بَدَت لي مساكنهم ( الضَّانْقِيل) كوعاءٍ يجُرُّه هواءٌ متعب. قلتُ أمشي في الطريق الذي لا ينشق. لكنِّي لم أستطع. المساكن الخالية رمقتني بنظراتٍ كلها خذلان. سألتُ نفسي وهي تقترب (ما الذي فَعَلنَاهُ؟). شعرتُ بها تضرب باطني بسوط الكتمان. قالت لي اذهب. قلت لها دعيني هنا، ريثما يأتي الصباح. رأيت نفسي تضع كتبها على جانب الطريق. انتظرتها لتضع كتبي بجانبٍ في الطريق؛ نفسي التي مهدتُ لها الجسد والساعات المستغرقة.
( اسبِقِينِي.. سأنتظرُ قليلاً ريثما الصباح).
( ………).
همهمت وجلودها في الدَّبغ الخلاَّق. لم يمر وقتنا مسرعاً. ولم يكن في المستطاع التَّطويع. فجأةً؛ توقَّفتْ بيدي أسرابُ حمامٍ أبيض. لم أسمع رفرفة جناحي بين أجنحتها الحليمة. الحمام ويدي تداخلا، كأنَّ الحمامَ يدي. كأنَّ يَدِي حمام. رأيتها تلقُطُ من يدي الزراعة. قلتُ لنفسي ما الذي سيتبقَّى مني إذن. قالت لا تخف. فما عرفتُ الخوف ولا سمعتُ صرير أبوابه المغلقة.
( أشعر كأنني غادرتُ حَجَراً ما إلى حَجَر).
( لا أنتَ لم تُغَادر حَجَرك الغالي إلى حجر. أنتَ في التصنيف القاتل للمعنى).
( وما المعنى لو سمحتي؟)
( أن تجوع مقتصداً).
عانقتُ سبيبةً غالية سقطت من عين الكتاب؛ الذي يمجُّ أوجاعه فوق خاطري. حدثتُ نفسي خلسةً عن الذهاب. لم أشعر بها. وتفكيرها انبعج وتمزَّقت بقلبه كراسات صفراء. المساكنُ وصديقي تصادفا بقلبي. هي تبكي وصديقي في القسوة. قلتُ له مالها الثيابُ بكماء في مختبر اللِّسان؟ صديقي ولسانه دخلا الحجر، الذي خرجتُ عليه ماشياً. لم يفهم الأبواب مطلقاً؛ صديقي الذي في اللِّسان.
( المساكن أوعية).
( قل لي ما الذي يصفِّرُ بذهنك؟)
( ليس سوى اللَّحم).
( والمسافة التي تخلدُ داخلك).
( مالها! هل أوشكت؟)
( لا، أوشكت أنت).
رأيتُ طفلاً عارياً يدحرجُ أمامه طيناً ثميناً. هرولت ناحيته عسى أقترب. رنا ناحيتي باسماً. شيئاً؛ لمحتُ عينيه في المقلب تتصارعان. البوكس ألـ ( 78) الكَرْكَعَوْبَة يكُحُّ بجانبٍ في الطريق. تتطايرُ صفحاتُ كتبٍ مظلمة من قلبه. جبال ( العَرَشْكَوْل) تلمحهُ يائساً. تكبتُ نسياناً قديماً في نفسها. لاح لي وجهي غريباً في قلب السماء. طرقتُه برأس إصبعي. كان صلداً من الجرانيت. قلتُ ليتها أمطرت. فتساقطت عليَّ قطرات ماء عذب ما أدرك الأرض أبداً.
قال لي:
( أنت طيني الذي أدحرج).
( تَكَتَّم يا هذا. ليس ثمة ما يجدي. وأعلم أنَّ للأشياء أجنحتها الباطشة داخلك فلا تسرف).
( لِمَ أكلمك في هذه الساعة إذن؟)
( قدرك هو الذي يتكلمك بينك والجسد. بينك الطين الذي تدحرج. بينك وبين أعمال الدم المؤبد).
صوته ابتعد عن كاهلي. لمحتُه يدحرجُ كوناً من الطين ثمين. الطفل العاري، الذي يتبعه ظلُّ شجرٍ في الحذر. عوى في المسافة المفتولة تَرْزِي عجوز. رأيتُ الجهات مفتوقةً تلتفُّ حوله. فتقاتها الجارحة تتكوم على جانب. ماكينة (السِّنْجِر) تئنُّ. تتأوَّه الجهات المفتوقة في حرصه على الرَّتق والتَّطريز. فمه المفتوح يبوح بما لا تحتمله من أعباء. يستطيلُ جرحها متمادياً. لكل جهة جرح وفتقة في التعبير.
