كنت أنهي كتابا عن الرئيس – الشاعر السنغالي ليوبولد سيدار سنغور عندما بلغني خبر وفاته, وهو كتابي الثاني عنه, وبعد لقاءات عديدة جمعتني به, ترقى في أبعدها الى عشرين سنة بالتمام والكمال. إلا أنني تحققت, في استرجاع لذاكرتي, من أنه غاب عني منذ وقت بعيد, قبل أن أعرفه أساسا. غاب وراء نظارته السميكة, وجلدته المعتمة, واستقامة رقبته على كتفيه التي تجعله قلما ينظر الى أعلى أو أسفل, بل أمامه وحسب, غاب بعد أن أخذه الشعر, بل خطفه من أمام عيون غيري, قبلي.
وهو لم يغب واقعا عني في لقاءاتي العديدة معه, بل كنت أمني النفس دوما بمعرفة أشد له, لما تضج به هذه النفس من اعتمالات وشجون, من دون أن يبلغني منها سوى هذه الوقفة المهيبة, وهذا النبل الانساني العالي والمترفع في آن.
في المرة الثانية أو الثالثة, وكنت على موعد صحفي معه في طنجة, تأخر عن الموعد الموعود, إلا أن عاملة الهاتف أبلغتني قبل ميقات الموعد بتأخره, على مأدبة غداء رسمية, كما وصلت دراجة نارية رسمية الى الفندق تبلغني بوصوله القريب. يومها لم أتحقق كثيرا من انضباطية سنغور اللطيفة لأنني كنت مشغولا بأمور عديدة وملحة, وضاغطة مثل رطوبة طنجة الشديدة, وأنا متمنطق بربطة عنق تضيق على خناقي, من دون أن أقوى على التخلص منها قبل نهاية الموعد الصحفي نفسه. وزادت منغصاتي, يومها, إذ كان علي الاستعانة بمصور فوتوغرافي من المدينة, اكتشفت قبل دقائق من المقابلة بأنه يدير محلا للتصوير غير بعيد عن الفندق; وكان عليه بين دقيقة وأخرى أن يعود إلى محله, بل كان علي, أنا, أن أتفقده في محله بين دقيقة وأخرى. فبات اللقاء بسنغور أشبه بالضائقة, لا بالصيد الجميل والثمين, وبات علي أن أتخلص من هذه المهمة, الثقيلة بالتالي, فكيف إذا تعطلت آلة التسجيل ما أن باشرت بالمقابلة نفسها! يومها, مد سنغور يده الحانية إلي, وأتبعها بجملة للتخفيف من جزعي, فانتبهت إلى لمعان مضيء خلف نظارته, وإلى أن سنغور نطق جملته ببطء شديد, متوقفا عند مخارج الأصوات كلها, بعناية حانية ومترفة في آن بكل حرف من حروفها.
لم يتخلف عن موعد في لقاءاتي العديدة معه, بل توقعت تخلفه عن واحد, عندما وصلت الى الرباط قبله, لتهيئة اجتماع الهيئة التنفيذية للمنتدى الثقافي العربي- الأفريقي مع أمين عام المنتدى الوزير محمد بن عيسى, بعد أن بلغتنا الأخبار بأن ابنه قضى.. انتحارا. يومها وزير الدولة المغربي مولاي أحمد العلوي خفف من روعنا, الوزير بن عيسى وأنا, وأجابنا: سنغور لا يتخلف عن موعد! فعلا, لم يتخلف سنغور عن الموعد, إلا أنني قضيت معه اجتماعات الهيئة التنفيذية على مدى يومين- بعد أن تم تكليفي بمهام الأمانة العامة للهيئة التنفيذية- من دون أن أقوى على النظر إلى عينيه.
إلا أنني نظرت إلى عينيه طويلا في مرة أخرى, في مطعم قرب ؛الصخيرات« في ضاحية الرباط, بل انتبهت إلى لمعانهما الشديد, عندما شرع الوزير العلوي في الغداء في رواية أخبار تنافسهما معا- وهما طالبان في (السوربون)- على خطب ود طالبة برازيلية مشيقة, فكان أن خسرها الاثنان.
