عبد الكريم الفرحي
في لحظة هامسة، أَسَرَّ ألبرتو مانغويل (Alberto Manguel) لصديقه رونالد رايت (Ronald Wright) بالقول: إن العنوان الجامع الذي يمكن أن تُوسمَ به مجموعة من محاضراته قد يكون “لِمَ نحن معا؟” كان ردُّ رايت: “ما البديل؟”. ليس ثمّة بديلٌ قطعًا؛ ذلك “أنّنا حيوانات اجتماعيّة في شتّى الأحوال، محكومون أو منعم علينا بواجب العيش معا”1. لم يُلَمِّحْ سؤالُ مانغويل إلى أن ثمّة بديلا، بل لعله يستضمر اعترافا بالحيرة. ويُرَجَّحُ أنه كان يسعى إلى استكناه معنى “الكينونة معا”، والتأمل في تشظيات “الكينونة ضد”، أو حتى “الكينونة ندا لند”، وكيف يكون بالإمكان التعبير عن فكرة “المعيّة” أو”الضديّة” أو “النديّة” بالكلمات التي تستبد أسماؤها وأوصافها وحدودها بسلطة الاحتواء والإقصاء في الآن ذاته. من حيث إن الكلمات إذ تُحدد هوية “النحن” أو تُسميها أو تَصفها، فإنها في اللحظة ذاتها تُقْصي “الآخر” وتَنْفيه وتَسْتبعده؛ لا، بل تسبغ عليه وسم “الإكزوتيكي” للتشديد على إبقائه خارج أسوار “النحن” المنيعة.
ذاكرة الكلمات ووهم إعلاء الذات
إن عوالم السرد -أساطير أو ملاحم أو أقاصيص أو حكايات… وهي قطعا عوالمُ منشآتٌ من ذاكرة الكلمات – تتيح لنا إمكانية اختبار تجارب الآخرين والإفادة منها كما لو كانت تجاربنا. في هذا السياق نستذكر خورخي لويس بورخيس (Jorge Luis Borges) الذي كان الشعر الملحميّ “يجعل عينيه تفيضان بالدمع”2، ربما لأنها تستجيب لتعطّش أصيلٍ وجوهريٍّ في عتمة أسراره وجغرافيّات ذاكرته. فالذاكرة بالنسبة إليه هي “إعادة قراءة”. كان بورخيس مفتونا بـ”الذاكرة الخلاقة”3، كما كان مؤمنًا بأن جميع الآداب تبدأ بالملاحم، وكان كثيرا ما يقتبس من الأوديسة تفسيرات لذلك. يقول: “تحوك الآلهة للإنسان المحن لكي يكون للأجيال القادمة ما تغني عنه”4. وفي قصته “الخالد” يحكي أن هوميروس ما يزال حيًّا على مرّ العصور، غير قادر على الموت”5. أما نحن في عصر الهويّات المتشظية فإنه بإمكاننا -في سياق البحث عن إجابات مُحتملة لمعنى “أن نكون معا”- أن نعيد قراءة ألواح “جلجامش” (Gilgamesh) و”إنكيدو” (Enkidu)، لا كما “يقرأ اللهيبُ الخشب”6، وفق عبارة “ألفريد دوبلن” (Alfred Döblin)، بل كما يقرأ العود الصديان الماء، فيغدو ريانًا. أو لنقل: نعيد قراءة ذاكرة الكلمات كما قرأ تولسيداس (Goswami Tulsîdâs) كلماته المحررة7، بقصد الانفكاك من وهم إعلاء أسوار “الذات المنيعة” والتنقيص من “الآخر الإكزوتيكي”.
