» ، أي كمن يلجم فوضى العالم والأحاسيس بـ «إبداع شكل» فني .
والحال ، فإن الفن بالنسبة لـ فيدلر مستقل عن الحياة ، ولا يخضع إلا لقوانينه الداخلية . فهو يقول: «إذا كان المبدآن العظيمان، مبدأ المحاكاة ومبدأ تغيير الواقع ، يتخاصمان فيما بينهما منذ القِدم بصدد الحق في التعبير عن جوهر النشاط الفني ، فإنه لا يمكن حل هذا الخصام ، كما أظن ، إلا بطرح بديل ثالث من هذين المبدأين ، هو مبدأ إنتاجِ واقع” (10) . وهكذا نجد في أعمال فيدلر أن الواقع الجمالي إذ ينفصل عن الواقع يكتسب استقلالاً مطلقاً ، وليس نسبياً . ويؤكد فيدلِر في أثناء تحليله إبداعَ ماري أن العمل الأدبي يجب ، من حيث المبدأ ، أن ينوب عن الطبيعة .
وتتفرع عن هذه الأطروحة مسلمَّات فيدلر الجمالية الأخرى ، فهو يخوض صراعاً ضد الواقعية بوصفها الشكل الأدنى للنشاط الفني ، ويرفع راية المفاهيم النخبوية في الفن ممهِّداً بذلك لما سيتحدث به أورتيغا- إي – غاسّيت حول هذه المسألة بعد بضع عشرات من السنين.
على أن أحكام فيدلر بشأن التقنيات الفنية ووسائل التصوير تستحق اهتماماً خاصاً. يقول فيدلر إنه إذا كان الفن لا يعمل إلا على إعادة إنتاج الحياة ودعمها ، فإن وسائل التصوير ليس لها إلا دور ثانوي ، أي أنها تخضع لمهام غير فنيَّة . أما إذا كانت تبني العمل الفني بوصفه كلاً مغلقاً على نفسه فإن جميع هذه التقنيات تصبح لحظةً بناءة في هذا البناء . ويميل بعض الباحثين إلى أن يروا في أقوال فيدلر هذه انقلاباً كاملاً في نظراته إلى وسائل التصوير .
وفي عام 1893 ظهر كتاب طريف ، ألّفه زميل آخر من زملاء فيدلر في المجموعة المذكورة هو النحات الألماني الفذ أدولف فون هيلديبراند ، تحت عنوان «مشكلة الشكل في الفن التشكيلي» ، وحظي باعتراف واسع . وقد تُرجِم هذا الكتاب إلى اللغة الروسية عام 1914 (انظر: أ.هليديبراند. مشكلات الشكل في الفن التشكيلي . ترجمه إي.ب. روزنفايلد و ف. ف. فافورسكي . موسكو، 1914) . لقد استقبل غ. فلفلِن هذا الكتاب بحماسة وكتب قائلاً: «مثلما يهطل مطرٌ منعشٌ ، عذبٌ على أرضٍ أضناها الجفاف ، هكذا جاء كتاب أدولف هيلديبراند « مشكلة الشكل» ومعه أيضاً منهج جديد لمقاربة العمل الفني»(11) . ووصف أندريه بيلي كتاب هيلديبراند هذا بأنه « نموذجي» يدحض بجلاء ٍ زعم من يؤكد بأن الفنان عاجز عن التفكير النظري»(12) .
إن هيلديبراند يطوِّر الأطروحات الأساسية في النظرية الشكلانية التي تتضمنها أعمال ماري وفيدلر ويضيف إليها . فهو يتخذ موقفاً سلبياً من الفن الذي يقلِّد ، كما يؤكد بكل السبل على دور وظيفة الفن البنائية ، فينظر إلى العمل الفني بوصفه ظاهرة مستقرة في ذاتها ، وموجودة لأجل ذاتها . ويؤكد بصفة خاصة على دور الأشكال البصرية في الفن التشكيلي حماية لها من “الاهتمامات غير الفنية” .
هكذا تكوّنت نظرية الفن الشكلانية أواخرَ القرن التاسع عشر في دراسات الفن الغربية ، ثم لاقت هذه النظرية تطويراً لاحقاً في أعمال علماء الجمال إبان القرن العشرين . على أن تحليل ما للنظريات الشكلانية في القرن العشرين من تاريخ معقَّد ليس هدفاً لهذه الدراسة . بل إن مهمتها أكثرُ تواضعاً ، تنحصر في التذكير (جزئياً في اقتفاء خطى ب. م. ميدفيدِف ومؤلِّفي « تاريخ دراسات الفن الغربية» بأن ولادة الشكلانية الروسية وتبلورها في أعمال الرمزيين وكتاباتِ “جماعة دراسة اللغة الشعرية” سبقهما موروث شكلاني ذو شأن ، خلّفته دراسات الفن الأوروبية الغربية ، ومارس تأثيراً جوهرياً على صيرورة علم الأدب الشكلاني وتطوره في الغرب كما في روسيا . على أن هذه المسألة تتطلّب دراسة كبيرة ومتأنية . غير أن المواد التي في حوزتنا تقدم لنا أساساً لاستنتاج الخلاصة التالية : لقد تكونت الشكلانية الروسية بعد نظيرتها الأوروبية الغربية ، ولا ريب في أن لها ملامحها الأصيلة ، إلا أنه لا يجوز استبعاد الشكلانية الروسية من السيرورة العامة لتطور الفكر الجمالي في القرن العشرين ، وإنه لأكثر جدوى أن ندرسها بوصفها حلقة مميزة في هذه السيرورة .
لم يكن للشكلانية الروسية أسلاف وحسب ، بل وكان لها أتباع أيضاً .
لقد كُتِب الكثير عن تأثير المدرسة الشكلانية الروسية على «حلقة باريس اللسانية» ، وعن وشائج القربى التي تربط خلاصاتها النظرية بنظريات «النقد الجديد» الأنجلو أمريكي ، وبأعمال علماء أمثال ف. كايزر و إ. شتايغر ، وكذلك بمُثُل «نظرية الأدب» المشهورة في الغرب ، التي وضعها وارِن و ويليك ، وبأعمال البنيويين .
لقد بدأ العلماء الأجانب في الخمسينيات من القرن العشرين يركّزون بقوة على دراسة الشكلانية الروسية ، فشوَّهوا مغزاها وأهميتها أحياناً ، واستخدموا مذاهبها حيناً في الصراع الأيديولوجي ضد تصورنا للعالم .
ففي عام 1955 صدر كتاب فيكتر إرليخ ” الشكلانية الروسية . تاريخ ومذاهب”، ثم أعيد نشره مرات كثيرة وأصبح إنجيلاً من نوع خاص لعلم الأدب في الغرب . إذ إن مؤلف هذا الكتاب يضع الشكلانية الروسية في معارضة مع مجمل علم الأدب السوفيتي ، بوصفها أسمى إنجاز بلغه العلم الخاص بالأدب .
وفي عام 1956 أصدر تزفيتان تودوروف أنطولوجيا الشكلانيين الروس تحت عنوان ” نظرية الأدب” ، مع مقدمة كتبها رومان ياكُبسون .
ثم في عام 1968 ظهر كتاب كريستينا بومورسكايا «النظرية الشكلانية الروسية ومحيطها الشعري».
وفي ألمانيا الغربية (حينها. ـ م) صدرت أنطولوجيا ” نصوص الشكلانيين الروس” باللغتين (الروسية والألمانية . ـ م)، مع مقدمة نظرية كبيرة كتبها يو. شتريدر .
وفي بداية السبعينيات راحت تصدر في مختلف بلدان أوروبا وأمريكا مجموعات جديدة من أعمال الشكلانيين الروس ، ودراسات لنظرياتهم .
وهكذا ، مثلاً ، نشرت إيفا تومبسون ، الأستاذة في جامعة إنديانا الأمريكية ، كتابها ” الشكلانية الروسية و «النقد الجديد» الأنجلو أمريكي . تجربة دراسة مقارنة” عام 1971. وقد حاولت في الكتاب المذكور أن تبرهن على أن المدرسة الشكلانية الروسية خلال العقدين الأولين من القرن العشرين و«النقد الجديد» هما أهم مرحلتين في تطور علم الأدب الحديث الذي يتمثل مناهج البنيوية اللسانية بهدف تعزيز وضعه بين العلوم الإنسانية الأخرى.
وفي عام 1973 نشر ف. إرلِخ أعمالاً جديدة حاول أن يثبت فيها أن مؤسس الشكلانية الروسية لم يكن فيكتَر شكلوفسكي، وإنما هو “حلقة موسكو اللسانية” عام 1915، و«جماعة دراسة اللغة الشعرية» (أبوياز) التي ظهرت بعد ذلك بعام . ويشدد إرلِخ على ما لـ رومان ياكُبسون من دور متميز في صوغ مشكلات الشكلانية الروسية . كما يرى إرلِخ أن مذاهب الشكلانية الروسية كان لها أهمية عالمية ، وأثَّرت في نظريات كل من ليفي ستراوس ، وتودوروف ، وجينِت ، ورولان بارت.
على أن البنيويين ، ولا سيما أولئك الذين التفّوا حول جماعة «Tel Quel» ، أفصحوا عن اهتمام خاص بالشكلانية الروسية . وتقول واحدة من الباحثات عندنا: «إن أعمال الشكلانيين الروس كانت موضع دراسة متمحّصة على أيدي جماعة ” تل كيل” الذين حققوا لها دعاية واسعة . فلم تكتفِ هذه المجموعة بنشر متفرِّقات من أعمال ممثلي المدرسة الشكلانية ، بل وكانت أول من أصدر مجموعة أعمالهم في أوروبا»(13).
مجمل هذه الأمثلة المتفرِّقة يتيح لنا أن نصل إلى خلاصةٍ مفادُها أن تحليل أسس الشكلانية الروسية لا يقتصر على أهميتها الأكاديمية ، ولا على أهميتها التاريخية.
– 2 –
سبق أن أشرنا إلى أن منظّري الشكلانية لم يتهربوا من معالجة أشدّ المشكلات أهمية في نظرية الفن. فقد حاولوا إظهار خواص الفن واختلافها عن أشكال الوعي الاجتماعي الأخرى ، وأن يوضّحوا قوانينه الداخلية . فانتقد الشكلانيون- وكان نقدهم شديد الإقناع أحياناً- المدرسة الثقافية التاريخية ومختلف أنواع المدارس الذاتية السيكولوجية في علم الأدب ودراسات الفن . وذلك لأن ممثلي هذه المدارس لم يدرسوا خواص الفن وقوانينه ، بل أذابوه تارة في أشكال الوعي الاجتماعي الأخرى ، وتارة في تيار مكابدات الفنان الذاتية.
كان الشكلانيون يفترضون أن دراسة الواقع الذي يقدِّم المادة للعمل الفني ، وينعكس ويتغيّر في هذا العمل ، إنما يعطي معلومات عن الواقع وليس عن العمل نفسه ؛ أمّا تحليل سيرة الكاتب وصورته الإبداعية، وسيكولوجيته، ولا سيما تصوره للعالم، فيقدم معلومات عن الفنان وليس عن إبداعه . كانوا يريدون دراسة العمل الأدبي نفسه، دراسة بنيته ولغته، مفترضين أن جميع العوامل التي يتمخض عنها العمل الأدبي تعود إلى عوامل غير أدبية . وخيّل إليهم أنهم بذلك يثرون التحليل الفيللوجي، في حين أنهم يفقرونه .
إن الفن، كما هو معلوم، واحد من أشكال الوعي الاجتماعي ، وهو يختلف عن السوسيولوجيا والسياسة والفلسفة وعلم الأخلاق ويتفاعل معها جميعاً . إلا أن الشكلانيين ينتزعون الفن من هذه المنظومة المعقدة، منظومة العلاقة الكلية، ويضفون صفة المطلق على خصوصيته ، مشدِّدين بذلك على استقلاله الذاتي الكامل . ولم يَسْعَ الشكلانيون باتجاه إبراز الأدب من بين أشكال الوعي الاجتماعي الأخرى وهم يدرسون خصوصيته، بقدر ما سعوا إلى فصله عن تلك الأشكال، ظناً منهم أن خصوصيته تكمن في عملية الفصل هذه .
وشجب الشكلانيون بشدة جميع مدارس علم الأدب التي كانت قبلهم. إذ كانوا يفترضون أن علم الأدب القديم لم يكن يتوفر على مادة بحث واضحة المعالم بدقة . ولم يكن يعرف حدوداً دقيقة للدراسة . يقول واحد من معاصريهم وهو يستعرض وجهة نظرهم: «إذا ما أخذنا، مثلاً، مقالة لأحد علماء الأدب القدماء ، وجدنا أنها تتضمن تنقيبات في سيكولوجيا البطل ، ومحاولات للكشف عن صلة بين فكر البطل وتاريخ الفكر الاجتماعي ، عن صلة بين ظروف حياة البطل وظروف حياة عصره واقتصاده الذي تمخض عن هذه الظروف ، وما إلى ذلك . وعندما يدلي عالم الأدب بأحكامه حول مجمل هذه الأشياء نجده ينساق، تبعاً لهذا المنطق، إلى التدخل في مجالات علم النفس والتاريخ والفكر الاجتماعي والسوسيولوجيا والاقتصاد السياسي وغيره . ونتيجة لذلك اتخذ علم الأدب صفة موضوعٍ لا ينتج إلا نشرة عن مادة كان بوسع العلوم المذكورة ، كل على حدة ، أن يحصل عليها بمفرده ، موضوعٍ لا يطرح مهامَّ جديدة من أي نوع»(14). وفي مكان آخر من الكتاب الذي استشهدنا بمقطع منه أعلاه يورد م. س. غريغورِف ملحوظة قالها أ. ن. فيسيلوفسكي ، ومفادها أن علم الأدب القديم «كان شبيهاً بقطعة أرض يتصيّد فيها كل من لا يُقعِده الكسل ، سواء أكان عالِمَ نفس أو محامياً أو سوسيولوجياً»(ص34) ، ويشير إلى صلة القربى بين هذا الوضع ومذاهب الشكلانيين الذين فصلوا فصلاً حاداً بين الأنساق الجمالية وغير الجمالية .
لقد استدعت العلاقة بين الفن والسياسة شجباً خاصاً من جانب الشكلانيين . فقدم أندريه بيلي في أعماله مادة لنظريات الشكلانيين لا يستهان بها، وكان يؤكد أن «الرمزيَّة» أقامت حداً فاصلاً بين قناعة الفنان السياسية وإبداعه، وذلك من أجل ألاَّ يحجب الفنُّ مجالَ الصراع الاقتصادي عن أعيننا بالضباب ، ومن أجل ألا يقتل الصراع الاقتصادي الفنانَ في الفنان(15). لقد كان أندريه بيلي يفرحُ لكون النظرة إلى مهام الأدب قد تغيَّرت في القرن العشرين ، ذلك الأدب الذي حسب تأكيده، «كان يصك الشكل مستقلاً» . ولهذا السبب فإن قوانين التقنية الأدبية تفوَّفت في الغرب على معنى الأعمال الأدبية . لقد انتصر الأسلوبي على الواعظ(16). وقد كان المستقبليون أيضاً قريبين من هذا الفهم لخصائص الأدب . إذ كانوا يكتبون بلهجة ساخرة ، ولكنها عادية بالنسبة لهم ، زاعمين أن الشعر القديم برمّته على علاقة غير شرعية مع «السيد العقل» ، ولذلك لم يعد بوسع ذلك الشعر أن يلد إلا طفلين مصابين بالكساح ، هما المذهب الطبيعي والرمزية(17). كان الأكمي غومِليوف يُعَدَّ واحداً من أسلاف أكمية تيوفيل غوتيه الذي كان يرى في الأدب عالماً كاملاً تتحكم به قوانين تعادل قوانين الحياة الواقعية . وقد أثارت الواقعة التالية من سيرة تيوفيل غوتيه إعجاب غومِليوف. إذ لمّا عاد هذا الكاتب الفرنسي من رحلة جاب خلالها بلداناً مختلفة ، وألّف عنها كتاباً تحدث فيه عن نفسه أكثر مما تحدث عن سكان تلك البلدان ، سألته إحدى قارئاته بمكر: ” تيو، إذن ليس في إسبانيا إسبان؟»(18). هذا الانغلاق الذي يسِم البنى الشعرية والمكابدات السيكولوجية هو ما يعدُّه الأكميون علامة أدب حقيقي.
لقد كان ذلك طريقاً خاطئاً منهجياً في معالجة واحدة من أهم قضايا نظرية الفن. ويتكشف هذا الخطأ لدى القيام بمحاولات لتحليل أي عمل فني. إذ هل يمكن، مثلاً، فهم أي شيء في سلسلة أشعار ألكسندر بلوك ” في ساحة معركة كوليكوف» ، إذا ما انطلقنا حصراً من نصه، من بنيته، دون أن نعرف الأحداث التاريخية التي تنقلها تلك الأشعار، ودون أن نعرف منظومة النظريات الفلسفية والسوسيولوجية لدى هذا الشاعر العظيم، النظرات التي حددت مجمل رموز هذه السلسلة ؟
لقد حاول الشكلانيون أن يثبتوا أن مناهج علم الأدب التي سبقتهم ، أي المدرسة التاريخية الثقافية وجميع أنواع المنهج الذاتي ، تعطي تفسيراً اعتباطياً للعمل الأدبي . بينما وعدوا هم أن يكونوا دقيقين في أهدافهم . وتوخياً لبلوغ هذه الدقة ، كثيراً ما كانوا يخرقون قوانين العلوم الإنسانية ، ويحاولون عقد تحالف مع العلوم الدقيقة ، ومع الألسنية التي خيل إليهم أنها يمكن أن تكون علماً دقيقاً . فلنفترض مثلاً أن أمامنا عملاً أدبياً. إن دراسته تتطلّب منا أن ننسى من أين نشأ، وماذا يعكس أو يحور، ومَنْ وكيف صنعه . ويجب ألاّ يعتمد تحليل هذا العمل إلا على العمل نفسه وعلى قوانينه الداخلية . فما الذي يمكن أن نكتشف فيه ؟ كلمات، وإيقاعات، وقواف، وأصواتاً وبنيات تركيبية . وهذه يمكن تفكيكها وإحصاؤها ، وتحديد شرعية تسلسل عناصر محددة فيها. فقد سبق لـ أندريه بيلي أن أكد أن علم الأدب، إذا ما أراد أن يصبح علماً دقيقاً، يتوجّب عليه أن يغادر ميدان العلوم الإنسانية ، وأن ينتقل إلى حقل العلوم الدقيقة: «إننا إذا ما حرّرنا القصيدة التي ندرسها من كل مضمون فكري ، بوصفه شيئاً لا يندرج في حقل العلوم الشكلانية ، إذن ولا في حقل العلوم الدقيقة، لا يبقى أمامنا إلا الشكل ، أي أدوات التصوير ، التي تتمثل من خلالها الصورة والكلمات ، والجمع بينها وتوزيعها»(19). إن بيلي واثق من أن قوانين الطاقة، والقوانين العليا للفيزياء النظرية مماثلة لقوانين الفن الشكلانية . ولكنّ بيلي يستدرك قائلاً إن قوانين الطاقة هذه لا تستطيع النفاذ إلى جوهر الفن ، وهذا أمر يجب تأكيده بقوة ، غير أنها تستطيع من الخارج أن تحدد حقل الأشكال على نحو كامل(20). على أن بيلي نفسه قدم أمثلة على التحليل الرياضي للأشكال الأدبية.
