بعد ربع قرن على غياب الشاعر ومؤسس مجلة شعر والمترجم والناشر يوسف الخال (1916-1987) لا تزال الوزنات في الموازين، ولم يزل الغبار في المعارك، والجهود في حومة النار،ولا يزال ضرب الشعر مجهولاً. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا لم يعد مجتمعنا قادراً على انتاج قامة أدبية من وزن يوسف الخال؟ لماذا لم يعد مجتمعنا قادراً على انتاج ظاهرة بحجم مجلة شعر ودورها الطليعي وانجازاتها وقيمها المرتبطة بمفاهيم التغيير والحداثة والحرية والمعرفة؟
وما هي العوامل والمؤثرات التي جعلت كل ذلك ممكناً ودون ان نغفل تفاعل الذات مع الموضوع. وأيضاً بالسياق التاريخي والحضاري.
وما هو الاساس الذي يبنى عليه في تحقيق مشروع الحداثة؟ يجيب على كل ذلك يوسف الخال في كتابه «الحداثة في الشعر»– دار الطليعة، بيروت ، 1978 وفي الصفحة 12 يقول «الانسان الحر وحده يحقق كل غاية، وبعبوديته لا يتحقق شيء».
فهو، في كمال حريته وكرامته قبل اية غاية. واذا كان ما نهدف الى بلوغه حق، ونؤمن انه حق، فلا حاجة بنا الى ان نتوسل الى بلوغه غير وسيلة حق. وما الطغيان السياسي في ما يزرعه من رعب في النفوس، وفي ما يقيم من موازين الفكر والسلوك، بالوسيلة الحق. الوسيلة الحق هي احترام الرأي، وافساح المجال للنقد والنقاش، واعتبار ان لا شيء، مهما يكن، محرم على العقل».
وفي الاطار التاريخي، كانت ا لارض في منتصف القرن الماضي مهيأة لبذور كثيرة. وكانت السماء تغري بالآفاق. وكانت اسئلة النهضة والتجدد الحضاري وبناء المجتمع والانسان والثقافة تملأ الاجواء. من هذا المناخ ولدت تجربة يوسف الخال. وفي تلك اللحظة من منتصف آذار (مارس) 1954 قرر يوسف الخال العودة الى لبنان من الولايات المتحدة الامريكية والتمهيد لاطلاق مشروع الحداثة. ودع يوسف الخال قراءه في جريدة «الهدى» النيويوركية
اولاً في قصيدة، يقول فيها :
«أحن الى لبنان والدرب بيننا
عسير كدرب التأئهين طويل
سأجتازه يوما ولو كان يدعي
صغار الورى ان لا اليه وصول».
وثانياً في افتتاحية يقول فيها: «لهذا الوطن (لبنان) حقوق علي ولي رسالة في الحياة وجدت، آخر الامر، ان الافضل تأديتها هناك ومن هناك».
ومنذ تلك اللحظة راح يوسف الخال يضع الخطوط ويرسم الرؤى ويجري الاتصالات لاطلاق مشروع مجلة «شعر»، وفي الفحوة تجديد الشعر العربي وتغيير وعي الانسان في لبنان والعالم العربي الى وعي جديد وموقف جديد بالنظرة الى الانسان والحياة والعالم. ومنذ العام 1954 (عودته الى لبنان) وحتى 9 آذار (مارس) 1987 (وفاته) عاش يوسف الخال حياته ابداعا انسانياً نضالياً متواصلاً. عاشر الشعر كأنه الحلم، وعاش الحلم كأنه الحرية، وعاش الحرية باعتبارها أصل الوجود ومبدأه وغايته. ونظر الى الثقافة باعتبارها مغامرة الانسان في الوجود. سعى الى استكشاف عصره وتغيير ما يراه جامداَ محنطاً ومحبطاً للولادات والبدايات. كان في ذلك على هدي ما قاله سارتر بان «مهمة الكاتب استكشاف القيم الخالدة في المأساة الاجتماعية والسياسية لزمانه ومكانه». أراد يوسف الخال ان يفعل شيئاً للغة العربية والشعر العربي» على ما كتب الشاعر ادونيس في كتابه «ها أنت أيها الوقت» الصادر عن دار الآداب 1993- . أراد ان يضع الشعر العربي في قلب خريطة العالم، وفي قلب الحراك الحضاري الحداثي العالمي. ومشدداً ان يكون التغيير من الداخل ومرتبطاً برؤية جديدة الى العالم ، وبأفق جديد للحياة العربية، وبنهضة طال انتظارها، وفي مشروع تقتضي وجود «انسان يبدأ بالبدء بالانسان». (كما كتب في «من زاويتي، فنائيون وعبدة اصنام» – النهار 21 تشرين الاول (اكتوبر) 1955) هذا العمل يحتاج الى فريق عمل الى «رفاق» يؤمنون بالمشروع، فريق عمل موزون ومتوازن، مختلف ومنسجم، يبذل الجهد والتضحيات والعمل في سبيل الحداثة. اي شعراء المجلة وأسرتها.
