كان يوما قائظا، وعند الأصيل قدمت غيوم سوداء من الغرب، أضاء البرق، وهزم الرّعد هزيما رائعا تردّد صداه بين الجبال، أمر عبد الحفيظ زوجته مسعودة بالعودة إلى المنزل، وهشّ بعصاه الغليظة على قطيعه من الماعز، وساق ابنه بشير ذو السّتة عشر عاما البقرة. بدأ المطر ينزل بغزارة، وتكوّنت جداول صغيرة بين الصّخور، ونزلت مسرعة من المرتفعات المكسوّة بنباتات الحلفاء والإكليل، امتلأت الغدران بالماء، وتدفّق السّيل يجري فوق رمال الوديان بين أشجار الدّفلى والنّخيل في اتجاه النّهر.
عادت البقرة إلى مربطها في الزّريبة أين كان عجلها الصّغير ينتظرها، واحتمت المعزات من المطر بالأشجار المتناثرة حول المنزل المتكوّن من غرف عديدة مبنيّة بالحجارة والطّين ومسقوفة بجذوع الأشجار، ووصلت مسعودة إلى البيت محمّلة بحزمة كبيرة من الحطب وقد أمسك ابنها عمّار ذو الثلاث سنوات بطرف ملحفتها التي التصقت بجسدها النّحيل، وضعت حزمة الحطب قريبا من زريبة البهائم، وأدخلت صغيرها إلى البيت ونزعت عنه « كدرونه « الأشخب المبلّل، ولفّته ببقايا ملحفة قديمة، وخرجت مسرعة لتحمل دجاجة مع فراخها الصغار إلى مكان لا يطاله المطر ولتغطي تنور الطين وتفكّ رباط الكلبة التي أصبح مربطها بركة مياه.
نزع عبد الحفيظ جبّة الصّوف وغطاء رأسه المبلّلين، وأعطاهما إلى ابنه، وصعد إلى أعلى الرّبوة ، ووقف تحت شجرة خرنوب كبيرة يسرّح البصر في الثّنيّة المتعرّجة بين الجبال، بلّل رذاذ المطر المتساقط بين الأغصان شعره الكثّ الذي انسدل فوق كتفيه، وانحدر الماء فوق قميصه الضيّق الذي التصق بجسده وسرواله القصير الذي لا يكاد يتخطّى الرّكبتين. كان في الأربعين من عمره، فارع الطول عريض المنكبين ذا بشرة بيضاء تميل إلى الحمرة وعينين عسليّتين ولحية خفيفة.
تصاعد خرير المياه، وعبقت في الأرجاء رائحة النّباتات البرّيّة، تشمّمها عبد الحفيظ بفرح طفولي، فانفرجت أساريره، ولمعت عيناه، وقال في نفسه « سيكون خريفا جيّدا، لا بدّ من التّعجيل في حراثة الأرض وزراعتها « كانت أرضه قطعا صغيرة متناثرة بين سفوح الجبال، كان يزرعها شعيرا وقمحا، وإذا جادت السّماء بمطر وفير زرع قطعة صغيرة تقع على ضفاف النّهر جزرا وفولا في الشّتاء وبطيخا أحمر في الرّبيع.
توقّف المطر عن النّزول، وظهرت الشّمس من جديد، وعادت الطيور تحلّق مسرعة إلى أوكارها، وخرج الحلزون من مكامنه، وأخذ يزحف فوق الصّخور، ومن بعيد لاح لعبد الحفيظ خيال أمّه تبر وهي تسير في الثّنيّة المتعرّجة بين الجبال تسوق أمامها أتان شهباء يركبها ابنه محمود ذو العشر سنوات، نزل عبد الحفيظ من الرّبوة، وسار في اتّجاه القادمين، غمرت ظلال الجبال الوديان والسّهول، وبدأت الشّمس تغرب، عبر عبد الحفيظ الوادي، وغاصت قدماه في الرّمال المغمورة بضحضاح من الماء، وغير بعيد عن الوادي التقى بأمّه وولده، كانت أمّه قد قاربت السّبعين سنة من عمرها موفورة الصّحّة جميلة الملامح، ينمّ وجهها الذي علته التّجاعيد عن الفطنة والحزم، ترمّلت وهي في سنّ الثّلاثين، مات زوجها بعد أن نهشت أفعى إصبع قدمه في إحدى ليالي الصّيف، ورفضت تبر الزّواج من جديد رغم كثرة الرّاغبين فيها، وكرّست حياتها لإعالة بنتيها عائشة وجنّات وولدها عبد الحفيظ الذي كان له من العمر ثلاث سنوات عندما توفّي والده.
