لم تكن المجموعة القصصية بعنوان (القمر المربع ) بعيدة عن اتجاهات الكاتبة المبدعة "غادة السمان " فهي في مجمل نتاجها الأدبي، تسعى الى الوقائع المتفردة، والمدهشة، وهي حتى في قصصها التي تعالج فيها الواقع الحسي تجهد في إسباغ لون من خصوصية الواقعية النفسية على أعمالها، إنها تسلط اهتمامها على الشخصية الانسانية، فنماذجها تعاني بصورة عامة من شتى فروب الحصر والكبت والعقد النفسية، إنها شخصيات غير سوية أو تفتقر الى التوازن النفسي بسبب أنواع الصراع التي تعاني منها، وهو صراع يتم بين الشخصية ومطامحها، أو بينها وبين المجتمع، فمن البدهي أن تكون عناية "غادة السمان " منصبة على العوامل النفسية التي تجري في لا شعور الشخصيات، وعلى تجسيد عالمها الداخلي اللاواعي من خلال تصوير الأحلام والهذيانات والكوابيس التي تفصح عن العالم الداخلي المضطرب للشخصية، والتوتر النفسي الذي يهزها، وفقدان الرقابة على الذات.
وقصص " القمر المربع " محاولة من " غادة " لولوج باب الأدب الغرائبي الماوارئي واللامعقول، لكنها قصص لا ينفصل فيها الواقع عما وراءه، وإنما يندمجان معا من خلال تصور الحياة الخارجية والنفسية للشخصيات التي رسمتها، غير أن الشعور يعمل لدى هذه الشخصيات عملا ضئيلا جدا إذا ما قورن بنشاطها اللاشعوري المسيطر، حتى ليحس القاريء أن أبطال قصص " القمر المربع " لا يحيون حياتهم العادية، ولا يخضع تفكيرهم لمنطق الحياة، وإنما تستولي عليهم الأحداث، وتقودهم عقدهم وكبتهم وعدوانيتهم الى نسج أوهام وعوالم غريبة يتصورونها، وهي التي توجه سلوكهم، إنهم يعيشون بيننا في وضع يشبه وضع النائم، مع فارق أن النائم لا يستطيع أن يتصرف في المناهم، في حين أن تصرفاته اللاشعورية في اليقظة تشبه السائر في نومه.
وإذا كانت " غادة السمان " في هذه المجموعة، تقدم نماذج بشرية يمكن دراستها وفق معطيات علم النفس، وردها الى محاور نفسية معروفة كانفصام الشخصية، وتوهم الأشباح والجنون، فإنها تتناول مسائل غرائبية أكثر وعورة، لم يجد لها علم النفسى أو العلوم الأخرى تفسيرا – حتى الآن – كالتخاطر وقدرة الفكر على تحريك الأشياء، والتقمص،وهي مسائل كانت الكاتبة قد أوفتها حقها من الدراسة في كتابها " السباحة في بحيرة الشيطان " وتعود لتثير بعضها في قصص "القمر
المربع " عبر هاجس قصصي.
وقد نخطيء حين نظن أن " غادة " جنحت الى الغرائبية لغرض إدهاش القاريء فحسب، وتوفير جو من الخصوصية لقصصها، فوراء كل قصة رؤية تضعنا في مواجهة حضارتنا وعصرنا اللذين بضغطهما العنيف على الانسان، أفقداه توازنه ودفعاه الى الاضطراب النفسي، فكان لابد للقصة أن تعكس ذلك القلق النفسي المعاصر، وما سببه من انهيار عصبي،وقردية قاتلة، بعد ما كان الانسان في العصور السابقة أكثر نزوعا الى التواصل، وانسجاما مع المجتمع، حيث كان تكيفه ونزوعه الاجتماعي يمتصان قلقه وانحرافاته النفسية، ولا يتيحان للأزمات المترسبة في لاشعوره أن تسيطر على قدراته النفسية، ويبدو أن للكاتبة من هذه القصص أبعادا بعيدة، فهي تطمح أن تتابع آثار المأساة اللبنانية على المغتربين من أبناء لبنان وتدين الحرب. مثلما تسعى أن تحدث في القاريء لونا من التطهير ينجم عن الآثار التي تخلفها قراءة هذه القصص، فيعود الى إنسانيته وتوازنه فيما إذا كان يعاني من عقد التغرب النفسي التي يعاني منها أبطال القصص، ويمكن القول إن هذا اللون من الأدب هو أدب وقائي من حيث الصحة النفسية، وهو أدب
ملتزم من حيث تحليل الأسباب التي تجر الانسان المعاصر الى الانهيار، وتحمل المؤسسات الاجتماعية مسؤولية الأمراض النفسية المتفشية، والدعوة الى إعادة النظر في جميع المشكلات التي تثير الأعصاب، ومنها مشكلات جنسية وبيئية وعائلية يؤدي كبتها انفعاليا في اللاشعور الى اختلال الشخصية الانسانية، وإن دعوة الكاتبة "غادة " الى إقامة علاقة متناغمة بين الانفعالية والغريزة والشعور هي لون من العلاج النفسي، تغدو فيه القصة بديلا عن الصدمات الكهربائية أو الأنسولين في معالجة الفصام أو الهوس الاكتئابي أو الخلط العقلي.
ولا أزعم أن الكاتبة تطمح أن تقدم دراسات نفسية في قصصها بالمعنى المجرد، ولكن في هذه القصص ما يصلح أن يكون مادة للتحليل النفسي الذي لا يملك القدرة على القيام به سوى المحلل النفسي المختص، وبهما يكن.. فليس من مسات الأديب أن يقيم تصوراته على أسس ومباديء نفسية علمية موضوعية، لأنه ينطلق من الذات في رسم معالم شخصياته فإن هو رسم توتراته الداخلية الخاصة به، وصدر في عمله عن دافع ذاتي، عد نتاجه حالة نفسية ذاتيه يمكن تحليلها.. وإن جرد ذاته، وجهد أن يجسد بحدسه الأوضاع النفسية للشخصيات المحيطة به، وهو أمر عمتي على التحقيق، عد عمله محاولة منهجية لرسم عوالم النفس المجهولة،ومقاربة للتحليل النفسي الذي يقوم به الباحث المختص.
وإنني ألاحظ أن أعمال "غادة السمان" مما مزيج من الأمرين اللذين سبق ذكرهما معا، فلا يمكن تنحية قصصها عن ذاتها، ولا سيما أن كثيرا من المحللين يرون في عملية الابداع الفني ظاهرة سيكوباتية، وهي محاولة من المبدع للتعويض عن الاضطراب النفسي، وبا لمقابل فان كثيرا من القصص في المجموعة تعكس الوسط الحياتي الذي تعيش فيه الكاتبة.. فالشخصيات كلها في المجموعة القصصية هي شخصيات متغربة. وضعت في غير بيئاتها الأصلية، فالقصص تعالج الضغط والتوتر النفسي الذي تعاني منه هذه الشخصيات بسبب فقدان توازنها الناجم عن اغترابها، وقد اعتمدت " غادة " على حدسها لرؤية الحقيقة دون الاستناد الى براهين، حيث تفاعلت أناها الواعية بالهو والأنا العليا اللذين يشكلان
اللاوعي، ومدار هذه القصص أنها تطرح السؤال التالي:
لماذا يسلك الانسان سلوكا لا يقتنع به في أعماقه.. ؟؟؟
وماذا يترتب على سلوكه من نتائج تتجمع في لاوعيه حتى تؤثر في حياته النفسية..؟
وتدرك الكاتبة " غادة السمان " جيدا أن الحرية الانسانية التي تدفع بالانسان الى الخروج عن الأعراف الاجتماعية لتحقيق ذاته، تفرض عليه أن يقوم أعماله بصورة مستمرة، وفي هذا التقويم المتواصل، تكمن معاناة الانسان وعذابه النفسي، وصراعه المضني بين طموحه وواقعه.