ان تكون مجلة «شعر» منبر الحداثة ومعها ايضاً المنابر الادبية او انشاء ما اسماه الباحث جاك اماتاييس في كتابه «يوسف الخال ومجلته شعر» ( المعهد الالماني للابحاث الشرقية في بيروت ودار النهار 2004 من 71) «شبكة من الوسائل تعتبر في حملتها مؤسسة ثقافية حقيقية اقامها لدعم مشروع الحداثة وضمان نجاحه». وهذه المنابر اضافة الى المجلة هي : خميس مجلة شعر، مجلة أدب، دار مجلة شعر، غاليري وان، المحاضرات والامسيات الشعرية والمؤتمرات.
وفي كل ذلك لبث يوسف الخال بسيطاً متواضعاً تواصلياُ مسكوناً بالحلم وهاجس المعرفة والتقدم والانفتاح على التجارب والمغامرة وقبول الآخر المختلف. وعاشت مجلة شعر طويلاً في الضمير اللبناني والعربي في صحبة هذه القيم وفي ظلال تلك الروح، وفي رياح العاصفة.
قبل عامين في 12 أيار (مايو) 2010 احتفلنا في بيروت وبمناسبة اعلان بيروت عاصمة عالمية للكتاب باعادة طبع العدد التذكاري الاول من مجلة «شعر» (شتاء 1957) وبمبادرة من دار نلسن للنشر وحضر الاحتفال شعراء المجلة الاساسيين (ادونيس، نذير العظمة، الراحل فؤاد رفقة، شوقي ابي شقرا، أنسي الحاج) وكذلك رياض نجيب الريس ومها الخال واتيل عدنان وكاتب هذه السطور. والقيت كلمات. كلهم تذكروا يوسف الخال. مؤسس المجلة. الغائب الحاضر.
الانيق حتى في رماده (عبارة شوقي ابي شقرا الاثيرة). الكريم القلب. الجامع الاضداد . المحرض. الباحث عن مساحات التلاقي والتفاعل. وتذكروا جميعهم دوره المميز في تغيير وجه القصيدة العربية الحديثة. كان هو الصوت الاكثر وقعاً وتأسيساً وتوهجا في الحركة الشعرية الحديثة. اعادتنا تلك اللحظات الى زمن جميل. زمن كانت فيه الاحلام ممكنة. والافاق قريبة. والشعر نداء خفي بين العقل والقلب. والارادة راسخة في صلب الامل على ما يقول بول ريكور.
كان يوسف الخال جريئاً في تسمية الاشياء باسمائها وفي طرح الاسئلة الجريئة. كان يردد دائماً « انا شاعر مسيحي لبناني عربي» وبهذا المعنى الكياني القيامي وليس بمعنى الطقوس والتمايز. كان مسيحياً بمعنى الانتماء الى المسيح وما مثله من مثل وقيم. وباعتبار ان المسيحية مكون اساسي من مكونات الكيان الحضاري العربي. وكان لبنانياً بمعنى لبنان في نطاق ضمان للفكر الحر. وكل هذه القيم تنصهر فيه وتقوده الى حضارة عربية انسانية منفتحة تضيف الى التراكم الحضاري الانساني العالمي.
وبعد، ما اعنف غياب الشعراء اذ يزيدهم حضوراً، بعد ربع قرن كيف نتذكر يوسف الخال، كيف نكرمه، كيف نحفظه؟
لعل أفضل طريقة ان نعيد قراءته. ان نعيد نشر أعماله. ان نستعيد رسائله ورسائل أدباء عصره اليه ونشرها. ان نتأمل في مسعاه وتجربته وما حقق وما لم يحقق. ان نعرف اشواقه وحنينه. ان يكون هناك بيت للشعر باسمه. او وحدة جامعية للآداب والابحاث المتعلقة بالشعر الحديث باسمه. في اعادة طبع مجلة «شعر» وادخالها في المناهج التربوية الرسمية كظاهرة قل نظيرها في لبنان والعالم العربي. أو في اضعف الايمان ان نطلق اسمه على مكتبة عامة او مركز ثقافي او حتى على شارع يفضي بنا الى المتاهة. ولكن الاهم الاهم ان نحقق قيم النهضة والتجدد والتغيير والحداثة. ان نشد العمق الى الضوء. وان نتفاعل وتقتبس وننسج ونتأثر بالتجربة الرائدة، وان نستعيد هذه الروح التي لم تعرف اليأس حتى في الحلكة.
واخيراً، انت يا صاح كان فيك الشيء الكثير مما كتبه جبران عن المجنون او السابق « انت سابق نفسك يا صاح، وما الابراج التي اقمتها في حياتك سوى اساس لذاتك الجبارة، وهذه الذات في حينها ستكون أساسا لغيرها».
سليمان بختي
كاتب وناشر من لبنان