زاهر الغافري *
في المشفى الذي أدخلَني الحوذيون فيه فقدتُ كلماتي وكنتُ كلما أحاول أن أصرخَ يخرجُ من لساني صوتُ آكل النمل كان المكان سجناً صغيراً لكن بممرات هائلة هذه هي المتاهة بين الأرض والسماء عندها أبدأ التفكير بالخروج من النافذة كأن حياتي كلها بدأت في مقبرة ليس عودةً واستسلاماً لكي أضمن السلامة العقلُ مشدودٌ إلى لا أحد لكن لماذا أرى في هذا الليل التلالَ البعيدة تحت نجومٍ بالكاد تُشعلُ قنديلاً واحداً لماذا لا أسمع سوى صوتِ الصمت يرشحُ من أنفاسي الثقيلة هل أنا نائم في بئرٍ تُغطيني الطحالبُ هل أمشي في الممرات مأخوذاً بأرضٍ لم تكن أرضي غريبٌ في أروقة الزمان لستُ قلقاً على حياتي أقلقُ عندما لا أجد الطريقَ المسعى الذي يدبّر لي إطلالةً على هتافات الأبطال اليونانيين كنتُ أقول أنا نابليون امبراطور النحو والمعارك الكبرى لكن جوزفين أضاعت العقدَ الذي ورثتهُ عن عشتار كيف لا أبكي وآلهتي تبكي بدموعٍ كثيرةٍ تصبّ في الأنهار الثلوج الثلوج في ذلك البلد البعيد حوّلت حصاني إلى جحش والموسيقى التي ارتعشتْ عظامي أمام جبروتها الأعظم حذفَ ذلك الموسيقي الأصمُ وهو يقودُ الأوركسترا حذف إهداءه لي بإصبع واحدة أيتها الراعية يا راعية الأكباش في موسمٍ لا يتحدثُ فيه أحد المصيرُ لا يُشبه جداراً من الفولاذ ترفقي بالعظام التي كُنتُها الطريقُ طويلةٌ وأنا أقرعُ الأبواب التي لا تنفتْح كأن شخصاً مثلي أُصيبَ بالجذام لكن مع ذلك الكتب الكثيرةُ تتحدثُ عن انتصاراتي الأثيرة على القلوب ما هذه المزبلة ومَنْ يحكمُ الكون الله أم أنا لأنني رأيتُه رأيته قابعاً هناك في الخلف ينتظر هفوةً منّي وربما أغنيةً صغيرة اذهبوا إليه وقولوا له متى رأيتَ نابليون يغنّي مَنْ أدخل في رأسكَ هذا الساحل قبل غروب الشمس كنتُ أبحث عن أرضٍ عن لغةٍ عن بلد الأعماق وعندما يكون مزاجيّ مُضبباً أبحث عن الأحجار في طرق ضيقةٍ شبيهةٍ بعمري كنتُ أجهل نفسي في ضياء العتبة حيث تشربُ عين ميدوزا من السراب لوكريثيا لوكريثيا أين أنت أنت أين يا لوكريثيا يا ممرضتي المشتهاة في السرير أين الحصان يا لوكريثيا ولماذا كتبَ ذلك العربي قبل ألف عام عن حصانه الذي يسبقُ الريحَ بينما أنا قابعٌ في هذا الماخور هذا المارستان الهابط من السماء ثم لا أجد طبيباً واحداً فوق الكراسي الفارغة لقد كنتُ وسيماً يفلق الحجر في طفولتي وكنتُ كلما ركضتُ تجتمع النسور في الطريق كما لو أنها في مهمةٍ سريةٍ حتى أبلغَ الغابةَ ومنْ قال أنني كنتُ أخاف منها لم تكن جوزفين سوى علقةٍ تشرب من دمي في أيام البرد كانت تنتفضُ حتى يطيرَ الريشُ من جسمها تلك اللعينة كانت أجملَ من الموت لوكريثيا أيتها البقرة الوحشية لماذا أنا وحدي في هذا الليل البارد أين النار في الموقد لوكريثيا لم لا تجيبين هل أنت صماء أيضاً تعالي أرقصي لي كما كانت ترقص ايزادورا دانكن أمام السفن لقد قاومتُ كثيراً مثل كلبٍ في المعارك يا للروح الحيّة أخبريني يا لوكريثيا هل النبيذ الجورجي أفضل حقاً من النبيذ الفرنسي ولماذا أسمع هذه الإشاعات الآن هل لأنها تُمطرُ في الخارج فأنا في غرفتي لا أرى غيوماً بل ضفادع تسقط من السماء ستهجمُ هاتان اليدان على حركات الظلال عندها سأرى صورتي في قاع البئرِ محبوسةً بالماء لا يليق لي مقام الموت هكذا لقد جابهتُ العواصف وأمسكتُ بأعمدةِ الرخام كي لا تقعَ هنا حيثُ المطلق يبدو مكاناً مزروعاً بأشجار