مرت السفينة ولم أرها من النافذة، كان مضى وقتٌ قليل على وصولها إلى ميناء نهر السين آتية من صعيد مصر، على متنها مسلة أثرية ضخمة. مرت السفينة ولم ارها في ذلك النهار الباهت المتوتر. ربما كنت نائماً في تلك اللحظة، وحين استيقظت توهمت أني قد أراها تعبر النهر متهادية نحو محطتها الأخيرة. لكنني حين تأملت النهر لبرهة رأيته هادئاً كعادته. كان النهار أشرق، لكن الفجر وغلسه لم يبزغا في دماغي، ولم أر قرص الشمس اللاهب. بدا عليّ الإرباك لأن عضوي الصغير أرخى بثقله على سروالي ومنعني من متابعة تأمل النهر وحركته، وأوحى بشيء جديد في حياتي. كأنه كان يسخر مني، يزدري خجلي في ذلك اليوم، أكثر مما كان يزدريني أبي الذي كان يلحّ عليّ أن أكون طبيباً في المستقبل. لا أعرف سبب انتصابه، لا أعرف أني أصبحت في مرحلة النضوج البيولوجي. لم يشاهدني أهلي، وفكرت جلياً كيف أُبقي الأمر سراً وأنتهي من هذا الإرباك قبل أن تشاهدني العاملة التي تهتم بشأن غرفتي وترتيبها. العاملة بشعرها الكستنائي الطويل، كثيراً ما تفاجئني وتدخل عرفتي لتهتم بي وترتب أغراضي، حتى حين أكون نائما. مرات أتغاضى عن حضورها نظراً اليها بطرف عيني، تفادياً لأن ألهو بحديث معها لحظة الاستيقاظ. كانت مهووسة بالنظافة ومسح الغبار العالق على الآواني والخشبيات والمكتب. وهي تدخل الغرفة من دون اذن مني، أو كأن الغرفة بيتها. لقد اعتدت عليها، ولم أسألها عن أصلها وفصلها، ولا أعرف من أين أتت، ولا ان كان والدها يشبه أبي…
لم أر الباخرة من النافذة، والخادمة لم ترني في ذلك الصباح، وربما أنا لم ارها. قد تكون سبقتني ونظفت الغرفة فيما كنت نائماً. وحين دخلت الحمام وأفرغت مثانتي، ذهب ذلك القلق والتوتر، وأنقذت نفسي من الحماقة الجسدية، كأن شيئاً لم يكن، وقررت أن أبقيه لا يعرف غيري به، إلا حين أكتب عنه…
في ذلك اليوم الذي وصلت السفينة المحملة بالمسلة الفرعونية الضخمة إلى مرفأ السين، استيقظت متأخراً على غير عادة من دون أحلام وكوابيس. تذكرت أن هذا النهار هو موعد لقاء السفينة العائدة. كنت خبرت عنها في المدرسة أكثر من مرة، كأني حين كنت اسمع خبرها أتقصد أن اسمعه من جديد كي لا أنساه. عدا ذلك بات لديّ فضولٌ أن أشاهد المسلة على متن السفنية، مع أني أجد الجلوس بين جدران غرفتي أكثر متعة من أيّ حدثٍ آخر. الجلوس والقراءة وحدهما كانا ينقذاني من سفالة الوقت البطيء، وأبي كان أكثر من مرة يعبّر عن انزعاجه من القراءة والكتب، حتى إنه لم يكن يفكر في أن يحمل كتاباً، ويتقصد أن يعرف ماذا أقرأ. كان يكره الكتب جملة، ولم يحاول أن يكون لطيفاً معي حين يراني حاملاً كتاباً وغاطساً في بحره… لا يعرف أن الكتب تجعلني قادراً على تحمل وجودي في الحياة. وكنت أحسد والدي على تبسيطه الحياة والعيش بخفة، على الرغم من ثقل الوجود.
في ذلك اليوم الذي وصلت السفنية محملة بالمسلة، أزلت نمش النوم عن عيني وانتبهتُ أني أكثر راحة لأني استيقظت بلا أحلام في ذلك الصباح… لم تتحول العبارات التي أكتبها في النهار صوراً تنغص نومي في الليل. لم تتحول طيوراً متوحشة تنهش أحشائي بمناقيرها. ولم أصبح خنزيراً برياً يغلف جلده بالوحل لينقذ نفسه من طنين الذباب. لم أحطم المزروعات وأسحق المحاصيل. كنت في الثانية عشرة من عمري، يا للتعاسة التي تغرقنا في الكوابيس في عمر مبكر، وتتركنا غير قادرين على فصل كتاباتنا عن أحلامنا وأيامنا… ما نراه في المنام نعجز عن كتابته، ربما لأن ما نكتبه ليس أكثر من منام نراه لبرهة وسرعان ما يزول. كأنه عتمة تتلاشى مع الضوء، أو صورة تصير حبيبات شفافة وتتلاشى في الهواء.