غاب سنغور عني من دون أن يختفي تماما من حياتي, إذ أنني أمضيت معه لقاءات متجددة, أخرى, عبر الاوراق, عبر الشعر, الذي يجمعنا ويبقى بعدنا, إلا أن هذا الأمر ليس بالهين, وقد واجهتني صعوبات جمة في عمليات ترجمته, طبقا لما تعنيه »الترجمة«, لو عدت إلى معانيها المشتقة من اللاتينية. ففي هذه الأصول أجد التعريف التالي, وهو أن الترجمة تقوم على »الذهاب بالشيء إلى أبعد, على تمريره, على (تدبير) اجتيازه«. ذلك ان الترجمة ليست بالعملية الهينة, وإنما الصعبة التي تتطلب مقادير من العمل, قد لا تكون كافية في منتهاها.
هذا ما عرفته في ترجمة سنغور خصوصا, إذ كان لي أن أواجه معضلات العبور بين لغة وأخرى, ليس بين الفرنسية والعربية وحسب, وإنما بين فرنسية قديمة في بعض مفرداتها, وأفريقية خصوصية في بعضها الآخر, معطوفة على استعمالات مبتكرة في بناء العبارة, مستندة إلى تجارب السوريالية في عمليات الاسناد الحرة والمبتكرة.
ففي قصائد سنغور أقع على سجلات من المفردات المكونة- لو أجمعها- لـ »تاريخ طبيعي« لأفريقيا, إذ تتضمن القصائد في مفرداتها سجلات عن نباتات أفريقيا والسنغال, ومعادنها, وحيواناتها وغيرها. وهو ما وقعت عليه في المفردات الأخرى كذلك, إذ عدت في بعض الأحيان إلى أكثر من قاموس »تاريخي« للغة الفرنسية, أو إلى قواميس عن التراكيب القديمة, أو إلى استعمالات وتراكيب لاتينية, أو إلى ألفاظ مستقاة من لغات سنغالية مختلفة, ولا سيما من ؛الولووف« لكي أتوصل إلى ترجمتها, غير أنني لم أنجح في بعض الأحيان في العثور على بعض هذه »الفرائد اللغوية« مما جعلني أمتنع في عدد قليل منها عن ترجمة بعض المقاطع. بل وقعت في أحيان عديدة على تراكيب شديدة »الحذلقة« تبعا لأثر بين مستقى من التجارب السوريالية, على ما تحققت, ولا سيما في جعل الصفة قبل الموصوف, أو في تبعيد صلات التشابه التي تبنى عليها الاستعارة. وتأتت الصعوبة في أحيان أخرى, غالبة, من إيقاعية المبنى التركيبي, حيث إن سنغور يحذف في أحيان كثيرة أدوات التنقيط الدالة على علاقات الترابط, علاقات المعنى بالتالي, في الجملة, ما يبلبلها, ما يجعلها ؛زائغة« في صورة عمدية, ما يقيم المعنى في تردد مشع ومحير في آن. ذلك أن سنغور طلب من الجملة إيقاعها, المتلاحق, المتعالق, وفي النفس أحيانا, إلى هذا, ضم ن سنغور قصائده ألفاظا عديدة من لغات السنغال الشفوية, فأجريت ترجمتها مباشرة, مستندا إلى هوامش سنغور نفسها في الطبعة الفرنسية التي عدت إليها.
غير أن صعوبة قصيدة سنغور تتأتى قبل ذلك كله, من الحذف الشديد الذي تبنى عليه, ومن التجريدية التي تنتهي إليها بالتالي بعد أن تتم ترقيتها, وفق هذه العملية, من ملموسيتها الشديدة. فقصيدة سنغور ملموسة, حسية, تقوم على تناول حسي للعالم والأشياء والكائنات, إلا أن هذا التناول يفقد أحيانا, بفعل الحذف الشديد, بعض ما كان يحيل إليه أو يعينه, فيصعب ؛وصول« المعنى, فكيف ؛تمريره« و؛اجتيازه« للغة إلى أخرى! قصيدة صعبة الوصول بالتالي, ما يجعل عمليات الترجمة محفوفة بالمخاطر الكتابية الجميلة, بل محفزة أيضا.
