أسفل النموذج
في لحظة بدا فيها قلبه مفعما بالعنفوان والشباب، بادئ الارادة والتصميم على سيادة أجوائه الداخلية، دون السماح لأي أطراف خارجية بالتدخل، أيا كانت معزتها ومكانتها – قرر أن يبحث عن مصدر النور في عقله وقلبه:
– من أين يبزغ ذلك النهار النوراني الذي يضيء الأشياء كلها، فتنكشف بادية جلية لا غلالةَ من ظلالٍ أو عتمةٍ تسترها؟
– من أيِّ صخرةٍ في تضاريس رأسي يتفجر ينبوع الضوء ذلك؟
أرسلَ طرفَه في ذلك الفضاءِ الذهنيِّ يمسح تضاريسَه متأملا . . تطلع إلى سلسلة جبال وعرة تفصل بين قلبه وعقله . . . قدر أن شمسه المنشودة تقبع خلف تلك السلسلة الجبلية.
مقاوما كل نوازع الخوف والتردد، أعدّ عدته للارتحال بعيدا إلى ما وراء ذلك الشريط الجبلي المريع، البادي بقممه المسننة منشارا قاطعا يهدد كل يفكر في اجتيازه بعقوبة قد يكون أقلها تمريره على شفرته القاطعة، كما تمرر عليها قطعة خشبية تعود من جرائها اثنتين في صخب سيمفونية الصراخ والعويل.
وعلى الرغم من كل تلك اللوائح التي صادفها في طريقه تشير إلى أن تلك المنطقة الجبلية منطقةٌ أمنيَّةٌ محظورة لا يجوز عبورُها بأيِّ حالٍ من الأحوال وتحتَ أيٍّ من المسوِّغات والمبررات، إلا أنه واصل طريقه غير آبهٍ، فقد قرر منذ البدء سيادة أجوائه الداخلية.
وقبل أن يبلغ أعلى قمة جبلية في ذلك الشريط الجبلي، والتي لا يمكن العبور إلى الضفة الثانية إلا باجتيازها، تردد كثيرا، فقد بدا النور في تلك البقعة ساطعا شديد التوهج مؤذنا بحرق كل من يقترب أكثر.
«هل أنتم إلا الفراش رأي السراج وقد توقد
فدنا ليحرق نفسه ما ضره لو أن تبعد»
لطالما احتقر هذه الحكمة وازدراها، لكنها الآن تبدو بالغة التأثير مغرية بالتصديق، وقد همّ أن ينسف كل تلك الجهود الجبارة التي بذلها بقرار التراجع إلى حيث بدأ، وإذ هو في تلك اللحظة المتأرجحة بين الإحجام والإقدام ركلته رغبة الصعود إلى تلك القمة الشاهقة ليكون إما شاهدا أو شهيدا.
لفحته النار التي تملأ الأفق بألسنتها المنطلقة سياطا تصفع الوجوه والأجساد، فها هو ذا وجهه بدأت تعلوه سحنة سوداء كسواد القدر المضطرب في استقراره على الثلاث الأثافي، وها هي ذي رائحة شواء أخذت تنتشر في ذلك الأفق الطافح بلعاب الشمس كوجه بادي الاحمرار يتصبب عرقا.
لم تثنه كل تلك اللجج النارية التي عبرها، وواصل طريقه إلى أن استقر على السفح في الجهة الأخرى من السلسلة الجبلية المريعة.
لم يكد يضع قدمه على السفح ليحتفل بوصوله ممنيا نفسه غرس علم الوصول على تربة تلك الأرض المحمية شاهد انتصار، ومؤملا مصافحة الشمس التي خاض كل هذه الأهوال من أجلها، إضافة إلى التقاط بعض الصور التذكارية معها ….. لم يكد يضع قدمه محاولا السيطرة على جسمه الذي انتابته هزة واضطراب خفيفان إثر قفزة من على ارتفاع مترين، لم يكد يستقر في وقفته، حتى صعق من هول ما رأى، ما من شمس تقف خلف ذلك الجحيم الناري، إنه لا شيء هناك، والأدهى والأفجع غرابةً أنَّ كل تلك الأنوارِ الساطعةِ التي عانقها طوال رحلته حتى انصهر وجهه أخذت تبهت وتتضاءل حتى غارت جميعها في الأرض، أو تلاشت متبخرة في الفضاء، وإذا بقوس الأفق المضرَّج برماد الغروب يرسل سهما نافذا من سهام جعبته الراشحة بالموت ليملك مقصده بين حنايا بطلنا، وفي قلبه بالتحديد، لتتسرب خيوط الدم من محيط الحفرة التي استوطنها السهم أسئلةً حائرة مُؤَرِّقَةً وممتنعةً على كل أشكال المسكِّنات والمنوِّمات: من أين؟ إلى أين؟ كيف؟ لماذا؟
يا إلهي… إنه الظلام يعمُّ فضاءَ عقلي وقلبي، ويجثُمُ عليه مُريعًا مخيفًا، كيف لي أن أرجع أدراجي سالما في هذا الظلام الدامس وبرفقة هذا السهم النائم بين حناياي حابسًا أنفاسي قابضًا على روحي؟
حميد عامر الحجري كاتب من عُمان