هذه الريبة إزاء العلوم الإنسانية ، وهذا التعبد أمام دقّة ما يسمى بالعلوم الدقيقة يعدَّان سمة مميزة لبعض المنظّرين في القرن العشرين سبق أن عبَّر عنها أوسفيلد شبنغلر بجلاء كبير . فمنذ منتصف العشرينيات كتب شبنغلر قائلاً: «إنني أحب العمق والدقة في النظريات الرياضية والفيزيائية التي ليس عالم الجمال وفيلسوفُ الطبيعة بالمقارنة معها إلا متبطِّلَيْن . ولكنتُ أعطيت جميع ما في الصناعة الأدبية المعاصرة من أساليب مسروقة ، بل ومجمل ما هناك من رسم وعمارة فوق ذلك ، مقابل ما للسفن السريعة ولمصنع الفولاذ وللآلة الدقيقة من أشكال بديعة الدقة ورفيعة المستوى الذهني ، مقابل ما لبعض مناهج الكيمياء والبصريات من رشاقة مرهفة»(21).
معلوم أن البنيويين المعاصرين يحاولون إرساء علم أدب بنيوي ويستخدمون من أجل هذه الغاية الآلات الحاسبة التي تعمل بفاعلية ، على وجه الخصوص. ولكنهم ما زالوا ، كما يشير الباحثون ، يهتمون حتى اليوم بتلك الطبقات المرئية على سطح العمل الأدبي، أي بطبقات التعبير اللغوي وبطبقات التركيب . وهم بذلك يهملون الطبقات الأخرى ، أي طبقة ما يدخل في العمل الأدبي من عناصر الواقع (مواد وأحداث وعواطف وأفكار)، وطبقة القيم والتقييمات . على أنه لم تجرِ محاولات لدراسة هاتين الطبقتين الأخيرتين إلا منذ وقت قريب . فهل ينجح البنيويون في حل هذه المسائل أم لا ؟ إن الحكم للزمن.
ولكن بوسعنا القول منذ الآن إن محاولات ترييض (مطابقته مع الرياضيات . ـ م) علم الأدب كثيراً ما تؤدي إلى ظواهر محزنة ، أي إلى الانتقاص من قيمة الفن الاجتماعية ، وإلى تجريده من الأيديولوجيا(22).
على أن الشكلانيين وجدوا طريقاً آخر إلى علم الأدب الدقيق ، وذلك عبر الاتحاد بين علماء الأدب وعلماء الألسنية . وقد تكلم ف. م. جِرمونسكي عن هذا الموضوع بيقين قويّ في أعماله المبكرة ، حيث يقول: ” ما دامت مادة الشعر هي الكلمة ، فإن تصنيف وقائع اللغة الذي تقدمه لنا الألسنية يجب أن يندرج في أساس البناء المنهجي للشعرية. وبذلك تصبح كل واحدة من هذه الوقائع الخاضعة للمهمة الفنية تقنيةً شعرية . وبناء عليه، فإن كل فصل من فصول العلم الخاص باللغة يجب أن يقابله فصل من فصول الشعرية النظرية”(23). ويسمّي جِرمونسكي هذه الفصول ، فإذا بها : الصوتيات الشعرية poetique phonetique ، والاشتقاق والصرف ، والتركيب syntax ، والسيميائية ، والتفسير التاريخي ، والأسلوبية . لقد كتب هذا الكلام سنة 1923، ولكنّ النقاشات ما تزال تدور حول هذه المسألة في أيامنا أيضاً .
وهنا تنشأ مفارقة تاريخية تثير الفضول . ذلك أن الشكلانيين كانوا ومازالوا يقدمون أنفسهم على أنهم حماة الشكل الشعري ، ويعدّون أنفسهم المدافعين الوحيدين عن خصوصية الفن. حتى أن بعضهم لم يسمُّوا أنفسهم شكلانيين، بل «خصوصائيين». أما عندما يطلب هؤلاء «الخصوصائيون» العون من العلوم الدقيقة، ولا سيما من الرياضيات، أو حتى من علوم الألسنية الأكثر قرباً إليهم، ويحاولون الاستعاضة عن منهجهيتم الخاصة بمنهجية تلك العلوم ، يتكون انطباع بأنهم ضعيفو الثقة بأن للأدب وعلم الأدب قانونيات تخصهما وحدهما حصراً.
كيف يتصوَّر الشكلانيون الواقع الجمالي ؟ وما هي الطرق التي يقترحون دراسته بها؟
قبل كل شيء، يأتي تصورهم على النحو الذي يعالجون به المشكلة التقليدية بخصوص العلاقة بين الشكل والمضمون في العمل الأدبي.
ثمة قدْر هائل من التردد بخصوص معالجة هذه المسألة . فـ أندريه بيلي ، على سبيل المثال، شديد الحذر والتناقض . إنه كثيراً ما يردد القول بأن الشكل لا ينفصل عن المضمون . فهو يحاول أن يرى الاختلاف في معالجة هذه المشكلة بين مختلف المناهج الفنية . ويرى أن الشيء الرئيس في الفن الرومنسي هو المضمون الذي يجعل الشكل خاضعاً له فيقلبه إلى أداة للتعبير عن المضمون. وخلافاً لذلك ، فإن المضمون في الفن الكلاسيكي هو الذي يخضع للشكل . و يرى بيلي في هذا صراعاً مع الرب، محاولة يقوم بها الفنان – من بوشكِن إلى بريوسَف- لتغيير وجه العالم على طريقته .
إن بريوسَف في نظر بيلي صفحة بيضاء . فهو من صعَّد الاهتمام بالشعر، وحلل ما لا حدود لصغره من عناصر الإبداع ، وأحبَّ القافية ، وفهم حياة البيت الشعري الحميمية ، يحسُّ بالأصوات في الكلمات ، ويمتلك موهبة الموسيقى ، وهو أفضل أسلوبي(24).
ويرى بيلي أن الوحدة الكاملة بين الشكل والمضمون غاية لا يمكن بلوغها إلا في الرمز. وفي الوقت نفسه يطرح بيلي هذه الأطروحة: «إن مهمة ما هو موجود من علوم الجمال لا تكمن في الكشف عن معنى الفن ، بل في تحليل أشكاله»25. و يشدد بيلي مرات كثيرة على أطروحته هذه التي يخيَّل أنها أطروحة شكلانية صِرف . وعندما يقوم بدراسة بحر اليَمب خماسي التفعيلة في أعمال متفرقة من أعمال الكلاسيكيين الروس يذكرّنا بيلي على الدوام بأنه لا يقدم إلا وصفاً لعناصر الشكل الفني الخارجية ، وبأن ذلك ما هو إلا مادة لمن سيتولّى دراسة المضمون في المستقبل … إلخ.
وتتصف بالحذر نفسه أقوال الأكميين عن الشكل والمضمون . فعندما يقدم الشاعر نيكولاي غومِليوف، على سبيل المثال، توصيفاً لشعر تيوفيل غوتيه ، يتحدّث عرَضَاً عمّا يرى فيه عناصرَ شكلٍ قائلاً: “إن اختيار الكلمات، واندفاعة الزمن المتأنية ، وغِنى القوافي، وجَرْس البيت الشعري ، كل ما بهذا القدْر من العجز نسميه شكل العمل الأدبي، وجد في تيوفيل غوتيه مدافعاً غيوراً وعارفاً»(26). (تشديد المؤلف أ. م).
أما أقوال المستقبليين الروس حول هذه المسألة فهي فظَّة وقطعيّة. إنها تنسجم على نحو مدهش مع ما قاله حول الموضوع نفسه فنانون حداثيون في العقد الأول من القرن العشرين ، أمثال ف. كَندنيسكي وغيره . ففي عام 1911 أعلن ف. كَندينسكي في مقالة بعنوان “إلى أين يسير الفن ” الجديد” أنه والفنانين القريبين منه يَعدُّون «المضمون أياً كان غيرَ فني ومعادياً للفن»(27). ووراء كَنْدينسكي ردَّد د. د. بورليوك في مداخلته “عن التكعيبية والاتجاهات الجديدة في الرسم” مؤكداً أن «جوهر ما يصوِّره الفنان يجب أن يكون عديم الأهمية تماماً بالنسبة للمشاهد ، ولا يجوز أن يثير اهتمامه إلا أسلوب الفن أو طريقته”(28).
ونجد في مقالات “جماعة دراسة اللغة الشعرية” (أوبوياز) بعض التنويعات على هذه الأقوال. فقد كان منظَّرو الشكلانية الروسية يَعدُّون المضمون مقولة غير جمالية، مؤكدين أن أنصار المنهجين ، الثقافي التاريخي والسيكولوجي ، تناولوه بالدراسة في حينه، ولكن ْ على نحو عقيم . وتميزت بطابع آخر أحكامهم حول الشكل الذي يُزعَم أن الشكلانيين كانوا أول من اكتشفه مادة للدراسة . كما لاقت شهرة واسعة أحكام ف. ب. شكلوفسكي التي تقول إن العمل الأدبي شكل محض ، وإن قيمته من الناحية الفكرية تعادل صفراً ، ولذلك فإن الأعمال التي مدارها «الفكاهة ، والمأساة ، والتراضي ، والغُرَف ، والمقابلة بين عالَم وعالَم ، أو قطة وحجر، كلها متساوية فيما بينها»(29)، أو إن الشكل الجديد لا يولد من أجل التعبير عن مضمون جديد، وإنما لينوب مناب فنّيّته القديمة الضائعة.
كان الشكلانيون يريدون للقارئ أن يشعر بشكل العمل الأدبي ، وأن يحسن ، كما أشرنا من قبل ، التفريقَ بين العمل الأدبي والنثر العملي الاجتماعي . وسعياً وراء ذلك يتوجب على الفنان أن يستخدم شكلاً معقداً . يقول رومان ياكُبسون: “ليس الشكل موجوداً بالنسبة لنا إلا ما دام صعباً علينا تلقيه ، ما دمنا نحس مقاومة المادة ، ما دمنا نتأرجح متسائلين : هل هذا نثر أم شعر ، ما دامت “عظامُ الوجنات تؤلمنا” ، كما كانت ، حسب شهادة بوشكِن ، تؤلم الجنرال يرمولَف وهو يقرأ أشعار غريَبِّيَدف»(30) . مجمل هذه الاستنتاجات ، التي ظُنَّ يوماً أنها شديدة التميز، تبدو في ضوء المنظور التاريخي مفرطةَ السذاجة ، وقد اضطرّ للتنكر لها حتى مؤلفها نفسه.
كان الشكلانيون الروس ، ولا سيما المستقبليون من بينهم ، ميالين إلى التأكيد على أن الفن الجديد الذي يبدعونه هم يختلف عن الفن القديم الذي ينكرونه هم ، ويكمن ذلك الاختلاف في أن فنهم ليس تأملياً ، وإنما هو فعَّال ، ولا يعكس الحياة بقدر ما يحوِّرها ، حتى إنه لا يحوِّرها بل يشوِّه شكلها ، وزعموا أن هذا التشويه للشكل يساعد ليس على تغيير صفة الفن فقط ، بل وعلى تغيير بناء الحياة ذاتها أيضاً.
وتبين دراسة هذه المسألة أن هذه المهمة، وهو ما تحدثنا عنه في هذه الدراسة، كانت قد طرحتها على الفن منذ نهاية القرن التاسع عشر جماعة فيدلِر وماري وهيلديبراند . ولم يقتصر الأمر على هؤلاء وحدهم . فقد كتب عنها الرمزيون أيضاً. ولنكتفِ بمثال واحد. ففي مقالة بعنوان «وصايا الرمزية» كتب فيتشِسلاف إيفانوف: «إن الشعر الغنائي بطبيعته ليس فناً تعبيرياً كالنحت والرسم، بل هو كالموسيقى فن حركي، ليس تأملياً، بل فعَّال، وهو في المحصلة ليس إبداع أيقونات، بل إبداع حياة»(31).
وذهب بعض الرمزيين أبعد من ذلك رافعين راية أولوية الإبداع على المعرفة من خلال عملية خلق العمل الأدبي. ولم ينسوا أن يشددوا على هذه الأطروحة التي تقرِّبهم من مدرسة فريبورغ للكانطيِّين الجدد(32). وهذا ما كانوا يرون فيه تجديدهم.
وكان الشكلانيون يعالجون العلاقة بين الفن والحياة على طريقتهم، باذلين قصارى جهدهم للتأكيد على دور فعَّال للفنان الذي يحِّور الواقع وتصُّوَرهُ عنه ، ويبدع أعمالاً تتعارض مع الحياة ولا تشبهها.
وقد وجهوا لومهم إلى الفن الكلاسيكي لأنه ، وفق زعمهم، لا يزيد على أن ينسخ الواقع ويكرّره ، أو يخلق شبيهاً له . حقاً ، إن الأدباء الروس في القرن التاسع عشر، ولا سيما بعد أعمال الديمقراطيين الثوريين ، شددوا مرات كثيرة على أولوية الحياة على الفن، ولكن هذا لا يعني أنهم كانوا يكتفون بنسخ الحياة . فمنذ عام 1793 كتب غوته مقالة بعنوان «عن الحقيقة وشبه الحقيقة» يقول فيها: «إن الصدق في الفن والصدق في الطبيعة ليسا شيئاً واحداً»(33). وكان يسخر ممن يرى أن الغلبة للصدق والفنِّيِّة في تلك الحبَّات من الكرز المرسومة على نحو رائع يجتذب إليها عصافير الدوري، أو في تلك الجُعلان التي بدت في اللوحات على قدْر من الإقناع جعل القرد يحاول عضّها. وأشار غوته إلى أن الفن “فوق الطبيعة ، ولكنه ليس خارجها” (ص681) . ويتابع قائلاً إن من يعرف الفن معرفة حقيقية: “لا يكتفي برؤية حقيقة ما يصوره ، بل يرى أيضاً تفوّق الانتقاء الفني ، والقيمة الروحية لما أعاد توحيده ، وأن للفن عالماً صغيراً فوقَ أرضيٍّ” (ص632) . وبذلك فإن من يعرف الفّن يرتقي إلى مصاف الفنان ، ويدخل «في وجود أكثر سموَّاً». وفي عمل آخر موسوم بـ «هاوي اللوحات وأقرباؤه» كتبه في تلك السنوات نفسها يورد غوته مثالاً مُقْنِعاً آخر . فلنفترض، كما يقول ، أن لدى الفنان شوقاً عارماً للمحاكاة ، ثم رأى كلباً اسمه بيلّلو وصوَّره بدقة كبيرة في لوحة: ” وفي النتيجة يكون كل ما نحصل عليه كلبين باسم بيللو بدلاً من واحد” (ص697). وعندئذ لا تربح الحياة ولا يربح الفن . لقد كان أبرز أساتذة الكلمة في القرن التاسع عشر يشاطرون غوته نظراته هذه . ونحن مضطرون للتذكير بذلك نظراً لأن بعض منظّري الفن المعاصرين حاولوا أن يثبتوا أنه ما من أحد غير علماء القرن العشرين ، غير الشكلانيين، رفض تسويغ نسخ الواقع في الفن نسخاً بسيطاً.
لا يجوز أن ننظر إلى العمل الفني بوصفه واقعاً . فالواقع الجمالي الذي يبدعه الأديب أو الفنان شيء افتراضي . وإذا كان الفنانون الكبار في القرن التاسع عشر يشدِّدون على العلاقة بين هذا الواقع الجمالي الافتراضي والحياة ، فيما يشدد الابتذاليُّون على التطابق بين هذين المفهومين، فإن كثيرين من منظرَّي الفن، وكثيرين من الشكلانيين في القرن العشرين، شددوا على تمزيق هذه الوحدة الديالكتيكية. وهكذا أكد ماليفيتش ، مؤسس (التفوقيةsuprematism) ، أن مهمة الفنّان لا تتمثل في تصوير الواقع تصويراً إبداعياً ، وإنما في خلق أنواع جديدة من الواقع وبثِّ الحياة فيها. وكان المستقبليون الروس يفترضون أنه يجب على الفنان أن يكسر ما تخضع له الطبيعة من قيود الضرورة، وأن يلقي عن كاهله نير القوانين ، من أجل أن يخلق واقعاً جديداً حراًَ، أي من أجل أن يجترح معجزة يتفتّق عنها الخيال الإبداعي . لقد تابع المستقبليون خط الأدب الانحطاطي (ديكادِنْس) على طريقتهم ، من حيث الجوهر. وكانت الحياة بنظرِ صَلَغوب، مثلاً، «امرأة بدينة وقبيحة». فافتتح روايته الشهيرة ” مفاتن جديدة” بهذا التصريح الجمالي: «أتناول قطعة من الحياة خشنة وفقيرة، ثم أصنع منها خرافة حلوة، ذلك أنني شاعر».
وكان صَلَغوب والمستقبليون يسوّغون بطرق مختلفة إرادة الفنانين الذاتية ويركِّزُّون الانتباه على إضفاء صفة المطلق على الواقع الجمالي الذي ينتجون. إذ كان الشكلانيون يرغبون في أن يروا إلى جانب العالم الواقعي عالماً آخر منقطع الصلة تماماً بالعالم الواقعي الذي تتحكم به قوانين أخرى. فهم لم يقيموا بين هذين العالمين ترابطاً بل تعارضاً، وحاولوا أن يعيشوا، وفقاً لتعبير نيكولاي بيرديايف، لا في الوجود الأول وإنما في الوجود الثاني الفيللوجي الخاضع لقوانين أخرى.
