الأرواح الجريحة ملقاة في مكان ما من هذا الكون..
الأنين والانزفة تتناسج كشبكة عنكبوتية مضاءة، تظهر كل ألف سنة مرة على فتحة ذاك الغار.. أقول ان كل من رآها، تلمسه.. فيفقد وعيه، والزمن.. وعندما يصحو، يجد نفسه في قاع بئر محفورة في اضلاع السماء، الصدى يموج كأرواح سابحة في الماء والهواء والنار.. تطوف الأرواح متناغمة على جدران البئر القزحية، تصل فتحتها، وتقذف بك في أحضان الغرابة.. موران لا نهاية له يزعزع خلاياك.. تتساقط الظلمة نتفا لا تلبث أن تذوب في بلورات الضباب.. وهج بنفسجي ينتصب أشجارا حبلى بمخيلات طواها التراب يوما مع جماجم الاساطير المنتظرة وراء الابجدية لمن يعتق آفاقها.. يتداعى الرنين الغائب من الثمار.. شعلة الرنين تتشظى رذاذا على وجهك وعلى التراب الذي يمتص ملامحه وملامحك.. كل شيء كان ناطقا بلغة تتلون.. وتطير من شجرة الى أخرى.. من غيمة الى بقعة ضباب الى بركة أرواح.. تغوص لتخرج بهيئة انسانية يطو بشرتها ملح وزنجبيل وأضواء ماسية تتفرع الى طرقات غائمة، تخض الارواح. مع نسوغ الاغصان، وترشقها في الفضاء المخضر. فتنفتح أبوابه عن أنهار تتدفق بغزارة لا مثيل لها. حصاها ورمالها وخريرها تتفرقع ألعابا نارية تبهج ساكني اللغة والاحلام المنفية..
مد الأرواح يطو، موجه يغطيك، ويجرفك الى الاعماق.. تصيح.. صوتك ينضفر مع صوتك، وكجديلة ساحرة عجوز يشدك من يديك ويغور في لب تغور.. لم تعد تتنفس.. بينك وبين الغرق موجة ورؤيا.. يرتطم صوتك المضفور بصخرة هاجعة ولا يقظة.. ترتطم بالجديلة.. تنخرط الاصوات.. وكألواح زجاجية ينكسر الصدى، إبر البلور، تغز جلدك.. الدم في كل مكان.. وزحزحة لا متوقعة ترتج مع هلام الأرواح.. المهل يفرز عناقيد وروده من الفجوة التي ابتعدت عنها الصخرة.. الابخرة الملتهبة تكسو العناقيد وملامحك.. تضيع المعالم.. ومن دوامة حيرتك ينطق بياض النص:
– تكلم مع ذاك..
وهل من ذاك غيري هنا: تقول نفسك، وقبل أن تلمح السكون المنصهر، ترى أحد الزبانية قابضا على حزمة أرواح سيلقي بها في جهنم.. تربت على كتفا.. فيفزع.. ومحدقا بك
– لا.. أنت لست هنا.. أنت أخضر الكلمات وروحك في هذا المعبر..
كانت جهنم تباعد بين خصرها وذراعيها وجنونها كلما سمعت حرفا.. وعلى ايقاع ملامحك ترقص.. فيختال لهبها بالأرواح المخترقة.. يلوكها، ثم يرميها في حفرة كبيرة.. تتمرغ الأرواح على بازلت الحفرة الناري، وبكل ما تبقى فيها من قوة، تحاول الهرب اليك. لكن البازلت يضغط عليها حتى تصير من مساماته، ثم ينفض ناره منها، ويغطسها في نهر برتقال لتعود هيئتها الاول..
– قلت ان روحك في هذا المعبر. فاذهب والا جعلتك حصيد تلك التحولات.
تنهمك جهنم بأزيز الصلصال، وهو بحزمة الأرواح، وأنت بأشجار الحيرة.. واذ تخطو نحو الأثر، يقبلك بياض النص، ويجلسك على صمت متحجر.. يناولك جمر الاسرار، وجوهرة الخلق الأولى.. والى حيث لا تدري القصة يرفرف البياض.
وهلة الأشياء تتفتح..