احتضن عبد الحفيظ أمّه بذراعيه الطّويلتين، وقال لها معاتبا « لم كل هذا الغياب أيّتها العجوز ؟ « أجابت الأمّ وهي تتظاهر بالغضب « ابعد عنّي يا كلب، تنشغل بزوجتك ولا تسأل عن أمك وولدك، كاد أن يحملنا السّيل في أحد الوديان « قال عبد الحفيظ وهو يضحك « هذا ذنبك أنت، أطعمتني وأنا صغير كبد كلب قدّمه لك أخوك العربي وكنت تظنين أنّه كبد ذئب، هو من أخبرني بذلك… « صمت لبعض الوقت، ثم واصل الكلام وهو جادّ « كان عليك أيّتها العجوز أن تأتي في الصّباح، لا أحد يدري متى ينزل المطر في عشيّات الخريف « أجابت الأم « كنت أنوي المجيء في الصّباح الباكر لأني لا أحتمل حرّ الشّمس ولكنّ أختك عائشة سألتني أن أبقى معها إلى حين عودة زوجها من السّوق « قال عبد الحفيظ « خشيت أن لا تذهبي معي إلى الزّردة « أجابت الأم وقد ارتسم شيء من الأسى على محياها « وهل تظنّ أنّه يمكنني أن أغيب عن أحفادي في مثل هذه المناسبة، بشير ومحمود لا يعرفان لهما أمّا سواي بعد أن توفّيت الصّالحة عليها رحمة الله «
عبرت الأتان الوادي وهي تخوض في الرّمال التي تنزّ بالماء، ثم عبر عبد الحفيظ الوادي وهو يحمل فوق كتفيه ابنه محمود ويمسك بيد أمّه التي رفعت أطراف ملحفتها الزرقاء المبلّلة وشمّرت عن كاحليها، وما إن صعدت الأتان الرّبوة ولاح لها المنزل حتى شرعت في النّهيق، فجاءت الكلبة مسرعة إليها، وأخذت تدور حولها، ثم تتمدّد أمامها في الطّريق وتحثحث التّراب بقوائمها، فتمدّ لها الأتان منخريها تتشمّمها، فتقفز الكلبة، وتعود إلى الجري من جديد.
واصلت تبر طريقها مع حفيدها، وعرّج عبد الحفيظ إلى حقل التّين الشّوكي المجاور، وفكّ رباط ناقته، وساقها أمامه، وعندما وصلا إلى المنزل كان الظلام قد أرخى سدوله على الجبال، وبدأ ضوء المصباح الزّيتي يتصاعد من إحدى غرف المنزل، شدّ عبد الحفيظ النّاقة إلى مربطها، وملأ مخلاة بالشّعير، وعلّقها في عنق حصانه، ثم دخل الغرفة لتغيير ملابسه وتجفيف شعره.
احتضنت تبر حفيديها، ووزّعت عليهما قطعا من الحلوى، وفتحت قفل صندوقها الخشبيّ، ودسّت فيه وشاحا جديدا وقارورة عطر، وأحكمت قفله، وعلّقت المفتاح بخيط المرآة الصّغيرة التي تتدلّى فوق صدرها، ونادت كنّتها مسعودة، وسلّمتها صرّة من التّين المجفّف واللّوز وكوزا من مربّى التّين الشّوكي، وأنّبتها على عدم انتباهها لارتفاع حرارة ابنها عمّار، وأمرتها بإحضار عجينة من مسحوق الأعشاب البرّيّة لمداواته.
وضعت تبر رأس حفيدها عمّار بين ركبتيها، فشعر بشيء من الاختناق، وانحنت فوقه وفي يدها شفرة حلاقة تحتفظ بها منذ زمن بعيد، وأخذت تنقر جبهته، نثّ الدم غزيرا دبقا، وسقط في آنية فخار مُلئت رملا، وعلا بكاء الطفل، وحاول تخليص نفسه فلم يقدر، وعندما كفّ الدّم عن النّزول باعدت الجدّة بين ساقيها، فسقط حفيدها على الأرض وهو لا يقوى على رفع نفسه، فأخذته لينام في مكانه من الحصير، وخلطت مسحوقا من النّباتات البرّيّة بقليل من الماء وهي تردّد أدعية بصوت منخفض، ووضعت العجينة فوق جبهته، وشدّتها ببقيّة وشاح قديم، وضمّخت جسده بماء الزّهر، وغطّ الحفيد في نوم عميق.