وهكذا يكون الوداع تجديدا للقاء.
أناشيد أخرى
(مقاطع)
وراء أية ليلة عاصفة منذ ثلاثة ايام يختبئ وجهك?
وأية ضربات رعدية جعلت هذا القلب, قلبي, ينتفض من سريره
عندما ترتجف جدران صدري الواهية?
أرتعد من البرد, أسيرا في فرجة الندى
آه! تاهت خطواتي في مواطئ الغابة الخادعة
أهي العارشات, أهي الأفاعي, تعوق خطواتي?
أنزلق في حفر الجزع, وصراخي ينطفئ في حشرجة مائية.
ولكن متى أستمع الى صوتك, إلى الحبور المنير للسحر?
متى أتمرى في المرآة البشوشة لعينيك الفسيحتين مثل خليج?
وأي قربان يريح القناع الأبيض للآلهة?
أهو دم الدجاج أو الجدي أو دم شراييني المجاني?
أهي تباشير نشيدي في وضوء عزتي?
قولي فقط الكلمات المواتية
هذا المساء, يا حبيبتي, وجهك سماء من مطر تجتازها خفية أشعة عينيك,
أوه! نهيم خراف البحر صوب »كاتاماج«! حين كان يزلزل القرى الليلية
الدجاجة البيضاء وقعت على الجنب, وحليب البراءة اعتكر في القبور
الراعي الأمهق رقص على (إيقاع) طام- طام احتفالي لموتى السنة.
الأسياد بكوا في »دياخاو« ولكن أي أمير رحل صوب حقول الهاجرة?
كيف النوم هذا المساء تحت سمائك التي تنغلق? قلبي طام- طام مرتخ من دون قمر.
لا أعرف في أي وقت كان ذلك, أخلط دوما بين الطفولة و(جنة) عدن
مثلما أجمع الموت بالحياة- جسر من النعومة يربط بينهما.
ذلك أنني كنت عائدا من »فا أوي«, بعد أن ارتويت من القبر الاحتفالي
مثل خراف البحر إذ ترتوي عند نبع ؛سيمال«.
ذلك أنني كنت عائدا من »فاأوي«, والرعب في ذروته
وكانت الساعة التي نرى فيها »الأرواح«, عندما يكون الضوء شفافا
وكان من اللازم الابتعاد عن الدروب, لتجنب أياديهم الأخوية والميتة.
كانت روح قرية تخفق في الأفق, أكانوا أحياء أم موتى?
؛لتكن قصيدتي السلمية الماء الهادئ على قدميك ووجهك
وليكن ظل فناء بيتنا طريا على قلبك«, قالت لي.
أياديها الناعمة أعادت إلباسي الوزرة التي من حرير واعتبار حديثها سحرني بأطباقه الشهية- نعومة حليب منتصف الليل
كانت ضحكتها أكثر ايقاعا من »خالام« شاعرها الجوال
نجمة الصباح أتت تجلس بيننا, وبكينا بمتعة
– يا أختي البديعة, احفظي إذن حبات الذهب هذه, ولتنشد الألق المعتم لحنجرتك.
كانت لخطيبتي الجميلة, وما كانت لي خطيبة.
– يا أخي المنتخب, قل لي ما اسمك, يجب أن يرن عاليا مثل »سورونج« ويلمع مثل سيف بوهج الشمس. أوه! انشد اسمك فقط.
قلبي صندوق من الخشب النادر, رأسي رق قديم من »دجينيه«.
انشد فقط نسلك, ولترد عليك ذاكرتي.
لا اعرف في أي وقت كان ذلك, أخلط دوما بين الحاضر والماضي
مثلما أجمع بين الموت والحياة- جسر نعومة يربط بينهما.
لو كان في مقدوري سحب قلبها, مثل صياد فوق الشاطئ المستوي
لو كان في مقدوري سحب قلبها من حبل سرتها.
مديد لكنه مديد هذا الأسف عند بوابة الجنوب- لا تشفقوا على اعتزازي.