ذهبت إلى مشاهدة السفينة المحملة بالمسلة الضخمة والعائمة في مرفأ السين. لأخفف من تدوين الخربشات على الأوراق… غادرت الغرفة بعينين ناعستين وإحساس بليد، تاركاً الكرسي الشاغر، الكرسي الذي اعتدت الجلوس عليه منذ مدة. الغرفة هي مكاني المفضل، أو المكان الذي يستريح فيه جسدي المتعب من لا شيء، حتى إن نظرتي من النوافذ إلى النهر والأشجار على جانبيه، تخفف من الرتابة التي قد تلاحقني في كل شيء. لكن الصمت المطبق والظلال القاتمة والسكون الكثيف تدفعني إلى التوتر والقلق.. الظلال القاتمة كانت امتداداً لسواد فكرة أني أكتب عن لا شيء. أكثر ما أحبه في غرفتي نوافذها، اذ تجعل الحياة تأتي من الخارج. غرفتي هي مصنع الأحلام اليومية، والمكان الذي تتراكم فيه ذاكرتي…
سبقتني السفينة المحملة بالمسلة الفرعونية الضخمة إلى مرفأ السين. نسيت رغبتي في السرير، واتجهت الى الناحية التي رست فيها السفينة. لم تكن في مخيلتي أية صورة عن المسلة وشكلها وحجمها. كل ما كنت أعلمه أنها مسلة فرعونية. أمضى العمال زمناً صعباً حتى استطاعوا نقلها على متن السفينة. زاد من توهمي أني قرأت كثيراً عن الشرق، ولم تكن المسلة بغموضها إلا تمثيلاً للشرق الذي ما زلت أجهله وأعيشه في خيالي.
لم تعلم والدتي يومها عن المكان الذي توجهت إليه، ولا أريدها أن تعلم. أفضل أن أكون مشغولاً بنفسي ولا تقلق أمي علي. ففي كل مرة كانت تقلق عليّ، كانت تزيد من قلقي. خرجت ولم أخبر حتى عاملة المنزل التي كانت تفهمني أكثر من أهلي. وقلبها البسيط أوسع من ارستقراطية أبي. تغرقني بحنانها في كل مرة ألتقيها أو تحضر لي الفطور الصباحي أو أي شيء. واذا ما زادت حنانها عليّ، أروح أسأل هل أنا مثير للشفقة؟ هي ليست مجرد عاملة، بل مصدر حكاياتي. دائماً تنزع عن الغرفة فوضاها أو أسرارها التي تفرزها ساعات وجودي فيها. كأنها تزيل زمنا مترسباً عن أشيائها. تنظر إليّ كما لو أني ابنها. تضجرني قوة حنانها الذي أشعر به بالرغم من أنها لا تحاول ابرازه. معها أكون أكثر وضوحاً وانعتاقاً. أتجرد من الأمومة الحقيقية لتصير لي أمومة بلا سطوة… تراها تلك العاملة النبيلة تستطيع أن تكون أمي؟ في ذلك اليوم الذي وصلت فيه السفينة لم أصادفها، ولم أكن أريد رؤية أحد من معارفي. كنت كارهاً لكل شيء، أو أتحسس أن الأشياء ليست على طبيعتها. هكذا شعرت بعد لحظات من استيقاظي. المزاج وحده كفيل بتغيير علاقتي بالآخرين. منذ البداية كنت كارهاً للتربية ولضوابط التربية والانتظام وصلافة الأهل… أريد أن أبقى على سجيتي. الكراهية تجعلنا أكثر قدرة على الاكتشاف…
الأهل يحبّون الابن منصاعاً، نسخة مطابقة لأبيه. لكني كنت أحب الضياع الروحي والعبور نحو التيه والمتاهة. أعرف أن الذين مشيت برفقتهم في الطريق نحو مرفأ السين، هم من جيراني، لكني لا أعرفهم. يمشون على الطريق نفسه، المحاذي للنهر تحت الأشجار الوارفة. كانوا يقصدون المرفأ الواقع على ضفة النهر، وحين يصلون تأخذهم الدهشة، وربما الغباء الحضاري. يقفون جميعاً لاستقبال السفينة المحمّلة بالمِسلة الضخمة. يتحدثون مع المِسلة الصماء كما لو أنها فلذة كبدهم. كل خردة من التاريخ تحمل الكثير من الكلام والأحلام، ربما تعبّر عن فراغ الحاضر. يرزح الماضي على اولئك الذين يعيشون في مدنٍ حديثة، كأنهم يتحسسون الخواء ويكلمون الأحجار.