وبناء على ذلك لم يمرّ الشكلانيون مروراً عابراً بمشكلات الفن، مشكلات العلاقة في الفن ما بين العوامل الموضوعية والعوامل الذاتية. وكانوا ينظرون إلى الموضوع والذات في حالتين: قبل اندراجهما في نسق جمالي ، وبعد الاندراج في هذا النَّسق . فقبل الاندراج في هذا النسق يخضع الموضوع ، أي أشياء العالم الواقعي وأحداثه ، وكذلك الذات، أي الفنَّان، لقوانين الحياة العملية، ويمكن فهمهما من خلال دراستهما عن طريق مختلف العلوم كالسوسيولوجيا والفيللوجيا وعلم الأخلاق…إلخ. وما ذلك في نظر الشكلانيين إلا مادة للفن لا غير، وهم يتجاهلون هذه المادة عندما يحللون العمل الأدبي بوصفها مقولة غير جمالية، مفترضين أن العامل الأهم هو التقنية، أي طريقة تنظيم المادة. إذ يجب أن تكون بنية العمل الفني هي بالذات موضوع الدراسة عندهم ، وليس ما يقع خارج هذه البنية أو وراءها. وهنا يدخل الشكلانيون في مجال المقولات الجمالية التي تسيطر فيها قوانين أخرى.
فما هي تلك القوانين؟
لقد ظنَّ الشكلانيون أن واحداً من أهم قوانين الفن هو ما يسمى بقانون التغريب.
ويُعَدّ فيكتَر شكلوفسكي نفسه صاحب هذا المصطلح . ففي عام 1970 صدر كتابه «وتر القوس» الذي يقول فيه: «ظهرت نظرية التغريب عام 1916. وقد سعيت فيها إلى تعميم طريقة لتجديد التلقي وتبيانِ الظواهر»(34). ويشكو ف. ب. شكلوفسكي ، وهو يؤسس لهذا المصطلح ، من أن كلمة “التغريب” هذه تكتب على نحو غير صحيح يجعلها غامضة ، علماً بأنها مشتقة من كلمة «غريب»(35).
يقول شكلوفسكي في مكان آخر من الكتاب نفسه:
«هذه الصيغة التي أسميتها في عام 1915 «التغريب» لا تنطبق على تَلْصتوي إلا قليلاً جداً” (ص77).
ويحاول حتى معاصرونا اليوم إشاعة هذا المصطلح . إذ يضمّ الجزءُ الخامس من «الموسوعة الأدبية الموجزة» مادّة عن «التغريب» كبيرة نسبياً ، ولكنها تعرض نظرية التغريب دونما أي قدر من النقد الجدّي. بل وفضلاً عن ذلك يصل مؤلفها إلى القول: «إذا لم نضفِ صفة المطلق على مفهوم «التغريب» فإنه (شأن مفهوم الآلية المرتبط به) واعد» (ص 489).
فماذا يمثل هذا المصطلح «الواعد» في الواقع؟
تضّمن الكتاب الثاني من ” مجموعة مقالات في نظرية اللغة الشعرية” الذي صدر عام 1917 مقالة ف. ب. شكلوفسكي البرنامجية ” الفن كتقنية” التي ينتقد فيها بَتِبنيا لكونه عرّف الفن بأنه تفكير بالصور . ويؤكد شكلوفسكي أن الصورة الشعرية هي إحدى أدوات اللغة الشعرية ، ويرى أن أطروحات بيلينسكي و بَتِبنيا عتيقة عفّى عليها الزمن . فما البديل الذي يقترحه ، إذاً ، عوضاً عن هذه الأطروحات المرفوضة ؟
يحاول شكلوفسكي إثبات أفكاره بالاعتماد على أعمال كل من سبنسِر، ور. أفيناريوس ، وأ. ن. فيسيلوفسكي ، و أ. بيلي (ص5- 6)، انطلاقاً من أننا نألف ما نراه حولنا، ونتقبل الأشياء والأحداث آلياً . ” فالآلية، – كما يقول ف. ب. شكلوفسكي، – تلتهم الأشياء ، والثياب، والأثاث، والزوجة ، ورعب الحرب»(36). غير أن الفن موجود لكي يعيد ذلك كله إلى مجال تقبّلنا المباشر، ليمنحنا الإحساس بحجرية الحجر . إن مهمة الفن الأساسية، وفقاً لـ شكلوفسكي ، تكمن في تخليص الأشياء من آلية التعرف عليها، في منحنا شعوراً بالشيء بوصفه رؤية . ولبلوغ ذلك لا بدّ من اللجوء إلى تقنية التغريب، تقنية تعقيد الشكل. إذ ينبغي على الفن، وفقاً لـ شكلوفسكي، أن يُخرِج المادة أو الحدث من منظومة التصورات المألوفة ليضعها في نسق منظومي وأسلوبي آخر، أي أن يجعلهما غريبين ، وكأننا نراهما أول مرة . هذه الاستنتاجات يحاول شكلوفسكي إثباتها عبر تحليل بعض المشاهد من أعمال ليف تَلْصتوي (دفْن سيربوخَفْسكوي في قصة “خولستومير”، وتصوير المعارك في ” الحرب والسلم” ، والمدينة والمحكمة في رواية ” البعث” ، والحياة الزوجية في ” سوناتا كرويتسر”) .
فهل كانت تقنية التغريب اكتشافاً يخص ف. ب. شكلوفسكي؟ لقد كان معاصروه يشكّون في ذلك. ففي معرض دراسته هذه القضية يصف ف. م. جِرمونسكي فكرة شكلوفسكي بأنها شيِّقة، ولكنه يعيد إلى أذهاننا أنه قبل شكلوفسكي بوقت طويل عبّر الرومنسي الإنكليزي كولريدج (1782-1834) عن فكرة مشابهة في ” السيرة الذاتية الأدبية” ، عندما قال في معرض تحليله إبداع ووردزوُرث إن مهمة الشعر هي ” بثُّ فِتنة النضارة في الأشياء ، وخلْقُ شعور يضاهي الشعور الخارق عبر إيقاظ انتباهنا الروحي من سُباته الاعتيادي ، وتوجيهه صوب مباهج العالم المحيط بنا وأعاجيبه ، إذ إن في هذا العالم كنوزاً لا تنضب ، غير أننا تحت تأثير العادة والاهتمامات العملية يكون لنا إزاء تلقيها عيون لا تبصر، وآذان لا تسمع ، وقلب لا يحسن الشعور ولا الفهم»(37). إن قولة كولريدج هذه الشديدةَ القرب بمضمونها وبأشكال تعبيرها من نظرية التغريب ، استعرضها جِرمونسكي في مقالته “حول “شعرية” جماعة دراسة اللغة الشعرية (أبوياز)” التي كتبها عام 1919. ومن دواعي الأسف أن مؤلف مقالة “التغريب” في “الموسوعة الأدبية الموجزة” الصادرة عام 1968 لم يأخذ قول كولريدج بعين الاعتبار.
ولعل من المفيد أن نذكِّر بأن الظاهرة التي عُبِّر عنها في العقد الأَّول من القرن العشرين بمصطلح “التغريب”لم يغفلها النقد الروسي الكلاسيكي. إذ، على سبيل المثال، تحدث بيلينسكي وكثير من الكتاب الروس عن أن العمل الفني يجب أن يصوِّر لقرّائه نماذج من “غرباء ليسوا عليهم بغرباء”.
غير أن القضية، على ما يبدو، لا تكمن في تحديد من كان أول من أشار إلى هذه الظاهرة، بقدْر ما هي في ما يقدمه مصطلح “التغريب” لفهم جوهر الأدب.
فعالم النفس السوفييتي المعروف ل. س. فيغوتسكي أولى في كتابه ” سيكولوجيا الفن” اهتماماً كبيراً لتحليل النظرات الجمالية. ومعلوم أن الشكلانيين خاضوا صراعاً لا يكلّ ضد النظريات السيكولوجية، وأعلنوا مراراً، شأن المستقبليين، أنهم لا يهتمون بسيكولوجيا الفنان ، ولا بسيكولوجيا أبطاله . وقد أورد فيغوتسكي عدداً من المقتطّفات البالغة الدلالة من مختلف أعمال الشكلانيين . فكيف عرَّفوا التغريب؟ أكرر أنهم عرّفوه على أنه تخليصٌ للمواد والأحداث من وضعها المعتاد ، وصراعٌ ضد آلية التلقي . فقد وضعوا في مواجهة آلية التلقي تجديد التلقي ، ورأوا أن ذلك هو غاية الفن . إن عملية “الآلية-التغريب” محاولة لإخراج الفن من مجال العلاقات الاجتماعية إلى ميدان الظواهر السيكوفيزيولوجية . يقول فيغوتسكي: “فوفقاً لتعاليم الشكلانيين نصل إلى أن تلقّي الشيء أمرٌ طيّب بحدّ ذاته” . وهذا يعني أن الشكلانيين عادوا إلى السيكولوجيا التي يحتقرونها . فغاية الفن هي الفرح لتجديد الإحساس . ويشير فيغوتسكي إلى أن: «هذه اللَّذَّة ( hedonism) البسيطة ، هذه العودة إلى ما هو مهجور منذ زمن بعيد من تعاليمَ حول ما يمنحنا إياه تأملُ الأشياء الجميلة من متعة وسرور، هي ما يكاد يكون أضعف نقطة في نظرية الشكلانيين السيكولوجية»(38).
ومن بين قوانين الفن الداخلية أَولى الشكلانيُّون أهمية مميزة لفهم التقنية التي رأوا فيها إلى جانب نظرية التغريب ، واحداً من أهمّ الأركان الأساسية لخلق واقع جمالي.
ولم تكن قليلة نقاشاتُ منظرّي الرمزية أيضاً بصدد دور التقنية الشعرية . فما هي التقنية ؟ لقد أعطى أندريه بيلي، مثلاً، إجابات متناقضة على هذا السؤال (انظر ما جاء في مقالته ” مشكلات الثقافة” التي كتبها في عام 1909 مفتتحاً بها كتابه ” الرمزية”، وفي أعماله الأخرى) .
لم تعرف “جماعة دراسة اللغة الشعرية” التردد وهي تعرِّف التقنية . إذ يفتتح فيكتَر شكلوفسكي الإصدار الثاني من ” مجموعة مقالات في نظرية اللغة الشعرية” بمقالة برنامجية لا يدع عنوانُها مجالاً للشك بالكيفية التي تعالج الجماعة بها هذه القضية . فعنوانها هو ” الفن كتقنية”. وفي سياق سجاله مع تصور بَتِبنيا للفن ، بوصفه تفكيراً بالصور ، يصل شكلوفسكي إلى استنتاج يزعم فيه أن الصورة بحدّ ذاتها ليست إلا واحدة من أدوات اللغة الشعرية . ويدفع شكلوفسكي بتقنية التغريب إلى المقام الأول . فهو يرى أن مجمل عمل المدارس الشعرية ينحصر في استنباط تقنيات جديدة لتوزيع المواد الكلامية وصقلها. وعلى ضوء ذلك كان الشكلانيون يناقشون خصوصيات المتن الحكائي fable الذي يعتبر مادة لتشكيل المبنى الحكائي sujet . فما المادة في نظرهم إلا تحفيز للتقنية البناءة . ويتحدث شكلوفسكي قائلاً إن نسج المبنى الحكائي تتحكم به تقنيات البناء التدريجي والتوازي والتأطير والتداخل . وكما أكد شكلوفسكي ، فإن نسج المبنى الحكائي لا يحتاج إلى المضمون ، ما دام المضمون ليس إلا جملة من التقنيات الأسلوبية. على أنه يمكن للعمل الشعري أن يتطور بوسيلتين: عن طريق المتن الحكائي ، أو عن طريق الحكاية .
وقد ردّد ر. ياكُبسون وراء شكلوفسكي قائلاً بعد مدة وجيزة: “إذا كان علم الأدب يريد أن يصبح علماً فإنه مرغم على الاعتراف بأن “التقنية” هي بطله الوحيد”(39).
لاقى هذا الفهم الشكلاني انتقاداً من طرف المعاصرين يومها . ففي مقالة كتبها جِرمونسكي في مطلع العشرينيات تحت عنوان ” مهام الشعرية” نقرأ قوله اللاذع: “إن التقنية بوصفها كذلك ، أي التقنية من أجل التقنية ، ليست تقنية فنية ، بل هي شعوذة”(40). وفي عمل آخر له عنوانه ” بصدد قضية المنهج الشكلاني” نشره مقدمةً لترجمة كتاب أو. فالتسيل (عنوان الترجمة الروسية ” مشكلة الشكل في الشعر”)(41)، يكشف جِرمونسكي عن التهافت الداخلي لمعادلة شكلوفسكي هذه . يقول جِرمونسكي إنه إذا كان الجوهريُّ في المبنى الحكائي ليس جانبه المتعلق بالموضوع ، وإنما فقط تقنيات المبنى الحكائي ، يكون بمقدورنا ، وفقاً لهذه المبادئ ، أن نجمع ما بين المبنى الحكائي للكركي ومالك الحزين والمبنى الحكائي لـ “يفغيني أنيغِن”. ويمضي جِرمونسكي يقول ساخراً إن الخُطاطة العارية لهذا المبنى الحكائي يمكن أن يُعبِّر عنها هذا الشكل: «A يحب B ، B لا تحب A، ولكن B عندما أحبت A، لم يعد A يحب B»(42). هذه الطريقة تبيِّن إلى أي عبث يمكن أن يفضي بنا التحليل الشكلاني. وقد وافق ل. س. فيغّوتسكي على كثير من أفكار جِرمونسكي انطلاقاً من أن الشكلانيين إذا ما كانوا ميالين إلى معالجة العمل الأدبي بوصفه منظومة، ولتكن منظومة تقنيات ، فإنهم لا يستطيعون اعتبار التقنية هدفاً بحد ذاتها ، ذلك أن هذه التقنية يجب أن تسقط من المنظومة(43).
-3-
شغلت مشكلة الكلمة الشعرية مكانة مميزة في نظرية الشكلانيين، وهو ما استفضنا بالحديث عنه في هذه الدراسة لدى استعراضنا مختلفَ جوانب تلك النظرية.
ترتبط المرحلة المبكرة من تطور الشكلانية بالاهتمام البالغ بالكلمة قبل كل شيء. فالمجموعات الثلاث التي أصدرتها جمعية دراسة الكلمة الشعرية أعوام 1916 و 1917 و 1919 مكرسة جميعها بصفة ٍ رئيسة لدراسة مختلف جوانب الكلمة الشعرية.
فقد حاول الشكلانيون الإجابة بطريقتهم عن سؤال كبير وهامّ حول دور الكلمة في السياق الفني . فكانوا يسعون لاستيضاح ما تمثّله الكلمة: أهي علامة حيادية على ما يرقد خلفها من مضمون، أم لها قيمة في حد ّذاتها ، في بنائها النحوي، في أشكالها، وحتى في “قشرتها” الجَرْسية؟
وجرياً وراء المستقبليين جرّب الشكلانيون، وفقاً لملاحظة ب. ن. ميدفيدِف الصائبة، استخلاص التأثير الجمالي من عناصر الكلمة، تلك العناصر التي عدَّها الرمزيون ثانوية: أي “من بنيتها الصوتية والصرفية والإعرابية ، بمعزِل عن معناها” (ص 84-85). وقد اشتغل على هذه المسائل باهتمام فيما بعد أعضاءُ حلقة براغ اللسانية، ومنظّرو ” النقد الجديد” ، ولاسيما النبيويون.
ومهَّدت أعمال الشكلانيين أيضاً لمعالجة مسألة هامّة أخرى اكتسبت أهمية خاصة في العشرينيات، ولاسيما في أعمال الشكلانيين أنفسهم. على أن لبَّ هذه المسألة هو البحث عمّا تمثله الكلمة في الأدب ، هل هي أداة تصوير ، أم مادة تصوير؟ وبماذا تختلف لغة المؤلف عن لغة الراوي المفترَض، إذا كان موجوداً، وعن لغة الشخصيات؟ كيف يصوَّر الصوت الـ “أنا”، وكيف يصوَّر صوت الـ “آخر” ؟ وبتعبير افتراضي ، أين ينبغي البحث عن معنى العمل الأدبي ؟ هل ” تحت” الكلام ، “وراء” الكلام، أم في الكلام نفسه ؟ لقد ردَّ الشكلانيون على كثير من هذه الأسئلة بإجابات نِصفية ، وكثيراً ما كانت تجانب الصواب . غير أن طرح هذه الأسئلة بحد ذاته كان له أهمية كبيرة بالنسبة لتطور نظرية الأدب.
معلوم أن الكلمة عند الرمزيين كانت ذات صلة بمشكلات الكون والمثيولوجيا والأحداث التاريخية . فلنتذكر ألكسندر بلوك الذي قال إن الشاعر الرمزي يجب أن يبلغ ” في شظايا الكلمات مسارَ العوالم الأخرى الضبابي” . وقد أصاب الباحث ب. ن. مِدفيدِف منذ تلك الأيام في إشارته إلى ما تحمله الكلمة من أيديولوجية متوترة ، إذ قال: “إن الكلمة عند الرمزيين لا تصوِّر ولا تعبرِّ، وإنما توحي” . هذا المنطلق العام الذي اعتمده الرمزيون لم يمنع بعضهم من أن يطوّروا في أعمالهم النظرية تلك النزعات الشكلانية التي التقطتها جماعة دراسة الكلمة الشعرية (أوبوياز).
وقد حاول الأكميون السير في طريق آخر ، فأعلنوا تشييء الكلمة التي تعني المادة بدقة . فاقتلعوا الكلمة من نسقها الأيديولوجي ، وحاولوا حبسها في “الوجود الفيللوجي الثاني”، أي ربطها بما هو محضُ تداعيات أدبية واستذكارات . وكانت نظرية التوافقات لدى الرمزيين غريبة عليهم بعمق . وهم يسخرون منها في نقاشاتهم النظرية . على أن الأقرب إليهم هو توافقات الجَرْس والتداعيات ، تلك التوافقات التي تمثِّل مبدأ يقرَّبهم من الشكلانيين . وليس من باب بالمصادفة أن يحيّي غومِليوف تجارب خليبْنِكَف الذي يقسِّم الكلمة إلى عناصر تكوينية ، ويحاول فهم الصلة بين هذه العناصر في كلمات مختلفة ، مطالباً بخلق كلمات جديدة على أساس هذه العناصر.
لقد أعمل بعض الأكميين فكره للقول بأن كلمة بعينها يمكن ملؤها بمضمون يختلف باختلاف العصور، وباختلاف الأنظمة الشعرية “البويطيقية” . يقول غومِليوف: إنَّ الشاعر يفكّر بالصور، وهو مبدعها، “ولا تتجلى شخصيته إلا في موقفه منها. فالشعراء الفرس ، مثلاً، كانوا يتصوَّرون الزهرة بوصفها كائناً حياً، وكان شعراء القرون الوسطى يتصوّرونها بوصفها رمزاً للحب والجمال ، فيما كانت الزهرة عند بوشكِن بديعة على ساقها ، أمّا وردة مايكوف فهي دائماً زينة ، أكسسوار ، في حين تصبح الوردة عند فيتشسلاف إيفانوف قيمة صوفية”44 . وكان الأكميون يفترضون أن فهمهم الكلمة يقترب من فهم بوشكِن لها .