" قطع رأس القط " عنوان القصة الأولى من المجموعة.. وهو مستمد من المثل الشعبي " اقطع رأس القط من أول ليلة " تضع الكاتبة بطلها " عبدالرزاق " في دوامة الصراع بين عالمين متغايرين، فهو لبناني مغترب يريد أن يتزوج،وهو يدعى "عبدالرزاق "عند معارفه وأهله من اللبنانيين في باريس.. لكنه – يدعى "عبدول " في فرنسا، ويحمل في أعماقه إرثا شرقيا من العادات والتصورات عن الزواج والمرأة التي يريد أن تكون زوجا له. لكنه يتمزق بين نمطين من النساء، نمط المرأة الشرقية التي تمثلها أمه، وعمته العزباء، اللتان يحبهما ويرى فيهما مثالا للمرأة المرغوية في أعماقه، المرأة التي ارتسمت صفاتها في لاوعيه منذ الطفولة (لها فم يأكل، وليس لها فم يحكي، ما قبل فمها غير أمها، لا تغادر البيت دون استئذان، ولا تلد الا الصبيان، خادمة في النهار وجارية في الليل ). يقابلها في خياله (المرأة العصرية المتمثلة بالفتاة اللبنانية " نادين " التي هربت أسرتها من الحرب وهي في العاشرة، فكبرت في باريس وتوهجت مزيجا من سحر الشرق والغرب معا) وهي فتاة عصرية تمارس الرياضة وترتدي الشورت، وتمارس هوايات القفز من فوق الجسر الى ماء النهر، وتؤمن بحريتها الشسخصية الى أبعد الحدود، وتتحلى بالواقعية والثقة بالنفس في اتخاذ القرار، كان "عبدول " يطمح الى الزواج منها، ويخافه في الوقت ذاته، فقد أرعبته شخصيتها العصرية المسيطرة التي تضاءلت أمامها شخصيته التقليدية، لأنه تربى على القيم الشرقية وفي أحضان امرأة شرقية مغايرة، وأكثر ما آلمه أن " نادين " لم تكن عذراء، فهي لا ترى في العذرية شرطا لازما للوفاء لأن الخيانة النفسية في نظرها أخطر من الخيانة الجسدية، ولأن "عبدالرزاق " قد تجاوز قناعته بالمرأة الشرقية، وبالمقابل لم يصل الى القناعة الراسخة بقيم المرأة الغربية، فقد ضاع في أمر زواجه، وانهارت أعصابه حتى أسلمه وضعه الباش الى نوع من الفصام أو الجنون، فكان يخيل إليه أنه يرى شبح عمته العزباء،التي كانت تمارس دور الخاطبة على الطريقة الشرقية، والتي ماتت منذ طفولته، يراها أو على الأصح يرى شبحها في شقته أو مغادرة البناء الذي يسكنه.. تتنقل بين السيارات في الشارع حتى ليخيل إليه أنها تعرضت لحادث صدام، فيؤكد له حارس البناية أن أوهامه هي التي توحي إليه بما يرى، ويعود الى غرفته فيستعرض صورة عمته المعلقة على الجدار، وسوط أبيه المعتق " كراية منكسة لم تعد لها قدرة على الانتصاب ". ليطالعه شبح عمته مجددا، ويراها تجتاز الشارع وسيارات باريس تدهسها تعبيرا عن رغبته المكبوتة في تصفية نظرته الموروثة الى المرأة الشرقية وأعراف الزواج التقليدي، ويقرر أخيرا أن يتزوج " نادين " ثم يتراجع، لأن شبح عمته يطارده وسبحتها الموروثة في جيبه، لقد سقط في بؤرة العجز الإرادي، وقاده لاوعيه المسيطر الى لون من الكبت، وفقدان عضويته توازنها فقدانا عاما دفعه الى استحضار خيال عمته، وهي رمز الى الحواجز الأخلاقية التي تعترض زواجه من الا نادين " ورغبته العارمة في قتلها دهسا بوسيلة عصرية مسيطرا ميوله المكبوتة على الوازع الأخلاقي، وتستغل الكاتبة " غادة " القصة لتحليل واقع المرأة الشرقية البائس، بالمقارنة مع الصحة النفسية التي تتمتع بها المرأة العصرية، مؤكدة بعض القيم الجديدة التي تتبناها المرأة اليوم، وهي قيم لم يتهيأ للرجل الشرقي بعد أن يتقبلها، كتجاوز مسألة العرض والنظر الى المرأة على أنها ند للرجل، والى الزواج على أنه عملية تكافؤ بين الزوج والزوجة، وليس استلابا لحرية أحدهما، تقول نادين لعبدالرزاق ". هذه أنا امرأة لا تشعر بالذنب لمجرد أنها ولدت أنثى، ولا تعتذر حتى عن نزواتها كأي رجل، وليس بوسعك أن تمتلكها إلا اذا أحبتك.. ".
وفي قصة " التمساح المعدني " نلحظ تشابها في موقف " غادة السمان " من الحضارة الغربية، فالشرطية الزنجية التي تعمل في سلك البوليس الفرنسي تصرعها جزافة تحت تأثير قوى سحرية خفية يملكها الساحر " دونجا " ولعل التمساح المعدني عنوان القصة يرمز للحضارة الغربية التي تلتهم بقسوة الحضارات التاريخية الأخرى، وتحول مدنيات العالم الى نسخ عنها، فبطل القصة "سليمان " لبناني مهاجر من القصف يفر الى باريس، وكان والده في " بيروت " يمارس ألعاب الخفة في الملا،هي، فاقتبس عنه الكثير، ومارس عمل المنجم في باريس حيث يفد إليه الشرقيون الذين مازالوا يؤمنون بالسحر لقراءة حظوظهم ومصائرهم، كان بصارا وفلكيا وساحرا ومنجما، فجنى الربح الوفير، لكنه كان يدرك في أعماقه أنه لا يملك أي قوى سحرية خفية، غير أنه قانع أن بعض الناس يملكونها، الى أن التقى في المطار زنجيا يقف في طابور المنتظرين لتصفية جوازات مرورهم، فأحس إحساسا مبهما بأن هذا الزنجي يملك قدرة سحرية خارقة بجمجمته الضخمة ونظرته المرعبة من عينين تشبهان كرتين نافرتين، ينظر الزنجي الى كلب ضخم مرعب يقف في الظلام ويعوي، فيهدأ نباحه، يعزو سليمان هدوء الكلب الى قوة سحرية في عيني الزنجي، وينظر الزنجي الى نافذة مفتوحة تتسرب منها الريح، فتنطبق درفتاها من تلقاء ذاتها، فتتعزز قناعة سليمان بأن هذا الزنجي الذي قذر أن يكون اسمه "دونجا" يتمتع بقوة سحرية غامضة، ويحاول أن يعزو أوهامه الى آلام يشعر بها في ضرسه، لكن طفلا في حضن أمه يطلق صرخات بكاء فيحدق فيه الزنجي فيهدأ ثم تقبل شرطية زنجية فتنادي " دونجا ".. فيذهل سليمان لأن حدسه كان صادقا، فقد قدر في ذهنه أن يكون اسمه.. وتزجر الشرطية الزنجي فيغضب. ثم يغادر سليمان القاعة من الباب المخصص للخروج، وهو يتوقع في أعماقه أن الساحر " دونجا " سينتقم من الشرطية السوداء، ويتابع سيره باتجاه محطة المترو، فيخيل إليه أنه يسمع لونا من قرع الطبول الغاضبة، طبول افريقية توقع رقصة التام تام.. ويرى " دونجا " في ثياب ساحر، وتجتاز الشرطية السوداء الشارع، فيذهل سليمان للمفاجأة إن سيارة الشرطية المتوقفة تتحرك بلا سائق وكانت تقف قرب الرصيف وتتجه صوبها متسارعة، وتصدمها، فتطير في الهواء وتتلقاها جرافة واذا بها وقد تعلقت جثتها بأنياب الجرافة، ما أغرب هذه الحادثة… أيكون " دونجا " هو الذي حرك السيارة بقدرته السحرية ؟ ويثبت التحليل أن كابح سيارة الشرطية لم يكن مشدودا. وأن الحادث قد وقع مصادفة، أما سليمان فيعتقد جيدا أن " دونجا " وراء مصرعها، لكنه لا يجرؤ أن يقول الحقيقة، بالرغم من أن صوت دونجا يهمس في أعماقه قائلا "نعم.. قتلتها، هذا عقاب أمثالها عندنا".
تقدم القصة حالة مرضية سببها فكرة ثابتة تحيا في عقل سليمان بصورة طفيلية، فهو يعتقد بقوى سحرية يملكها بعض الناس، ويفسر بها كثيرا من الحوادث التي تمليها المصادفة، وربما من رابط حقيقي بين صمت نباح الكلب أو انغلاق النافذة أو سكوت الطفل الباكي ووجود الزنجي غير أن وساوس سليمان المحصلة من ظروف حياته، جعلته يؤمن بقوى خفية قادرة على التحكم بما حوله… وسليمان إنسان مرهق انفعالي، يعاني من عدم رضاه عن عمله لأنه يكذب على الناس، وهو يدرك أن محاكماته المرضية للأمور باطلة لكن المصادفة تزيد من تشبثه بصدق حدسه، وبهوسه الجنوني، وحالته الجسمية والنفسية تسمح بتقبله الايحاء مثلما يساعد على ذ لك عامل وجداني محصل من ممارسته مهنة لا يؤمن بها، ورفضه اللاواعي للنظام والنزعة العقلية السائدة في الحضارة الغربية، واستلابها روحانية الانسان، كما تجذ ذلك في انتقام الساحر الإفريقي " دونجا " من بنت جنسه، لأنها خانت قيمها وتنكرت لجنسها.
الظواهر البارزة التي تعالجها الكاتبة في القصة هي مسألة التخاطر وتحريك الأشياء عن بعد أو توقع حدوث الأشياء قبل وقوعها وهي ظاهرة عجز العلم عن تفسيرها، وردها الى قوى روحية خاصة.
ونلاحظ شخصية بديع المغربة في قصة (المؤامرة..) ذلك التاجر اللبناني الذي مارس طفولة سعيدة في مدينة " بيروت ". ثم تبين له أن أمه كانت داعرة تقيم علاقات مريبة مع عدد من الرجال لتجمع ثروتها في فترة الحرب التي طحنت زوجها، ويطلعه رفيقها الذي كان يراوده، وهو طفل على حقيقة أمه، فكان أول ردة فعل له أن قام بخنق قطة المنزل تعويضا عن خنق أمه التي يحبها ويكرهها، ثم تقتل أمه برصاصة من أحد عشاقها، ويشق بديع طريقة في الحياة، فيصبح ثريا لكن ماضي أمه حوله الى مريض نفسي مصاب بالشيزوفرينيا فهو يتوهم أن مؤامرات تحاك ضده، فلا يأكل من المعلبات خشية أن تكون مسممة، ويشتري خضرته بنفسه، ويعقمها مرات، ولا يشرب في الحانات لئلا يدس له أحد سما في الشراب، ويخاف النمل والصراصير ويحرص على إبادتها ويجفل كلما رن جرس الهاتف، وهو موسوس من جهة النظافة، يغسل يديه عشرات المرات كلما صافحه مخلوق، ويحتفظ بثياب معدة للهرب، وبجواز سفره احتياطا من مداهمة أعداء وهميين، فقد يضطر الى الهرب من لندن حيث يقيم ويعمل، بعد أن احتفظ في بيته بضريح أقامه لأمه في غرفة مخصوصة، وادعى أن صاحب البيت الذي اشتراه منه هو الذي أقامه.
وكان يعاني من عجز جنسي مع حبيبته " اليزابيث " لكنه كان يعوض عجزه بالهرب الى المومسات حيث يمارس رجولته " وحين سألته إحداهن عن أمه كتم أنفاسها بمنديله، ويصاب بانهيار من الفصام بل من هذيان الاضطهاد، ويعود عقله الباطني الى الانتقام من الطبيب الذي يتوهم أنه يخونه ويريد الزخ به في مصح عقلي بالاتفاق مع ابنة عمه اليزابيث، فيقرر قتلها، ويزورها في بيتها ويخنقها بربطة عنقه ولم يترك خلفه بصمات، وحين تقبل الحسناوات لتعزيته لا يعيرهن اهتماما، لأنهن جزء من مؤامرة تستهدف حياته، ثم نكتشف أن هذه الأعمال مارسها ""بديع " دون أن يدري لأنه مصاب بأزدواج الشخصية، وكان يحوكها عقله الباطن وتقوم بها شخصيته الداخلية التي سماها (عيدب ) وهي مقلوب اسم (بديع )، وقد سيطرت هذه الشخصية الباطنية على شخصيته الضعيفة الخارجية، وأخذت تناقشها، انه مجنون مصاب بالشيزوفرينيا يعاني من رواسب طفولته التعيسة وتحكمه.