أحضرت مسعودة لعبد الحفيظ وولديه العشاء: كسرة شعير ومرق بصل ويقطين وحفنة من الزّيتون المجفّف، ومضت إلى المطبخ مع عمّتها ليتناولا هناك عشاءهما وليقوما بتحضير ما يلزم طعام الزّردة من طحين وفواكه مجفّفة وأفاويه… فعائلة عبد الحفيظ تحتفي بهذه المناسبة احتفاء كبيرا توارثته عن الأسلاف، وتتباهى بذلك، وكان عبد الحفيظ قد نذر جذع ماعز لجدّه، سيقوم في اليوم الموالي بذبحه عند زاويته، وهي بناء مربّع تتوسّطه قبّة ذات نوافذ صغيرة، جدرانه من الحجارة والطّين وسقفه من جذوع الأشجار، يقع بين أشجار البطم في أسفل جبل حزيز على ضفة النهر الذي يمرق من الجبال ويمتد في سهول شاسعة تعجّ بالحقول.
تناول عبد الحفيظ عشاءه مع ولديه، وشرب كأس شاي أحمر، وأخرج من صندوق له بعض قطع النّقود، دسّها في جيب سرواله، وعلّق مديته في حزامه الجلدي، وخرج إلى فناء المنزل وهو يضع برنسه على كتفيه ويمسك بطرف عصاه الغليظة، وقال مخاطبا أمّه « ليلة جميلة، سأذهب إلى زاوية سيدي سالم، مشتاق إلى سماع بعض الذكر ولقاء الأحبّة « أجابته الأم وهي تخرج منحنية من المطبخ « كن حذرا يا ولدي وأنت تسير في الطّريق ولا تدسّ أنفك في مشاكل لا تعنيك، لا أحد يعرف من أين يأتي البلاء…» قال عبد الحفيظ مخاطبا ولديه « لا تبرحا المنزل هذه اللّيلة، وكونا يقظين، اللّصوص يغتنمون مثل هذه المناسبات للإغارة والنّهب « كان عبد الحفيظ يدرك جيّدا أنّ ولده بشير لن يلتزم بأمره وأنّه سيذهب لملاقاة بعض أترابه في دكان سالم الزّين الواقع عند طرف حقله العامر بأشجار التّفّاح والرّمّان.
عندما غادر عبد الحفيظ منزله كان القمر يطلّ من وراء الجبال أحمر متوهّجا، فيغمر نوره الغدران والصّخور المغسولة بماء المطر، مشى في طريق ضيّقة محفوفة بأشجار التّين الشّوكي، وعندما وصل إلى أعلى الرّبوة وقف، وأخذ يتأمّل العالم من حوله، فتراءت له أضواء خافتة تتصاعد من بيوت الطّين والأكواخ المتناثرة بين الجبال وتناءى إلى سمعه عواء ذئب قادم من بعيد، قال في نفسه « حتّى الذئاب يضنيها الشّوق في مثل هذه اللّيلة الجميلة « ثم واصل طريقه المتعرّج عند سفح الجبل، وعندما اقترب من زيتونة الكلب رأى طيف إنسان يجلس فوق الصّخرة المحاذية لها، أدرك أنه ابن عمّه التّيجاني ينتظره، كان التّيجاني قصير القامة مفتول العضلات بارز الصدر، يباعد مثل ديك رومي بين ساقيه إذا مشى، وقد احتفل بزواجه منذ أيام قليلة، دخل بعروسين في ليلة واحدة، صافح عبد الحفيظ ابن عمّه التّيجاني وسأله وهو يضحك « كيف تسير الأمور عندك ؟ هل تجد وقتا كافيا للسّهر بعيدا عن المنزل وسماع الذكر « أجاب التّيجاني وهو ينفخ أوداجه « ابن عمّك فحل لا يُقرع أنفه، وشرع ربّي أباح لنا أربع نساء، وأنا لم آخذ سوى نصف حقّى « وتصاعدت ضحكاتهما تمزّق سكون اللّيل، وجاء صوت من الظّلام « ومتى كنت تعرف شرع الله أيّها التيس الهائج، لو أنّ عضروطا مثلك نشأ في برّ الهمامة لأفنى عمره في رعي الإبل ولم يتزوّج أبدا « إنّه صوت محمّد الأعمى الذي قدم لمرافقتهما إلى الزّردة، كان في منتصف العقد الخامس من عمره، طويل القامة نحيفا، في وجهه آثار داء الجدري، غلبت عليه كنية الأعمى لأنّه لا يكفّ عن تحريك أجفانه بسبب مرض أصابه وهو صغير، تتبّع في شبابه حلقات الذّكر والإنشاد الصّوفي، واشتغل مؤدّب صبيان لبعض الوقت، ثم هجر كل ذلك، وامتهن حرفة الغناء في الأعراس. قال عبد الحفيظ دون أن يكفّ عن الضّحك « لو تأخّر زواج التيجاني ابن عمّي شهرا واحدا لخرج على النّاس عاريا « وقال التيجاني وهو يشدّ على يد محمّد الأعمى بقوّة « لا أعلم في أهل هذا الجبل من هو أشدّ منك شبقا وطلبا للنّساء، أيها الأعمى، والله، لو وضعوا لك رداء امرأة على كدس حجارة لأمضيت ليلة كاملة وأنت تحضنه. «
جلس محمّد الأعمى فوق الصّخرة، وأخرج من جيب معطفه صرّة التّبغ، وأخذ يحشو غليونه الذي براه من عظم عجل، وقال مخاطبا رفيقيه « هل تريدان سماع طرفة جميلة ؟ حكى لي بعضهم أنّ المولدي الومّال قال للهيدوق الجيلاني يتزلّف له « لقد فرحت بقدوم عجلكم كأنّ زوجتي بيّة هي التي ولدته « تصاعد الضّحك وقال عبد الحفيظ « يا له من وغد، يظنّ أن الهيدوق الجيلاني سيجزل له العطاء، سيكون مثله مثل حمار البيدر يأتيها طامعا فيمضي القيلولة في درس السّنابل « أشعل محمّد الأعمى التّبغ، وسحب نفسا عميقا من غليونه، ثم نفثه من فمّه وهو يمطّط شفتيه، ومرّر الغليون إلى رفيقيه وهو يقول « سلعة جيّدة أعطانيها الشّاوش رمضان، يزرعها والده في مطامير له على ضفاف النّهر، ويخصّ بها أحبّته وأصدقاءه « تصاعد الدّخان، وعبقت رائحة التّبغ والعرعار، أحسّ عبد الحفيظ بحرقة في صدره، وسعل عدّة مرّات، جذب نفسا آخر من الغليون، فأحسّ بخدر خفيف يسري في جسده، ورأى الجبال من حوله تترنّح، جذب أنفاسا أخرى، فرأى نفسه يرتفع إلى السّماء ويحلّق فوق الجبال.
أخذ الرّفاق الثّلاثة ينزلون المنحدر المجاور لزاوية سيدي سالم، تراءى لهم من بعيد لهيب النّار الموقدة بين أشجار البطم يرتفع إلى السّماء، وتناهت إليهم أصوات الذّكر وصيحات المريدين ونقرات الدّفوف ورائحة البخور، أخذت عبد الحفيظ رجفة، وتصاعدت أنفاسه، وسخنت عيناه، وتسارعت خطاه، مشى الرّفاق الثّلاثة بين المقابر المتناثرة حول الزاوية، ووقفوا قريبا من الحلقة، كانت الأجساد عارية تتراقص في ضوء النّار، الرّؤوس حاسرة ترتفع وتنخفض، والجباه تنضح عرقا، والعيون زائغة، تصاعد نثار النّار، واشتدّ نقر الدّفوف، وحمي الرّقص، وارتفعت الصّيحات، سقطت امرأة على الأرض مغشيّا عليها، احتضن مجذوب شجرة تين شوكي، وألقى مريد نفسه في كومة الحطب المشتعلة… لا يعرف عبد الحفيظ متى دخل الحلقة، وكل ما يتذكره أنّه سمع صيحة عظيمة ورأى الجمر يتساقط عليه من السّماء.