إن صورة الشاعر الكاهن والنبي تتراجع لدى الأكميين إلى حدود صورة الصانع الماهر للأشكال الفنيَّة، وهم بهذا التأكيد سبَّاقون على الشكلانية.
وكان الموقف من الكلمة أكثر تعقيداً بين مختلف جماعات المستقبليين الذين حاولوا بشتى الوسائل كسْر اللغة القديمة وخلْقَ لغة جديدة تعكس، حسب قناعتهم، ركض الحياة المعاصرة الجامح.
فقد جاء في بيان المستقبليين الشهير، ذي العنوان المثير ” صفعة للذوق الاجتماعي” ، أن المستقبليين يوحّدهم شعار: ” فلتسقط الكلمة- الأداة، وعاشت الكلمة الأصيلة، القيَّمة بذاتها!” . وفي معرض تعريفهم لحقوق الشعراء يقول مؤلفو هذا البيان إنهم يريدون توسيع حجم قاموس اللغة ” بكلمات اعتباطية واشتقاقية”45 (تشديد المؤلّف أ . م).
ومن خلال سعيهم للتأكيد على أن الكلمة لا تُعدُّ أداة عكسٍ لما هو موجود بمحاذاتها من مواد وظواهر وأفكار، وإنما تأتي بوصفها ” دولة سيادية” ما، أي يمكن أن تسمّى كلمة أصيلة، طالب بعض المستقبليين على نحو استعراضي بالاعتراف بالحق في الوجود لتوليفات صوتية تُختار ذاتياً، إذ من المناسب أن نذكرّ بأن مقالة ” الكلمة بوصفها كذلك” التي وقعها عام 1913 أ. كروتشِنيخ و ف. خليبْنِكَف تضمنت رباعية تبدأ بكلمات: “ضير، بول، شيل…” ، وجرى التشديد بطريقة تجديفية على أن فيها ” مما هو روسي قومي أكثر ممَّا في شعر بوشكِن كلِّه”46 . ويشار عادة إلى هذه “الرباعية” بوصفها هزلاً سخيفاً، ويُنْظَر إليها النظرةَ إلى نكتة أدبية، غير أن مؤلِّفَيْها كان لهما رأي آخر ، ذلك أنها كانت واحدة من تجارب خلق لغة جديدة تستند إلى منظومة نظرات المستقبليين الجمالية .
لقد أجرى ممثلو هذه المدرسة تقصياتهم الشعرية في جوّ التجريبية الشكلانية، وهو ما تحدث عنه ف. ب. شكلوفسكي بإقناع كبير منذ عام 1914 قائلاً: “أمّا الآن ، فعندما أراد الفنان اليوم أن يتعاطى مع الشكل الحي وليس مع الكلمة الميتة ، رغبة منه في أن يمنحها وجهاً ، فإنه حطّمها وأفسدها . وهكذا وُلِدَتْ كلمات المستقبليين “الاعتباطية” و”الاشتقاقية” . فهم إمّا يخلقون كلمة جديدة من جذر قديم (خليبْنِكَف، غورو، كامِنْسكي، غنيدَف)، أو يمزّقونها بالقافية ، على غرار ما يفعل ماياكوفسكي، وإمّا يضفون عليها بوساطة إيقاع البيت الشعري مدَّاً (إشباعاً لحرف علّة. ـ م) غير صحيح (كروتشِنيخ)، فتنشأ كلمات جديدة ، حية . وبذلك يعود إلى دُرَرِ الكلمات بريقُها الماضي . هذه اللغة الجديدة غير مفهومة ، صعبة ، ولا يمكن قراءتها…»47.
وقد حاول ف. خليبْنِكَف أن يشيد أوتوبيا لسانية متميزة ، وضخمة على طريقتها. إلا أن منظومته متناقضة ومعقدة48.
إذْ كان خليبْنِكَف يحلم بخلق لغة عالمية واحدة سمَّاها “نجمية” ، “شديدة الغموض” ، أي وَفقاً لتصوره ، تختلف عن اللغة الاعتيادية التي تلامس سطح الظواهر. لقد أراد أن يبني عِلماً كلِّياً عن خَلْق الكلام يكون دقيقاً كالرياضيات . فهو يقول: “هيهات أن تأخذ الشخصيات الاجتماعية بعين الاعتبار ذلك الضرر الذي تُلَحُقُه الكلمة التي تصاغ على نحو لا يحالفه التوفيق . وذلك لإنه ليس هناك دفاتر حسابات تُحصي إنفاقات العقل الشعبي . وليس هناك مرشدون لحركة قطارات? اللغة”49 .
إن خليبْنِكَف لم يحاول أن يكون ذلك “المرشد” للغة وهو ينطلق في بناء منظومته من أطروحة تقول: إن لكل صوت في اللغة معناه المحدد . وهذه العلاقة بين المسمّى والمعنى قد ضاعت خلال القرون . ويجب على «مرشد» اللغة أن يجددها، بالأحرى أن يعيد خلقها. وهكذا ، فلكي يستعيد خليبْنِكَف معنى الكلمة “الأصيلة” كان عليه أن يعود إلى اللغة البدائية المقرَّبة من الكلام السحري. وكأنما تلك العلاقات الضائعة أو المنسية بين الصوت والمعنى تغفو كامنة في اللغة الاعتيادية المعاصرة . على أن دراسة الكلمة ليست في نظر خليبْنِكَف مجرد مهمة لسانية، بل هي أيضاً أداة للتغلغل إلى جوهر الأشياء نفسه . يقول ف. غوفمان: “إن الكشف عن أسرار اللغة في أثناء عملية خلق الكلام هو كشف عن أسرار الواقع في منظومةِ ما هو شبهُ غيبيٍ من علاقات وتداخلات . فالعلوم تمشي وراء اللغة . واللغة تكتسب مضمونها الخاص، وهذا المضمون يتكشف بوساطة الواقع الفعلي، بحيث أن تغيُّر الواقع يُنْظَرُ إليه بوصفه تغيَِّراً للكلمة”50 .
انطلاقاً من هذه النظريات الأوتوبية قام خليبنكف، في أثناء بحثه عن الكلمة «الأصيلة»، بإجراء شتى أنواع التجارب على اللغة، ساعياً بمختلف الطرق إلى خلق لغة «نجمية» جديدة.
وظناً منه أن ثمة بين الصوت والمعنى علاقةً مباشرة، يقترح خليبنكف هذه التجربة اللغوية، إذ يأخذ نسقاً من الكلمات: جمجمة، جام، جراب، جامع، كل هذه الكلمات تبدأ بالحرف «ج» ، فما الجامع بينها ؟ إنها جميعها تشير إلى قشرة ما . وإذا ما كان الأمر على هذا النحو فإن خليبنكف، بناء على ذلك ، يخلص إلى استنتاج مفاده أن الحرف «ج»، يمكن استخدامه جرياً على هذا المنوال من أجل ابتكار كلمات جديدة أيضاً. فمثلاً، بدلاً من كلمة حذاء يمكن أن نقول جيقدمَ «جِ- قَدَم»، وبدلاً من كلمة وعاء مليء بالماء نقول جيماء «جِ-ماء»…إلخ.
وفي حالات أخرى كان خليبنكف يأخذ كلمات معاصرة وأخرى روسية قديمة ثم يفكّكها إلى عناصرها التكوينية، فيستخدم أحياناً اللواصق والجذور واللواحق والنهايات لينشئ منها بمهارة كبيرة كلمات جديدة وتعابير على غرار كلمات أخرى. وقد راجت رواجاً كبيراً قصيدة خليبنكف «مسحورون بالضحك» التي كتبها وفقاً لهذا المبدأ:
فلتستغرقوا بالضحك، أيها الضاحكون!
فلتشرعوا بالضحك، أيها الضاحكون!
مالهم يضحكون بالأضاحيك!
مالهم يتمضحكون ضحاكاً.
معلوم أن خليبنكف التزم بهذا المبدأ في كتابة مقطع نثري عنوانه “حُبُّو” قدَّم فيه، وبقدر كبير من الابتكار ، ما يزيد عن أربعمائة اشتقاق من كلمة «حُبّ».
وبحثاً عن الكلمة الأصلية «بذاتها» سلك خليبْنِكَف طرقاً أخرى أيضاً . فقد اشتق، على سبيل المثال، صيغة الحال من كلمة جناح لتكون «جناحياً». وكان مخطئاً في ظنه أن هذه الكلمة جميلة لأنها تتضمّن كلمة «جنوح» (تمرُّد). إذ من هو القارئ الذي سيكتشف ذلك؟
وجازف خليبنكف باقتحام تجارب أكثر جرأة، فقال: «إذا ما كان لدينا كلمتان مثل«حيَّاتٌ» و«خيَّاطٌ» ، ونحن نعرف كلمة «خيَّاطون»، يكون بوسعنا خلقُ كلمة «حيَّاتون» بمعنى صنَّاع الحياة»51. وفي ملحمته «لادومير» كتب عن الشعب الثوري قائلاً:
إنها مسيرة الحيَّاتين
مستبدلين بالخاء حاء
وإذ يولي خليبنِكَف الصوتَ أهمية هائلة فإنه لا يرى حتى في الأشعار «الاشتقاقية» شعوذة أدبية ، بل واحدة من وسائل بلوغ سر اللغة . ومعلوم أنه بهذه الوسيلة كتب ملحمة كاملة هي “رازِن” (1920) التي سَّماها ” رازِن بالمعنى المزدوج التفسير” .
هذه التجارب التي قام بها الرمزيون والأكميون، ولاسيما المستقبليون ، هي التي استند الشكلانيون إليها في أعمالهم.
وخلافاً للرّمزيين والأكميين كانت جماعة دراسة اللغة الشعرية (أوبوياز) في المرحلة الأولى من نشاطها تستخرج الكلمة من سياقها المعنوي وتهتدي بالألسنية . وهي بذلك اختلفت في مرحلتها المبكرة عن فيدلِر وأتباعه الذين أعطوا الصدارة للصيغة الشعرية وليس للغة الشعرية . فقد ظن الشكلانيون الروس أن الصيغة الشعرية يجب ألاّ تمثِّل إلا نظرية اللغة الشعرية التي وضعوها. ثم تخلوا فيما بعد عن وجهة النظر هذه، حيث أن مقالة ب. م. إخِنباوم الشهيرة عن قصة غوغل “المعطف”هي الشهادة على هذا التحول إلى مواقع جديدة (انظر حول هذا الموضوع الصفحتين 109-110 في كتاب ب. ن. مِدفيدِف الذي أشرنا إليه أعلاه).
لقد أولى الشكلانيون اهتماماً كبيراً لصياغة النظرية القديمة القائلة بوجود شكلين للغة ، هما لغة الحياة العملية، واللغة النثرية، كما سمَّوها، وفيها أدرجوا لغة الحديث، لغة العلم اليومية ، ولغة الأدب ، أو اللغة الشعرية .
ففيمَ رأى الشكلانيون الفرق بين هاتين اللغتين؟
تقوم اللغة النثرية في الأساس على وظيفة تواصلية. لأنها موجهة إلى معلومة دقيقة، إلى مضمون المعلومة، إلى معناها، إلى حلّ مهام عملية . على أن اللغة النثرية لا ترى أهمية مستقلة للبنية الصرفية للكلمة، ولا لخصائصها الأصواتية ، أو لبناء الجملة التركيبي، أهمية مستقلة.
إن اللغة النثرية تميل إلى الصيغ الآلية، إلى الثابت ، إلى صيغ مألوفة ، متكررة من التعابير. وقد تحدث ف. خليبنكف بسخرية مريرة عن هذا الموضوع في مقالته «الجُمَل» قائلاً: «إن جميع أفكار الكرة الأرضية (وما أقلَّها) ، شأنها شأن بيوت في شارع ، يجب تزويدُها بأرقام خاصة ، والتحدثُ إليها، وتبادلُ الأفكار معها باستخدام لغة البصر. ويجب أن نطلق أرقاماً على خطب شِشِرون وكاتون وعُطيل وديموسفين، وأن نستعيض في المحاكم وباقي المؤسسات عمَّا لا حاجة لأحد به من خطب المحاكاة بلوحة إعلان بسيطة تحمل رقم الخطبة . إنها أول لغة عالمية . وقد انعكست هذه البداية جزئياً في مجاميع القوانين .
وسوف تبقى اللغات من أجل الفن وتتحرر من عبئها المشين . فقد تعب السَّمْع»52.
إن مهمة اللغة الشعرية هي إخراج المادة أو الظاهرة من مجال آلية التلقي، وذلك بالاستناد إلى قوانين التغريب. يقول ياكُبسون: «ما الشعر إلا قول يعتمد على التعبير… إن الشعر لا يبالي بمادة القول»53. ويقول المثل الفرنسي القديم: الفن هو ألا يكون الفن ظاهراً. أما الشكلانيون فلا يوافقون على ذلك. لأن اللغة الشعرية، برأيهم، يجب أن تختلف عن اللغة النثرية ببنائها الملموس . وكان ف. ب. شكلوفسكي يؤكد أن هذه اللغة يجب أن يكون لها، كما سبق أن أشار أرسطو، صفةُ غريبِ الدار، المدهش، كاللغة اللاتينية في أوروبا القروسيطة، وكاللغة البلغارية القديمة في روسيا القديمة . وكان ل. ياكوبينسكي يرى خصوصية اللغة الشعرية في تعقيدها. وقد اقترح التفريق بين أفعال البشر، بين ما هو قيِّم بحد ذاته، وتلك الأفعال التي ليست إلا وسائل لبلوغ أهداف دخيلة. ووصف نشاط النوع الأول بأنه شعري، والثاني بأنه عملي.
وإذ أضفى الشكلانيون أهمية خاصة على ملموسية بناء اللغة الشعرية، فإنهم أولوا اهتماماً خاصاً لما يسمى بأدوات البلاغة الفنّية، أي القافية، والإيقاع ، والأصوات ، وما هو مقتبس من اللهجات ووحشيِّ الكلام، وما شابه ذلك.
وقد برزت لدى شكلانيي جماعة دراسة اللغة الشعرية (أبوياز) من خلال معالجتهم مشكلات اللغة الشعرية نزعتان أساسيتان ، إحداهما تجسّدت في أعمال ل. ياكوبينسكي، والأخرى في أعمال ف. شكلوفسكي. ذلك أن ل. ياكوبينسكي يَخلُص بإصرار واتّساق إلى استنتاج شديد الأهمية هو: «في التفكير اللغوي التلقائي تنداح الأصوات إلى مساحة الوعي الوضَّاءة ؛ وتبعاً لذلك يبرز إزاءها موقف عاطفي ، وهو، بدوره، يستدعي إقامة ترابط معلوم بين «مضمون» القصيدة وأصواتها»54. فلننتبه إلى هذا السعي من جانب ل. ياكوبينسكي للربط ، أوَّلاً، بين اللغة الشعرية و«مساحة الوعي الوضَّاءة»، وثانياً، لإقامة ترابط فيما بين مضمون العمل الشعري وأصواته.
أما ف. شكلوفسكي فقد سلك اتجاهاً آخر، إذ رأى أن أحد أهم سُبُله لـ «إحياء الكلمة» لا يكمن في حركتها «إلى مساحة الوعي الوضاء» بل إلى الغموض .
إن تقسيم الكلمات بحد ذاته إلى الكلمات ميتة، تتكرر آلياً، وكلمات حيَّة، شعرية تحدث عنها شكلوفسكي في كراسه هذا ، لم يكن بالشيء الجديد بالنسبة لأدب ذلك الزمن. وتصديقاً لهذه الفكرة نسوق مثالين.
قبل وقت قصر من نشر كرَّاس ف. ب. شكلوفسكي صدر كتيِّب ف. ف. رَزانَف «حرب 1914 والنهضة الروسية»، وهو مجموعة مقالات شوفينية عن الحرب الإمبريالية جاء فيه على سبيل المثال: “لا شيء أكثرَ غموضاً ، بل وأقلَّ شهرة ، من كلمات كثيراً ما تقال، ولكنها تكون قد تبخرت في التاريخ وفقدت روحها، إلى أن أصبحت الآن يابسة وميتة يلقى بها في الكلام والأحاديث مثل زينة بسيطة لهذه الأحاديث. لقد كانت محسوسة عند ما ظهرت . ثم أعيد اجترارُها ألف عام ، وهي الآن تمثل تماماً ما يمثّله جواز سفر بلا صاحب ، أو جواز سفر مات صاحبُه…. ينبغي في الوقت الراهن ” إحياء الكلمة” ، وهذا ما يكاد يكون أكثرَ صعوبة، بل هو حقاً أكثرُ صعوبة من ولادة الكلمات” (ص 17-18، تشديد الباحث. أ.م.).
والمثال الثاني كتاب بالغ التشويق ولاقى انتشاراً واسعاً، ألّفه أ. غ. غورنفيلد تحت عنوان «عذابات الكلمة» وصدر في بطرسبورغ عام 1906 (في آخر هذا الكتاب ثمة تاريخ 1900). لقد جمع أ. غ. غورنفيلد عدداً كبيراً من أقوال الكتاب الروسي عن مدى صعوبة، وأحياناً تعذُّرِ إيجاد كلمات دقيقة تعبر عن الأفكار والمشاعر التي تنشأ في نفس الفنان. ويرى غورنفيلد أننا نبحث عن كلمات لا لكي نوصل بها أفكارنا للآخرين، بقدر ما نبحث عنها لكي نوضح تلك الأفكار لأنفسنا. يقول غورنفيلد: «اللغة هي المنظومة العلمية الأولى، وعذابات الكلمة هي، في الجوهر، عذاب الفكرة، عذاب كل إبداع»55. ويمضي قائلاً، غير أنَّ التعبير عن الفكرة حتى لأنفسنا بالذات يجب أن يكون على نحو يجعلها مفهومة للآخرين أيضاً. ثم يضيف: «إن البحث عن الكلمة هو بحث عن الحقيقة، وما نسميه في ميدان الأدب والفن واقعيةً، هو أيضاً عصب حياة تطور اللغة ونشاطها»56. وفي هذا الكتاب يتحدث غورنفيلد عمّا لاستخدام ما في اللغة من مقولات جاهزة ، وقوالبَ متكونة مألوفة من تأثير سلبي على الإبداع ، قائلاً : «إن الأشكال الجاهزة في اللغة الغنية بالتقاليد «تفكر» أحياناً نيابة عن المتكلم . ففيها تجد فكرتنا مكاناً لها بسهولة وهدوء. أما الفنان الحقيقي فلا يكتفي بذلك، إنه يبحث، ويكابد «عذابات الكلمة». ويلخّص غورنفيلد ملاحظاته قائلاً إن المقدرة على التخلي عن النظرية الجاهزة هو نتيجة للتطور والتعليم العميقين (ص33). وهو يفترض أن أفضل تقييم «لعذابات الكلمة» هو ما نطق به فِرْسيلَف بطل رواية «المراهق» الذي قال: «أما أنت فتتعذب أحياناً لأن الفكرة لم تتحول إلى كلمات . هذا العذاب النبيل يا صديقي لا يُمنَح إلا للمختارين ، ذلك أن الغبي راضٍ دائماً بما قال» (ص 47).