نلاحظ أن القصة تحليل لأوهام مريض مصاب بالفصام، تربط بين دواعي مرضه (عقدة أوديب )، ومن مظاهر هذه العقدة تعتقه بمحبوبته التي تمثل الجانب النقي من أمه، ومع ذلك فهو يعجزعن ممارسة الجنس معها، لكنه يقوم به مع البغايا لأنه غير ملزم باحترامهن، فهو قادر على أن يترك لغرائزه الحرية معهن. ويريد أن تظل أمه ملكا له، وأن تبقى رمزا للنقاء فيصبح عشاقها غرماء له، مما خلق لديه عدوانية تجاه الآخرين، مع إحساس عميق بعدم الأمن والخوف والعجز.
أما " رئيف " بطل قصة " زائرا الاحتضار " فهو ابن مزارع فقير من لبنان، داهمته الحمى وهو يكدح في حقله، وأشرفت أمه على تعليمه بعد أن باعت كل ما لديها إلا تلك الاسورة التي احتفظ بها، وقد دفعته مرارة الفقر الى أن يمارس كل الأعمال الخارجة عن نطاق القانون، فجمع ثروته من بيع الأسلحة والتهريب وا لمخدرات، وابتنى قمرا في النوفوش الشهير بشارع الشانزليزيه في مدينة باريس. فلم يتحمل عقله هذه النقلة السريعة "من زقاق الشحار الى أرقى حي في باريس عاصمة الدنيا" أولع بالنساء محظيات وزوجات، فطلق الكثيرات منهن، لكنه لم يحظ بحب واحدة منهن، لم ينجب ولدا، وكانت آخر مطلقاته " كارولين " تنحدر من أسرة فرنسية عريقة، ومن قبلها " تريسي " وقبلها " ميرنا " التي هجرها متهما إياها بالعقم في حين كان هو العقيم، يضاف الى قائمة محظياته سكرتيرته "ناهد! التي غزر بها وتخلى عنها، واحدى الراقصات التي أسلمها لرجل اخر مقابل صفقة تجارية.. لقد تحلل من قيمه الانسانية بعد أن جمع ثروته وقضى حياته في دوامة من الاجرام دون أن يؤنبه ضميره بالاخلال لحظات احتضاره.. وانهماكه بالملذات سبب له مرضا في قلبه جعله يترقب الموت في كل لحظة.
يعود " رئيف " الى قصره منهكا، فيلجه.. وبعد أن يطمئن الى أن أجهزة الأمن فيه تعمل بانتظام، يغلق بابه، ويصب قدحا من الويسكي، لكنه يشعر بإرهاق شديد وترتفع فربات قلبه المتعب، يذهله أن جرس الباب يقرع في تلك الساعة المتأخرة، ودون أن يفتح للطارق، تجتاز بابه سيدة ملفعة بالسواد، إنها " كارولين " زوجته التي سعى الى إغراقها في نهر السين بعد أن أهداها سوار أمه الذي يحتفظ به للذكرى. ويتوالى قرع الجرش، ويتوالى دخول نساء متشحات بالسواد، هن زوجاته ومحظياته اللواتي عذبهن وبينهن من ماتت من زمان، يجلسن حوله في حلقة من السواد، كأنهن يقمن بمحاكمته، في حين كان ألم قلبه يتزايد ويخيل إليه أن " كارولين " تغمد خنجرا في صدره، وتنشى كل امرأة وتطبع على جبينه قبلة الوداع، وهو يصرخ مستنجدا، ثم يغادرنه دون كلام، وتخلع " كارولين " سوار أمه الذي غرق معها وتضعه فوق صدره ثم يلوح له شبح امرأة يتوهم أنها (أم أنيس ؟ سائقه الذي عذبه وقتله، وماتت أمه حزنا عليه، غير أنه يرى فيها حين تقترب شبح أمه، فيستنجد بها راجيا، لكن الشبح يبصق عليه ويتخطاه.. يدخل الحراس والسائق مرتاعين لصوت جرس الانذار، فيجدون رئيف مطروحا في حالة الموت وعلى صدره سوار أمه، وباب القصر مفتوحا على مصراعيه، ويؤكد الطبيب أنه مات بالسكتة القلبية، لكن أحدا لا يعلم من الذي أطلق جرس الانذار أو فتح الباب، وتعجب والدته حين ترى سوارها على صدره، وهي تعرف أنه كان على معصم " كارولين " حين أغرقها في السين. كان " رئيف " الذي تشبه شخصيته أحد شخصيات رواية (ليلة المليار) ضحية يقظة الضمير، فأناه العليا استطاعت أن تحاكم سلوكه وتجره الى الندم والعذاب، ولكن شخصيته الداخلية المنحرفة لم تستسلم حتى آخر لحظة، كان ضميره الواعي يحاكم الشيطان الذي في داخله عبر كابوس عنيف دفعه الى التفكير في الانتحار، ثم جاءت النوبة القلبية لتضع حدا لعذابه، إن شعوره بدونيته ما زال يقترن بلون من الخيلاء والتحدي، إنه يعاني لونا من السيكلوتيميا أي التقلب الانفعالي الذي ذهب ضحيته.
وفي قصة "جنية البجع " يتقاسم العمل الفني شخصيتان هما الزوج والزوجة، مهاجران مطرودان من جحيم الحرب في لبنان، الزوج كان غنيا قبل الحرب، فغادر بيروت تاركا ثروته لمهب الريح، وعجز في باريس عن الانسجام مع واقع فقره، كانت الزوجة أقدر على التكيف مع واقعها الجديد، عملت ودبرت شؤون الأسرة، وذاقت مرارة الفقر بعد العز، إلا أنها تذوقت مع زوجها أيضا لذة حياة البسطاء في جلساتها الممتعة في الحدائق. يطعمان الحمام، ومتعة الحصول على الرزق بالجهد والعرق، هذه الأمور الصغيرة كونت عالما من العذاب والمتعة بالنسبة لها، وتنتهي الحرب فجأة، وتعود للزوج أملاكه وثروته، فيطلب من زوجته التخلي عن العمل، والتمتع بمباهج الثراء الذي عاد لينقلهما مجددا الى الماضي السعيد، لكنه ماض زائف في نظرها، فأصحاب زوجها الأثرياء الذين هربوا أموالهم من لبنان تخلوا عنه ساعة المحنة وتلذذوا بشقاء زوجته وكدحها، ولمست الزوجة طيبا في الفقراء وغنى في النفس لم تجده لدى الموسرين، إنها لا تريد أن تعود امرأة ثرية تافهة أفقها لا يتجاوز مربعا ضيقا كطابع البريد، ويريد زوجها أن يلغي تسعة أعوام من الحياة المشتركة المضيئة، يلغيها بما فيها من مرارة ولذة، وبما فيها من إرادة مشتركة للبقاء وتحدي الفناء، وفي اللحظة التي تجمع أمرها على رفض العودة مع زوجها الى لبنان، وما يترتب على قرارها من نتائج مؤلمة، يقبل إليها الزوج ويخبرها أنها سيعودان الى لبنان ولكنه سيفتح في بيروت فرعا لدار الأزياء التي تعمل فيها زوجه، فيأتي قراره حلا للأزمة، فتفرح الزوجة وكانت قبل ذلك مستسلمة الى هلوساتها حيث يتراءى لها أن جنية البجع، حولتها وزوجها الى تمثال جامد الى حد أنها أحمض أن صبيا عابثا في الحديقة التي تجلس على أحد مقاعدها خدشها بمسمار في ساقها، وقض جزءا من طرف منديلها الحريري وأن صلتها بالعصافير والنوارس التي كانت تحلق فوقسا في الحديقة ليست صلة عابرة، إذ تبين لها أن هذه الطيور تنشد الكرامة والحب والألفة بمقدار ما تبحث عن رزقها وتتخلى عن كرامتها، فتنحني لالتقاط قطعة خبز تقدمها لها أيد قذرة. إننا جميعا أحوج ما نكون الى عصفور ما كي نخترع الحب، والى جنية من البجع تقرأ لنا مستقبل حياتنا.
إن قصة "جنية البجع " هي أروع قصص المجموعة مضمونا وشكلا، حلقت فيها "غادة السمان " الى أفق من الابداع، فمزجت الواقع بالأسطورة في أفق انساني رائع مثلما ألفت بين الحلم والحقيقة في تركيب بديع معجز، ولم يكن الغرائبي فيها مصطنعا، بل كان جناحا لخيال عذب يغني القصة ويمدها بمشاعر إنسانية عميقة وثرة، تخدم الحياة وتفصح عن عظمة الوحدة الزوجية التي تعزف الكاتبة على وترها، ثم تأتي خاتمتها السعيدة الموفقة محطة استراحة للقاريء يستشعر منها ثقته بالحياة وروعة الانسجام النفسي الذي يجمع بين زوجين في دوامة الفقر، اضافة اق حسن استغلال الكاتبة للرموز وتساوقها مع الجو الطبيعي للقصة.. على أن أروع ما فيها عبقرية الكاتبة في السرد الذي بدت اللغة من خلاله عالما من الجمال، وتعبيرا ناجحا عما يعجز القلم عن تمثيله بسهولة ويكعر.
وفي قصة "ثلاثون عاما من النحل ا تتابع " غادة السمان " رحلتها في أغوار النفس الانسانية، وتستمد شخصيتها من عالم الثقافة ووضع المرأة فيه لم " ريم " سيدة يعمل زوجها ""الأستاذ رضا" ناشرا، وقد نجح في تأسيس دار نشر عربية في مدينتهما في شمال افريقية لها فروع في لبنان وسواه من الأقطار العربية، وصديقه "الأستاذ صدوق ا شخصية متملقة منافقة، قدم صدوق كتابا لنشره فرفضه، غير أن زوجته " ريم " أقنعت زوجها رضا بنشر الكتاب، فأقبل الناس على شرائه، وعين مدرسا في الجامعة في باريس.