متى الابتهاج بصياح الشحارير المعدني, بالأقدام الهادرة في الغيوم?
أنا المستنقع بطول الفصل. لا توجد يمامة تشرب الحب فيه.
إنها ثمرة (شجرة) »السبوتة« تقرض دود الغياب.
التحية لاسمي فقط على الجناح الأبيض للنورس
وأهدي بيد من عنبر الجموح الكبير لصدري.
غائبة غائبة, أوه أيتها الغائبة مرتين فوق الجفاف المتجمد
فوق جليد الورق العابر, فوق ذهب الرمال الابيض حيث ينبت الشعير وحده.
غياب وغياب وعيناك السهميتان عابرتا آفاق البلق
الآفاق الخضراء للسراب, وعيناك المترحلتان عن أسلافك البعيدين.
بات ذيل الصوف على الكتف الضيق, مثل السهم الذي تحدى الحيوان الأصهب بات خوذة زرقاء تتكسر عليها حربات حبي.
استمع الى دمك الذي يقرع طام- طامه في صدغيك الايقاعيين الواخزين
أوه! استمع- وأنت بعيد للغاية وراء الكثبان الخمرية
استمع إلى العيون التي ترتجف, حين يقفز فهدك أحمر
استمع إلى اليدين الصوتيتين, مثل الموج على الشاطئ.
أما عاد جاذب عيني يمسك بك بقوة أكبر من نشيد الحوريات?
آه! أكبر من نشيد المنطلق? قل بنار الأدغال صوت الحبيب
غائب غائب, يا غائبا مرتين مظهرك الجانبي الذي يظلل الأهرامات
منقار لا جدوى منه عصفور عديم الجناح, أنزلق على طول وجهك الشفاف.
كنت تنزلقين على طول يدي, قبلاتي, في غموض ما بعد ظهر عاصف
أقواس زيتية وسمك ضاحك, نهر هارب له يدان من قصب لا جدوى منهما.
تعب رأسي, خليجي! لست سوى صورة فوتوغرافية ترتجف
منظر رطب في ؛جزيرة باريس« التي لها ابتسامة ذات أزرق منقض.
هكذا صور الموتى, أقول الموت بعيدا عن أوجاع الرأس.
فلا أدهن بمر ذراعيك, ولا بزيت وجهك
فأموت من دون وداع, ولا أشرب حليب النهار!
لو كنت في هذا الوقت الضوء الذي ينام على أشكالك المتموجة في منحوتتك
الضوء الأخضر الذي يحيلك ذهبا , الذي يجعلك شمس ليلتي الرائعة..
أناشيد للسيدة
(مقاطع)
يد من ضوء داعبت رموشي التي من ليل
وابتسامتك ارتفعت فوق الضباب الهائم رتيبا فوق نهري
قلبي رد صدى النشيد البكري لعصافير السحر
مثل دمي الذي وق ع فيما مضى النشيد الأبيض للنسغ في أغصان الأيدي.
ها هي زهرة الأدغال والنجمة في شعري وعصابة الرأس التي تزنر جبهة الراعي- الرياضي.
سأستعير الناي الذي يوقع سلام القطعان
وطوال النهار جالس في ظل أهدابك, قرب ؛نبع فيملا«
أمينا, سأرعى الخوار الأشقر لقطعانك.
ذلك أنه في هذا الصباح يد من ضوء داعبت رموشي التي من ليل
وطوال النهار, قلبي رد صدى نشيد العصافير البكري.
احتفظت طويلا, طويلا بين يديك بوجه المحارب الأسود
المضيء بأنوار الغسق القاضية.
من الرابية, رأيت الشمس تغرب في خلجان عينيك.
متى أرى بلدي من جديد, وأفق وجهك المنبسط?
متى أجلس من جديد على طاولة ثديك المعتم?
وفي الظليل كان عش الحوارات الناعمة.
سأرى سماوات أخرى وعيونا أخرى.
سأغرف ماء لعطشي من شفاه ندية أكثر من الحامض
سأنام ظليلا تحت سقف ضفائر أخرى بمنجاة من العواصف
ولكن في كل عام, حين يشعل (شراب) »روم« الربيع الذاكرة سأفتقد موطن ميلادي, ومطر عينيك فوق عطش المفازات.