البوكس ألـ ( 78) الكَرْكَعَوْبَة يكُحُّ بجانبٍ في الطريق. كلما قدَّرتُ أنه بلغ نهايةً ما؛ انتهيتُ إلى الظن بالألم. يكُحُّ بقوةٍ. أقطِّعُ أعصابي بمناقير كتبه المظلمة. يكُحُّ؛ فلا أسمع من نفسي إلا القليل. تنزلقُ دمعاتٌ سمراوات من عين الجبال (العَرَشْكَوْل). قالت لي دمعة: (الجهاتُ خضراء). بحثُ في قلب كلامها عن صورة. لم أجد ما يغنيني. تفحصتُها مجتهداً. وجدتُ داخلها زمن (الإنقليز) مطبوخاً في الطمع. خفتُ للحظة من المعاودة. شيئاً؛ تركتها تذهب؛ المستعجلة. دمعةٌ أخرى عبرتني. كأنني معدن قديم. دمعات عبرت. دمعات، مازلتُ في الهبوب. رأيتُ العالمَ جميلاً، يحُكُّ آكولةَ أغلاله على كتِفِي ويبكي.
رأيتُ مساكنهم (الضَّانْقِيل) تتآكل سقوفها بنظري. كلما لاحت خلفي، تركتُ أقدامي وهرولتُ. بين لمحة ولمحة يتأكد جسدي. وبينهما يفنى الأثر. داكنون بقلبٍ داكن. يتوزعون على قبرٍ يحسبونه الحياة أو جثتها. قلتُ أهرول ما استطعتُ. تلقفني الطريق بسرعة. وبالكاد جمعتُ نظري. قالت لي نفسي المضحكة (مَنْ هؤلاء؟). احترتُ للحظةٍ، وما استيقظَ داخلي أبداً. من خلف مساكنهم (الضَّانْقِيل) خرجت أرضٌ صافية، تجرُّ لحناً حليماً من أذنيه المتوردتين. قلتُ لنفسي (ما هذي بنظرك؟). قالت لي لا تتكتَّم على طعم الحياة لو سمحت، وفَسَت.
أوقفني عواءُ ذئبٍ جريح. مددتُ نظري ناحيته خائفاً. قالت لي نفسي لا تقترب منه. ترددَّتُ مبهوراً من الصِّفر. العواءُ الجريح وذئبه اقتربا من وقفتي. لاح لي الموتُ يشقُّ غابةً من كلمات. قالت لي نفسي (لا تحدثني، وامتنع عن ساعتك الداخلية). لم أجد الكلام رقيقاً بيدي. العواءُ وذئبه جلسا أمامي. لم أجازف بالنظر إليهما. شعرتُ بأنفاس الغابة على كتفي. خطمك خطم ذئبة قلتُ لها. شيئاً؛ مَسَحَت على كتفي بأصابعٍ رائحتها التعبير. قالت لي أعرف لقلبك طريق. فهرولتُ لاحقاً بالبوكس ألـ ( 78) الكَرْكَعَوْبَة.
رأيت نفسي المستغرقة تقترب من ميدان حوافه جردتها الأيام. قلتُ ألحقُ بها. حزمتُ كتبي الملقاة بجانبٍ في الطريق. شعرتُ بجرحها يتفصَّد. سالت منه غيمة. أنا والغيمة الصغيرة شعرنا بالتعب. الميدان خالٍ إلا من طفل صغير. يدحرجُ أمامه مدينةً نائمة؛ الطفل العاري. لمحتها في دحرجته تتثآءب. يحوم حول الميدان الخالي، كأنه عالمُ شرق النظر.
( لماذا مدينتك نائمة؟) سألته متوجِّعاً.
لم يجبني.
عاد بنظره إليَّ، فشعرتُ بالصدأ يأكل أصابعي.
قلتُ اذهب إلى تلك الناحية بعيداً عن نظر الطريق ومساكنهم (الضَّانقيل)، عسى أرتاح قليلاً. تحسستُ بطني متفقداً. يدي ما وجدتُها. وجدتُ تكوُّراً عشوائياً كأنَّه شعب. مددتُها أبعد. لم تعد إليَّ؛ يدي التي أطلقتُها خلف التخمين.
دنوتُ ونفسي من كدمةٍ في الأرض.
قالت لي الأرض ( أنا خالية).
قلت لها ( وما السؤال!).
قالت لي ( يدُك ماكرة).
قلتُ لها ( لا تَتَخَيَّلينِي في يَدِي)
قالت لي ( أنتَ يَدُكَ في عِلمي).
قلتُ لها ( عِلمُك صَدِيء)
قالت لي ( لا توبخنِي.. إنَّه الكسل).
فتركتُ الحديث يتساقطُ بيننا كأنه مطرٌ عزيز.
قرفصتُ في قلب تلك الكدمة. شيئاً؛ تركتُ جسدي يستريح قليلاً. لم أعد أشعر بشيء. فجأةً شعرتُ بأحدهم يقترب من ناحيتي. قلتُ ألتفت لأرى. لكني ما إلتفتُّ. (بحر أبيض) بجُلبَابِه الواسع جلس بجانبي. أنفاسه لها رائحة طيور وعشب. مخلايته الممتلئة جذبتني من نظري حتى كدتُ أتمزَّق. فتحها أمامي. قلتُ أسحب نظري عسى أقتلُ الفضول. لكنه خذلني في القوة. نظري عنيد. (بحر أبيض) لمَّ طرف جُلبابه القريب مني عليه. ترك الطرف البعيد يلهو بحريةٍ هناك. أخرج من عين المخلاية إبريقاً حديداً. ناولني إياه بمحبة وقال لي أشرب. فبكيتُ وما إرتويت أبداً.
ناجي البدوي*