"ريم " تمارس نظم الشعر غير أن صوتها سكت بعد الزواج لانصرافها الى أعمالها المنزلية، ورغبة زوجها الخفية في أن تظل صدى له ولا تتجاوزه شهرة، عرفها عن طريق النشر لكنه غازلها وتزوجها ليجعل منها زوجة عادية، تلغي ابداعها الفني، وتتفرغ لتربية الأولاد، كان صدرها يختنق ويعبئ بالأصوات كخلية نحل، فقد ألفت أن تضع العمل للناس، لكنها تتلقى لدغاتهم، وتشعر بالندم لأنها رافقت زوجها الى باريس وهي تتأهب اليوم لحضور حفل التكريم الذي أقيم له، تغادر الفندق بصحبته، ويستقلان سيارتهما، ثمة نحلة تطن داخل السيارة، يسحقها " صدوق " على زجاج النافذة مقهقها، تقول ريم: لعتها ملكة النحل والخلية محتاجة إليها" يجيب: ليس ثمة شيء لايمكن الاستغناء
عنه.
يخاطب "ريم " هاجسها الداخلي، لقد استغنت عن شعرها من أجله، وقصائدها تطن في صدرها كالنحل، فتعجز عن تسطيرها على الورق، لقد استنفد زوجها نشاطها بتصحيح بروفات كتبه، وعمل المطبخ، ثمة تواطؤ مشترك بين رضا وصدوق على أخطاء معاناتها. وقفت الى جانب زوجها وهي التي تستحق التكريم مثله، لكن المجتمع لا يعترف الا بالرجل، لقد أحسن اللعبة القذرة حتى يظل رجل المواجهة.
لم يكن وحده المسؤول عن تدشين امرأته، بل العالم كله، ويطالع القافلة المنطلقة الى حفلة التكريم أس اب من النحل، وتدخل نحلات عدة الى السيارات.،"النحلة هنا رمز للزوجة المقموعة" ويتوقف صدوق، ويبدو مذعورا ويخيل إليه أن النحل يخرج من فم الزوجة، ثم يصلان الى مقر الاحتفال، ويعتل! الخطباء المنافقون المنبر، أحدهم لم يتحدث عن أعمال زوجها، بل ألقى خطبة سياسية، تحدث فيها عن برنامجه الانتخابي. كانوا يكرهون مصالحهم لا المحتفى به، كانت تعزي نفسها بتعليل احتكار "رضا" للتكريم، فهو رجل، وقد يتم اغتياله من خصومه، وكانت تتمنى لو تطير بجناحي نحلة فوق سطوح المدينة، عسى أن تصل الى كوكب الابداع المحرم على المرأة. أصبحت معزولة عما يجري في الاحتفال من مديح زائف، وترى الخطباء يتعاقبون على المنبر داخل رأسها كما في "الكوابيس اوأشرطة التسجيل التي تعوي كلها معا. صارت ترى الأشجار تركض في المدى مع فزاعات الطيور، وخيل إليها أنها تقطف تفاحة من شجرة مزروعة أمام مدخل مبنى الاحتفال، وللتفاحة قناع كرنفالي العينين، وشاربان يتدليان، بدأت تخطو وحدها نحو كوكبها الخاص وحيدة، والمرئيات تستحم في ظلال راعشة، وكابوسها يقدم لها صور قطار حديدي عار مقيدة الى مقاعده نساء يصرخن، وامرأة تتمدد في تابوت لتقرأ ارشادات إغلاق التابوت عليها، ونبع ارتوازي حار ينفجر من باطن الأرض وتتطاير بعه أوراق الكتب التي ترجمتها مع زوجها، وعجائز تجمعن لقص جناحي طفلة يتجدد نموهما بلا نهاية… وامرأة محتضرة في الداخل والناس يطلقون في السماء ألعابا نارية احتفاء بموتها، وطفلة صغيرة يربطها وقد تحولت الى نحلة بشرية بخيط، ويعبث بها كما يعبث الصغار بالجنادب الطيارة. وفجأة.. يتدفق النحل الى قاعة الاحتفال.. نحل لا يعرف مصدره، يخرج من عينيها وأذنيها وفمها، ويلسع الحضور الذين يصيحون كالمجانين وتغطي.. النحل وجه صدوق تلسع رضا، وينتاب " ريم " إغماء لا تصحو منه إلا بعد زمن.
كان كابوسا رهيبا استفاقت منه " ريم " لتجد نفسها قرب زوجها يتمدد في حقل وقد لسعته عشرات النحلات على مايبدو.
يقول الطبيب لها: عطرك هو الذي نجاك، فالنحل تجتذبه بعض الروائح، وقد هربت أسراب هذا النحل الافريقي المتوحش من المختبرات.. ويؤكد زوجها أن النحل كان يخرج منها، لكنه يضيف. انها قد حمته بامومتها، فهي تفرز حنانا كالعسل، والمرأة تعطي النحل دائما.. تشعر " ريم " بنفاق كلماته، وتسمع مجددا طنين النحل في صدرها. هكذا بدأت قصتها مع النحل منذ ثلاثين عاما.
يقول بيير داكو: "تعاني الغالبية العظمى من النساء من الشعور المبرح بالدونية لمجرد أنهن لسن رجالا، وعلة ذ لك أن ثقافتنا ترتكز برمتها على الرجولة.. وتفوق الذكر المزعوم، ولا يزور هذا الشعور المرأة في سن النضج الا إذا كانت في غاية التوازن ".
وبطلة القصة تعاني من كبت إحساسها بالدونية، وتحول كبتها الى عقدة مرضية تمثلت بهلوسات نتيجة شعورها أنها مضطهدة، وقد عزز مرضها تصرفات زوجها السلطوي.
وتضاهي قصة "الجانب الآخر من الباب " في روعتها قصة "جنية البجع " تطالعنا شخصية بطلتها وهي صحفية لبنانية تحب "نعيم " وتتزوجه فينجبان طفلا، وتندلع الحرب فيصاب ولدها بشظية تؤدي الى شلله، يهربان من نار الحرب الى باريس لمداواة ولدهما الصغير، ويعمل زوجها في دكان لتأجير أفلام الفيديو العربية في حين تتفرغ هي لتربية ولدها ورعايته.. الحياة في باريس مكلفة، تراود المرأة أحيانا فكرة الانتحار، لكنها تتشبث بالحياة من أجل ولدها المعاق، فتتماسك وتكافح، تلتقي في حديقة الحيوان بإنسان غريب يدعى "بوبوص " يعمل مهرجا بعد أن درس الفلسفة في بلده لبنان.. "بوبوص " يحترف الاضحاك ويحبه الأطفال، وقد نذر حياته لإضحاكهم، يعرض على الأم مرافقة طفلها المقعد وتسليته، وتلمس قدرته على إسعاد الصغير، فتسمح له بزيارة بيتها، وتلاحظ أنه ينفق دخله على شراء الألعاب لولدها.. فتلومه على تبذيره، وتستعد لإقامة حفلة لطفلها في عيد ميلاده، ويتأخر "بوبوص " عن الحضور، بينما الأطفال يترقبون مجيئه بفارغ الصبر، يرن جرس الهاتف، فيتلقى الزوج نبأ مصرع، "بوبوص ". لقد انزلقت به دراجته وهو ذاهب لشراء بعض الألعاب للطفل.. وطار من فوقها ليصطدم بجدار المخزن، وترفض الأم "ليلى" الحقيقة، وتؤكد أنه كان في وقت موته مع الأطفال، بينما يؤكد قسم الطواريء أنه كان أمام المخزن في ذلك الوقت، ومات متأثرا بجراحه، وترفض الأم الحقيقة، وقد أوهمتها رغبتها الحقيقية في بقاء "بوبوص " إنه بين الأطفال وأنه لم يمت، في حين أنها في واقع الحال كانت تتوهم وجوده مع طفلها. تعاني البطلة من صدمة انفعالية أدت الى فقدان ذاكرتها، لقد وجدت في شخصية "بوبوص " ما يخفف قسوة العالم عليها، وفي دماثته وغيريته ما بعث الأمل في نفسها وجعلها تتمسك بالحياة. فلما فجعها فقده، انهار عالمها الداخلي.
الكاتبة غادة السمان في القصة تترك للانسان نافذة من الأمل تدفعه الى الايمان بالحياة والحب والخير، فبوبوص لم يمت في نظر البطلة انه ما زال يعيش شبحا بين الأطفال، ينشر الحب في حياتهم، ولا معنى لموته لأنه مستمر في حياة الصغار… يقول مارسيل بروست في هذا المعنى: " لا يموت الناس بالنسبة إلينا بل يستحمون في هالة من الحياة لا صلة لها بالخلود بل باستمرارهم فينا كما لو كانوا أحياء أو أنهم مسافرون " وفي قصة "بيضة مكيفة الهواء" نلمس فيها الحنين الى الماضي والجذور، بطلتها فتاة عربية دمشقية تعيش في مدينة نيويورك، وتعمل في أحد البنوك منذ ثلاثين عاما كانت في ريعان شبابها يوم عرفت حبها الأول بدمشق، وكان حبيبها ثريا من "آل السروجي " يملك قصرا أثريا فخما، وبعد الخطبة.. وعدتها حماتها بتقديم قرطين من الماس لها في ليلة العرس.. بيضاوين يحاكيان تصميم القاعة المكيفة لمكتبها في نيويورك، ويشاء القدر أن تسافر لاكمال دراستها بعد عقد قرانهما وقبل عرسهما، ويشاء القدر أن يموت حبيبها إثر عملية بسيطة، ويخذل حبها الكبير، لم تجرؤ على العودة الى دمشق، وكانت قد حملت منه.. لكن عمتها أصرت على إجهاضها رغم إنها كانت شرعا زوجته، وذلك خشية العار على الرغم من احتجاجها، فلم يبق لها ما يربطها بدمشق.. وتمر الأعوام الثلاثون، ويأتيها بغتة صوت حماتها في الهاتف تخبرها بانكسار وعجز في نيويورك، وتحب أن تراها، خنقتها ا لمفاجأة، وذهبت لتقابلها في الفندق الذي تقيم فيه، وهي تجهل س زيارتها. لكن الحماة المفجوعة منذ ربع قرن تقول لها: أعرف أنك كنت أمينة على حبك ولدي، وقد وعدتك بتقديم هذين القرطين لكن الخطوة لم تتم، فأرجو أن تقبليهما الآن للذكرى.. وتوصيها أن تحافظ عليهما، لأنهما يحتفظان بقوة سحرية. تعود الى منزلها وقد تجددت حياتها، تلبس القرطين، فيخيل إليها أنها بدت بهما أصغر من عمرها، تنام والقرطان في أذنيها، يحملها الحلم الى حضن قاسيون وهي ترتدي البروكار صبية في السادسة عشرة من عمرها، ترى حبيبها الأول ""عرفان " في حلمها، تحدق في مدينة دمشق وعرفان يصحبها، ترتجف فرحا به، تشفق أن تمد يدها الى جسد حبيبها فيتبدد طيفه، يطوق عنقها طفل دمشقي من زهر الياسمين، تخبر عرفانا أن والدته زارتها في نيويورك، وقدمت لها قرطيها الثمينين، يبتسم.. وينتهي الحلم الشامي.. والجرس يستدعيها للعودة الى مكتبها البيضاوي المكيف، يذهلها أن تجد في عنقها عقدا من الياسمين قد ذبلت أوراقه.