كان قارئ كتاب غورنفيلد «عذابات الكلمة» يصل إلى استنتاج مفاده أن الفنانين يشكُون من أنهم لا يستطيعون التعبير بالكلمة عن كل ما يقلقهم، وأن بعض المشاعر والأفكار لا يمكن نقلها إلا بالأصوات . ولكنْ لم تخطر لهمْ فكرةٌ مفادُها أنه لا بد من تحطيم اللغة الموجودة والاستعاضة عنها بشيء آخر.
سبق أن تحدث خلال العقدين الأولين من القرن العشرين مستقبليون وبنيويون تكعيبيون ، هم خليبنِكَف وبورليوك وكامِنْسكي وكروتشِنيخ ، عما يسمّى بـ «اللغة البالغة الغموض». فهم الذين كانوا يحاولون خلق لغة مصطنعة تتألف من توليفات صوتية اعتباطية أضفوا عليها هذه الصبغة العاطفية أو تلك . إذ كان المستقبليون يريدون القيام بثورة في اللغة. وكان يساعدهم في ذلك ف. ب. شكلوفسكي.
كثيراً ما يتحدث ف. ب. شكلوفسكي في كرّاسه «إحياء اللغة» عن الكلمة الحيَّة والكلمة الميتِّة. فالمسألة الأساسية التي تقلق الباحث هي : كيف نبعث الحياة في الكلمة الميتة ؟ إذن ، إليكم ما ينصحنا به شكلوفسكي: “والآن، حين طاب للفنان اليوم أن يتعامل مع الشكل الحي ومع الكلمة الحية ، لا الميتة ، رغب في أن يمنحها وجهاً فكسّرها وشوّهها” (ص13). ثم يحيلنا الباحث على تجربة المستقبليين الذين رفضوا لغة الكلاسيكيين «الناعمة» وبيَّنوا ضرورة خلق كلمة «عسيرة» تصعب قراءتها، ولذلك تكون حية . وأكد شكلوفسكي منذ هذا الكراس أن لغة الشعر ليست لغة مفاهيم، بل هي لغة أنصاف مفاهيم (ص 14).
ثم طور شكلوفسكي فكرته هذه في مقالته «اللغة المبهمة في الشعر» التي استهل بها الإصدار الأول من «مجموعات اللغة الشعرية».
والمهمة الأساسية في هذه المقالة هي إثبات الزعم القائل بوجود «لغة مبهمة» إلى جانب اللغة العادية. وللتدليل على هذه الفكرة يورد شكلوفسكي استشهادات وافرة يقتبسها من الكتّاب الكلاسيكيين، ويأتي بأمثلة من أعمال بعض الباحثين، ولكنه يركز اهتمامه الرئيس على أقوالٍ نظرية ومؤلفاتٍ تعود إلى ممثلي المدارس المستقبلية.
إلا أن شكلوفسكي يستشهد بالكلاسيكيين على نحو انتقائي، وذلك هو وجه الاختلاف بينه وبين غورنفيلد . فهو ، مثلاً، يتمسك بالخرافة الزاعمة أن الشاعر أ. أ. فِتْ لم يكن يثق باللغة العادية ، فحاول أن يفصح عن بعض من مشاعره وأفكاره دون كلام ، ولكنْ بالأصوات ، أي كما لو أنه كان السبّاق إلى التأسيس للغموض. ويورد في هذه المقالة بيتاً معروفاً من قصيدة كتبها الشاعر فِتْ عام 1844، هو:
” آه، لو كان بوسعي أن أفصح عمّا في روحي دون كلام!”
وقد أفصح فِتْ عن أفكار مماثلة في بعض مقالاته ورسائله. وثمة قصيدة أخرى كتبها فِتْ منذ عام 1887 تتضمّن أبياتاً كأنها تؤكد فكرة ف. ب. شكلوفسكي:
ما أفقر لغتنا!- أريد ولا أستطيع
ألاّ أُبلغ بذلك لا الصديق، ولا العدو…
تلي ذلك هذه الأبيات :
وحدك ، أيها الشاعر ، لديك جَرْسُ الكلمة المجنّح
يلتقط بسرعة البرق ويثبِّت فجأةً
هذيانَ الروح المبهم ، ورائحةَ العشب الغامضة…
ليست لغتنا فقيرة، يقول فِتْ كمن يفنِّد نفسه، بل هي جبَّارة، تستطيع أن تنير “هذيان الروح المبهمَ” ، وأن تجعلنا نشعر حتى بـ “رائحة العشب الغامضة” . أما في قصيدته ” إلى الشعراء” التي كتبها عام 1880 فيضع فِتْ نشيداً كاملاً إكراماً لأولئك الذين يخلّدون ظواهر الحياة السريعة الجريان.
في قصورك الباذخة جنَّحت روحي
إنها تستشرف الحقيقة من أعالي الإبداع ؛
هذه الوريقة التي يَبَست وسقطت
تتأجَّج ذهباً أبدياً في الغناء.
وحتى هذه الأمثلة المعروفة للجميع تحطّم الخرافة القائلة بفقر اللغة وعجزها عن التعبير عما يريد الشاعر التعبير عنه. وشِعرُ فِت كلُّه شهادة على ذلك.
هذه التقييمات الأحادية الجانب لأقوال فِت الشعرية تشوِّه الوجه الحقيقي للشاعر. إن شعره صعب، متعدد الأوجه، ومتناقض أحياناً. لقد كان يعرف «عذابات الكلمة» ، ويتحدث عنها بقدْر كبير من الإخلاص والاستقامة وكأنه يدعو القارئ إلى مختبره الإبداعي. إن فِتْ ليس حجّةً لكاتب مقالة ” اللغة المبهمة”، بل هو حجّةٌ عليه.
ما هي «اللغة المبهمة» ، كما يراها شكلوفسكي، وما هي خصائصها؟ إن اللغة المبهمة مدعوة قبل كل شيء للتعبير عن العواطف . إنها تنبني ـ وهذا ما يجرى التأكيد عليه مراراً- دونما حساب للمعنى والمضمون. ويبدو أن شكلوفسكي يختلف في هذا مع مساهم آخر في ” مجموعات في نظرية اللغة الشعرية”، هو ل. ياكوبينسكي الذي يرى، كما سبق أن أشرنا ، أن الأصوات والكلمات في الشعر تنداح “إلى ساحة الإدراك الوضاءة” . إن منظّري اللغة المبهمة تهمُّهم في المقام الأول الكلمة خارج “ساحة الإدراك الإضاءة” . لقد حاول شكلوفسكي أن يحدّد قيمة كلمتي (اللغة المبهمة) ليس وفقاً للمعنى ، بل وفقاً للجرْس. فقد سمّى ف. فوندت- وهو أحد مؤسسي السيكولوجيا التجريبية- هاتين الكلمتين بـ Lautbilder، أي الصور الجرْسية. وكان شكلوفسكي يرى أن هذه الصور الجرْسية تتمثل في الاسم الذي أطلقه بطل رواية «الجوع» لـ هامسون بينه وبين نفسه على محبوبته «إيلايالي» ، وفي كلمة «برانديلياس» التي ابتكرها ف. رَزانَف لتوصيف بعض الأدباء . ويتعاطف شكلوفسكي مع أ. كروتشِنيخ الذي ابتدع أيضاً كلمة جديدة فيستشهد بقوله: « ما إن يرى الفنان العالم بطريقة جديدة، حتى يطلق ، مثل آدم ، على الموجودات أسماءها. فالليللك جميل، غير أن كلمة «ليلك» القبيحة مختطَفة و«مغْتُصَبةْ» . لذلك أُسمّي الليلك «يوي» فيستعيد نقاءه الأوَّل»57.
لقد حاول شكلوفسكي أن يسوّغ قول كروتشِنيخ : “ضير بول شِّيل” ، وقول خليبنِكَف : ” بوبيوبان غنَّت الشفتان ، فايومي غنّت النظرات” ، وغير ذلك من تجارب المستقبليين الجرْسية ، وذلك لكي يثبت أن الغموض موجود. وكان شكلوفسكي يقول إن شكوى الشعراء من “عذابات الكلمة” ينبغي فهمها بوصفها ” دليلاً على الصراع مع الكلمة ، ذلك أن الشعراء لا يشكُون من تعذّر التعبير بالكلمات عن المفاهيم والصور ، وإنما يشكون من عدم قابلية المشاعر والمكابدات الروحية للنقل بوساطة الكلمات”(58). وهذا ما يتطلّب الغموض.
فما هو مصير الغموض ، وفقاً لتصور الشكلانيين أنفسهم؟ لقد أعطى ر. ياكُبسون إجابة قطعية على هذا السؤال ، قائلاً: “رأينا من خلال مجموعة أمثلة كيف تفقد الكلمة في شعر خليبنِكَف ماديتها ، ثم شكلها الداخلي، وحتى شكلها الخارجي أخيراً. إننا نجد مراراً في تاريخ شعر جميع العصور والشعوب أن ما يهم الشاعر، حسب تعبير تريدياكسوفسكي، هو «هذا الجرْس». فاللغة الشعرية ، مثلما تسعى إلى المادة ، تسعى أيضاً إلى الكلمة الصوتية ، أو بالأحرى ما دام المنطلق المناسب واضحاً، إلى الكلمة التطريبية euphonique ، إلى الكلام الغامض»58. أمّا شكلوفسكي فقد قارب هذه المسالة بمزيد من الحذر ، وقدّم إجابات متناقضة إلى حدٍّ كبير. فهو نفسه يطرح في ختام مقالته عن اللغة الغامضة سؤالاً عمّا إذا كانت سوف تكتَبُ يوماً أعمال أدبية بهذه اللغة الغامضة ، ويجيب عليه إجابة سائبة: «من يدري» . وهو يشير بعد ذلك إلى ولع الرمزيين، والمستقبليين منهم على وجه الخصوص ، بالجانب الجرْسي الصوتي من الكلمة ، ويخلص إلى استنتاج فحواه أنه قد تتحقق في المستقبل نبوءة يو. صلافاتسكي بأنه سيأتي يوم لا يهتم فيه الشعراء بغير الأصوات.
إن تفكير «جماعة دراسة اللغة الشعرية» بإمكانية مقاربة الكلمة على نحو مزدوج لاقى تقييماً إيجابياً من قبل النقاد المعاصرين. فقد كتب مُراجع الكتب في مجلة «روسكايا ميصل» أ. ل. سمِرنوف قائلاً: «إن الكلمة ، إلى جانب دورها كعلامة افتراضية من أجل التعبير عن معنى معيَّن ، تتمتع بقوة تعبيرية عاطفية تقوم على تركيبها الصوتي، وإن كانت هذه القوة التعبيرية معزّزة («مهتدية» ، كما يقال بتداعيها مع المعنى»59. على أن مقاربة الكلمة على هذا النحو تتجلى بسطوع خاص في الشعر، وإن كان ذلك التجلّي لاواعياً أحياناً . ويمضي المُراجع قائلاً إن الشعراء كانوا يحسون دائماً بقيمة هذه الازدواجية التي للكلمة ، وها قد أوضحها المنظرون الآن. وفي المحصلة ظهر «كتاب بديع» ، مذهل بوحدة نغمته.
هذه الأفكار بحد ذاتها حول الفرق بين لغة الكلام العادي، اللغة العلمية والعملية، ولغة الأدب ، تلاقي اهتماماً نظرياً وتطبيقياً كبيراً . غير أن الشكلانيين عالجوا هذه المشكلة من جانب واحد. فعوضاً عن أن يحللوا ما كَسَبَته اللغة وما خسرته نتيجة اندراجها في منظومة الإبداع الفني ، عارض الشكلانيون بين ما يسمى باللغة اليومية واللغة الشعرية ، دون أن يروا في الأولى إلا صفات سلبية، وفي الثانية إلا صفات إيجابية.
لقد أولى الرمزيون والأكميون والمستقبليون و «جماعة دراسة اللغة الشعرية» قسطاً كبيراً من اهتمامهم أيضاً لدراسة الصوت في الشعر أساساً، وفي النثر جزئياً، ولتحليل تلك الظاهرة التي سماها فوندت صورة جرْسية (صوتية). كما تناولوا هذه المسألة من مختلف الجوانب.
وحاول الشكلانيُّون إيجاد نوع من التوافقٍ بين الصوت ومعناه خارج الكلمة، خارج السياق. وينبغي أن نذكّر بأن هذه المحاولات لم تكن تجري لأول مرة. إذ سبق أن افترض أوغوست شليغل أن A تعني الأحمر، و O تعني القرمزي، وE السماوي، وU تعني الأزرق الغامق. أما أرثور رامبو فكان يعتقد أن A تعني الأسود، و E الأبيض، و I الأحمر، و O السماوي وهلمّجرا… وحاول بالمونت إيجاد تناسب بين الصوت والحالة العاطفية المحددة، فأكد أن A هو الصوت الأوضح والأرطب، والصوت M غامض، و O صوت التعجب، و U زعقة الرعب… إلخ.60 ونقرأ في واحد من بيانات المستقبليين: «آن لنا منذ زمن بعيد أن نعرف أنه ليس للحرف صوت ولون فقط ، بل وله طَعْمٌ أيضاً… فما أكثر ما يمكن أن نعبِّر عنه ، مثلاً، بكلمة واحدة قصيرة مؤلفة من مقطعين لا غير هي كلمة «Vesna» (ربيع) . فالحرف (S) يستدعي صورة نهار مشمس، والحرف «A» هو فرحة بلوغ الهدف ، بلوغ ما طال انتظاره ، وما شابه ذلك، إنه ملحمة مديدة كاملة»61. ونقرأ في بيانٍ مستقبليٍّ آخر: «إننا نفهم الصوت الصائت (حرف العلة) على أنه زمان ومكان (صفة الاندفاع) ، والصوت الصامت (باقي الأحرف) على أنه لون ، وصوت ورائحة»62. لعل لجميع هذه المحاولات الرامية إلى إيجاد تطابق مباشر بين الصوت ، مأخوذاً خارج الكلمة، وبين المعنى أو الحالة العاطفية، طابعاً ذاتياً للغاية، ما دام صوت بعينه يستدعي لدى كتَّاب مختلفين تصوّرات مختلفة عن معناه . لقد افترض ل. س. فيغوتسكي أن هذه المحاولات تفتقر بالقدر نفسه إلى أي درجة من الإقناع العملي. ويورد غورنفيلد بهذا الصدد ملاحظة ذكية أدلى بها ميخايلوفسكي بخصوص هذه النظرية التي تشير إلى أن الصوت «a» يتضمّن شيئاً آمراً: ” وجدير بالاهتمام أن الحرف A، وفقاً لبنية اللغة الروسية، يقع بصورة رئيسة في نهاية الأسماء المؤنّثة والأفعال الماضية المفردة المؤنثة (….). ومن هنا يأتي الطبع الآمر لدى النساء الروسيات»63.
معلوم أن خير وسيلة للتحقق من جدوى أي نظرية هو تبيان الكيفية التي تعالج بوساطتها مسائل عملية معقدة. إذ تتكشف صحّة النظرية ، بالنسبة للباحث الأدبي ، من خلال تطبيقها في تحليل العمل الأدبي. فكيف، إذاً ، لمحاولة إقامة صلة مباشرة بين الصوت والمعنى أن تساعدنا على استجلاء ما للعمل الأدبي من قيمة فنية ؟
كان معاصرو بالمونت يعدّونه، وليس بدون أساس، معلّماً كبيراً في ابتكار الصور الجرْسية ، وضع عدداً من الأعمال النظرية التي حاول فيها أن يستوعب نظرياً بعض مشكلات الصورة الجرْسية. ففي كتابه «الشعر بوصفه سحراً» (1915) سعى بالمونت بصفة خاصة إلى تقديم تحليل لقصيدة فيتشِسلاف إيفانوف «الخاتم»? استناداً إلى أفكاره بخصوص قيمة بعض الأصوات. يؤكد بالمونت أن الموسيقى الداخلية في هذه القصيدة تنبني على أصوات هي تشِ، بي، إم (ص88).
«خاتَم لا يمّحي
انطبع على جبينين.
وقَدَرُ كل منهما واحد هو الصمت:
كيف أوثقهما ليل
وحده من بين الليالي أوثقهما
أوثقهما وفكّ وثاقهما.
أوثق الاثنين بنير واحد
دليلُ عميان أبكم
وصم الاثنين بوصمة واحدة
ووضع عليهما علامة: لي.
وأصبح أحدهما للآخر: لي…
اصمت . فأنت لي إلى أبد الآبدين.
يؤكد بالمونت أن الموسيقى الداخلية في هذه القصيدة القوية تقوم على الأصوات تشي وبي و “(م) الغارق في الصمت». حقاً، إن بالمونت على صواب، إذ نحسُّ بكثافة هذه الأصوات في القصيدة: ففي الأبيات الستة الأولى يتوالى الصوت (تشي) ست مرات، و(ب) خمس مرات، بينما لا يتكرر (م) إلا ثلاث مرات ، ولا نقع في النصف الثاني من القصيدة على كل من (تشي) و (ب) إلا مرة واحدة، مقابل سيل كامل من (م) الذي يتكرر خمس عشرة مرة! ولكن ما الذي تعطيه هذه الأرقام من أجل فهم القصيدة ؟ فلنحاول تبيُّن ذلك معتمدين على مبادئ بالمونت النظرية . لقد حاول بالمونت في كتابه هذا، كما أسلفنا، أن يُظهرِ فهمه معنى الأصوات في اللغة الروسية. غير أنه لم يقل شيئاً هناك عن الصوتين تشي و ب. أما الصوت م فيصفه بالمونت على الصفحتين 59- 60 <…>?. يصعب أن نستخلص ما الشيء الذي يمكن أن تمدّنا به هذه التفسيرات من أجل فهم القصيدة . على أن هذه القصيدة مأساوية . فقد جمع فيها الهيام بين اثنين . جمعهما وفرَّقهما . إنه هيام ثقيل، غامض، ليس هيام فرح، بل هو هيام عذاب . هيامٌ جمع بين غريبين. ويتكوّن إحساس بأن حقَّ أحدهما بالآخر مثل نير ثقيل . ويُفهَم «الدليل الأصمُّ الأبكم» شبهُ الغيببي على أنه كناية عن هذا الهيام الغامض.