الفاكهة لكن كلما اقتربتَ منه تشعر بالخطر حبيبتي لوكريثيا انظري أنت وأنا وحيدَين في هذه المصحة لكنّ القناديلَ في الخارج تضيء الطرقات يُذكّرني هذا المشهد بكاهنٍ من الشمع يدورُ حول أسطوانةٍ إنه في النهاية حصان يدور في اسطبل ويقدم له رجل مُسنٌّ بيدهِ قطعةً من السكّر وعندما التفتَ إلى الحقل الشاسع أكل الحصانُ يدَهُ المرافئ المرافئ استقبلتني بسعادةٍ غامرةٍ وكان عليّ في كل مرة أن أتكلم الكلامَ الغريبَ حياتي كُلها حضورٌ مستعادٌ من الصقيع أرى سانت هيلينا كما لو كانت آخر الأرض لكن مهلاً ماكورسيكا هذه أنا المخلوقُ من الأرومةِ الإيطالية وقصفتُ أنف الأسد الحجري الرابض قرب الاهرامات آه أبو الهول لا تغضبْ أمامي مرة أخرى فنحن شقيقان أبعدَنا القدرُ عن بعضنا تُرى ألم يكن أوديب مُحقاً حين ضاجعَ أمه وكان يريد الانتقام منكَ لأنه عرفَ الأجوبة الثلاث حول الإنسان لماذا تنامين كثيراً يا لوكريثيا أمام المرآة الكبيرة ألا تعرفين أن كل حلمٍ حجرٌ من ذكرى وكل طريقٍ يشبه الخطوة والأيامُ تتعبُ في رفع الدخان إلى الأعلى الفجرُ يبطئ الساعات في معاصم العظام كأن الوقتَ ثقيلٌ مصنوعٌ من الرصاص نعم هذه هي الأسطورةُ التي يرعاها السمندلُ وتبتهجُ بها حيوانات الليل لوكريثيا ترفعين ذراعاً صامتةً حين يصيبكِ اليأس لأنكِ قامةٌ طويلةٌ من الصيف لا يسعى أحدٌ أن يقفزَ من صمتكِ وحتى لو أرادتِ الخمرةُ أن تلعب في رأسي فأنا لا أقدرُ أن أركض في الرواق لأنني مربوطٌ بسلاسلَ خفيةٍ على الأرجح حتى مماتي لكنني مُصرٌّ على هذه الطرق التي تهرب قبل أن أصل إليها إنها تشعرني بالوداع الكبير كما لو كنتُ رجلاً مسموماً بطعنات الآلهة صغيراً كنتُ عندما بدأ الجنونُ يغزو حياتي حتى أنساني اللعب كالأطفال الآخرين الجنون يأتي بلا محفّة ولا استدعاء إنه نوعٌ من تلك الشجيرات المُعرشّة وهي تتسلقُ أكتافكَ فتبقى أنت الهيكل الثابتُ أمام السفن والمراكب بينما هو يُسوّط ظهركَ على الدوام حتى تضجرَ من العالم بطريقةٍ مُهينة اسأليني يا لوكريثيا أيتها الاسبانية الخجولة كيف دخلتُ إلى موسكو ولم أجد أحداً ولا حتى خبزةً لي ولجنودي يا لها من هجرةٍ وحصارٍ أظفيا على حملتي ندوباً تستعصي على النسيان كلما عانيتُ أكثر كلما هربتْ مني طرق الخيال وأصبحتُ فزّاعةً في نظر الآخرين كيف استردُ شيئاً وأنا ما ملكتهُ حقاً بل هو الذي ملكني يتقدم العازف نحو جوزفين وهي تنجو من المقصلة وعندما تصبحُ زوجتي تصطفق الأبوابُ والنوافذُ من رائحة الشبق أيها الرسام أنظرْ إلى هذا الجسد العاري ارسمْ بالريشةِ السرّة المخبوءة تحت الضياء وليكن النهدُ مكاناً أجملَ للعيش والفخذان المكتنزان علامة الصبر دون أن تنسى تلك الاستدارة الرخوة من الخلف حيث تُحبُ أن ُُتُضربَ بسوطٍ من الريش الناعم أيها الرسام دعْ عينيكَ مفتوحتين فالصورةُ قد تخدع الضوءَ وعندما ترتبكُ اليدُ سيكون الموتُ حاضراً يصغي إلى أنفاسكَ يحدثُ لي أن أشمَ رائحة الحروبِ كما يشمُ شاعرٌ رائحةَ الليلكِ وقد لمستُ هذا بعد أن انفتحتْ أمامي السهولُ اللامرئيةُ وكاد حصاني أن يطيرَ فوق الحقولِ غائباً عن الوعي أنا الصوتُ الذي صارَ لساناً في منقارِ النسر منَحتْني الغيومُ في يوم ما سريراً ومنشفةً اما الخليلة فقد تركتُ لها الغبارَ على عتبة الباب مَنْ سيحميني من الليل عندما أضع رأسي فوق الوسادةِ يا لطيفة المستعمرات يا لوكريثيا ذلك اللحمُ البشريُّ الذي لا يشبهُ الحياة ولا الموتَ ذلك القربان المسافر في نهرٍ أو بحرٍ وهو يتشكّلُ بأعوادٍ طويلةٍ أمام قبيلةٍ من الأعداء هل فكرتَ يوماً بأجدادكَ في السماء والأرض هل وصلتكَ رائحة النجوم ثم كيف ستعبر النهر والبحر أيها الغريق وكيف ستقول للعالم أن الدخان يرتفعُ من المياه مترنحاً أنظرُ إلى السرير أعوي وفي يدي ترنُ ساعةُ الأبديّة كيف أحلُّ الألغاز في المدن والقرى التي عبرتها وعين السيكلوب تطاردني من غرفة إلى أخرى ولماذا أتذكر الآن حصار يافا من هذا السرداب الطاعون إنه الطاعون خريجُ الأردية العسكرية صوتُ الثالثة فجراً يتنزهُ تحت الأمطار وحول الحامية لوكريثيا بلغي الطبيبَ الذي ليس هنا ولا هناك أن يأتي عظامي غادرتها نيرانُ الحطب والعقل كان يكفي أن أنفخَ في الرمل لأجدَ لؤلؤةَ المدينة أيها الماضي اقتربْ قليلاً وخذْ مني هذا الوشاح لئلا أختنق به في هذا المساء آه يا وحدتي ذَهَبُ الأرنبِ يشم هزائمي آه يا كليبر ألم تجدْ سوى سليمان الحلبي كي يطعنكَ في الصميم، خذْ القنديلَ واذهبْ إلى الراين الأسفل لتُدفنَ خارج الموت والولادة لوكريثيا أنت وأنا كآدم وحواء في هذا المعتقل لهذا لا أرى زهرتَكِ الشقراء عند مغيب الشمس لكنني قادرٌ أنْ أشمَ حلاوةً بين فخذيك الجميلين أجراس الكنائس توقظ حياتي بين الأنهار كما حضورُ شعلةٍ في الليل كي أنام كما ينامُ الملوك أحقاً ما أراه الآن هل هذا هو حقلُ الذرة الذي لعبتُ فيه قبل أن أولد هل تقولين أنني نسّاء الخطيئة فوق جبل نوح سأسلك طريق البساتين كأنني كائن غير مرئي في هذا الليل الأبيض المغسول بالملح وليكن الطريقُ غمامةً للقتلى وليذهب طائرُ التمّ عابراً غسق حياتي لينتحر في الماء ولماذا كنتُ أقبّلُ يدَ جوزفين لو لم أعرف أنها مستودع الغيوم في الفراش كقوة الصاعقة كان يقفز جسدي في أكثر المطارح نأياً وينحني عميانُ أوروبا تحت شراشف الليل بحثاً في الأزقّةِ الخلفيةِ عن النقود وعندما تجرعتُ السمَّ لم أمتْ لأنني كنت أغنّي أغنيةً عن طفولتي أيتها الغمامة كوني قماشتي الحمراء الأحمر لوني المُفضّل لأنني طيبٌ مثل الزهرة وصرختي تعودُ إليّ ليلاً لتذكرني بمصير الصخب في يوم ماطر كثيرون هم الموتى في البحر والأرض تحملهم سفنُ الأبديّة على أنغام الموسيقى ما رأي الأطباء في حانات الطبيعة أمام الأنهار أنا نفسي بملابسي العسكرية كنتُ زبوناً ذات يوم ليس لأنني نائم وُهبتُ الوسامَ في الحديقة المهجورة وليس لأنني صائم عندما تُشرق الشمس بل لأنني أجوفٌ وفارغٌ من الموت والآن من سيأتيني بالقنّب الهندي لنرقص أنا والكوبرى فالس الوداع لكن قبل ذلك خذي نفَسي إلى فمكِ الرطب واتركي النافذةَ مفتوحةً حتى يمرَّ الهواءُ إلى شعركِ وابطيكِ ليكونَ نومكِ هادئاً وصريحاً كنوم الآلهات لقد رتّب الموتُ طريقاً للأعالي حيث تنام الغزالةُ على نصل السيف فيجوز لنا
أن نقودَ العربات إلى الحرب حتى يتلألأَ
النصرُ كقرش ذهبيٍّ ساقطٍ من شجرة
* * *
إشارات:
– مقطع من نص طويل كُتب بلا نقاط ولا فواصل عن قصد.
– الموسيقي الأصم إشارة إلى بيتهوفن الذي أهدى السيمفونية الثالثة إلى نابليون ثم سحب الإهداء
– جوزفين: زوجة نابليون.
– لوكريثيا: ممرضة اسبانية متخيلة وهي ليست لوكريثيا دي ليون.
– ايزادورا دانكن: الراقصة الأمريكية الشهيرة 18771-1927
– سانت هيلينا الجزيرة التي نُفي إليها نابليون.
– الثلوج الثلوج إشارة إلى غزو موسكو.