الآخر الإكزوتيكي بين نفيٍ أو ترويض
ترتد كلمة “إكزوتيكي” إلى المفردة اليونانية “exoticus” التي تعني “الدّخيل الخارجيّ”؛ أي ذاك الذي يظلّ خارج مشمولات أسوار المدينة- الدولة. يقول ألبرتو مانغويل (Alberto Manguel): “لقرون ارتبطت فكرة الوطن -أو ما يكمن “في الداخل”- لدى الأوروبيين بفكرة الغرب. و”الخارج” كان كل ما بقي؛ الشرق غير المألوف، الغريب، الإكزوتيكي الذي يقع خارج نطاق الأفق. كان “الخارج” بالنسبة إلى الأوروبيين القروسطويين أجزاء من أفريقيا وآسيا: بشرة إثيوبيا الداكنة وعاجها الثمين، ثراء الهند، طقوس الصين عجائب اليابان، ثقافات بورما وكوريا السرية، الإمبراطورية الروسية الوحشية المرفهة، الصحاري الشاسعة في منغوليا غير المكتشفة”8، ألف ليلة وليلة العربيّة، كما لو أنّ الشرق هو الصقع الذي يُواري كل ما هو عجائبي، مستطرف، وفنطازي، أو كل ما يُحيل على اللذّة المحرمة؛ أو ما أسماه سان برنار “إغواء الإكزوتيكي”. إنه أيضا شرق الآخرين الذين “تشكل ثقافتهم تهديدا للسيادة المفترضة للثقافة الغربية، بوصفها تهديدًا لمملكة المسيح”9. وفق هذا التوصيف، لا يُعَرَّفُ “الإكزوتيكي” إلا عبر التغريب والنفي والإقصاء والاستبعاد والإصرار على إبقائه خارج الأسوار.
في “قصص مغامرات الإسكندر”، المنسوبة إلى كاليسثينيس (Callisthène) (مؤرخ يوناني، وهو ابن أخت أرسطو الذي رافق الإسكندر المقدوني في رحلاته) وصف لكائن إكزوتيكي، وُسِمَ بـ “الرجل الكلب”. فلنتأملها؛ قال الراوي: “وصلنا إلى مكان يتدفّق فيه نبع مبهج… ثم ظهر أمامنا رجلٌ غزير الشعر كماعز… أجفلتني وأزعجتني رؤية مثل هذا الوحش. فكرت في الإمساك به، لأنّه كان ينبح علينا بوحشية ووقاحة. لذا أمرتُ امرأةً جميلة أن تتعرى وتتقدم نحوه عسى أن يهيمن عليه الشَّبَق. ولكنه أخذ المرأة معه وابتعد، ولَكَمْ يحزنني أن أقول: إنه التهمها”10كان القصد من فتنة الإغواء هو ترويض “الإكزوتيكي”، لكن يبدو أن “الرجل الكلب” انتصر لطبعه الكانبالي. (نشير إلى أن كلمة “آكل لحم البشر” (Cannibal) تشتق من الجذر اللاتيني (Cane) الذي يعني الكلب).
أما في ملحمة جلجامش (أو الأوديسا الميزوبوتامية، أوديسا بلاد ما بين النهرين) فيحكي شين ليقي أونيني (Sîn-leqi-unninni) عن سرديّة جلجامش العظيم، سيدِ مدينة أوروك (Uruk)، ورافعِ أسوارها المنيعة، وراعيها “القوي الوسيم الحكيم”، بيد أنه كان جبّارًا يَتَعَشَّقُ في عزّ عنفوانه بمبدأ “ألا يكون مع”؛ لقد كان لجلجامش صفاتٌ ما لها نظير؛ “ثلثاه إله، وثلثه بشر”11، كان لا يترك ابنًا لأبيه، ولا بكرا لأمّها، ولا ابنة لمحارب، ولا صفية لنبيل، كان يطأ العرائسَ المنذوراتِ للزواج، كان له وحده “حقّ الليلة الأولى”12… إلى أن سمعتْ الآلهةُ توسلاتِ شعب أوروك بأن تخلق لجلجامش “ندّا” أو “ضدّا” ينافسه أو يصارعه فتستعيد المدينة عدالتها وتوازنها المفقود. جمعت الربة “آرورو” قبضة من طين ورمتها في الفلاة، فتخلق منها إنكيدو بطل البراري العظيم.