وتنهي الكاتبة " غادة السمان " قصتها بلغز العقد.. من أين جاءها عقد الياسمين ؟؟ خاتمة مقطوعة كالحياة التي لا خاتمة لها.. تذكرنا بروايات " دستوفيسكي ".. هل غادرت البطلة نيويورك الى دمشق ؟ هل تزوجت سكرتيرها العربي الشاب ؟ هل تخيلت وجود العقد في عقلها الباطن، وتوهمت أنها تلبسه مستسلمة الى هلوسات في يقظتها.. ؟ لعل ذلك هو الأرجح، فقد هزها حضور حماتها، وحرك ماضيا دفنته تحت طيات غربتها القاسية، حيث المادة مقياس كل عمل، في حين بعث تصرف الحماة عذابات الروح في قلبها، ونبش عالما من القيم الانسانية أفقدها توازنها.
وتأتي قصة "قاعة الدماغ المغلقة" في نهاية المجموعة، فتبنيها الكاتبة علي صوتين يتناظر فيهما عالما الموت والحياة، ومن خلال العالمين المنظور واللامنظور تفضح " غادة ا لسمان " كثيرا من مباذل الطبقة الغنية، وانحدار النفس الانسانية الى مستوى الانحطاط، فالحرية الانسانية الممنوحة لنا هي حرية مدمرة اذا لم تضبطها مثلنا وروادعنا، ويغدو الموت في نظر الكاتبة غيابا جسديا فحسب، أما الميت فله حضوره غير المنظور بيننا، بطل القصة لبناني مغترب، غادر لبنان في الحرب أثرى هناك، في شخصيته تجمعت كل الرذائل، استغل فقر أسرة لبنانية مهاجرة كان يعرفها من قبل، وأقام علاقة مع الزوجة، كان الزوج يعرف جيدا هذه العلاقة، لكنه تواطأ على خيانة زوجته مكرها أول الأمر، ثم استساغ سبل الرذيلة، فأوقع زوجة الثري التي تكبره بشراكه وأقام معها علاقة مناظرة، لكنه كان يحس بالقهر، ترصد زوجته وضبطها ذات يوم مع عشيقها الثري، فتقدم نحوه وخنقه، لكنه لم يقتل زوجته، بل انهار عند سرير الضحية باكيا، ويتواطأ الزوجان معا وقد ألفا عالم الجريمة على سرقة ثروة القتيل الموسر، وتمثل روح الميت المخدوع وهي تراقب تصرفات الزوجين المتآمرين، تكتشف الروح مقدار الزيف في سلوك " ناهد " الزوجة التي كانت تظهر لصاحبها من الحب ما لا يخطر في بال، تذهلها هدوء المرأة وحيلتها في تدبير أمر الجريمة وتحويلها الى حادث عارض، وتنتقل الروح الى بيت الزوجين لتراقب سلوكهما. الزوج "ناجي " يضرب زوجه ويحملها المسؤولية وهي تذكره بخيانته لها مع زوج الفقيد، تعجب الروح من أمر زوجة صاحبها في الحياة، ولا تصدق أنها خانته وهي التي كانت تتظاهر بالطهر والعفة توبخ " ناهد " زوجها لأنه يمثل دور الزوج المخدوع، وهو متواطيء معها، يتفقان على إخفاء جواهر الضحية المسروقة والانفاق من نقوده الورقية، ويفصح الزوج لزوجته عن رغبته في تطليقها، والزواج من " كارمن " لاحتياز بقية ثروة القتيل، فتقترح عليه أن يتزوج منها وتقتلها هي، فيرثها ويعود إليها، تذهل الروح من دناءة النفس الانسانية. وتتمثل بشاعة صاحبها حين قبل أن يخون زوجته دون أن يدرك أنه قد يتعرض لخيانة مماثلة. وتقرر الروح أن تتحول الى شبح وتسكن بيوت الناس لترعبهم انتقاما لصاحبها، تتجولى في مدينة الأشباح ا لمناظرة لمدينة الأحياء، فللموتى مقاهيهم وملاهيهم غير المنظورة، تستعد زوجته " كارمن " لسماع تلاوة الوصية، ويرافقها الى المحامي ناهد وناجي بعد أن قدما العزاء بالضحية التي وقعت لأسباب مجهولة كما تشير نتائج التحقيقات.. تذهل " كارمن " حين تكتشف أن زوجها أوصى بكل ما يملك للجمعيات الخيرية وملاجيء الأيتام والعجزة، فقد حرم الجميع الميراث، وكان انتقام الروح قاسيا.. ونفاجأ حين نكتشف أن هذه الوقائع التي وردت في أحداث القصة لم تكن الا هلوسات تدور في ذهن الثري المجنون العائد من المغترب، فقد أودعوه المصح وهو يزعم أنه شبح ضحية، ويتوهم أنه يطوف المنازل، لا أحد يعلم سبب جنونه.. قيل انه عاد الى لبنان بعد اغترابه حاملا ثروته الطائلة ليجد والده في مأوى العجزة يحتضر في لصرير حقير، لقد هزه الإحساس بالذنب والندم، فاختل توازنه وفقد عقله.
ويكتشف القاريء بعد الفراغ من قراءة المجموعة أن قصصها ليست الا امتدادا لكوابيس بيروت، فهي ترصد رحلة اغتراب الانسان اللبناني ومعاناته في الغربة وانهيار قيمه بعد الحرب باستثناء قصة واحدة أو قصتين (وهما قصة.. سجل إني لست عربية.. وقصة: بيضة مكيفة الهواء.. وإن كانتا تنحيان في مغزاهما العام المنحى ذاته..) على أن تغرب الشخصيات كان جادا وقاسيا بسبب تباين القيم والعادات بين عالمين متغايرين هما الغرب والشرق.
لقد جمعت "غادة السمان " بين المتغرب والغرائبية، بمعنى أنها اصطفت شخصياتها من الذين هزتهم النقلة من الأعماق وأفقدتهم توازنهم. فالغرائبية في القصص ليست تصيدا عشوائيا لحالات استثنائية. وإنما هي نتائج مذهلة لواقع مأساوي هو الواقع اللبناني الذي نذرت الكاتبة ""غادة " له قلمها. فقصصها في غرائبيتها ولا معقوليتها تصدر عن الواقع وتوجهه، وتعظ وتقدم العبرة.
وعلى الصعيد الفني فان المجموعة القصصية (القمر المربع ) ترسخ اتجاه "غادة السمان " الفني في تجنب المباشرة في السرد، فالرموز التي تعج بها القصص منحت السرد إطارا مرجعيا غنيا من الناحية الفنية والجمالية. فسبحة الخالة "بدرية " أصبحت رمزا للموروث الاجتماعي في نفس بطل قصة "قطع رأس القط والتمساح المعدني يرمز الى شراسة الحضارة الحديثة بقيمها المادية وقدرتها على التهام الشعوب الأخرى، على أن الكاتبة "غادة السمان " تستطيع بقدراتها الكتابية المتميزة أن تخلق عن طريق اللغة والخيال فضاء قصصيا متألقا، تحتشد فيه الصور ويحفل بالمفارقات التي تقوم أبدا على التقابل بين وضعين نفسيين أو عالمين مفترقين يقودهما الصراع: (علمتني كيف أكل الكركند بالشوكة والسكين وبقية الأدوات الجراحية المعقدة.. وكيف أميز بين العدس والكافيار، وبين السردين والصوبون فوميه، وفي أي درجة حرارة أشرب نبيذي.) أو قول زوجة رئبف عنه (كلما نجحت في عملي كان ديكه الداخلي يتأزم ويتقزم ويصمت مكرها. ) أو قولها على لسان زوجة وفيق (أقرأ على التمثال الأثري الجميل في الواجهة الملاصقة أربعة أشياء يجب أن تتوافر في المرأة: أن تعرف كيف تبدو كفتاة، كيف تتصرف كسيدة، كيف تفكر كرجل، كيف تعمل ككلب لعلي نفذت التعاليم البالية هذه كلها على مدى هور في بيروت، أما الرجل فليس مطلوبا منه أكثر من أن يولد
رجلا. ) بمثل هذه اللغة العفوية والمعبرة والمبدعة تتحدث "غادة السمان " فتمنح النص القصصي شكله الفني الجمالي الذي يعد جوهر الإبداع إضافة الى المضامين الهادفة التي تمزج الحقيقة بالحلم والواقع بالخيال وفق منطق غرائبي ساحر.
ونلاحظ في عنوان المجموعة " القمر المربع " بغض النظر عن الغرائبية.. أن الاختيار مبني على جوهر هذه القصص، فمن المعروف أن القمر والأجرام السماوية ملكت استدارتها من جريها في أفلاكها المعلومة التي لا تحيد عنها فهي مكورة، لكن ا،غادة السمان " تذهب الى أن نفس كل كائن بشري هي أشبه بالقمر الذي يجري في مداره المعلوم فيما إذا كانت النفس البشرية تملك توازنها.