هبت ريح باردة، فتحرك جريد النّخل، وطارت يمامتان، أحسّ عبد الحفيظ بالبرودة تسري في جسده، فتح عينيه بصعوبة، رأى نور الفجر يسري فوق الجبال ونجمة الراعي تومض من بعيد، أحس بصداع في رأسه وألم في مفاصله، رفع رأسه ببطء، ونظر في العالم من حوله، كان ينام في الوادي الذي تكتنفه الأشجار غير بعيد عن منزله، نهض بصعوبة وهو يحاول أن يتذكّر ما جرى في اللّيلة الماضية، رأى برنسه ملقى بجانبه معفّرا بالرّماد والتّراب، نزع أدباشه، ودخل عاريا في بركة مياه حفرتها الطّبيعة بين صخور الجبل ورمل الوادي، وجد الماء باردا، وأحسّ بطراوته تسري في جسده، فشعر بأنّه يتعافى من آلامه.
وصل عبد الحفيظ إلى منزله، وهو يتأبّط برنسه، كان ضوء الفجر يملأ الدنيا والدّجاج نزل من وكناته وأخذ يبحث عن طعامه، ضرب الحصان الأرض بحافره، وحمحم، خفّف عبد الحفيظ الوطء، ومشى يباعد بين خطواته، وقبل أن يلج غرفة نومه جاءه صوت أمّه « مازال باكرا، كان عليك أن تسهر أكثر « أجاب دون أن ينظر إليها « أنا مرهق، سأنام قليلا، قولي لعلي وبشير أن يأخذا قطيع الماعز والبقرة إلى الجبل المحاذي لزاوية سيدي سالم «
كانت الشّمس تطلّ فوق الجبل عندما غادرت الأسرة المنزل في اتجاه زاوية سيدي سالم، كان عبد الحفيظ يركب حصانه، ويسير في المقدّمة، وكانت تبر تسير خلفه وفي يدها عنان الأتان المحمّلة بزنبيل فيه أدوات الطّبخ وجذع ماعز لا يكفّ عن العفاط، وكانت مسعودة تسير في المؤخّرة وعلى ظهرها صغيرها عمّار، كانت الثّنيّة الملتوية بين الجبال تعجّ بزمر من المسافرين يحثّون الخطى، عبرت عائلة عبد الحفيظ عدّة وديان، ومرقت من الفجّ الواقع بين الجبال نحو السّهل الكبير، فتراءت لها زاوية سيدي سالم وقد رُفعت فوقها الرّايات واكتنفها النّاس من كلّ الجهات.
عندما وصلت العائلة إلى زاوية سيدي سالم كان القطار المحمّل بالبضائع والمسافرين يمرّ في السّهل القريب ويطلق صفيره الحادّ قبل أن يلج الأنفاق المحفورة في الجبال، تبادل عبد الحفيظ التحيّة مع عدد من أقاربه وأصدقائه، وربط حصانه في شجرة زيتون برّي، وصعد مع عائلته سفح الجبل إلى أن وصل إلى منبسط من الأرض فيه شجرة بطم ورث عن أسلافه حقّ إقامة مأدبة الزّردة في جوارها، ذبح عبد الحفيظ جذع الماعز، وسلخه، وقام بتقطيعه، وسلّم لحمه إلى أمّه، ونزل من الجبل، وقف على قبر أبيه، وقرأ الفاتحة في خشوع، ودعا له بالرّحمة، ثم ذهب إلى البطحاء المجاورة للمقبرة.
كانت البطحاء ميدان سباق خيل وسوقا كبيرة تعجّ بالباعة والمشترين، شاهد عبد الحفيظ عرضا جميلا أدّاه طفل صغير يركب حصانا أبيض خنذيذا، كان الحصان يملأ البطحاء ركضا، وكان الطفل يستوي واقفا على صهوة الحصان، ثم يقفز إلى الأرض، ويثب بسرعة طير فوق الحصان، ثم يستوي على يديه ورجلاه إلى فوق… أُعجب عبد الحفيظ بما رأى، وأطلق صيحات الإعجاب، وتمنّى أن يصير صغيره عمّار فارسا يفتخر به في مثل هذه المناسبات. اشتدّ القيظ، وكفّت الخيل عن التّسابق وتقديم العروض، وتفرّق النّاس يتفيأون ظلال الأشجار، اشترى عبد الحفيظ سلّة من سعف النخيل وأصنافا عديدة من الحلوى وعدّة أرطال من الرّمّان والبسر وكيس حناء.