تجلى إنكيدو خارج أسوار أوروك كما لو أنه “ندٌ” أو “ضدٌ” لجلجامش، أو انعكاس له في مرآةٍ منتصبةٍ خارج الأسوار، “ثلثاه حيوان وثلثه بشر”، قوي لكنه لطيف، ابن للطبيعة ومحارب عتيّ، يكسو الشعر جسده، لا يعرف الناس ولا البلدان، يرعى الكلأ مع الغزلان، ويرد الماء مع الحيوان. لطالما عبّر عن جبلّته وسجيّته مع حيوانات البريّة بأن كان يقتلع المصايد ويساعد الطرائد على الفرار من فخاخ الصيادين. إلى حين أن اشتكاه أحد الفلاحين إلى جلجامش، الذي دبّر له مكيدة بوَسَاطَةِ كاهنة الحب “شمحات” (Shamhat) إذ دعاها إلى أن تَنْضُوَ ثيابها وتكشف مفاتنها. وكذلك كان. وَقَعَ وحش البراري في فخ فتنة الإغواء. (لحسن الحظ لم تلق “شمحات” المصير المأساوي الذي لقيته جميلة الأسكندر بإزاء “الرجل الكلب”) ستة أيام وسبع ليال قضاها إنكيدو مع فتاة البهجة، وبعد أن روى نفسه من مفاتنها، ويَمَّمَ وجهَه شطرَ رفاقه من الحيوانات، وَلَّتْ لرؤيته الغزلان هاربةً، وفرَّتْ قطعانُ البرية، ترنح خلفها، ثقيلا كان جسمُه، خائرةً كانت ركبتاه، تناءت القطعان عنه، فلم تعد راغبةً في “أن تكون معه”. تعثر إنكيدو، وصار غير الذي كان.
ما عادت ثمة ضرورة لنفي “إنكيدو الإكزوتيكي”، لقد نفذت كاهنة الحب “شمحات” المرحلة الأولى من سيرورة ترويضه، وبقي في المرحلة الثانية أن يصرعه جلجامش على عتبات مدينة أوروك. خاض الجباران المواجهة المحتومة، حيث أمسك كل منهما الآخر؛ يخوران خوار الثيران، حطّما دعائم بوابة أوروك، وارتجت لهول الصراع الجدران، وأخيرا مال جلجامش فوق خصمِه، وقدمُه راسخة في الأرض. لقد صرع جلجامش (جبارُ مدينة أوروك) إنكيدو (جبارَ البراري)؛ لكن مهلا، إن جلجامش -إذ صرع إنكيدو الإكزوتيكي- صرع من حيث لا يدري معنى “الكينونة مع الآخر”. صرع ذاته من حيث لا يدري. ولنتأمل ذلك في صورة نظيرة لقصة إدغار آلان بو (Edgar Allan Poe) الموسومة بـ “وليام ولسون” (William Wilson) (كتبها سنة 1839). يقول القتيلُ -الذي يبدو أشبه بصورة منعكسة في مرآة- للقرين الذي قتله للتو (القرين في هذا السياق هو الاسم الأدبي للآخر): “لقد تغلبتَ، وأنا استسلمت، ومع ذلك، من الآن فصاعدًا، أنت ميّت؛ ميّت بالنسبة إليّ، وإلى السماء، وإلى الأمل! في داخلي كنتَ موجودا. وفي موتي تأمّلْ هذه الصورة التي هي صورتك، كيف قتلتَ نفسَك فعلا”13. كذا صار جلجامش، لقد صرع نفسه إذ صرع إنكيدو. حينها هدأتْ سورةُ غضبه، واستدار ماضيًا في طريقه، ولما تناءى أدرك أن بداخله نداء خفيًّا يناديه: ليس لكما إلا “أن تكونا معا” (الداخل مع الخارج، المستأنس مع الإكزوتيكي) متكاملين في سبيل نماء “أوروك” المدينةِ والوطن.
بعد التداني، آمن جلجامش وإنكيدو بكينونة بعضهما رغم اختلافاتهما، و”صارا معا”. سكنتْ مدينةُ أوروك، واطمأنتْ إلى سلامها ونعمائها. بعد الشكوى، بات الشيوخ يتضرعون إلى الآلهة لحماية حكيمهم جلجامش. ها قد أثمرت “كينونة الذات مع الآخر ودًّا لود” أمنا ورخاء. وتمكن جلجامش وإنكيدو من “مواجهة جميع الأخطار التي تهدد الدولة- المدينة “14. اختبر كلاهما قوة معنى “أن يكونا معا” في أثناء مواجهة الوحش حمبابا (Humbaba)، وفي مواجهة ثور السماء الذي أرسلته الإلهة “عشتار”… تبادل جلجامش وإنكيدو الدعم والمساندة، “كل منهما يهدئ مخاوف الآخر، فالخوف المتولد من الحضارة يتخفف عبر معرفة العالم الطبيعي، والعكس صحيح، حيث يكتسب كل منهما القوة من وجوده وحدسه”15. لتأمين المدينة ومدارها الطبيعيّ يلزمك خبير بالمدينة وخبير بمدارها الطبيعي.