إن كشف معنى هذه القصيدة لا يتاح عن طريق إحصاء عدد التكرارات الصوتية التي يشير إليها بالمونت بهذا القدْر من الدقة. يقول ب. إخِنباوم في عرضه النقدي لكتاب بالمونت «الشعر بوصفه سحراً»: «إن عبادة الصوت والحرف خارج الكلمة ، بوصفها جسماً حياً واحداً، خارج شكلها الداخلي ، إنما تقتل جوهر فطرة الكلام»64. لعل بالمونت نفسه شعر بأن التحليل الصوتي لقصيدة ف. إيفانوف ليس كافياً. إذ يعود بعد قليل ليقول: « كلّ شيء خانقٌ، ضيّق، باهت، ميت، حبٌّ- عبادةٌ، حبٌّ- عثرةٌ في هذه الترنيمة الرهيبة التي لا يقتصر الشاعر على الكشف عمّا فيها من فهم سحري للصوت (م) ، بل ويكشف أيضاً عن حكمة القلب الذي يتجمَّد رعباً» (ص 89).
إن منهجية تحليل النص الأدبي التي اقترحها ك. بالمونت لم تثبت جدواها.
معلوم أن الشكلانيين تحدثوا مرات كثيرة زاعمين أن علم الجمال لديهم يتناقض مع المدارس السيكولوجية والوضعية. غير أن الأمر ليس كذلك في الواقع . فقد سعى الشكلانيون إلى وضع علم جمال ” دقيق” ، علم جمال قائم على الوقائع، وليس على أفكار عامة مسبقة أشاعها، كما كانوا يؤكدون، أعلام المثالية الكلاسيكية الألمانية وأتباعهم.
إلا أن علاقات التيارات الشكلانية بالمدارس الفلسفية السائدة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لم تُدْرس بعد إلا قليلاً جداً . فقد حظيت بانتشار كبير في تلك السنوات، مثلاً، نظريات مؤسس السيكوفيزياء وعلم الجمال التجريبي غوستاف فيخنِر (1801-1887) الذي افترض أن قوانين الفن ، شأنها شأن قوانين الفيزياء والسيكولوجيا، لا يمكن التحقق من صحتها إلا عن طريق التجريب. ففي تحليل المواضيع الجمالية يجب الانطلاق من “الأسفل” ، أي من التجربة والاستقراء ، وليس من «الأعلى»، أي من المفاهيم النظرية العامة. ورغم أن منطلقات فيخنِر الفلسفية الأساسية تعتمد على شِلِنغ، فإن مفكّري النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، أمثال ماخ، كانوا ينظرون إلى علم الجمال لديه ضمن إطار النظريات الوضعية . ويبدو أن استنتاجات علم الجمال الفيخنِري اجتذبت إلى حدٍّ ما الشكلانين الروس أيضاً بما عرف عنهم من سعي إلى معارضة الأحكام المجردة حول الفن بتحليل محدد للبنية الفنية المغلقة وأجزائها المكوِّنة، ولا سيما اللغة بالدرجة الأولى.
وكما أكدنا من قبل، فإن معظم المقالات التي نشرت في الإصدارات الثلاثة من «مجموعات في نظرية اللغة الشعرية» مخصَّصة لمشكلات اللغة عموماً، وأصوات اللغة الشعرية بصفة خاصة. وفضلاً عن مقالات شكلوفسكي التي سبق لنا أن تناولناها من مختلف الجوانب، يجدر التنويه بأربع مقالات كتبها ل. ياكوبينسكي ، وبمقالة أو. بريك “التكرارات اللغوية”.
يحاول ل. ياكوبينسكي وضع نظرية للغتين العملية والشعرية ، فيعتمد على أعمال أدبية ، وعلى مؤلفات لعلماء مرموقين. على أن أول ما يهمه هو منظومة اللغة الشعرية. وما يتقصّاه في مقالاته يتناول مختلف جوانب هذه المنظومة . فهو يورد مادة إمبريقية ضخمة ، ويخضعها لتحليل دقيق ، فيتوقف قبل كل شيء عند جزئيات الكلام الشعري. ولكن ما هي النتائج التي يتوصل إليها؟ فلنأخذ من مقالاته الأربع واحدة هي «تراكم الصوتين (الراء واللام) في اللغتين العملية والشعرية» . إذ يُلاحَظْ في اللغة العملية، كما يؤكد المؤلف، سعي إلى استبعاد هذا النوع من التراكم. أما في اللغة الشعرية، حيث يتركزّ الانتباه على الأصوات ، فيكون تراكمهما «مقبولاً، وكثيراً ما يكون مرغوباً»(56).
يقدِّم ل. ياكوبينسكي تحليلاً دقيقاً لقصيدة «ماذا نعمل في القرية…»، فيكتشف فيها التكرار التالي للصوتين(الراء واللام) : مقابل تكرار الصوت «ر» خمس مرات في الأبيات الخمسة الأولى، يتكرر الصوت «ل» أربع عشرة مرة؛ وفي الأبيات (6-10) نقع على الصوت «ر» ثماني مرات مقابل «ل» ثلاث مرات؛ وفي البيت العاشر نجد «ر» مرة واحدة، و «ل» أربع مرات؛ وفي الأبيات (11-14) «ر» ثماني مرات و «ل» مرتين… إلخ. فما هي الاستنتاجات التي يصل إليها الباحث؟ إنه لا يقدم أية استنتاجات بعد ذلك، ويكتفي بتسجيل هذه الأرقام ، ما يجعل بحثه ذا طابع وصفي. وهكذا لا يَخلص «علم الجمال من الأسفل» إلى أية استنتاجات تستطيع أن تغني على نحو مثمر «علم الجمال من الأعلى». وهنا نجد أنفسنا أمام سؤال هو: ما الذي يعطيه جدول الأرقام هذا من أجل فهم الخصائص الفنيَّة للقصيدة ؟ يتكون انطباع بأن المؤلف لم ينهِ بحثه، ذلك أنه لم يبيِّن لنا أهمية ما أشار إليه من تكرار للكشف عن الخصوصية الفنية للنص الذي قام بتحليله.
إن محدودية مثل هذه المنهجية في البحث تنكشف بجلاء عند قراءة مقالة أو. بريك المشوِّقة «التكرارات الصوتية» التي نشرت في الإصدار الثاني من “مجموعات في نظرية اللغة الشعرية” .
يستهل بريك مقالته هذه بملحوظات واعدة للغاية. فهو يتحدث عن أن دور الصوت في البيت الشعري لا يُقَدَّر حقَّ قدره في العادة. فعندما يتناول الباحثون العمل الأدبي بوصفه منظومة من الصور الفنية، كثيراً ما يرون في الإيقاع والصوت مجرد مظهر خارجي جميل ينطوي على المضمون. ويحاول أو. بريك أن يثبت أن الأصوات في البيت الشعري لا تقتصر على ما لها من قيمة ثانوية : «أعتقد أن عناصر الإبداع القائم على الصور والأصوات موجودة في وقت واحد، وكل عمل أدبي بمفرده محصَّلة تكافؤ هذين التوجهين الشعريين المختلفين» (ص 25).
انطلاقاً من هذه الأطروحة يسعى أو. بريك إلى توسيع حقل دراسة الأصوات في الأعمال الأدبية ، ويكتشف وجود تكرارات صوتية في أشعار الكلاسيكيين.
وتبرز هذه الظاهرة عندما يتكرَّر عدد من مجموعات الصوامت مرة أو بضع مرات بانتظام واحد أو معدَّلٍ قليلاً ، مع اختلاف في الصوائت المرافقة لها.
ولكن أو. بريك سرعان ما يضِّيق حدود مهمته إذ يقول: «ما دام مبدأ التموضع الإيقاعي والمنطقي يمسّ قضايا العلاقة بين بنية البيت الشعري الصوتية وكلٍّ من الإيقاع والصورة، وهو أمر بعيد عن إطار هذه المقالة، فإننا نكتفي بالحالتين الأوليتين: التموضع جنباً إلى جنب ووفقاً للشكل الخارجي للبيت الشعري » (ص44).
لعلّ أو. بريك لا يلحظ التناقض بين الفن الصُّوَري والصوتي ، فقد سبق أن تحدث أعلاه عن تكافؤ توجهين شعريين . ها هو يعلن الآن أن المسألة الأولى تقع بعيداً خارج إطار بحثه . وهو يقدم في مقالته نموذجاً لتحليل الأبيات الشعرية تحليلاً شكلانياً صِرفاً. إنه يختار بيتاً شعرياً مستقلاً بوصفه عيِّنةً لتحليل التكرارات الصوتية. ثم يقوم بإبراز صور التناغم الصوتية، ويشير إلى عدد من مجموعات هذه الصور التي يطلق عليها أسماء اصطلاحية.
الخاتَم . مصطلح يطلقه على تناسق التكرارات المتناغمة التي يبدأ بها البيت الشعري وتتكرر في نهايته أو نهاية البيت الذي يليه*. مثل:
جنى الخلودُ عليها فهي شاكيةٌ إلى الأنوثةِ ذاك الخائنَ الجاني
(بدوي الجبل)
ألفيتهينثر ألحانــــــه كأنمــا ينثر من كِبْـــــــــدِهِ
وإلُفــه المشفق طِلٌّ لــه باقٍ، كما كان ، على عهدِهِ
(عمر أبو ريشة)
التقاطع . حيث يكون الأساس في نهاية البيت (أو الشطر) فيتكرر التناسق في بداية البيت الذي يليه:
حسـناءُ! هذي كبرياء الهـوى
أهوتْ على أشلائـه تُدمِــــعُ
(عمر أبو ريشة)
يا قطعةً من روحيَ الحرَّى أراكِ لا تــدرين ما مــرَّ
(عمر أبو ريشة)
الربط . يكون الأساس في بداية الشطر، والتكرار في بداية الشطر الثاني :
لعلَّه – والخطى السمراءُ تَسْلُكُهُ يَعُلُّها من حنيني بعضَ ما شربا
* نستشهد هنا بأبيات من الشعر العربي ، نظراً لأن الترجمة لا تستطيع الحفاظ على ما في الكلمات الروسية من أصوات وإيقاع . وسنلجأ إلى كتابة الكلمات التي تؤدي الغرض بأحرف مائلة وتحتها خط . ـ م
القفلة . الأساس في نهاية الشطرالأول (الصدر) ، والتكرار في نهاية الشطر الثاني (العجز):
وحياةٌ… أدنى أطايبِها المنهوبُ مــن مقفــرٍ… ومــن مأهولِ
(نديم محمد)
هذه الأبحاث وغيرها أتاحت لـ بريك اتخاذ موقف نقدي إزاء ما سَّماه بنظرية الأدب «الحكومية»، ولا سيما إزاء كتاب أ. شاليغِن ” نظرية الأدب” الذي صدرت يومها طبعته الخامسة. يقول بريك: ” وعليه ، فمن بين جميع التناغمات الممكنة لا نجد ذكراً إلا للقافية، ومن بين جميع تقنيات التوزّع لا نجد ذكراً إلا للقفلة . في حين أن هناك أيضا ًتجانسات حركية(assonance) وجناسات استهلالية(alliteration)، وتكرارات؛ وهناك، فضلاً عن القفلات، تقاطعات وربط وخواتم وغير ذلك . بل وحتى القوافي لا تأتي دائماً في نهاية الشطر، إذ ثمة قوافٍ أبياتية ، وابتدائية ، ومضفورة… وكثير غيرها» (ص 59).
إن المادة الهائلة التي يحللها بريك تبين على نحو مقنع أن تنظيم البيت الشعري صوتياً لا يقتصر على القافية، وأن رسمه الصوتي ظاهرة أشد تعقيداً بكثير . ورغم ذلك يحس القارئ بعدم الرضى . فما يأتي به ليس تحليلاً للبيت الشعري بعدُ ، وإنما هو مادة للتحليل، ذلك أن بريك يعتمد مبدأ التشابه ليوحِّد بين أشعار شعراء كلاسيكيين شديدي الاختلاف ، ولكنهم أبدعوا صوراً صوتية واحدة .
إن أعمال أندريه بيلي في مجال دراسة البيت الشعري تفصح بجلاء أيضاً عن الجوانب القوية والضعفية في التحليل الشكلاني للبيت الشعري.
لقد التفت الباحثون منذ مدة طويلة إلى وجود إغفال أحياناً للمقاطع المنبورة في البيت الشعري الروسي. وإذا ما عددنا مثل هذه الأشعار «غير صحيحة»*? وجدنا أن الأشعار «غير الصحيحة» تفوق كثيراً بعددها ما عندنا من أشعار «صحيحة». وقد خلص بعض الباحثين من ذلك إلى استنتاجات متطرفة، كالقول: إن الأشعار الكلاسيكية من بحري اليمب والهوري ما هي إلا اختلافات جاء بها سكولائيو القرون الوسطى ، وتمسَّك بها كل من تريدياكوفسكي ولَمَونوسَف . غير أن هذا القول لا صلة له بالعلم ألبتَّة.
يشير ف. ي. خَلْشيفسكي، الباحث المعاصر المتخصِّص بالبيت الشعري، إشارة صائبة إلى أن شعراء نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، ولاسيما الرمزيون منهم، ازداد اهتمامهم حدة بالجانب الصوتي من البيت الشعري وإيقاعه: فدراسات أندريه بيلي، الشاعر الرمزي الذي ألَّف عدداً من الأعمال في نظرية الأدب، مثلت منعطفاً في دراسة البيت الشعري الروسي»65.
كان بيلي أوَّل من استخدم الطرق الإحصائية في البحث لدى دراسته البيت الشعري، فمكّنه ذلك من التوصل إلى استنتاجات دقيقة.
لقد حاول بيلي نفسه ، في عدد من مقالاته ، تقديم وصف للخصائص الشكلية التي كان يتمتع بها الشعر الغنائي لدى بعض الشعراء الروس في القرنين التاسع عشر والعشرين. ومن أبرز تلك المقالات «الشعر الغنائي والتجريب» (1909)، و«تجربة توصيف اليمب الروسي رباعي المقاطع» (1909)، و«لا تُغِّني، أيتها الحسناء، بحضوري…» لـ ألكسندر بوشكِن (تجربة وصف)» (1909) ، وغيرها. لقد أنجز أندريه بيلي عملاً ضخماً في مجال وصف الخصائص الإيقاعية لدى كبار الشعراء.
يستخرج أندريه بيلي المقاطع ، والتفعيلات الدقيقة وغير الدقيقة، ثم يحصيها في أشعار شاعر واحد ويقارنها بأشعار شاعر آخر، ويقوم بحسابات رياضية معقدة، ويبتكر ويستخدم معادلات…إلخ. وهكذا، مثلاً، يولي اهتماماً كبيراً لما يسمى بالتجسيمات. و «التجسيمة»، حسب تعريفه ، «هي جمعٌ بين شطرين وأكثر ، يختلفان أو يتفقان في خروجهما على البحر ؛ وإذا ما وحّدنا بين أماكن التسريع المشار إليها بنقاط أو بخطوط مستقيمة حصلنا على تجسيم»66. إنه يتحدث عن أنواع مختلفة من هذه التجسيمات: الزاوية الصغيرة، الموشور أو الصّّليب، السقف المستقيم أو المقلوب، المتوازي الأضلاع ، المربَّع، السُّلَّم، المعيَّن…إلخ. ويقول بيلي إنه اكتشف عند الشعراء الروس 43 تجسيمة، ويصل إلى الاستنتاج التالي: «لكل تجسيمة من هذه التجسيمات شاعر يُكثِر من استخدامها دون سواها. فالشاعر جوكوفسكي يستخدم السقف أكثر مما يستخدمه غيره، بينما يُكثِر صَلَغوب من استخدام المربَّع، و يَظيكوف من استخدام المستطيل ، و بَرَطينسكي من استخدام السلّة الكبيرة ، وتيوتشِف من استخدام الزاوية الحادة، ولَمَنوصََف من استخدام الزاوية الصغرى…إلخ. ويمكننا أن نعطي توصيفاً لشخصية شاعر انطلاقاً من التجسيمات التي يحب استخدامها، وانتقالاً إلى التجسيمات التي يتحاشاها هذا الشاعر»67.
ويمضي بيلي قائلاً إن ما يفصح عن شخصية الشاعر ليس استخدام التجسيمات، بل عددها وطريقة توحيدها. ويشير الباحث إلى أن «ما يميز بوشكن هو أعداد الزوايا الحادة، وتسريع المقطع الثالث، وأعداد المربَّعات والمستطيلات، وتوليفها، المربع + المستطيل… عدد الأسقف والعلاقة بين عدد التجسيمات والتسريعات»68.
وبالقدر نفسه من الدقة والتفصيل يتناول أندريه بيلي الرسم الإيقاعي لأشعار ف. تيوتشِف، فيصل إلى الاستنتاج التالي: «لقد أتى تيوتشِف بشيء جديد تماماً إلى اليمب الروسي الرباعي المقاطع… إن إيقاع تيوتشِف في اليمب الرباعي المقاطع يمثل مزيجاً من أفضل الشعراء الروس. ثم إن إيقاع تيوتشِف هو الأكثر ثراء هنا… فهو ذِروة التطور الإيقاعي الذي بلغه الشعراء الغنائيون الروس»69. على أن بيلي لا يكتفي بهذا.
إن مشكلة العلاقة بين الصوت والمعنى شغلت حيزاً كبيراً في علم الجمال لدى مختلف المدارس الشكلانيَّة.
وكان أندريه بيلي عميق الاهتمام بأعمال أ. أ. بَتِبْنيا، ولا سيما تعاليمه بخصوص شكل الكلمة الداخلي، يحاول إبراز صلة القربى بين الكلمات والكشف عمّا لهذه الكلمات من معنى ذي دلالة.
معلوم أن المستقبليين عملوا على وضع نظرية للكلمة كما هي ، الكلمة «الأصيلة» ، وفقاً لتعريفهم . وقد اهتم بيلي بأعمال خليبنِكَف، وبمقدرته على جعل جذر الكلمة وحده مصدراً لاشتقاق مجموعة كاملة من الكلمات، على خلق كلمات جديدة، غير معروفة، وعلى أن يكون مبتكر كلمات.
بينما سلك الرمزيون طريقاً آخر. فلم يكن للكلمات في نظرهم قيمة أصيلة. لقد كانوا، حسب تعبير ألكسندر بلوك، يحاولون أن يبلغوا مسار العوالم الأخرى الضبابي في فُتات الكلام» . وتجسَّدت أفكار بيلي حول الكلمة والإيقاع والقافية في ملحمة “غلوسّولاليا” («هَذْرُ المعتوه») التي نشرها عام 1922، وحاول أن يبرهن فيها أن الصورة موجودة في الكلمة والصوت والإيقاع: «سوف أروي حكاية أؤمن بها إيماني بالخرافات القديمة ؛ إن حكاية الأصوات سوف تنقضي ، ولتكن بالنسبة لكم حكاية، أما بالنسبة لي فهي حقيقة، سأروي حقيقة الصوت البرّيّة»70. تشهد هذه الأمثلة على أن أ. بيلي ظلّ في نظره إلى أعمال الكلاسيكيين الروس عن الإيقاع والقافية محصوراً في الأطر الضَّيِّقة لـ «لوجود الفيللوجي»، واكتفى بوصف بسيط لتعبيرية البيت الشعري الإيقاعية والصوتية دون أن يبَّين ما يمكن أن يقدمه ذلك من أجل الكشف عن الخصائص الجمالية للآثار التي يتناولها.