ولكن.. ماذا يقع لو أن النفس البشرية خرجت عن فلكها المعلوم. لأنها فقدت استدارتها المحصلة من الانسجام والتوازن بين الشعور واللاشعور، أو بين الوعي واللاوعي ؟؟
إنها تغدو بسبب تصلبها حبيسة مربع محدود لا يسمح لها بالجريان المنسجم فهي تتخطى مدارها المرسوم الى عوالم الوهم والجنون والمرض واللامنطق، ومن يستطيع أن يتوقع ما يصيب قمرا خرج عن مداره وتجاوز استدارته وضاع في عوالم مجهولة.. ؟
والكاتبة "غادة السمان " إذ تتابع رحلة هذه الأقمار التائهة تريد أن تقول لنا: كونوا أصحاء لتظلوا أقمارا سعيدة لا تتخطى مداراتها، لتتطلع إليكم العيون عند كل شروق وغروب بالحب.
لكنها تقول أكثر لعالمنا اليوم: لا ترهقوا الانسان، ولا تدعوه يتجاوز مداراته ليغرق في التيه والعتمة… لابد من النص للقاريء والناقد، واذا تمت إحالات من النص الى مرجعيته فإن هذه الإحالات إغناء لمخيلة المتلقي ولمنهجية الناقد، غير أن هذه المرجعية للست النص إطلاقا.
إن نصوص "إبراهيم الكوني " تتحول بقدرة قادر (هو الناقد) – فيما أطلعت عليه من كتابات حول هذه النصوص – الى مصدر معرفي فيما يخص الصحراء والطوارق ؛ فالكثير من هذه القراء ات تنصب عما يكشف عنه النص من فلكلور الصحراء واننربولوجيا الطوارق. وهكذا، هي بحث في المرجعية، قراءة تتخلى عن النص بأن تفككه وتحيله الى مرجع.. فهي قراءة لا تضيف ولكنها تنفي النص، وبالتالي تنفي مصداقيتها كنقد. لكنها تنطق مسكوتا عنه حول العلاقة بين هذه القراءة وذلك النص.
ثمة كتابة تحدد زاوية القراءة أو أنها مكتوبة انطلاقا من هذه الزاوية. إن الكتابة التي تحاكي مثلا "ألف ليلة وليلة" في الأدب العربي، هي في الكثير من الأحيان كتابة لقاريء معين، أو انها كتابة لصيغة سردية تدهشى هذا القاريء ؛ إنها "أرابيسك " اللوحة التي تشبع عين السائح. فالسرد "الشهر زادي الذي يهتك الأسرار بإيلاج الحكاية في الحكاية، وإخراج الحكاية من الحكاية، هذا السرد هو نتاج مخيلة قاريء غربي لألف ليلة وليلة، والانصياع لقراءة مثل هذه هو في المحصلة ابتعاد عن الاستفادة من تقنية الحكي في "ألف ليلة وليلة " واقتراب أو دخول تحت مظلة القاريء المنتج لهذه القراءة، وبالتالي اغتراب عن النص بالانضواء تحت نص آخرا يمكنني أن اسميه حكاية شهرزاد؟ لأن شهرزاد في "ألف ليلة وليلةأ غير شهرزاد المعاد إنتاجها عند القاريء الغربي. وهكذا فإن مثل هذه الكتابة تعيد إنتاج قراءة أكثر منها كتابة وإبداعا. ولهذا فمثل هذا النص.
ليس نص الكاتب المبدع بقدر ما هو نص القاريء إنه لا يختلف بصورة مفارقة – عن نصوص الروايات الشعبية التي يكتب الجزء الثاني والثالث من الرائج منها. أي أنها رواية السوق رواية الآخر.
ويقول عبدالرحمن منيف "لقد ظهرت في السنين الأخيرة مجموعة من الروايات الفلكلورية والتي كتبت خصيصا لقطاع معين في الغرب، القطاع المسيطر على النشر والترجمة والصحافة ومنابر الاعلام، من أجل انتزاع ثقته وبالتالي اعترافه، وإذا كانت القاعدة أن نتوجه الى شعبنا بالدرجة الأولى دون أن نخجل من تخلفنا، وأن نخوض في جميع المشاكل المرتبطة بهذا التخلف، فيجب ألا نظهر اعتزازنا بالتخلف أو أن نجعله وسيلة لتسلية الآخر، لسنا غربيين أو عجائبيين ولسنا امتدادا ميكانيكيا لألف ليلة وليلة.
إن عملية الختان.. قد ترد في سياق رواية – كما أن الاشارة الى اللواط أو السحاق إذا ورد في رواية فلضرورات أساسية. لكن يجب ألا تحجب عنا المشاكل الأكثر أهمية والأجدر بالمعالجة، فقط من أجل إدهاش الآخر أو استعراض جرأتنا أمامه "إنها مجرد إشارة استدعتها القراءة الى كتابة تستهدف متلقيا يكون فيها الكاتب أداة انعكاس، مرآة مصقولة تعكس وجه الكاتب كما يتصوره هذا المتلقي، وبهذا يشيء الكاتب ذاته، ينفي ذاته.
إنه الكاتب المحروم من ذاته الذي يروج تصورات الآخرين وأفكارهم عن هذه الذات.
يكتب "ابراهيم الكوني " مرثية الزوال، إنه يعيد كتابة تلك الأساطير المضادة للعار، وبتلك التمائم بالكتابة يواجه الزوال "إن هذه الروايات يرويها آخر الرواة عن الذين ذهبوا في حربهم ضد (رياح القبلى) ولم يعودوا.
إنه يكتب عن آخر ما تبقى من شيء أصيل في الصحراء التي لم تبق من هذا الأصيل إلا أساطير موشومة في الذاكرة أو في كهوف جبال
تاسيلى.
إن مثل هذه الكتابة تاريخ للزوال، تأريخ للامحاء ومواجهة لهما، إنها كتابة على الرمل وبالرمل. كتابة العطب الداخل! تكشف عن أس ار بقيت في السر سكنت الصحراء وأصيبت بجنون هذه الصحراء. فذهبت في هذا الجنون، ضائعة بين الكثبان والسراب والقبلى يمحو آثارها.
إن محاولة اخفاء هذه الأسرار أصابها الوهن وضربها الزوال لهذا أتى الكوني ابنها ابن سلطانها، لنكثر هذه الأسرار في الريح وليكون آخر مقاتل لقبيلة رياح القبلى، يقاتل الموت بالسرد الموصول وبالكتابة لرواية واحدة متعددة الاقنعة:
الخسوف الخماسية، المجوس، الجزاءن، التبر، نزيف الحجر، وكل رواية منها هي كتابة أخرى لنفس الأساطير، الأساطير المضادة للعار بل مراثي الزوال.
ان الزوال في رواية الكوني هو الغريب أيا كان هذا الغريب ومن أين ما أتى، من صحراير في الجنوب أو من بلدة غريان في الشمال، والزوال هو القبول بهذا الغريب أو تداعي الجسد في مواجهته.
ولهذا يبدأ هذا الزوال متى ما انكشفت الأسرار، ان اكتشاف لوحات تاسيلي هو زوال لتسيلي لأن هذه اللوحات صارت ملك الحضارة المكتشفة، لقد فكت رموزها وانكشفت أسرارها ومن لا أسرار له لا قوة لديه، فكل ما لا يخفى عن أعين الغرباء مات.
ولهذا يخفى الكوني أهدافه عن الآخرين لكي يصلها.
بدأ الكوني بالصلاة (الصلاة خارج نطاق الأوقات الخمسة) ليواجه الموت بجلال الحزن لا بالنديب والعويل وشق الخدود انها صلاة الغائب، وفي قصة "الى أين يا أيها البدوي ؟الى أين " صرخة في شكل تقرير يكشف الزوال الكامن في حالة البدوي الذي باع الجمل وترك الصحراء.
ثم نمت شخصيات القصص القصيرة تلك لتشكل لحمة الروايات ولتبدو شخصيات هذه الروايات كشخصيات سرابية وأصوات زائفة فهي أقنعة لشبح، مطاردة يتعقبها الموت أو سكن الموت ردفها وان كانت تقاتل بعناد وفروسية صحراء شرسة إلا أن سلاحها شاهد قبرها.
إن نمو الشخصية هو فناؤها فهي تقاتل لكي تندس في صندوقها.. نفسها، شخصيات تعطي العالم ظهرها ليظهر العطب الداخلي، لأن المواجهة عند شخصيات الكون تعني الانسحاب وتحدث بمجرد أن تخرج من صندوق الرمل الصحراء، وهكذا ا لمفارقة (الكونية) ان الجمود هو وسيلة البقاء وان الانسحاب هو وسيلة الدفاع وان الصحراء هي المتراس الأول والأخير هي المهد/ القبر، وان كل دخيل على هذه الصحراء هو الوباء هو الاضمحلال والزوال. انه غريب وكل غريب / عدو.
وعندما تشهر الصحراء الصديق العدو سلاحها الفتاك، الجفاف ويواجه بطل الكوني الموت فانه لا يستسلم للصحراء لتطعنه بهذا السلاح الخارق، انه حين يصل البئر عاريا ولا يملك أي وسيلة للدفاع، للوصول الى الماء لمبارزة الصحراء، فانه يرفع سلاحه الخاص والأخير/ الموت، فيرمي بجسده في البئر. انه في مطاردته المستميتة للغزال يمسك بالزغب.
ثمة احساس عميق باللاجدوى وتاريخي بالعقم.
ويبدو الكوفي ممسوسا بالحكي وبأنه راوي القبيلة، ولهذا لا يعير الزمن أي اهتمام فهو يروي أساطير وخوارق وطبيعة جن، فيها المكان هو الزمن الداخلي للشخصيات ولهذا فللرواية بداية وعقدة وخاتمة لكن ليس للبداية مكان. وقد تكون الخاتمة في الوسط وقد تولد الاشارة حدثا من حدث فتولد حكاية وقد يستغرق الحدث لحظة أو عقدا من الزمن. ان الموت لا زمن له ولكن له شكل / مكان هو الصحراء. إن الكوني يقسم روايته الى أقاصيص لها مفتاح هو الخلاصة، هو الحكمة الكامنة في الفصل أو القسم، هو بيت القصيد، وفي هذا عودة الى الرواة الشعبيين الذين يستخلصون العبرة في الجزء المحكي – كل ليلة – من حكاياهم.