بعد أن بات “إنكيدو الإكزوتيكي” القادم من أصقاع البراري مستأنسًا بين أسوار “أوروك”، وفاعلا في استعادة توازنها وعدالتها. حكمت عليه الأقدار بموت محتوم. (وهل الموت أو الفقد الأبدي إلا التجلِّي الأقسى لمحنة “ألا تكون مع”). توالت أيام على إنكيدو وهو على سرير الموت. حزن ممض يجثم على صدره، لأنه لن يكون بعد الآن “مع” جلجامش، أو لأنه لن يموت في ساحات المجد والعراك دفاعا عن أوروك، بل ها هو ذا يموت بسبب لعنة الآلهة. أَسَرَّ لصديقه جلجامش: “إن أحد الآلهة يا صديقي قد لعنني، فلن أموت كمن سقط في ساحِ القتال، ما خشيت الوغى يوما… مبارك يا صديقي من في ساحِ القتال يموت، أما أنا فها أنا ذا في خِزْيٍ أموت”16. ثم أسلم الروح بعد طول معاناة. أقام شعبُ أوروك مأتماً وعويلا. وبكاه جلجامش منتحبا، قبل أن يهيم على وجهه في الأصقاع وحيداً باحثاً عن سر الحياة…قضى ردحاً من الزمن جائلا. ثم عاد إلى أوروك دون أن يصل إلى سر الحياة الخالدة، ودون أن يحقق بطولات مجيدة. ما عدا الإدراك العميق لمعنى “ألا تكون مع”.
نرجِّحُ أن للقدر رُؤًى وصيروراتٍ قد لا تستوعبها العقول، فهل اختارت آلهةُ الموت إنكيدو “الإكزوتيكي، أو الدخيل الخارجي” بقصد النفي الأبدي خارج أسوار أوروك التي لم يخلق بداخلها؟ أم لتختبر جلجامش في فقدان منحة الحرمان من تجربة معنى التكامل المجدي بين “المستأنس” و”الإكزوتيكي”، “الداخل” و”الخارج”؟ أم لأنها اعتادت أن “تحوك للإنسان المحن لكي يكون للأجيال القادمة ما تغني عنه” وفق عبارة خورخي بورخيس التي ألمعنا إليها سابقا؟
سردية إنكيدو المعاصرة:
ليست القصصُ في واقع الأمر إلا “تأويلاتِنا للقصص”17، وفق ما أقر ألبرتو مانغويل (Alberto Manguel)، ونضيف أن كل تأويلاتنا للقصص تظل موصولة بأسوار ثقافاتنا وأهوائنا وتمثلاتنا عن الذات المأنوسة والآخر الإكزوتيكي. خلال الحقبة الفكتورية، وفي سياق الانتشاء بفك جورج سميث (George Smith) لشفرات ألواح جلجامش المسمارية، بادر روديارد كيبلنغ (Rudyard Kipling) –في محاولة منه لإرشاد مواطنيه الإنجليز إلى مدى شساعة الإمبراطورية البريطانية وتنوعها- إلى طرح السؤال: “ما الذي ينبغي لهم أن يعرفوه عن إنجلترا، وهم لا يعرفون إلا إنجلترا؟”18 لم يكن سؤال كيبلنغ محضَ تأنيب أو سخرية. بل إقرارا بالتعريف المضمر لإنجلترا التي تنفض بعيداً عنها كلَّ “مَنْ وما هو ليس إنجليزيا”، وفق ما تُجَلِّيه شخصيةُ “السيد بودسناب” المغرور في رواية “صديقنا المشترك” لديكنز (Charles Dickens)؛ إذا كان كلّما عجز عن فهم أمرٍ ما، ينفضُ بتلويحة من يده كلَّ العالم القابع خارج أسوار معرفته الضيقة جدًّا.