صاحبتك حتى قرية الإهراءات, حتى بوابات الليل
ووقفت من دون كلام أمام لغز ابتسامتك الذهبي
شفق قصير حل على وجهك, نزوة إلهية.
من عالي الرابية, ملجأ الضوء, رأيته ينطفئ ألق وزرتك
وخوذتك مثل شمس غاطسة في ظلال حقول الأرز
أحاطت بي الهموم من كل صوب, والمخاوف الأبدية الأكثر غدرا من النمور
– لا يقوى الفكر على إزاحتها أبعد من آفاق النهار.
أهو الليل في صورة دائمة, أوه! والرحيل من دون وداع?
سأبكي في الظلمات, في جوف الأرض الأمومي
سأنام في صمت دموعي
إلى أن يلامس جبهتي سحر فمك الحليبي.
لكن دروب الأرق هذه, هذه الدروب الهاجرية وهذه الدروب الطويلة الليلية!
متحضر منذ وقت بعيد, لم أنجح بعد في إزاحة الإله الأبيض للنوم.
أتكلم لغته نفسها, إلا أن لكنتي متوحشة!
الظلمات سوداء, عقارب الطريق بلون رمل الليل
وغيوم من خمود تضغط على صدري, حيث تنبت أجمات وحشرجات
ها هي, اليوم, إذن, أختي النسمة تزورني في »جوال«
في الساعة التي تغني فيها عصافير غريبة, مرسلون قدماء من الأسلاف, في ندى المساء.
ذكرى وجهك ممدودة فوق حلقي, خيمة متحمسة من »تاغنت«.
قبة تحيط بها غابة شعرك الزرقاء.
ابتسامتك تعبر من جهة إلى أخرى هذه السماء التي لي, مثل المجرة.
والنحل الذهبي يطن على خديك الظليلين مثل النجوم
وصليب الجنوب يلمع فوق طرف ذقنك
والعربة تتوهج في الزاوية العليا لجبهتك اليمنى.
أقول الفرح الهادئ الذي يغمر قلبي أكثر من (نهر) ؛النيجر« في الشتاء
سأصرخ (بهذا الفرح) لحيوانات »الشورى«- استمعي إلي!
سأصرخ به للمخطوبين المتحادثين فوق حصيرة الشاطئ- استمعوا إلي!
وسأستريح طويلا (في هدأة) سلام أزرق- أسود
طويلا سأنام (في هدأة) سلام »جوال«
إلى أن يعيدني ملاك الفجر إلى نورك
إلى واقعك الفجائي والقاسي, يا حضارة!
لا تتفاجئي يا صديقتي ان غلب الحزن على لحني
وإن تركت قصبة القلم إلى الخالام و»التاما«
ورائحة حقول الأرز الخضراء لصالح عدو »التابالا« المزمجر.
استمع إلى تهديدات المسنين – العرافين, وغضب الإلهة المدفعي.
آه! ربما غدا يسكت صوت »الديالي« القرمزي.
لهذا يصبح إيقاعي أكثر إلحاحا, وتنزف اصابعي فوق الخالام.
ربما غدا, يا صديقتي, أقع فوق أرض مقلقة
متحسرا على عينيك الغاربتين والطام- طام الغائم
وستفتقدين في الظل الصوت الحارق الذي كان ينشد جمالك الأسود.
رفعت إليك أغنية ناعمة مثل وشوشة حمام في الظهيرة
وكان يصاحبني ضعيفا »خالامي« ذو الأوتار الأربعة
نسجت لك أغنية, وما استمعت إلي.
أهديتك زهورا برية, عطرها سري مثل عيني ساحر.
ولألقها غنى الشفق في »سنغومار«.
أهديتك زهوري البرية. أستتركينها تذبل
أوه أنت التي تتسلين في لعبة الزوال?
كنت جالسا على نثر مقعد, في المساء.