الغفلة جميلة في الطريق، والمعرفة إرباك. لم أكن أخرج كثيراً من غرفتي، لكن حين خبرتُ في المدرسة بقصة المِسلة، ترددت قليلاً، وسرعان ما قلت: «لا أستطيع أن أبقى في البيت». الذين مشوا قربي، ضاعوا بين الجموع، وطوال الوقت كنت أحاذر أن أكون وسطهم وبينهم، أسمع وقع اقدامهم وأتفادى هبوب أنفاسهم. كلما ازداد عدد الناس في المكان الذي أنا فيه، أنتقل خطوات لأكون خارجهم. الفتاة الوحيدة التي كنت أنتظرها، لم تأت. كنت اتعقبها من نافذة غرفتي وهي في طريقها إلى بيتها، وعرفت أنها تسكن في البيت القريب من بيتي. تخيّلت لوهلة أنها قد تأتي هذه المرة وألتقيها خارج ما تقوله النافذة، لكنها لم تأت… كنت أنظر إلى شعرها الطويل المنسدل وثيابها، وأتخيل حياتها كاملة.. لكنها لم تمر، ولم تتغير أحوال ما تقوله النافذة، والأشياء ما زالت في مكانها.
أكره الانتظار. أكره أن يعد واحدنا نفسه بشيء لا يتحقق. كنت أنتظر أن ألتقيها مصادفة، لكن لا شيء اسمه مصادفة. فالرغبة تجعلنا نشم رائحة الأشياء، خصوصاً رائحة الأنوثة. خدعتني الرغبة هذه المرة، ربما نسيتها في السرير ولم أدر. أنا المولع بالكتب القديمة والمخطوطات والتماثيل والتاريخ… ذهبت لأرى المسلة الأثرية. سأمنح رأسي لاستقبال المسلة، فلربما تتغير الأشياء التي تكونت فيه، وربما تتقلص أعباء الكتب والغرفة والأصدقاء.
لم أكن تجاوزت الثانية عشرة من عمري، ووقفت بكامل سذاجتي هناك مع الناس أتأمل السفينة التي عادت بعد سنوات قليلة على سفرها إلى مصر. رست على ضفاف السين في 14 أيلول 1833، تحمل على متنها «المِسلة»، مسلة رمسيس الثاني المنحوتة من جرانيت أسوان الوردي في القرن الثالث عشر قبل الميلاد. أناس من كل مشارب الحياة، وجدوا أنفسهم أمام مسلة من عالم غري وساحر. انتبهت أنني نسيت دفتر ملاحظاتي في الغرفة.
هل نعرف روح الحضارة الفرعونية؟ لم أفهم ذلك التعلق بالماضي، لم أسأل عن المِسلة، لكن حين رأيتها راودتني من دون شك تخيلات أكثر غرائبية من تلك الحكايات التي اسمعها بصوت عاملة مسّت فتوتي وأحلامي. كنت أفكر كيف كان ينعم الفراعنة بوقتهم؟ ومن ذا الذي يحمل عبء الاهرام والتماثيل على كتفيه من أجل أن نعيش نحن في التفاهة. ذلك التاريخ الذي نسميه انسانياً كانت أسسه قائمة على التوحش والاستعباد… كل ما أعرفه عن بلاد الفراعنة هو ما قرأته في التوراة عن موسى، قائد خروج بني إسرائيل من مصر، «أرض العبودية». من دون شك كنت أسخر من كل شيء، وأحمل كل شيء على محمل الجد.
***
في الخامس عشر من أكتوبر 1831 أبحرت الباخرة «الأقصر» من ميناء تولون في الجنوب الفرنسي. في الثامن من آذار مارس رست في ميناء الإسكندرية. في 14 حزيران يونيو 1831 عبرت نهر النيل لترسو في 16 أغسطس أمام معبد الأقصر. جُنّد أكثـر من 400 شخـص، فلاحين ونساء وأطفالاً وشيوخاً، لاقتلاع المسلة.