ومن الناحية المنهجية فإن تحليل التجسيمات الإيقاعية عند أ. بيلي، وتحليل التكرارات الصوتية عند أو. بريك ينطلقان من مبدأ الوصف الإحصائي. ولكن بيلي يحاول، مع ذلك، تقديم تحليل لاستخدامات التجسيمات استخداماً فردياً على أيدي شعراء مختلفين، في حين أن بريك لم يفعل ذلك. إنه يكتفي بإعطاء أمثلة على التكرارات الصوتية ولا يلامس مسألة ما تعطيه التجسيمات التي اكتشفها لفهم جوهر العمل. وفي ضوء هذا يصعب فهم السبب الذي جعل «الموسوعة الأدبية» المعاصرة تؤكد أن “جماعة دراسة اللغة الشعرية” كانوا يسعون لتخطي شكلانية أ. بيلي الساذجة (ج-5، ص448). ذلك أن الوقائع لا تؤيد هذا الاستنتاج.
معلوم أن البنيويين المعاصرين خصّوا باهتمامهم دراسة أعمال الشكلانيين الروس، وقاموا بالدعاية لها، وكتبوا عنهم كأسلاف لهم . فما هي الاستنتاجات الجديدة التي توصل إليها البنيويون؟ سنكتفي بمثال واحد . فقد سبق أن تحدث نقادنا عمَّا يسمَّى ببنيوية رولان بارت السيميائية71. على أن هذا المنظرِّ للبنيوية المعاصرة يدلي بعدد من الأفكار الشديدة القرب مما تحدث عنه الشكلانيون الروس. ذلك أن العمل الأدبي في نظره لغة أدبية قبل كل شيء. وهو يتحدث عن الفرق بين اللغة التواصلية الموجهة إلى المسمّى (أشياء العالم الواقعي وظواهره)، واللغة الشعرية الموجهة إلى التسمية (علامة الشيء والظاهرة).
ثم يمضي بارت يتحدث عن أن التسمية – علامة الشيء – هي أهم من المسمّى، بحد ذاته. وهو يلوم النقد التقليدي زاعماً أنه ساوى بين المسمى والتسمية. وينضم بارت إلى خصوم الواقعية الذين كانوا يؤكدون زعمهم بأنها منهج يقتصر على تصوير نسخة طبق الأصل عن العالم الواقعي. ولذلك فهو يركز كامل اهتمامه ليس على دراسة مشكلة الشيء واللغة ، وإنما على مشكلة العلاقات داخل اللغة.
يقول بارت، إن معنى الكلمات الحقيقي «قد لا يتولد من علاقة الكلمات بالموضوع الذي يسميه، بقدر ما يتولد من علاقة الكلمات بكلمات أخرى قريبة منها ومختلفة عنها في آن معاً ، فالأدب يقع ويتطور تحديداً في هذه المنطقة من ما فوق المعنى ، المعنى الثاني. وبكلمات أخرى، فإن الأدب في أساسه لا عقلاني عضوياً، في علاقته بالمواضيع ذاتها»72.
وتصبح الكلمة – العلامة رمزاً يحتشد فيه كثير من الرموز، إنها متعددة المعاني. لذلك فإن الأثر الأدبي قابل للانفتاح بالنسبة لمختلف العصور والقراء، فيما لا يستطيع النقد التقاط أكثر من واحد من معانيه.
والحال ، فإن المذاهب الشكلانية تؤدي ببعض النقاد إلى الصراع ضد علم جمال الواقعية.
تحتل مقالة ب. م. إخِنْباوم ” كيف صُنِع «معطف” غوغَل” ، المنشورة في آخر الإصدار الثالث من «شعرية» جماعة دراسة اللغة الشعرية ، مكانة مميزة بين أعمال الشكلانيين. إنها مقالة مكرسة برمتها لتحليل عمل أدبي واحد. وهي مكتوبة بقلمِ واحد من أكثر الباحثين موهبة، أصبح فيما بعد عالماً مرموقاً قدَّم الكثير من أجل تطوير العلم في المرحلة السوفيتية. إن مقالة ب. م. إخِنْباوم هذه تتسم بأنها إلى حدّ ما خُلاصة لتطور الشكلانية الروسية، إذ أنها تكشف عما يستطيع هذا المنهج القيام به ومالا يستطيع . إن أنصار ب. م. إخِنْباوم كانوا ومازالوا يقدِّرون هذا العمل تقديراً عالياً جداً. كتب ف. ب. شكلوفسكي في أواخر عمره قائلاً : ” كيف صُنِع “معطف”غوغَل” مقالة بديعة. وقد أعيد نشرها” . ثم: “إن مقالة إخنباوم هذه ساطعة بلا جدال ، فما زالت تثير سجالات حتى بعد مضيّ نصف قرن . لقد حدَّدت أشياء كثيرة جداً في مستقبل تحليل النثر”73.
إن مقالة إخنباوم سجالية على نحو حاد . ويبدأ السجال من عنوانها. إذ أن الباحث يدفع بالتقنية إلى الصدارة : فما يهمه بالدرجة الأولى هو ” كيف صُنِعَ “المعطف”، وليس كيف خُلِقَ” . إن المؤلف يتجادل مع بيلينسكي، ومع المدرسة الحضارية التاريخية، ومع النقد التقليدي حول كيفية فهم هذا الأثر الأدبي. لكأن المؤلف يستعرض تقنيات النقد الشكلاني المنهجية بوضعها في مواجهة المناهج الأخرى.
كان الشكلانيون يؤكدون أن ما يحللونه ليس الحياة الواقعية التي تنعكس وتتغير في الآثار الأدبية ، وإنما هو الأثر نفسه ، خصائصه وقوانينه الداخلية. وهكذا ، فإن إخنباوم ، بتحليله على هذا النحو قصة غوغَل الطويلة ” المعطف” ، قطع جميع الصلات التي تربط هذه القصة بالواقع التاريخي الملموس الذي أنتجها، قطع جميع صلاتها بالعالم الروحي للفنان. (إن العدد الكبير الذي يورده في المقالة من شهادات المعاصرين حول كيف كان غوغَل يقرأ أعماله، يخصُّ جانباً آخر من المسألة).
غير أن مجمل اهتمام الباحث ليس منصبَّاً على الواقع الجمالي الذي يتوجب على الناقد السير بالقارئ إليه، وإنما هو منصبٌّ على تحليل النسق الصوتي في قصة غوغَل، على معالجة أنواع الحكي ، وطريقة الجمع والتضاد بين التيارات الأسلوبية…إلخ. ويتكون انطباع أحياناً بأن ب. م. إخنباوم لا يقودنا إلى داخل العمل الأدبي بقدر ما يقوم باستعراض مشكلات الحكي، والغروتيسك، وخصائص التركيب. على أنه يفعل ذلك على نحوٍ عبقري ، ماهر وجذَّاب.
إن الغاية الأساسية لهذه المقالة هي إيجاد وإبراز بؤر فنية جديدة في هذه القصة عوضاً عن البؤر القديمة.
وكجميع الشكلانيين يلتفت ب. م. إخِنباوم إلى الكلمة قبل كل شيء. إنه يدلي بتصريح برنامجي: «إن غلاف الكلمة الصوتي ، طابعها السمعي يصبح في كلام غوغَل ذا قيمة بصرف النظر عن قيمته المنطقية أو الشيئية»74 . و يؤكد المؤلف بإلحاح في مواضع مختلفة من مقالته على قيمة النسق الصوتي ، والكلام الصوتي ، والإشارة الصوتية ، والسيمياء الصوتية المستقلة عن المعنى . وبهذه المبادئ يتقاطع إخنباوم إلى حد معلوم مع ما كتبه شكلوفسكي في شبابه عن اللغة الغامضة ، ومع بعض أقوال معاصريه من البنيويين.
لقد اعتقد إخنباوم أن انتقاء اسم بَشْماتشكِن (أكاكي أكاكيِفِتْش) هو نفسه انتقاء صوتي محدد .
ويولي إخنباوم اهتماماً خاصاً لوصف المظهر الخارجي لـ أكاكي أكاكيِفِتْش كما يرسمه غوغَل. يقول غوغَل إن بَشْماتشكِن كان ” قصير القامة، مجدور الوجه قليلاً، وأمغر قليلاً ، بل ويبدو للناظر أعشى قليلاً ، تعلو جبينه صلعة صغيرة، وعلى خديه كليهما تجاعيد، ولون وجهه من نوع يسمى باسوري». هذه الكلمات الأخيرة هي على وجه الخصوص ما أذهل إخنباوم، إذ يقول: “إن ما يبقى في الذاكرة من هذه الجملة كلها هو على الأرجح انطباع يخلّفه نسق صوتيٌّ ما ينتهي بكلمة «باسوري» المترجرجة والعديمة المعنى تقريباً من الناحية المنطقية، إلا أنها قوية على نحو غير عادي من حيث تعبيريتها النطقية” (ص315).
يشغل تحليل مشكلة الحكي حيزاً كبيراً من مقالة إخنباوم ، أحدِ أوائل علمائنا الذين التفتوا إلى دراسة هذه المسألة . فالحكي شكل خاص من أشكال السرد ، يُدخِلُ الفنان عن طريقه إلى العمل الأدبي شخصية الراوي منفصلة عن المؤلف ، أو يسرد القصة على لسان شخصٍ ليس له اسم في ذلك العمل. إن العلاقات بين المؤلف والراوي المسمّى أو غير المسمى يمكن أن تكون مختلفة غاية الاختلاف . غير أن ذلك، إذا ما تحدثنا مجازاً ، هو بالنسبة للمؤلف «كلمة غريبة» . فالمؤلف في هذه الحالة لا يرسم بوساطة الكلمة، بل الكلمة نفسها هي التي تعبّر. وكثيراً ما تنشأ انسيابيّة سرد ٍ مزدوجة معلومة، أي أن القارئ يسمع صوت المؤلف وصوت الراوي معاً.
ويرى إخنباوم أن القيمة الحاسمة في ” معطف” غوغَل ليست للمبنى الحكائي ، وإنما لبناء الحكي . ويكتشف إخبناوم في قصة غوغَل هذه نوعين من الحكي: نوع كوميدي صِرف ، ونوع حماسي. وتقوم هذه القصة، وفقاً لـ إخنباوم، على أساس حكي غير سردي ، بل إيمائي- إنشائي.
من هذه المواقع يقود إخبناوم هجومه على النقاد الذين جعلوا القيمة الحاسمة في قصة غوغل من نصيب ما يسمى بالجانب الإنساني.
عندما كان الموظفون يبالغون في السخرية من أكاكي أكاكيِفِتْش، كان هذا يقول: «دعوني في حالي، لماذا تهينونني؟». وحين سمع موظف شاب هذه الكلمات «توقف فجأة كالمصعوق، ومن يومها بدا وكأن كل شيء قد تغير أمام عينيه وتبدّى في صورة أخرى»… يتردد في هذه الكلمات النافذة صدى كلمات أخرى ، هي :«إنني أخوك». فغطّى الشاب المسكين وجهه بيديه ، وقد ارتجف مرات ومرات خلال عمره وهو يرى كم في الإنسان من لا إنسانية»75?. ويعتقد إخبناوم بأن هذا المكان هو الطبقة الثانية من حكي غوغَل ، وبأن النقاد أخطأوا حين أعطوه الصدارة من حيث القيمة. فما ذلك إلا طريقة فنية ينقطع فيها الحكي باسترسال عاطفي ميلودرامي ، ويخلق غروتيسك يتيح فرصة للعب مع الواقع، ويصبح الصغير كبيراً، والكبير صغيراً، ويتبين أن المعطف الجديد حدث عظيم. ويشير ب. م. إخنباوم إلى الجانب «الإنساني» الثاني في الجزء الثاني من قصة «المعطف» بعد وفاة بَشْماتشكِن: “وخلت بطرسبورغ من أكاكي أكاكيِفِتْش وكأنما لم يكن موجوداً فيها أبداً. اختفى وغاب ذلك المخلوق الذي لم يكن له من يحميه ، والذي لم يكن عزيزاً على أحد ، ولا شيقاً بالنسبة لأحد ، ولم يسترعِ انتباه حتى عالم الطبيعة الذي لا يدع ذبابة عادية دون أن يغرس فيها دبوساً ويفحصها تحت المجهر»76.
لقد وعدَنا هذا الباحث الموهوب بتحليل إنشاء compositionقصة غوغل. فما الذي ظل خارج حدود نظره الذي أفسدته مبادئ المنهج الشكلاني؟ إنه يحرص أشدّ الحرص على تحاشي التحليل الاجتماعي لما يرسمه غوغَل من لوحات . على أن قصة غوغَل تمنحنا مادة وافرة للقيام بهذا التحليل.
يرسم غوغَل على نحو بارع في قصته هذه صورتين لبطرسبورغ، هما بطرسبورغ فئات القاع الاجتماعي ، وبطرسبورغ الطبقات المهيمنة. وهذا ما شعر به القارئ جيداً ، ولاسيما في مشهد ذهاب بشماتشكِن لزيارة موظف يعيش في «الجزء الأفضل» من المدينة . فالأطراف المقفرة التي تنار بالكاد تحل محلها أمام ناظري أكاكي أكاكيفتش شوارع حسنة الإنارة ، وكلما اقترب من المركز راح يتراءى لعينيه أناسٌ تدل ثيابهم على الغنى والجمال، وواجهاتُ محلات تجارية ، وعرباتٌ ، وحوذيون. وعندما كان بشماتشكِن عائداً، وهو ثمل قليلاً، تبدت هذه الصور جميعاً لعينيه بطريقة معكوسة. ففي إحدى الساحات المظلمة الواقعة على طرف المدينة سلبه اللصوص معطفه الرسمي الجديد، الغالي على قلبه، ملقين به في غياهب القنوط . ويؤدّي هذا المشهد إلى انعطاف حاد في مبنى القصة الحكائي ، إذ يمضي بشماتشكِن يبحث عن حماية عند ممثلي الفئات الاجتماعية العليا، ثم يمرض، وفي حمَّى الهذيان يتلفظ بكلمات مألوفة تماماً، ويموت فيصبح شبحاً مروِّعاً.
يطرح غوغَل منذ أول صفحة في القصة قضايا اجتماعية حادة، فيقول: «ما من شيء أشدَّ تجهُّماً من شتى أنواع الإدارات والأفواج والدواوين، وباختصار، من مختلف أنواع فئات المسؤولين»?. تؤكد هذه القصة برمَّتها فكرة غوغَل عن أن قيمة الإنسان في روسيا أيام القيصر نيقولاي لم تكن تقاس بصفاته الأخلاقية ، وإنما بالرتبة التي خُلعت عليه ، إذ يحذّر غوغَل في الصفحة نفسها : «أما فيما يتعلق برتبته (لأنه لا بد عندنا من الإعلان عن الرتبة قبل كل شيء)». لقد كانت أهمية هذا التعريف تحتل الصدارة في ذلك العهد77.
يتكشف معنى «الرتبة» بجلاء من خلال لقاء بشماتشكِن مع «الشخص الهام» الذي يقصده طلباً لحمايته من اللصوص. على أن شخصية هذا «الشخص الهام» لافته للنظر. ثم إن غوغل لم يذكر له اسماً. إنه رمز ما للـ «شخص الهام» الجمعي في عهد القيصر نيقولاي. وهو بطبيعته إنسان طيِّب، ولكنه حاز على رتبة جنرال وينبغي عليه أن يبدو صارماً، بل وعديم الرحمة أيضاً. ذلك هو السلوك الذي يمليه عليه موقع الرجل الذي خُلع عليه لقب رفيع. وقد تجرأ بشماتشكِن وقال له إنه ليس واثقاً من نزاهة السكرتيريين، وردَّاً على ذلك تلقّى اتهاماً خطيراً من «الشخص الهام»: «ماذا، ماذا، ماذا؟ من أين جئت بهذه الجرأة؟ من أين جئت بهذه الأفكار؟ ما هذا التمرد الذي انتشر بين الشباب ضد الرؤساء والكبار!»78 . لقد اشتغلت الآلة البيروقراطية طوعاً . فالإنسان الطيب الذي أصبح «شخصاً هامّاً» وجد نفسه أداة شريرة في يد نظام رهيب.
وفي سياق هذه المشاهد التي لا يرد ذكرها في بحث إخنباوم ، نجد ما يسمى بـ «الجانب الإنساني» – وهو ما كان يصفه إخنباوم بالعاطفي الميلودرامي- يكتسب وقعاً آخر ، ووزناً آخر. وهيهات أن يكون بالإمكان أن نتحدث عن إنشاء composition “معطف” غوغَل من دون تحليل العلاقة بين هذه المشاهد . في ضوء ذلك يتبيَّن أن شخصية بَشماتشكِن أيضاً أشد تعقيداً مما يبدو لكثير من الباحثين. وهيهات أن يكون في الإمكان أن ننظر إليه من زاوية واحدة لا غير، على غرار ما فعل تشِرنِشيفسكي في حينه، وما فعل إخِنباوم في القرن العشرين من مواقع آخرى.
إن كل ما هو إنساني مخنوقٌ في أكاكي أكاكيفتش، وإن كان موجوداً في مكان ما من أعماق روحه، يبرز إلى النور أحياناً بقدْرٍ متفاوت من القوَّة، تارة عبر نبرة الكلام التي ينطق بها قوله: “دعوني في حالي، لماذا تهينونني؟” ، أي النبرة التي ترغم على سماع كلمات أخرى: “أنا أخوك” ، تذهل الموظف الشاب، وتارة عبر الإحساس الجديد الذي انبثق فيه حين ضحَّى من أجل امتلاك معطف جديد، هذا الإحساس هو ما كتب عنه غوغَل قائلاً: “كان يتغذَّى روحياً وهو يحمل في خاطره فكرته الخالدة عن المعطف المقبل” . غير أن أكاكي أكاكيفتش يقف أمامنا تحت ضوء مختلف تماماً خلال هذيانه قبل الموت: ” بل وكان يجدِّف متفوِّهاً بأفظع الكلمات، حتى إن ربة الدار العجوز كانت ترسم علامة الصليب، إذ لم تسمع منه يوماً كلمات كهذه أبداً، سيما وأن هذه الكلمات كانت تأتي مباشرة بعد عبارة ” يا صاحب المعالي”79. يقول غ. أ. غوكوفسكي: ” لعل هذا المكان في نسخة المسوَّدة كان أكثر تحديداً ، يتضمن التأكيد على أن أكاكي أكاكيفتش راح يصرخ في وجه الجنرال مثلما كانوا يصرخون في وجهه هو خلال حياته كرؤساء: “… بل وراح يجدّف متلفظاً بتعابير يستعملها الحوذيون بالضبط ، أو بأخرى تستعمل لإقرار النظام في الشوارع ، وهو ما لم يقع له في حياته منذ ولادته. «لن أنظر إلى أنك جنرال.- كان يزعق أحياناً بصوت شديد الارتفاع . – إنني سأنتزع منك معطفك»80. ويتخذ بشماتشكن بعد موته هيئة جديدة أكثر إرعاباً، إذ يظهر للناس شبحاً ويخلع المعطف عن أكتاف مختلف «الأشخاص الهامين» . تلك هي الطاقات التي كانت راقدة في قاع روح هذا الإنسان الصغير ذي الوجه الباسوري.