ساعات الحرس تصطف أمامي, برتابة أعمدة الكهرباء فوق طريق حين أحسست فوق وجنتي الفاترة بأشعة وجهك السمراء الذهبية
أين رأيت هذه السحنة التي لها لون »تاتا« الأنوف? كان ذلك في أيام »بور – سين سلمون«
وكان والد جدي يقرأ وجه الخطيبة فوق قصدير الينابيع.
ولكن اية طراوة في نهاية النهار هذا! وهو الصيف (مقيم) في شوارع قلبي.
أشجار من الورق الذهبي, أزهارها المتوقدة من العندم الهندي- أهو الربيع إذن?
للنساء مشية السابحات اللطيفة فوق الشاطئ
والعضلات الطويلة لسيقانهن أوتار قيثارة تحت جلودهن الذهبية البيضاء.
خادمات بياقات ملكية يرحن ويجئن لسحب الماء من ينبوع الساعة السادسة
وقناديل الغاز سعفات نخيل عالية, تغني فيها ريح شكاويهن
والشوارع هادئة وبيضاء, كما في قيلولات الطفولة
أوه يا صديقتي التي لها لون أفريقيا, مددي ساعات الحرس هذه.
الجوعى يحملون (معهم) كنوز الفطنة هذه!
كم ابتساماتهم ناعمة! إنها ابتسامة موتانا الذين يرقصون في القرية الزرقاء.
– أيدي الليل هذه, يا أختي, فوق رموشي!
– احزري موسيقى اللغز.
– أوه! إنه ليس الحيوان البهيمي الذي هو الجاموس, ولا القوائم الخافتة لصفيق الجلد
ولا ضحكة الأساور في أعقاب الخادمات البطيئات
ولا أوتاد النوم الثقيلة, ولا إيقاع الطرقات المرهقة.
آه! »بالافونج« أقدامها وزقزقة عصافير الحليب!
الأوتار العالية لـ »الكورا«, الموسيقى الدقيقة لوركيها!
إنه لحن المهر الأبيض, والمشية الملكية للنعامة.
– ولقد تعرفت على السيدة, على الموسيقى التي تصنع يدي, وعلى رموشك الشفافة للغاية.
– أطلقت عليها اسم ابنة »أرفنج من سيجا«.
وسنعوم يا صديقتي في حضور أفريقي.
أثاث من »غينيا« ومن »الكونغو« جهم ومصقول, معتم وهادئ.
أقنعة أساسية وصافية فوق الجدران, بعيدة ولكن حاضرة بقوة!
طاولات واطئة شرفية لضيوف وراثيين, ومن أجل امراء »البلاد العالية«.
روائع وحشية, حصائر سميكة من الصمت
وسائد من ظل ولذائذ, وضجيج نبع سلام.
أقوال كلاسيكية; بعيدا, أناشيد متبدلة مثل وزرات في السودان.
ثم قنديل ودي, وطيبتك لهدهدة هاجس حضورك
أسود أبيض وأحمر أوه! أحمر مثل أرض أفريقيا
وجهك جمال الأزمنة القديمة! لنخرج الوزرات المعطرة ذات الألوان الماضية.
ذاكرة أزمنة من دون تاريخ! كان ذلك قبل ميلادنا.
كنا عائدين من »ديونيوار«, وكانت أفكارنا تتباطأ فوق ألسنة بحرية حيث تلتمع, مثل صدى خفيف من الحرير, أجنحة المدائح الموقعة.
حيوانات »الشورى« ترصدها في نشوة عند مرورها.
والنجوم فوق البحر المقعر كانت صدى إلهيا آخر
والمجاديف الايقاعية والبطيئة كانت تسيل شهابا .
مثل تمثال, قناع مقدم السفينة منحن فوق الهاوية الصوتية
كنت تغنين بصوت ظليل من الحنان والتعجب مجد البطل منتصبا !
كانت حيوانات »الشورى« تشرب اللذاذات! نفسك سائل.
كنا عائدين من »ديونيوار« عبر الألسنة البحرية غامضين.
حين كان لوجهك, اليوم, تحت زنجار جمال الأيدي الأسود.
سلخت إذن النعمة الوردية للنحام والأناقة الملتوية التي للمشوق.