أخبار وفاة الكثير من العمال الذين شاركوا في نقلها، كانت سبقت المِسلة إلى باريس، عندما أصابت اللعنة المصريين في الفترة نفسها مع انتشار وباء الكوليرا عام 1831. وهو العام الذي أزهق أرواح أكثر من مائة وخمسين ألف مصري… ماتوا جميعاً من دون أن يكون أحدهم ينتظر الموت. لم تنفع محاولات بعض الشيوخ طرد الجن من بأنواع البخور والتعاويذ. كثرة الموتى أفقدت الموت اي معنى، فغابت الدموع وانشغل الجميع بحفر القبور.
استقبل الملك لويس فيليب الاول السفينه كما لم يستقبل من قبل ملك أو عظيم، اولئك الذين احتفلوا بوصول المِسلة، كأنهم نسوا ضحايا الكوليرا. وهج المِسلة أقوى من ذاكرة الموت. في المدرسة سمعت برحلة المِسلة، وأتيت مع من أتوا لمشاهدة ما يجري من باب الفضول. ولم يكن صعباً عليّ الوصول إلى ذلك المكان، فمنزل أسرتي على ضفة النهر. أمضيت الكثير من وقتي على نافذة غرفة أتابع حركة الزوارق والبواخر العابرة… أشعر بعزلة بين الواقفين بجانبي، كأني ما أتيت لأرى أحداً من الناس، وما كنت أهتم إذا ما كانوا سيرونني. لم يلفتني من الحاضرين إلاّ بعض الفتيات، واستطيع أن أتخيل جارتي تأتي دون أن أراها. اخترت أن يكون وقوفي في مكان يجعلني بين الواقفين وخارجهم. أنسى تعبي. جمعينا كنا نسمع هواء الشجر. لم أكن أتصور أني بدأت أحلم بالشرق وعوالمه حين تأملت بإعجاب سفينة «الأُقصر». قرأت كثيراً حتى صرت أحلم بالشرق وأشتهيه وأتخيل عوالمه. ربما كانت المِسلة الوردية الضخمة هي التي دفعتني للحلم ببلاد النيل، فيما أنظر إلى المسلة مثل غيري من الواقفين. كنت أحلم بما قرأته أو سمعته عن بلاد النيل. بدأت أقرأ عنها منذ نشأتي وفشلي في الدراسة. منذ حملة نابليون بونابرت أصبحت ضفاف النيل حاضرة بقوة في متخيل الكتّاب والفنانين، بل أصبح الشرق والنساء والحمام التركي، مدار المخيلة وموضة تُحتذى. وهؤلاء الذي احتشدوا لرؤية المِسلة، كأنهم يحتفون بانجازات حملة نابليون على مصر. لم يكفهم أنهم بدأوا بتنظيم الرحلات إلى الشرق، بل عمدوا الى جلب آثار من رحلاتهم. أما ذلك الأبلة الذي سمح لهم بنقل المِسلة، فكأنه من كوكب آخر.
نحن لا نقدر أن نحكم على أحلامنا أو أن نعرف ما هي مصائر الأحلام في الغد. كانت حكايات الكتب وحدها كافية لإحداث توازن مع الاحلام وإثارة خيالي اليافع الذي يتعرض لكبح يومي من أبي. لم يكن أبي يعلم أن رسول شارل العاشر وفدَ إلى مصر في يوم من أبريل 1830، فخرج والي مصر محمد علي لاستقباله في حال من السرور والافتتان. وفي الحال قرر أن يهدي فرنسا مسلتيّ الأقصر وثالثة هي إحدى مسلتين في الاسكندرية. لم يوازن فتنته بالغرب سوى احتقاره الآثار القديمة التي لا تعدو في باله غير أحجار من قمامة حضارة تعود إلى العصر الوثني. ولم يكن يرى في تلك الآثار إلا مادة للبناء أو مجرد سلاح سياسي. لا أعرف ان كان الوالي يدرك معنى الحجر، أو أنه يعرفه. سأبقى لزمن أفكر كيف لذلك الوالي أن يتخلى عن هذه المسلة، وما الذي يجعل من الفرنسيين يقدمون هذا الجهد الكبير من أجل نقل حجر ضخم من مصر إلى فرنسا، وينظرون إليه كإله في ساحة.
قبل أن تصل المسلة إلى مرفأ السين، كنت أسمع أنه ينسب الى جوزفين أنها قالت لزوجها نابليون بونابرت لدى توجهه الى مصر مباشرة: «اذا ذهبت الى طيبة الاقصر فأرسل اليّ مسلة صغيرة».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* فصل من رواية.
محمد الحجيري