عندما كان عبد الحفيظ يصعد الجبل وهو يحمل مشترياته اعترضته سالمة زوجته السّابقة فكاد أن لا يعرفها، لقد تغيّرت كثيرا رغم أنّه لم يمض عن انفصالهما سوى خمس سنوات، كانت ترتدي ملحفة جديدة بألوان زاهية وحزام عريض تتدلّى منه خيوط كأنّها زهرات، بقي عبد الحفيظ مشدوها، ولم يعرف ماذا عليه أن يفعل، مدّت له سالمة يدا مخضّبة بالحنّاء تصافحه، وقالت « كيف حالك يا ابن العم ؟ وكيف حال بشير وعلي، اشتقت إليهما كثيرا « ارتبك عبد الحفيظ، وغمغم بكلمات غير مفهومة، وواصلت سالمة طريقها، وبقي عبد الحفيظ واقفا ورائحة طيّبة تحوم حوله.
سلّم عبد الحفيظ مشترياته إلى أمّه، ونزل المنحدر وهو يفكّر في سالمة، كانت وحيدة أبويها، تزوّجها بعد وفاة زوجته الأولى الصّالحة، وعاشت معه عدّة سنوات، ولم تنجب، فقام بتطليقها، فتزوّجت من بائع متجوّل يأتي من قرية بعيدة على ظهر حمار يحمل صناديق مُلئت لبانا وبخورا وقوارير عطر وكحلا… وبينما كان عبد الحفيظ مستغرقا في استحضار ذكرياته مع سالمة سمع صوتا يناديه، لقد أرسل الشّيخ عثمان في طلبه، والشّيخ عثمان هو الحاكم بأمره في سكّان هذه الجبال، إذ تكفي وشاية منه ليجد المرء نفسه قابعا في ظلمة السّجون بتهمة تقديم المساعدة للخارجين على القانون، وكان الشّيخ عثمان قد غضّ الطّرف عن عبد الحفيظ ولم يأمر بتجنيده في الجيش الفرنسي مقابل فحل من الجمال وقطيع من الضّأن. سلّم عبد الحفيظ على الشّيخ عثمان مُظهرا له علامات الولاء والامتنان، فقال له الشّيخ عثمان معاتبا « لا تنسنا، يا رجل، ولا تحرمنا من زيارتك، وكن حذرا، لقد بلغني أن فريقا من المتمرّدين يزورون هذه الجبال « أدرك عبد الحفيظ أن الشيخ عثمان يطلب منه هديّة ويتوعّده، فشتمه في قرارة نفسه، ودعا له في العلن بالصّحّة وطول العمر، ووعده بأن يلتزم بتنفيذ ما يطلبه منه.
لم يكد عبد الحفيظ ينتهي من كلامه حتى طفق الشّيخ عثمان يهرول وهو لا يلوي على شيء في اتّجاه سيّارة لاحت قادمة من بعيد، اقتربت السّيّارة من جموع النّاس، وتصاعد هدير محرّكها، وهرع الأطفال حفاة وأنصاف عراة لاستقبالها، فنهرهم الشّيخ عثمان، وهدّدهم بعصاه، فتفرقوا خائفين. توقّفت السّيّارة، ونزل منها السّيّد كولان وزوجته وابنته، والسّيّد كولان مستوطن فرنسي يمتلك مساحات شاسعة من الحقول ومعصرة زيتون وآلات درس السّنابل وعدّة سيارات وقطيعا من الخنازير الدّاجنة والأبقار، وقد أهدى إلى زاوية سيدي سالم ثورا ضخما قام كبير الرّعاة بذبحه وتفريقه على المعوزين، وكان هذا ديدنه كلّ سنة.
صافح السّيّد كولان الشّيخ عثمان والحاج منصور وكيل زاوية سيدي سالم، وشكرهما على حسن الاستقبال، وحيّى النّاس الذين التفّوا حول سيارته قائلا لهم بلكنته الغريبة « مبارك لكم يوم القدّيس سالم، إنّ فرنسا لا تنسى أصدقاءها ولا تبخل عليهم بالمساعدة « وقدّمت زوجة كولان للزّاوية مجموعة من الهدايا علب شمع عَطِر ونمارق صغيرة وسناجق وبخور…، ورمت بنت كولان للأطفال الذين كانوا ينظرون إليها مشدوهين بعض علب الشكلاطة، فترافسوا حولها.