اتخذت أهدابك وضعية الأبدي على وجوه التماثيل
ولكن حول قناعك يخيم الجناح الصافي للنورس
وهذه الابتسامة اللجوجة, مثل لازمة وجهك النغمي.
ألماسة منحوتة بعناية كبيرة في مشغل معروف
ابتسامتك مثل لغز لي, أكثر لطافة من الألغاز التي كان الأمراء المحتدون يتبادلونها.
استشرت المسنين البيض المزهرين بالحكمة
استشرت »كويتي برما« وأسياد العلم
استشرت عرافي »بينين«, بعد رحلة عادوا منها بأجساد لطيفة
استشرت الكهنة الكبار في »بيوري« في دول »موغو- نابا«
استشرت الضالعين في الأسرار من »مامانغير« في حرم الأفاعي.
أبلغوني صمتهم, والعتمة المذهلة لعيونهم, ولآذانهم.
آه! لم أنس الأميرة! لم أنس سوى استشارة قلبي ثاقب الأسوار.
سياجك المتحرك لن يصمد أمام القفزة المخرزية لقلبي, قلب »الديالي«.
بل نسيان هذه الأوهام كلها, مثل جراح في مساحات جرداء في الضواحي
هذه الخيانات كلها, هذه الانفجارات كلها وكل هذا الموت في الروح
– إنه صمت المدن المدمرة, بعيدا هناك في روسيا البيضاء
كل هذا الرجاء الممسوح والمحلوق في – وحدها صبية لها شعر مجنون, ومرصودة للاغتصاب.
في نعومة هذا الربيع الطرية, في نعومة هذا الربيع الزرقاء
آه! الحلم بصبايا هناك, مثلما نحلم بزهور نقية
في أخضر الغابة الرهيب, في ظلمة الغابة العذراء
الاعتقاد بعيون للربيع, بعيون من ضوء لها القدرة على المفاجأة
مثل فرجة في الصباح, أمام الشمس بطلتها.
الاعتقاد بأن هناك أيادي أكثر هدوءا من سعف النخيل أكثر نعومة من حارسة المهد, »نيومينكا«
أياد ناعمة لهدهدة قلبي, أوه يا سعف نخيل فوق تعبي, فوق نومي.
أحييك أيها الغمد المصقول والمنطلق, أيتها الجبهة الشامخة فوق الأدغال
يا شفاها سوداء ومن أجل الرياح وحدها, اخوانك في مساء الجوق الهوائي.
بل الاستماع الى صوتها البطيء والعميق, طنين برونزي وبعيد!
وقلبها يدق بارتفاع قلبي وإيقاعها هو الذي (لآلات) »التابالا«.
الاعتقاد بأن هناك صبية, وبأنها تنتظرني على المرفأ مع مجيء كل بريد والتي تأمل (طلوع) وجهي من فتحات المناديل!
في النعومة الصافية لهذا الربيع, الاعتقاد بأنها تنتظرني, العذراء ذات الحرير الأسود.
ولكن أسينشد العشاق, في الضوء الشفاف للمستقبل?
أسينشدون بأنغام »الكلارينيت« الحب الليلي لعشاق الأمس?
فلتكن لي الحصص الجميلة التي للأفواه, وأن أكون غصنا ذابلا, أيها المطر الأخضر!
إن لم ينهض المسيح من قبره في الربيع الأبيض? أكره رقص البدايات
إن لم أخطفك فوق حصاني (الذي يعود إلى قوم) »الطوارق«, شادا سكرك على قلبي
بين صرخات وطلقات الدم, وبين صفير سكاكين الرشق.
سأقطع صلات الدم كلها, سأدرب حراسا لحبي
من أجل ليلة واحدة لا نهاية لها. حميمي صوتك أكثر من العش الفاتر
وشفاهك, شفاه الخبز, تريح صدري الصافر مثل أفعى سوداء.
سأقطع صلات أوروبا كلها من أجل أن أشد القصيدة إلى أفخاذ من رمل.
ما همني هذا الاسم المنشد على بيت القربان?
سيكون الفردوس خاليا من أجلي, وغيابك عقوبة العاشق
شربل داغر
شاعر واكاديمي من لبنان