جمرات السر تنكمش على وحدتها..
والجوهرة تكرج أمامك.. وعند حافة الأنا تتزلزل.. فتنفطر الأمواه.. ويهيج عبير مفتون.. وراء البحيرة المحاطة بالحبق، بحيرة شموع تكشف عن أمواجها الملفوحة بالأزاهير وبأطياف الرفيف.. الانكشاف لا يعرف انكشافه الكامل والمحجوب صومعة تنتظرك وراء الأمواه، تحت أناك.. لن يوصلك اليها سوى قزح يلم دماك من الحقول، يضعها في زجاجة، ثم يضع الزجاجة في جذع شجرة ستنبت بعد ألف سنة.. سيمر فوقها قزحك خارجا من قلبك حتى الصمت المترهبن في الصومعة.. هل أنت هنا؟ "نادتك فتاة من الوادي المسكون بزمن يتراقص باكيا على زمنه.. نادتك ثانية، ثالثة، وأنت لم تخرج.. تشفع لندائها كائنات الوادي.. يسرع الحور والصفصاف والزيزفون والجبال الى صوتها، يتعاونون على جمعه من ظلال الزمن والأغاني والأنزفة.. تعوم الأرواح على المياه.. وتطرق باب الصومعة.. كان الترتيل يغادر حنجرتك الى الجدران، الاشجار، الجبال، ويعود سنابل الى الوادي.. صفرة السنابل تطرق الباب، وصوتها يشعل المجال المتخفي من الأرواح: هل أنت هنا؟
تخرج من تحت أناك الى ملكوت شعورك.. الفضاء الضبابي بنشيده المذهب يسبح في البحيرة.. فيتطاير الرذاذ الى صحوته، والنور الى القمر، والصمت الى الشموع المستيقظة فوق موجات البحيرة..
كانت فصول الحواس كلما عبرت قرب زجاجة دمك قالت للجذوع: اثمري.. صرير الباب وطأ الانحذاف بينما أشرفت على الوادي.. الريح والمطر والرعد والوحشة تغسل الأوراق ورعشتك.. فتنتعش الأعشاب بشهوة النداوة، وترقص عيناك بخفة بين البرق والأرض.. الصوت ينبض من أعماق ما.. وأنت لم تر من أين يطلع.. فتنسحب عيناك من وجهك، تصطدمان، وتتشظيان مصابيح انتصبت على الشجر.. انعكاسات الأضواء تتخلل خيوط المطر، تسوط الضباب فيتحول المكان الى مركب جحيمي يشع على ظلمات الكون.. يمخر المركب عباب الأرواح فتتقافز اليه.. ينخفض الماء، ومن سدائنه اللا مرئية، يتكرر النداء: يا الرباني أتيت؟. تلتهج شفتاك بتعويذة بيضاء، دمدمتها تنبت في القاع شقائق، داخل الشقائق اشارات استفهام راعفة.. الحياة تزحف أمامك.. فترتطم بنسيج أحمر ساخن ومرن..: آخ.. يصيح النسيج فتعيد الحياة..
– أنا هنا: صوت الفتاة ينبعث حارا من هذا القلب الهائل..
– ولماذا أنت في قلبك..؟
– لم أجد أرحم منه يحضنني في حياتي ومماتي..
– لماذا، اذن، أتيت؟
– لأطلب حكمة.
– غيبي عن الحياة بالحياة، قالها وطار من المركب الى الصومعة..
في الصباح، عاد الصوت الى الوادي.
– وماذا تريدين الآن؟
– حكمة أخرى.
النبضة في وردة..
في المساء، عاد الصوت:
– أريد رؤيتك يا الرباني..
خرجت الى السفح.. الخوف يرتجل شعوذتك.. واسراب طيور تضج في الوادي.. تنظر ككائن سحرته الألف سنة وتدلت مع بياض لحيته.. لم يكن هناك أحد.. ينام ارتباكك على الشجر.. تنظر.. فترى ما يشبهني.. حيث بياض النص طفل يحبو في قلبي الهائل.. تهرول اليه، تتعثر بأشواك الكلمات، تنزف الأرواح في مكان ما من هذا الكون..
غالية خوجة (كاتبة من سوريا)