ا – رواية: التبر (التبر: بالكسر: الذهب والفضة، أو فتاتهما قبل أن يصاغا. فإذا صيغا: فهما ذهب وفضة، والتبر -بالفتح -: الكسر والاهلاك. كالتبتير فيهما. والفعل كضرب.
والتبار: الهلاك. والمتبور: الهالك وتبر – كفرح – هلك )
"الحرف الثالث: حرف القاء، مختار القاموس الطاهر أحمد الزاوي – الدار العربية للكتاب 1978 ".
… قطع الوصل بحرف ضامر…
* "- هل سبق لأحدكم أن شاهد مهريا أبلق ؟ "
"لا، لا، لا. اعترفوا انكم لم تروه ولن تروه ".
بهذا المنولوج نلج (التبر) وبهذه الاجابة القطعية تروى الرواية، اننا لم نشاهد هذا المهري الابلق ولن نراه.
فاذا كانت هذه أول رواية -على حد علمي – حول العلاقة بين الحيوان الناطق (الانسان ) والحيوان الابكم (الجمل )، فهل حقا لم نر هذه العلاقة البتة؟
إن الجمل هو الحيوان العربي أو هكذا وسم في تصورات الآخرين.
واذا لم يكن كذلك فان الجمل هو حيوان ديوان العرب أي أننا سبق – كما في حياتنا – ورأينا الجمل يشكل ويشاكل مخيلتنا.
لم نره في صيغة سردية من قبل وبالتالي لا مثيل لهذا المهري الابلق، ولكن العرب صاغوا حيوانهم بأشعارهم، منذ أن وجد العربي في الناقة ملاذ قوة غريبة.
يقول ثعلبة بن صعير المازني:
واذا خليلك لم يدم لك وصله
فاقطع لبانته بحرف ضامر
ان العلاقة بين الشاعر العربي وناقته، علاقة القوة في مواجهة الوحدة، والناقة كما يشير ثعلبة البديل القائم لبقية العلاقات. ان الناقة ليست وسيلة اتصال بل هي عند الشاعر الوصل ذاته، فالناقة هي حيوان الصحراء وفيلسوفها، هي رمز القدرة والبقاء، فهي الحركة والثبات وهي الصبر والغدر.
بل إن ناقة الشعر العربي هي سراب الصحراء، معادل الشر، الشعر الذي هو الوجود من حيث هو قوة فاعلة والشعر الذي هو نتاج الجن فهو قوة من خارج الشاعر في نفس الوقت.
هكذا يبدو أن:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
هي حديث طرفة بن العبد عن المرأة الذي لا يحقق فكرة الصلة والاندماج قدر ما يحققه حديث الناقة، لأن الناقة أرفع عند طرفة من الجنس وأكثر سموا من الانسان، فناقة طرفة هي المناعة عن الآخرين.
لكن اذا كان طرفة قد جعل من ناقته قرينة والقرين كما تقول القواميس هو زوال الوحشة ووضوح القصد والدخول في قلب الآخر وهو ا لمصاحب والشيطان المقرون بالانسان لا يفارقه، فالسؤال: لماذا وجد طرفة شبهه في الناقة؟
يقول طرفة في معلقته:
وما زال تشرابي الخمور ولذتي
وبيعي وانفاقي طريفي ومتلدي
إلى أن تحامتني العشيرة كلها
وأفردت أفراد البعير المعبد
إن طرفة أفرد عن القوم الذين انفرد عنهم وهو الذي كان يعيش معهم في ظاهر الأمر غير انه ليس منهم، ولهذا فتمرد طرفة عن العشيرة ليس هو المقدمة لافراده كبعير أجرب، بل هو النتيجة. لأن لطرفة الشاعر ذاتا تجنح للانفصال فلا تقبل إلا ما تريده، وما تريد المستحيل. طرفة يعاني مشكل الموت الذي يغفل عنه الآخرون:
فان كنت لا تستطيع دفع منيتي
فدعني أبادرها بما ملكت يدي
إن تفرد طرفة جنوح لمواجهة مستحيلة، فهو يرى الموت ساكنا في السكون في الارتكان والارتهان للثوابت، والعشيرة ثوابت ساكنة، بنيت بأوتاد تضرب في الأرض.
لهذا يمضي طرفة الى الطرف الآخر الى الناقة.
وإني لامضي الهم عند احتضاره
بعوجاء مرقال تروح وتغتدي
إن ناقة طرفة هي القرين الذي يركن اليه دون أن يسكن اليه، انه في عدو معه في مواجهة عدو يكمن في المكان، وهي تستوعب البناء والتشييد مثل قنطرة الرومي دون أن تكونه. إنها الملجأ الأمين الذي لا يأمن من الموت لأنه الموت ذاته ؟
أمون كألواح الاران نصائها
على لا حب كأنه ظهر برجد
إن الناقة هي الوقاء والاحتماء مثل الباب المنيف الممرد، وبيوت الوحش في أصول الشجر:
كقنطرة الرومي أقسم ربها
لتكسفن حتى تشاد بقرمد
إنها قنطرة وجناح النسر، السقف المسند والظهر العالي وهي الكهف الذي ذكر في معرض عظام العينين. ان طرفة يواجه قدرا متمثلا في ثبوت الآخرين وسكونهم ويواجه هذا القدر بالناقة بيت الوحش، الكهف:
على مثلها أمضى اذا قال صاحبي
ألا ليتني افديك منها وأفتدى
ويخال طرفة نفسه يمسك بزمام الموت وهو يمسك بلجام الناقة ويخال انه في تابوت حصين وهو على ظهرها لأنها عنده ملاك الموت الذي يسير به حثيثا إليه. ولهذا فناقة شعر طرفة ليست من ناقة الناس كافة إنها كناقة صالح التي في عقرها الريح الصرصر غير أن ناقة معلقة طرفة حمالة الموت:
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى
لك الطول المرخى وثنياه باليد
الاشارات لغة الرواية
* التبر تقول في القراءة الأولى انها رواية الابلق وان الانسان بهيمة يقودها القدر الذي يمسك بسوطه التبر.
سندخل في حوار معها حول هذا القول وحول الكيفية التي تم فيها القول:
زعيم قبائل آهجار القبائل العريقة التي تستوطن جنوب شرق الجزائر يقدم مهرا صغيرا هو الابلق هدية لاوخيد ابن شيخ امنغساتن سليل اخنوخن العظيم زعيم آزجر شيخ قبيلة امنغساتن في القرن التاسع عشر الذي لعب دورا رئيسيا في صد الغزوات الفرنسية التي كانت تستهدف التوغل في الصحراء الكبرى.
الهدية مهر ابلق،رشيق،ممشوق القوام، نبيل، شجاع،وفي جمال متعال، فناؤه كامن فيه لانه متفرد، يسمى في صيغة المفردة المكتفية بذاتها في صيغة الوصف لا صيغة الاخبار.
الهدية / الابلق رسول – مثل الودان في رواية نزيف الحجر – وهو النصف الالهي الذي انقرضت فصيلته منذ مئة عام. الابلق المنقذ والروح التي بعثها الله، رسول النجاة، سفينة الحرية.
هذا ابلق التبر الخلاص المستحيل الذي يزول بالتبر.
هذا الابلق هو المعشوق الأول… ثم الأخير لاوخيد، انه السر الذي يجب اخفاؤه عن أعين الغرباء "رأى صداقتهما في الزمن الأول، قبل أن يولدا، قبل أن يكونا نطفتين في رحم الأمهات، قبل أن يكونا خاطرا، عاطفة في قلوب الآباء".
انه السر في الرواية حيث الراوي هو الابلق وضمير الغائب هو أوخيد، والسرد يبدأ بجملة اخبارية مقتضبة حول هدية زعيم آهجار ليدخل في منولوج لاوخيد حول الابلق (في صورة السائل والمجيب )،لينتهي بالرواية لوصف دموي عنيف لمقتل أوخيد في لغة تستعمل المفردات الصوفية لتضيف غموضا شفافا حول علاقة "حياة العاشقين فيها الموت ". واذا تابعنا الرواية كبناء فنلاحظ انها دائرة مغلقة فيها، النهاية تكمن بالبداية وان كان السرد يأخذ مسارا تصاعديا للحدث رغم الانكسارات المقصودة في وتيرة هذا التصعيد، ورسم الدائرة كالتالي:
البداية:.. هدية – عشق – انفصال
الابلق… عشق – مرض – اخصاء
نذر – شفاء – رهن
أوخيد… عشق – تمرد – جوع
رهن – انفصال – هدية
الخاتمة… هدية – موت
* ان الابلق يكشف لاوخيد عن ذاته فيحدث هذا العشق الذي يصير انفصالا:
"ماذا سأفعل في النجع الموحش مع هؤلاء الوحوش بدون الابلق.".ولقداكتفى اوخيد بنفسه، اكتفى بالابلق. وسنلاحظ أن الاطراف الأخرى أشباح الرواية وانها لا وجود لها حيث صار الابلق هو الوجود،انه هوية اوخيد. انه الجمال الذي لا يعادله أي جمال حتى ولو كان جمال آلهة تانيت.
واذا كان عشق أوخيد لهذا الجمال يؤدي الى الانفصال فان عشق الابلق يؤدي الى المرض الذي ينتهي بالاخصاء. انه سلالة قدرها الانقراض.
غير أن شفاءه من هذا المرض يتم بزهرة الجن، نبات ( أسيار) أو السلفيوم كما يشير الكاتب في الهامشى والسلفيوم نبات يشفي من كل الأمراض كما تشير كتب التاريخ وانقرض في ليبيا منذ العصر الاغريقي وكان المحصول الذي عرفت به البلاد آنذاك أي أنه نفط ذلك العصر.
وقد أشار الى علاج الابلق من الجرب بنبات آسيار الفقيه المتصوف موسى الذي قدم من المغرب الأقصى وأحد أتباع الطريقة القادرية، ويتم التخلص من آثار هذا النبات (زهرة الجن ) أي الجنون عن طريق النذر للاله الصحراوي القديم الذي فك شفرته في ابجدية التيفناغ أحدالسحرة الأفارقة.
