مع رنين أجراس الكنيسة الصاخب، أخرج مسدسه وأطلق الرصاص على رأس الرجل، ثم ترك المكان بسرعة، وعاد الى بيته، وفي اليوم التالي، ذهب الى احدى مزارع المتعة خارج حدود المدينة، رأى ثلاثة رجال، استقبلوه بحفاوة وترحيب وهم يرفعون كؤوس الخمرة في صحته، لكنه بكثير من التركيز تمكن من أن يفتح النار على رؤوسهم، وتأكد من موتهم، ثم ترك المزرعة غير عابئ بالمرأة التي سقطت ذعراً دون أن تخفي عُريها عن عينيه، عافها ومضى ماشياً الى بيته كان ما جرى كان واجباً عليه!
وقبل ان يدخل الى بيته، رأى جارهم الوسيم متأنقا، في طريقه الى نادي الفرسان كما هي عادته مساء كل يوم، مشى خلفه، على بعد أمتار، وقبل أن يصل نهاية الزقاق كانت الرصاصة تخترق بنطلونه من الخلف وتسقطه جثة هامدة على ماء آسن.
خمس جرائم قتل في يومين، جارهم الوسيم، ولاعب كرة القدم، ومسؤول البطاقات التموينية في المحلة، والمطرب الصاعد أيوب الرابح، وخامسهم سكرتير الوزير، قتلهم جميعهم (عفيف أبوجناح) الذي عاد من باريس بعد نجاح عملية جراحية اجروها قرب نخاعه الشوكي.
هناك، وهو يمشي في شارع الشانزليزيه، اهتز رأسه بقوة، كأن صاعقة من السماء مسّت جمجمته وكادت أن تشلّه تماما، ثم، وكما بدأت الصاعقة فجأة، عاد سليماً معافى كأن شيئاً لم يحدث!
بعد ذلك بدقائق، أحسّ عفيف ابوجناح بأمر عجيب، وفي غاية الغرابة، بل هو المستحيل بعينه، انه يعرف الآن كل شيء عن أي شخص يراه، فهذه السيدة المحترمة التي تلبس الثياب المحتشمة، ليست غير بائعة هوى تعمل بعد التاسعة ليلاً في مواخير (السان دونيه).. وهذا الرجل الذي يحمل مظلّة مطر فوق رأسه ويمشي بهدوء واحترام، ليس غير لص محترف ونصّاب كبير، وهذا، وذاك، هنا، وهناك، يعرف كل شيء عنهم، فماذا حلّ في رأسه، ماذا جرى، وكيف يمكنه اكتشاف المستور ولم يكن هكذا قبل تلك العملية التي شقّوا فيها رأسه وأخرجوا ذاك الورم الذي كاد أن يقتله في بغداد؟
أيّ رعب أن تعرف اسرار الناس، بل وتراه أيضاً، وها هو، وقد أغمض عينيه بين المشائين على رصيف الشانزليزيه، يرى على بُعد آلاف الكيلومترات، من باريس الى بغداد، زوجته وهي في غرفة جارهم الوسيم، وكانت قبل يوم واحد، كما رأى، في مزرعة بعيدة عن بيته، هناك خارج حدود المدينة، مع ثلاثة رجال، يعرفهم ، وكان هو نفسه يسامرهم في المزرعة ذاتها، بل ويغنّي مع أيوب الرابح ويضحك مع لاعب كرة القدم وسكرتير الوزير الذي يدير الجلسات ويدفع أثمان المشروبات.
رأى من الوساخات والسلوكيات المشينة والمؤامرات والخيانات الكونية ما يعجز أيّ عقل عن ترميمها، رأى أنواعاً من البشر المرضى لا يمكن أن يكونوا من البشر، ولم يكن بين الحيوانات التي رآها ما يشينها أبداً!
عاد بسرعة الى فندق بيلمونت في أحد فروع الشانزليزيه، قرر الرجوع فوراً الى بغداد، برغم نصائح الطبيب في أن يبقى أسبوعاً آخر، حتى يطمئن الى صحته، هناك طائرة الى بغداد في كل يوم، وسوف يصل بعد ستّ ساعات اذا ما جرى كل شيء على ما يرام.
في الطائرة، وكان يوم خميس، رأى في قمقم رأسه، زوجته وهي تضحك مع المسؤول عن البطاقات التموينية، ربما حتى تكسب منه زيادة في الحصة من بقوليات ورز وشاي وحليب وسكر، كان يسمعه من وراء المسافات الشاسعة وهو يغازلها:
– هذه أول مرة أرى فيها السكر بحاجة الى سكر.
يرى زوجته من وراء نافذة الطائرة، تضحك بغنج داعر، مما دفع الرجل الى قطع الشوط كله وهو يقول:
– أعرف أن زوجكِ في باريس.
اذا بها تقول دون حياء:
– تعال بنفسك وتأكد، ولا تنس حصّة الليل.
أحسّ عفيف ابوجناح، بأن الطائرة لا تتحرك، انها ليست بطيئة، بل وقفت في السماء، حتى يزداد غيظاً مما يرى في رأسه من خيانات ما كان له أن يصدقها أو يكتشفها، ربما حتى موته.
لكن الطائرة هبطت على أرض بغداد، ولم يفكر حينها بأيّ شيء، سوى بالمسدس الذي احتفظ به في دولاب الملابس منذ آخر حرب شارك فيها، وعندما أطلق الرصاص والغضب على زوجته، أيقن أن العالم سوف يبدأ بالانقراض عندما يعرف كل واحد منّا بما فيكفر فيه الآخر؟
عبدالستار ناصر
كاتب وروائي من العراق