في مقالته ” كيف صُنِع “معطف”غوغل” حاول ب. م. إخنباوم القضاء على التفسير التقليدى لهذه القصة. غير أن العلم لم يتقبل هذا التفسير الجديد، بدليل أن مؤرخي الأدب المعاصرين أقرب في فهمهم قصة غوغل إلى التقليديين مما إلى إخنباوم . فلماذا حدث هذا ؟ بالتأكيد ليس لأن إخنباوم اهتم بدراسة الأنساق الصوتية في هذه القصة، وبتحليل خصائص الحكاية وتنوعاتها… إلخ. ذلك أن إخنباوم كان ينظر إلى تحليل هذه التقنيات بوصفه الهدف المنشود من دراسته لقصة غوغَل. فنتجت لوحة مشوَّهة ، لأن الباحث لم يكشف ، وما كان بوسعه أن يكشف، وهو يتبنّى مواقف الشكلانية، عن القيمة الوظيفية لهذه التقنيات بالنسبة إلى بناء القصة التي تصوّر سيرورات اجتماعية معقدة في الحياة الواقعية.
لقد خلَّف فيتشِسلاف إيفانوف ملحوظة مشوِّقة للغاية حول المناهج التي احتكم إليها ب. م. إيخنباوم وهو يحلل قصة غوغل. يقول فيتشِسلاف إيفانوف إن مؤلف هذا البحث أصاب في إشارته إلى كثير من خصائص قصة غوغل ، ولكنه لم يجِب على السؤال الذي يتضمنه عنوان المقالة: ” كيف صُغِ “معطف” غوغل”؟ إن ثوابت المدرسة الشكلانية هي ما يحول بينه وبين بلوغ ذلك . يقول ف. إيفانوف: «إن معالجة المادة الكلامية بأكبر قدر من الاستفاضة والذكاء معالجةً تقتصر على إضاءة ظواهر ثانوية في حياة الكلمة، وتفتقر إلى التحليل الفلسفي لتلك الظواهر، وكذلك إلى المنظور التاريخي، لا تسوِّغ التصدي لإرساء أسسِ شعريةٍ (بويطيقا) جديدة «علمية» ، وبالأحرى إمبريقية»81.
وقد نسج ف. شكلوفسكي مقالته ” كيف صُنِع “دون كيخوته” على منوال النموذج الذي تُمثِّله مقالة إيخنباوم ” كيف صُنِع “معطف”غوغل” . فشخصية البطل عنده لا تعدو كونها تفصيلاً من تفاصيل البناء الذي شيّده سرفانتس من كلام أبطاله، ومن أفكاره وقصصه الاعتراضية . وقد أشار معاصروه يومها إلى أنه لا وجود لشخصية دون كيخوته في هذه المقالة.
كان ذلك مأزقاً منهجياً . ولم يكن بوسع باحث ألمعيّ مثل ف. ب. شكلوفسكي ألا يحسّ بذلك. فكان طريقه كله بعد ذلك طريقاً للتغلب على الضلالات الشكلانية. وقد دان الباحثون الغربيون فيه هذا التوجه . غير أن شكلوفسكي في أيامنا ردّ على تلك الملامات قائلاً :
” يلومونني في الغرب على خيانة نفسي ، ويتقبّلون إرثي.
إذ يجب علي أن أقف مستقيماً ، في حين لا يقف على هذا النحو إلا سنبلة سقط حبُّها ، يجب أن أقف في مكان واحد مثل وََدٍ دُقَّ في الأرض ، وألا أغيرِّ موقعي، مثل هيكل في قبر.
ولكنني أريد أن أتغيَّر، لأنني لم أتعب من النمو»82.
إن مسألة مصير المنهج الشكلاني لاحقاً في الطريق الإبداعية التي سلكها أفذاذ آخرون يمثلون هذا المنهج جديرة أيضاً باهتمام جدّيٍّ إلى أقصى حد. فقد أدلى ب. م. إخِنباوم ، منذ عام 1922 في كتابه عن نِكراسَف ، بأحكام جليّة التناقض فيما بينها . إذ نقع في ختام الفصل الثاني من ذلك الكتاب على بيان برنامجي على غرار الشكلانية الأرثوذكسية ، جاء فيه : “إن الفن يعيش على أساسِ ما بين تقاليده من تضافر وتنافر ، فيما هو يطوِّر ويغيِّر شكل هذه التقاليد وفقاً لمبادئ التضادّ ، والمحاكاة الساخرة ،والمزج ، والانزياح . وليس بينه وبين “الحياة” ، أو “المزاج” ، أو “السيكولوجيا” أية علاقة سببية.83 ولكننا قبل ذلك بقليل ، في الفُصَيْل الأول ، نقرأ شيئاً مناقضاً: «إن حرَّية الفرد لا تتجلَّى في انفصاله عن القانونين التاريخية ، وإنما في قدرته على تحقيقها، أي في أن يكون معاصراً ، في أن يسمع صوت التاريخ»(ص38). ويقول في الفُصَيْل الثالث: «إن الدور الذي اختاره نِكراسَف أوحى إليه به التاريخ وتقبَّله بوصفه فعلاً تاريخياً»(ص58).
تشهد هذه الأقوال المتناقضة على أن إطار النظريات الشكلانية المحدود كان ضيقاً على العالِم الكبير والباحث الموهوب إِخِنباوم الذي كان توَّاقاً إلى فضاء تقصيات إبداعية أكثر إثماراً ، يمتزج فيها التحليل الجمالي امتزاجاً عضوياً مع التحليل الاجتماعي والفلسفي . وقد أتاح هذا الطريق لـ إِخنباوم إنجاز أعمال بديعة عن ليف تَلْسطوي وليرمنتَف ونِكراسَف ولِسكوف وأخماتَفا وغيرهم من كلاسيكيي الأدب الروسي.
بينما سلك العالِم الأمريكي المرموق ر. ياكُبسون طريقاً آخر، ومعروف أنه أكد منذ سنة1921أن “الشعر هو اللغة في وظيفتها الجمالية”84. وما تزال الشعرية (بويطيقا) في نظر ياكُبسون حتى الآن مجرّد واحد من مكوِّنات الألسنية ، وقد صرَّح بذلك، على وجه الخصوص ، في المؤتمر الذي عقد حول ” الأسلوب في اللغة” عام 1958 في ولاية إنديانا بالولايات المتحدة الأمريكية. إن ياكبسون يُعَدّ في أيامنا زعيم البنيوية الشرعي ، وهو يفترض أن من يدرس بنية اللغة أو الفن هو وحده من يمارس العلم الحقيقي ، أما جميع الآخرين الذين لا يفعلون ذلك فمنشغلون بكلام فارغ . فما هي النتائج التي توصل إليها ياكبسون نفسه ؟ لقد أضاءت صحافتنا على نحو واسع كتابه ” شعر النحو ونحوُ الشعر” الذي يتضمن ، كما هو معروف، تحليلاً لقصيدة بوشكن «أحببتكِ…» . إن ياكبسون يقدم تحليلاً باهراً للأشكال النحوية في هذه القصيدة . فهي تتألف من 47 كلمة ، بينها 14 ضميراً منفصلاً ، و 10 أفعال و 5 أسماء و 10 ظروف وأحوال ، وليس فيها صفة واحدة . ويتتبع المؤلف على نحو مقنع العلاقات بين ضمير المتكلم «أنا» وضمير المخاطب «أنتم» . وما من شكّ في أن هذا التحليل مشوِّق على المستوى النحوي، غير أنه ليس كافياً للكشف عن خصائص البنية الفنِّيَّة لهذه القصيدة ، إذ أن المدرسة الشكلانية لم تستطع إنجاز هذه المهمة.
1- مجلة «روسكايا ميصل» 1910، عدد 7
2 – ف. إ. كوليشوف مؤلف الكتاب الضخم الموسوم بـ « تاريخ النقد الروسي» (1972) له وجهة نظر أخرى . ففي الصفحة 431 من كتابه هذا يقول: «إن الشكلانية الأعمق كانت أساس جميع التصورات الجمالية في المدرسة الرمزية». (تشديد المؤلف أ.م). غير أن ما يشهد على بطلان هذا الرأي هو تحليل النظرات الجمالية والنقدية لدى فلاديمير صّلَفيوف ودميتري ميريجكوفسكي وأندريه بيلي وأندريه إيفانوف وفاليري بريوسَف وألكسندر بلوك، وهو تحليل موجود على صفحات كتاب كوليشوف هذا نفسه .
3 -كتاب ب.ن.ميدفيِدف لاقى تقديراً عالياً من جانب معاصريه، فكتب م.ك.دَبْرنيِن عنه قائلاً: «بصرف النظر عن وجود عدد من الهفوات فإن الكتاب حقق هدفه المنشود في أن يكون مدخلاً نقدياً إلى الشعرية السوسيولوجية . وتحديد المهمة الأساسية لعلم الأدب بأنها مسألة الخصوصية هي مسألة صحيحة تماماً . إن الموقف الأساسي من الشكلانية بوصفها عدواً جيداً ، ونقدها على أرضها بالذات ، والاهتمام بالمشكلات التي تطرحها هي ، والسعي لمحاولة حلها نقدياً بغية حل المسألة الجوهرية في هذا العلم ، أي خلق شعرية سيوسيولوجية ، كل ذلك يجعل الكتاب مشوِّقاً وقيَّماً وضرورياً للغاية في أيامنا» (مجلة «الأدب والماركسية» ، الكتاب الأول ، غوسينردات 1929، ص 72) .
4 -الموسوعة الأدبية. الجزء 7 ، موسكو 1934، ص 274
5 -إ. غانسليك . في الجميل موسيقياً. موسكو، 1859، ص 67
6 -المصدر السابق. ص 70.
7 -انظر: أندريه بيلي . الرمزية. 1910، دار «موساغيت»، ص 165و 168 وغيرها.
8 -غ. ف. بليخانَف . الفن والأدب. موسكو 1948، ص 307
9 -الصدر نفسه. ص 306
10 -. Fiedlers Schriften uber Kunst. Hrsg v. H. Konnerth. Munchen, 1913, S. 179, 180
11 -غ. فيلفلين . الفن الكلاسيكي. سانت بطرسبورغ، 1912، ص 1
12 – أ.بيلي . الرمزية. ص 614
13 – ن. رجيفسكايا. التيارات الشكلانية الجديدة في النقد الفرنسي الحديث (جماعة«تل كيل»). «التيارات الطليعية الجديدة في الأدب الأجنبي في الخمسينيات والستينات». موسكو، 1972، ص 205
14 – م. س. غريغوريف . شكل ومضمون العمل الأدبي الفني. موسكو، 1929، ص 7- 8
15 – أ. بيلي . المرج الأخضر. كتاب مقالات. موسكو 1909، ص 48
16 -المصدر السابق. ص 54-55.
17 – «بيانات أدبية». موسكو. «الفدرالية»، 1929، ص 74
18 – أ. بيلي . الرمزية .ص 239
19 – أ . بيلي . الرمزية. ص 239
20 -المصدر نفسه. ص 194،190،186،187،185،184
21 -O.Spenjler.Der Untergang des Abendlandes , Bd 1. Berlin, 1925. S. 6 .
22 – انظر نقد هذه النظريات في كتاب : يو. باراباش . قضايا علم الجمال والشعرية.
23 -جِرمونسكي . قضايا نظرية الأدب. ليننفراد، 1928، ص 39
24 – انظر: أ. بيلي . المرج الأخضر. ص 182-192
25 – أ. بيلي . الرمزية . ص 224.
26 – ن. غومِليوف . رسالة حول الشعر الروسي. ص 45
27 – «أخبار أوديسّا» ، 9 شباط 1911
28 – «الكلمة الروسية» 11 و 12 شباط 1912
29 – ف. شكلوفسكي . في نظرية النثر. موسكو، 1927، ص 226
30 ـ ر. باكُبسون . الشعر الروسي الأحدث .براغ، 1921، ص 5
31 – ف. إيفانوف . خطوط وتخوم، 1916، ص 139
32 – أ. بيلي . الرمزية. ص 230
33 – يوهان فولفغانغ غوته . أعمال مختارة. موسكو، 1950، ص 681
34 – ف. شكلوفسكي . وتر القوس. موسكو، 1970، ص 11
35 – المصطلح الجديد هو “أَسترانينْيِِ” ، وفيه تفقد النون الأولى التشديد الموجود في الكلمة الأصل ، أي في مصدر الاشتقاق “سترانّي” التي تعني الغريب ، غير المألوف ، الداعي إلى التعجب. ـ م
36 – مجموعة مقالات في نظرية اللغة الشعرية. الإصدار الأول، بطرسبورغ، 1917، ص 7
37 -انظر كتاب: ف. جِرمونسكي . قضايا نظرية الأدب. ليننغراد، 1928، ص353 ـ 354
38 -ل. س. فيغوفسكي . سيكولوجيا الفن. موسكو، 1968، ص 86
39 – ر. ياكسبون . الشعر الروسي الحديث. ص 10
40 – ف. جِرمونسكي . قضايا نظرية الأدب . ص 52
41 – أوسكار فالتسيل . مشكلة الشكل في الشعر. بتروغراد، 1923، ص 20-21
42 – ف. جِرمونسكي . قضايا نظرية الأدب. ص 52
43 -انظر: ل. س. فيغوتسكي . سيكولوجيا الفن، ص 78- 80
44 – ن. غومِليوف . رسالة عن الشعر الروسي. ص 211. 1961
45 – ف. ف. ماياكوفسكي . الأعمال الكاملة. ج-13، موسكو، 1961،ص247
46 -«البيانات الأدبية» موسكو، 1929، ص 80
47 – ف. شكلوفسكي . إحياء الكلمة، 1914،ص 13
48 – انظر: فيكتَر غوفمان. التجديد اللغوي عند خليبْنِكَف.- في كتاب: ف.غوفمان. لغة الأدب 1936.ص 185-240
? – يستخدم كلمة «مرشدو حركة السكك الحديدية». ـ م
49 – ف. خليبْنِكَف. الأعمال. ج 5، ليننغراد 1936، ص 228
50 – ف. غوفمانِ. لغة الأدب، ص 221
51 – ف. خليبْنِكَف . المؤلفات ، ج.5، ص 232
52 -«فزيال . كتاب المستقبليين السنوي» كانون الأول/ ديسمبر 1915، ص 3
53 – ر. ياكبسون. الشعر الروسي الحديث، ص 10
54 – مجموعات في نظرية اللغة الشعرية. الإصدار الثاني» . بتروغراد ، 1916 ، ص 30
55 – أ. غ. غورنفيلد. عذابات الكلمة. سانت بطرسبورغ ، 1906، ص 28
56 -المصدر نفسه، ص 32
57 – “مجموعات في نظرية اللغة الشعرية” ، الإصدار الأول ، ص 1
58 – المصدر نفسه ، ص 10
59 – ر. ياكبسون. الشعر الروسي الحديث. الخطوط الأولى. براغ، 1921، ص 68
60 – «روسكايا ميصل» كانون الثاني/ يناير 1917، ص 1 (باب “المشهد النقدي”).
61 – «البيانات الأدبية»، ص 67
62- المصدر السابق، ص 67
63- ل. س. فيغوتسكي . سيكولوجيا الفن . ص 91
? يتعذر إيجاد كلمات عربية مقابلة تتضمن الأحرف والأصوات المتكررة في كلمات القصيدة بلغتها الروسية . وبدهي أن هذه مسألة تتعلق بخصوصية اللغة وبنيتها الصوتية والصرفية …إلخ. – م
? يختار بالمونت كلمات تتضمن في أولها أو وسطها أو نهايتها الحرف (م ) الذي يعني له الإغراق في الصمت والخرس …إلخ . وترجمة هذه الكلمات إلى العربية هنا ضربٌ من العبث نحجم عنه . – م
64 -«روسكايا ميصل» ، 1916، العدد 3.
? مكسورة وزناً .- م.
65 – ف. ي. خَلْشيفنِكَف. أسس القصيدة . نظم الشعر الروسي، 1972،ص27
66 – أ. بيلي . الرمزية، 1910،ص300-301
67 – أ. بيلي . الرمزية، 1910،ص300-301
68 – المصدر السابق. ص 317
69 – المصدر السابق. ص 353-354
70 – أ . بيلي . غلوسولاليا . برلين ، 1922، ص37
71 – ن. رجيفسكايا . النزعات الشكلانية الجديدة في النقد المعاصر. – في مجموعة:«التيارات الطليعية الجديدة في الأدب الأجنبي خلال الخمسينيات والستينيات»،ص 190-238
72 -المرجع السابق، ص 214.
73 – ف. شكلوفسكي . وتر القوس،21
74 – ب.إخنباوم . في النثر.ليننغراد، 1969، ص 309
75 – ن. ف. غوغَل . المؤلفات. الجزء 3، موسكو 1949 ص 125-126
? – نعتمد في نقل هذه المقبوسات من ” معطف”غوغل على ترجمة الاستاذ أبو بكر يوسف مع تعديل بعض العبارات . ـ م
76 -المصدر السابق،ص 149
? -لم ترد هذه الفقرة في ترجمة أبو بكر يوسف . ـ م
78 – المصدر السابق. 147
79 – ن. ف. غوغل . الأعمال.ج-3،ص148
80 -غ. أ. غوكوفسكي . واقعية غوغل، 1959،ص356
81 – فيتشِسلاف إيفانوف . حول الآراء النظرية الأحداث في ميدان الكلمة . – «الأخبار العلمية» . مجموعة مقالات . موسكو 1922 ، ص 5 – 6
82 – فيكتر شكلوفسكي . قصص عن النثر .ج-1، موسكو 1966،ص5-6
83 – ب. إِخنباوم . في الشعر. لينغراد.1969،ص 55
84 – ر. ياكبسون . الشعر الروسي الحديث، ص 11
—————-
أ. مياسنيكوف
ترجمة: نوفل نيّوف *