هكذا فان العلاقة بين اله التيفناغ والساحر الافريقي وآسيار (السلفيوم ) المتصوف موسى والنذر هي التي كانت وراء الشفاء.
ولكن الثمن الأول لهذا الشفاء تيه أوخيد في الصحراء حتى يصل حافة البئر وحافة الموت ليتم انقاذه.
لكن الابلق الذي تم شفاؤه يقدم كرهن لفك أسر امرأة وابن أوخيد من جوع الصحراء،واذا كان عشق الابلق للناقة نتاجه الجرب فان عشق أوخيد لحسناء أيربلاد السحر والسحرة – "الصحراء الواقعة بين مالي والنيجر ونيجيريا" – يؤدي الى تمرده على أبيه الى لعنة الأب وفي "اللعنة أيضا يوجد سرأ أنها"تدفع الى المنفى والنجاة في المنفى.وهذه اللعنة هي التي تستخدم سكين الصحراء الجوع.
إن أوخيد يعطي بظهره لعالمه،ففي الوقت البن ي يقتل فيه أبوه على أيدي الغزاة الايطاليين يدخل الواحة التي جميع سكانها عبيد لأنهم الفلاحون الذبيى "الله وحده يعلم ماذا يجول في رؤوسهم ".
إن الصحراء تطبق حصارها بجيوش الجوع على الواحة مستخدمة أدوات فعالة:
" الوهق: الزوجة المقدسة… الملاذ " الدمية: الدرية، الخلف "الأبناء حجاب الآباء الأبناء فناء ألآباء " المهدي المنتظر
* الوهم الكاذب: العار، أساطير الأولين.
وليس من فكاك من هذا الحصار الا بالرهن، الابلق رهينة ابن أير (دودو) التاجر صاحب التبر وابن عم الوهقة الزوجة المقدسة. ابن أير يريد استرداد ابنة عمه، محبوبته بالحيلة ومن أين للبدوي اوخيد ان يعرف الحيلة: الابلق أو الوهن والدمية وأساطير الأولين: "هذا عار لم تسمع بمثله الصحراء من قبل حتى أكثر العبيد عبودية لم يبع زوجته مقابل حفنة من التبر".
ان التاجر دودو ينهي اسطورة البدوي اوخيد بهدية، حفنة تبر.
فالتاجر الايري يدفع ثمن افتكاك ابنة عمه،لا شيء بدون مقابل، فالتاجر يتاجر بجوع ابنة عمه وابنها التي "جاءت من آير مع أقاربها هربا من الجدب الذي حاق بتلك الصحراء في السنوات الخمس الأخيرة".
(الذهب هدف كل انسان منذ أن يولد الى أن يموت باستثناء الفاشلين والدراويش ).
– ولكن يقال انه ملعون ويجلب الشؤم.
-ماكان ينبغي أن ترهن مثل هذا المهري لدى غريب، فمثله يخفى عن عين الغرباء.ولكن ما فات مات.)
* الموت كامن في الهدية. الابلق تلقاه هدية،التبر تلقاه هدية بعد أن فك رهن الابلق، التبر عار، الهدية عار، العار الوهم الكاذب أساطير الأولين:
قيم الصحراء النبل والفروسية والصبر. العار ألم القلب "ليس في الدنيا مخلوق أضعف من الجمل في تحمل ألم القلب ".
لم يستخدم الكاتب تكنيك الحلم الا حينما واجه اوخيد الموت حيث أتاح هذا التكنيك للكاتب ان يكشف العلاقة بين اوخيد والفضاء الذي يتصل بالابدية، بالآخرة.
ان ثالوث الحلم / الموت: الظلمة، السقف المهدد بالانهيار، الكائن الخفي يكشف ويكشف عن ثالوث اوخيد: العراء، الافق،الفضاء وثالوث عقل اوخيدة:
الاسلام الصوفي (القادرية)، الوثنية (تانيت ) قيم وتراث الصحراء "في النهار رأي رسوم الأولين،كان الجدار العمودي للشقين مزينا بالصور الملونة".
إن أوخيد يهرب للحلم أو الحلم يأخذه اليه حين مواجهة الموت، حين كاد اوخيد أن يغرق وهو صبي "رأى في الحلم جمرات الموقد تسبح فوق ماء وفير دون أن تنطفيء،ثم وجد نفسه يسبح بجوار الجمرات المنطفئة، فاختلط الحلم بالحقيقة لما صحا من نومه "، وكذلك حين ذهب أوخيد الى نصب المجوس من أجل انقاذ الابلق من الجرب، في الليل، توسد الحجر ونعس، رأى الابلق يغرق في الوادي، كما يتوسد الليبيون القدماء – وحتى الآن – قبور آبائهم لأجل الرؤيا والشفاء من المرض.
* اذا كان التبر يجلب الشؤم فانه يجلب العار أيضا وهنا يكون لابد من القتل، ان اوخيد يقتل دودو لكي يقتل اوخيد، وموت أوخيد ليس مثله شيء،لأنه موت الكشف أي الخاتمة التي هي رسم البداية، هدية زعيم اهجار، الابلق الذي انقرضت فصيلته منذ مائة عام والذي تم اخصاؤه.
ان الموت يحاصر اوخيد في شكل رجال يبكون من أجل الحصول على الغنيمة واذا بكى رجل في الصحراء طلبا لشيء فلابد أن يناله يوما، وفي الجبل آخر ملاذ للخلاص، وفي كهف يرى رسوم الأولين رسوم تسيلي حيث يطارد الصيادون الودان، وفي هذا الكهف "نام جالسا ثانيا ركبتيه الى صدره " نام نومة الجنين في رحم أمه.
هكذا كشف له الموت انه عاش محاصرا، سجينا مخنوقا لأنه مقطوع والويل للمقطوع ان "الحمادة الآن مطوقة بالغزاة الطليان ينتهكونها من الشمال وقبائل آير تنتهكها من الجنوب ". وكشف له الموت انه لم يحي لأن "الانسان قادر ان يحول حتى صحراء الته الواسعة الى سجن ابشع من سجن القائمقام التركي الذي رأى اطلاله في (أورار)،وكشف له الموت أن الابلق هو الخلاص المستحيل، فآثار الابلق هي التي تهدي الاعداء الى مقر اوخيد. وكشف له الموت انه أخطأ حين "أودع قلبه لدى صديق، لدى الابلق، فلحقته اليد الآثمة، يد الانسان ".
إن الخاتمة هي الحلم الذي عذب اوخيد منذ طفولته وصباه، و"عرفه قبل أن يرى بيتا مبنيا، قبل أن يزور الواحة، وثالوث الحلم هو الظلمة، السقف المهدد بالانهيار لكائن المجهول.
ان الموت يكشف لأوخيد أن الظمة هي حياته وان السقف المهدد بالانهيار هو الابلق، أما الكائن الخفي فانه ينكشف ولكن بعد فوات الأوان لأن اوخيدمات.
مات اوخيد مقسوما بين جملين قويين فيما أخذ ورثة دودو رأسه الذي "لن يستطيع الان أبدا أن يحدث أحد بما رأى"، لكنه الرأس الكافي لأجل أن يحصل ورثة دودو على التبر.
ان اوخيد آخر الاساطير لأن اوخيد اتخذ من الابلق ملاذه والابلق سلالة انقرضت. لقد خيل لأوخيد ان الجمال والحرية في الابلق ولم ينتبه الى ان الابلق قبل أن يخصى هوآخر سلالة المهارى التي من يملكها ا"لن يشكو من نقص القيم النبيلة" ولكن من يملكها ميت لا محالة ومنقرض مثلها.
إن أوخيد لم يعط ظهره للعالم ولم يهرب من مواجهة الغزاة ولم ينفك عن مهام القبيلة حين جعل الابلق الأجمل والأنبل بل فعل العكس لأنه بهذا الانضواء كتب ملحمة الزوال. لأن الصحراء لم تعد هي الصحراء ولا القبيلة هي القبيلة، لقد مادت الارض تحت اقدام اوخيد ولم يكن يمكن لاقدام الابلق ان توقف هذا الزلزال.
* اننا أمام عمل روائي يتميز ببنية الحكى التي تهتم بتفاصيل الحدث والتي – تستبعد وصف جمالية المكان لصالح جمالية النفس، والحكاية كبنية تتناسل كما عرفناها في الف ليلة وليلة، ومن هذا التناسل يتم نسج حوار داخلي مستمر يكشف من خلاله الراوي شخصية اوخيد فيما بطل الرواية هو الابلق، هو حوار اوخيد، لأن الابلق هو الراوي المسكوت عنه، فالكتابة في رواية (التبر) تدور حول حيوان وهي تنطق هذا الحيوان، الجمل الحيوان الكتوم، فالابلق في الرواية ليس فقط بطل الرواية الفعلي ولا هو الراوي وحسب بل ان الكاتب ابراهيم الكوني يجعل منه أسلوب نسج خاصا للرواية حيث نلاحظ أن الرواية تخفى اسرارها عنا ولا تنكشف هذه الاسرار الا في حالة تدفق فجائي يأتي به السرد كالسيل العرم و غضب الجمل الذي يفصح عن مكنوناته.
انه عمل يتميز بالكشف عن العلاقة بين الصحراء الكائن المسكوت عنه في الحدث،وبين الجمل،ككائن يسيطر على جسم العمل الروائي، وبين اوخيد المفعول با لكائنين.
هكذا يبدو أن الثالوث هو سمة لعمل الكوني المأخوذ بمثلث تأنيت والمأخوذ باعادة كتابة الاساطير التي تحكيها مخيلة جموحة ولكنها معقلنة بزمانها، زمن الاسطورة. ان هذا العمل يحدد العلاقة بين الانسان والطبيعة، الطبيعة التي أعطيناها ظهرنا مقابل حفنة التبر.
تبقى ملاحظة أن اوخيد عاشق الابلق يعيد اسطورة امريء القيس عاشق الخمر الذي قتل أبوه وهو يعاقرها فيما جاء الغزو الايطالي للصحراء ومقتل ابي اوخيد على ايديهم ليكشف ان اوخيد اللامنتمى الصحراء هو طرفة العصر.
عبداللطيف أرناؤوط (كاتب سوري)