هدر المحرّك من جديد، وانطلقت السيّارة تطوي الأرض طيّا، وتفرّق النّاس، فكّ عبد الحفيظ رباط حصانه، ونزل به المنحدر نحو النّهر، تقدّم الحصان بين أشجار القصب والطرفاء، أدخل قائمتيه الأماميّتين في الماء، وكرع فيه، وأخذ عبد الحفيظ يحفن الماء بكلتي يديه ويسكبه على ناصية حصانه ولبانه وصورة سالمة لا تفارق خياله، لقد أضحت طريّة وغضّة مثل ماء النّهر.
عاد عبد الحفيظ أدراجه وهو يجرّ حصانه الذي كان يصهل ويضرب الأرض بحوافره يريد أن يلحق بحِجر كانت تمرّ قريبا منه، أحكم عبد الحفيظ شدّ عنان حصانه إلى الشّجرة، وعاد إلى حيث ينتصب الباعة، اشترى قرطاس لبان وأضمومة سواك وقارورة عطر، ودسّها في جيب صدريته، وعندما كان يصعد الجبل رأى سالمة تجلس وحدها تتفيّأ ظل شجرة صغيرة، لا شكّ أنّها تنتظر فراغ زوجها من البيع، يا إلهي من أين جاءت بكلّ هذا الجمال ؟ امتلأ جسدها، ونضر وجهها، وابتلّت أطرافها، ونضجت فواكهها، لم يرهقها حمل ولا ولادة، فبقيت بكامل خيراتها، لِم طلقتها ؟ وما الضير في أنّها لا تحسن حصاد السّنابل وقطع الحطب وحلب النّاقة ؟
عندما وصل عبد الحفيظ إلى مضرب عائلته كانت أمّه تنزل القدر من فوق النّار وكان ابنه محمود قد وصل للتوّ، أمر عبد الحفيظ ابنه أن يذهب لرؤية سالمة التي احتضنته وهو صغير ويدعوها إلى تناول الطّعام، ذهب الطفل وهو خجل، وقال عبد الحفيظ يخاطب أمّه التي كانت ترمقه « بيننا قرابة دمويّة، ولا يجوز أن لا ندعوها إلى الطّعام، لقد أضحت غريبة، تجوّزت في غير أهلها « وبعد مضي شيء من الوقت قدمت سالمة وهي تضع يدها على كتف محمود وتحضنه.
تناول عبد الحفيظ لقمة من الطّعام، فوجدها غير مستساغة، فظلّ يلوكها في بطء وهو يسترق النّظر إلى سالمة التي كانت تجلس مع أمّه وزوجته وصغيره عمّار، وجد صعوبة في بلع الطّعام، وأحسّ بجفاف في حلقه، تناول باطية الماء، وشرب كثيرا، ولم يشعر بالارتواء، نظر إلى الأسفل فرأى النّاس يتفرّقون والباعة يجمعون ما تبقّى لهم من بضائع ويشدّونها فوق الدّواب، أدرك أن رحيل سالمة اقترب، شعر بمرارة في فمه، فتح صرّة التّبغ، ولفّ له سيجارة، وأخذ يجذب الأنفاس بكل لهفة.
حملت مسعودة آنية طعام، وذهبت إلى ابنها بشير الذي كان يرعى المواشي في سفوح الجبال القريبة، وبقي عبد الحفيظ و ولداه وأمّه وسالمة يتفيّأون ظلّ شجرة البطم، يشربون الشّاي ويتبادلون الأخبار ويسترجعون بعض ذكريات الأمس ويتضاحكون، كانت ضحكة سالمة عذبة مثل مطر أوّل الخريف، وبينما هم كذلك تناءى إليهم صوت رجل كان يصعد الجبل وينادي باسم سالمة، إنّه صوت زوجها مبروك، وكان مبروك رجلا في الأربعين من عمره، صغير الجثّة رقيق الملامح، تطفح عيناه بالوداعة، أمسك عبد الحفيظ بعضد سالمة التي قامت لتلحق بزوجها وأمرها أن تلازم مكانها، واستلّ مديته من حزامه، واعترض مبروك وهو يزمجر مثل ذئب جريح « متى كانت سالمة زوجتك أيها الغريب ؟ سالمة بنت عمّي وزوجتي وستعود معي إلى المنزل « توقّف مبروك حائرا من هول المفاجأة، وبقي فاغر الفمّ يحاول أن يستوعب ماذا يجري والمدية تلمع أمام عينيه في أشعّة الشّمس، ثم استدار، ونزل المنحدر والعرق يتصبّب من جبينه، وساق حماره المحمّل بالبضائع، وغاب بين الأشجار.
رضا كرعاني*