يمتلك بيتا كبيرا ذا طابقين، يسكن في الطابق العلوي مستأجر، صاحب عائلة كبيرة، أما هو فيحتل الطابق الأرضي كله، ولما كان يعيش بمفرده بلا أسرة، لا زوجة ولا أطفال، تساءل الناس عما يفعله بهذه الغرف العديدة، فاذا كان يشغل احداها فبقية الغرف ترى من يسكنها؟… وظل هذا السؤال في أفواه الناس يتبادلونه بتواتر كلما التقت وجوههم ببعضها البعض، دون أن يهتدي أحدهم الى اجابة مقنعة، ورغم ذلك لم يتوقف أحدهم عن التكهن الذي ما يلبث بمرور الوقت أن يصير إجابة يقنع بها نفسه.
(أبو سعد) طاعن في السن، تعدى الستين من عمره، لا يغادر منزله بعيدا، وان فعل فانه لا يغادر المنطقة التي حوله، تعود الناس عليه فأصبح بمقدور أحدهم التعرف عليه من مسافة بعيدة دون جهد، طوله، طريقة مشيته، التفاتاته البطيئة، وقفته التأملية، التي يكررها دائما أثناء سيره المتأني الى المسجد، أو الى أي منزل قريب منه، كان لا يدخل المنازل التي يأتيها، بل يجلس القرفصاء أمام أبوابها، فيخرج أهلها اليه ويجلسون معه، يتحدثون في شتى المواضيع والمسائل، حتى يقرر بنفسه العودة الى منزله.
شي ء واحد عرفه عنه المستأجر قبل الآخرين، بحكم مجالسته شبه اليومية له، عرف انه عندما يقدم له أي مشروب بارد، في علبة أو زجاجة،يرفض تناوله الا بعد أن يسكب له في (طاسة) معدنية كبيرة، كالتي اعتاد الناس أن يشربوا بها ماء أو لبنا ورغم الدهشة التي يرسمها طلبه على وجه مضيفه شبه الدائم، فكان ينفذ له طلبه، ويسكب له المياه الغازية في (طاسة) معدنية كبيرة، فيشكره أبو سعد بهزة من رأسه الصغير، ثم يتناولها منه بكلتا يديه المرتجفتين، وينهض ببطء وحذر شديدين، مستديرا الى الخلف، دافعا بقدمه المهزوزة الى الامام، وفمه لا يتوقف عن التمتمة الشاكرة لهذه (النعمة الفضيلة).. الى اين يذهب أبو سعد بهذه (الطاسة) المعدنية المملوءة بالمياه الغازية ؟ لا أحد يدري فهو عندما ينزل الطابق الأرضي يختفي في أحدى الغرف الثلاث ويمكث فترة طويلة لا يراه خلالها أحد من الناس.
الغرفة التي يدخلها أبو سعد و(الطاسة) في يده، تنبعث منها روائح غير لطيفة، يشعر بها كل من يدخل المنزل ذا الطابقين، وأكثر ما يتضايق منه المستأجر في الطابق العلوي، لكنه ما شاء يوما سؤاله عن السبب خشية أن يجرح شعوره، أو يتسبب له في احراج يؤلمه، خصوصا وانه عرف فيه حساسية الطاعنين في السن لمثل تدخلات كهذه.
الغرفة ذات الرائحة غير اللطيفة لم تعد معروفة للمستأجر فحسب، بل عرفها الكثيرون من سكان المنطقة، لكنهم لم يولوها الاهتمام والفضول مثلما يفعل المستأجر.
أبو سعد لا يمتلك في (هذه الدنيا) سوى المنزل ذي الطابقين وكل ما يفعله في نهاره، تفقد بعض الناس ممن اعتادوا عليه، يجلس أمام عتباتهم، ليقدموا له شرابا باردا، ماء، أو مياها غازية أو لبنا حامضا، ليس لديه أي عمل يقوم به، سوى تجواله اليومي والذهاب الى المسجد القريب لتأدية صلاة الظهر والعصر والمغرب، أما بقية الصلوات فكان يؤديها في منزله، أما ما يفعله في هذه الغرفة فما من أحد كان يعرف طبيعة هذا العمل.
بعض الناس الذين لم يحتملوا الصبر على قوة فضولهم، رأوا ابلاغ المخفر القريب من المنطقة، لعله يكتشف بحكم القانون سر ما يخفيه أبو سعد وراء تمثيله الذي لم يعد مستساغا لأحد، ولا ينطلي على الناس البارعين، "ثم ان الغرفة، يا سيدي الضابط، الغرفة… لا ندري ماذا يخفي فيها أبو سعد، لعل فيها خطرا على أطفالنا ونسائنا، خطرا علينا كلنا".. هكذا أوصل أحدهم أمر أبو سعد الى رئيس الشرطة في المخفر، الذي دهش عند سماعه القصة المبهمة وحك طرف حنكه وقال "إنها تحمل وراءها احتمالات عدة… من يدري ماذا يدبر أبو سعد هذا، وماذا يخفي وراءه؟"
"على أية حال – قال الضابط – لقد أديتم ما عليكم، يمكنكم الآن الانصراف، وسأتولى الموضوع بنفسي، لكن اعلموا انه ربما احتاج لمزيد من المعلومات عن هذا المخلوق الغامض".
وانتشرت الشرطة السرية بين الناس مثل النمل، تجمع المعلومات وتكتب تقاريرها عن أبو سعد، والتقط بعضهم صورا ملونة له وهو في أوضاع مختلفة، في طريقه الى المسجد جلوسه القرفصاء عند عتبة بيته، وهو يحمل "طاسته" المعروفة بكلتا يديه يحتسي منها سائلا لم تبينه الصورة جيدا.
ذات مساء قبل صلاة المغرب، نزل المستأجر بعد أن رأى أبو سعد يتهيأ للخروج، في غمرة انشغال الناس بترتيبات ليلهم، وسط هدأة الغروب الصامتة، نزل وهو يعد عتبات الدرج واحدة، اثنتان ثلاث، أربع… وقف أمام باب الغرفة "الرائحة شديدة في هذا الوقت" تلفت يمنة ويسرة، لا أحد لمس مقبض الباب، وقبل أن يضغط الى أسفل، تلفت مرة أخرى، بلع ريقه يرطب به جفاف حلقة "طعم معدني في اللسان" ضغط على المقبض، فتح الباب، فتحه نصف فتحة، فتحه على مصراعيه لا شيء في الغرفة سوى الغرفة.