بعد أكثر من قرن، تلقى رئيس الوزراء توني بلير (Tony Blair) منهج السيد بودسناب، بعد أن بدا له أن أعداد المسلمين في بريطانيا قد تعاظم، فأصدر قرارا في يناير 2007 “يشدد على وجوب تأكيد المدارس فكرة “الهوية البريطانية”. أي بدلا من إتاحة المجال لوجهة النظر الإسلامية كي تصبح جزءا من تنوّع وجهات النظر المتأصلة أساسًا في أي معنى من معاني “الهوية البريطانية” (الساكسونية، النورماندية، الفرنسية، الإسكتلندية، الإيرلندية، الويلزية، البروتستانتية…) قررت حكومته حصر مفهوم “الهوية البريطانية” في لون محليٍّ معمّم، مثل ذلك المستخدم في البروباغندا السياحيّة”19. لقد اختار توني بلير تحديد مفهوم “النحن” وتضييق رحابتها من خلال إقصاءِ جزءٍ منها؛ لقد اختار “تضييقَ واسعٍ” وفق العبارة المأثورة في تراث الفقه الإسلامي.
في العام ذاته الذي ضيّقت فيه حكومة بلير “واسعَ الهوية البريطانية”، كان المرشح الرئاسي نيكولا ساركوزي في فرنسا وقتذاك قد اقترح مشروع إحداث “وزارة للهجرة والهوية الوطنية”. كل الإشارات والتلويحات والتلميحات في مسرح هذه الوزارة تحيل على التوفيق المستحيل بين فكرة الاحتواء (الذي تحيل عليه صيغة “وزارة الهجرة”) ونهج الإقصاء (المستضمر في مفهوم “الهوية الوطنية”).
في سرديتنا المعاصرة، لنسأل مثلا: هل يستطيع إنكيدو المهاجر من براري أوروك إلى باريس أن يعيش داخل الأسوار المنيعة “لوزارة الهجرة والهوية الوطنية الفرنسية” بوصفه إنكيدو، أم يتعيّن عليه قسرا أن يعيد اختبار سرديّة “الجميلة والوحش” (كما اجتازها من قبلُ مع كاهنة الحب “شمحات” في براري أوروك، أو كما خاضها “الرجلُ الكلب” مع جميلة الإسكندر المقدوني، وفق نهج ترويضي للذات الإكزوتيكية في السرديتين كلتيهما)؟ وإذا اجتاز اختبار الترويض الأول لا “كالرجل الكلب” الكانبالي، بل “كإنكيدو شمحات” فهل سيظل دخوله أسوار باريس مشروطا باختبار الترويض المتجدد، ذاك الذي رشحت به كلمات الهوية والأهواء في خطاب إيمانويل ماكرون (Emmanuel Macron) (الذي أحدث رجّة في “دار الإسلام” خريفَ 2020) عن: “أزمة الإسلام” ومواجهة “الانفصالية الإسلامية”؟
على سبيل الختم
في الفصل السابع من سردية “آليس عبر المرآة”، قال وحيد القرن: “كنت أعتقد أن الأطفال وحوش خرافية! هل هي كائنات حيّة؟”. ثم نظر إلى آليس نظرة حالمة، وقال: “تكلمي أيتها الطفلة”. لم تتمكن آليس من مقاومة ابتسامة ارتسمت على شفتيها، فقالت: “هل تعلم؛ أنا أيضا كنت أعتقد أن وحيد القرن وحش خرافي! لم أر من قبل واحدا قط”. قال وحيد القرن: “حسنا، الآن وقد رأى كلٌّ منا الآخر، لو آمنتِ بوجودي، فسأومن بوجودك… هل اتفقنا؟”20. ضمن سياقات بعينها، يبدو أنه بإمكان بعض الاستعارات السرديّة “أن تساعدنا، بإمكانها شفاؤنا أحيانا، وتنويرنا، وتبيان الطريق لنا، وقبل كل شيء آخر، بإمكانها تذكيرنا بظروفنا، حيث تخترق المظهر الزائف للأشياء، وتجعلنا متنبهين للتيارات والأعماق الضمنية”21. إن لمرآة الكلماتِ القدرةَ على إثراء وجودنا من خلال إظهار صورتنا في الآخر المتجلي أمامنا؛ إن لها القدرة على “تجلينا معا” وإدراك “وجودنا معا”. ذلك أن شرط تحقق وجودنا هو أن نكون مُدْرَكَينَ من قبل الآخر ومُدْرِكِينَ له في الآن ذاته. إن “معرفة أننا موجودون تستلزم معرفة الآخرين الذين ندركهم ويدركوننا”22.
سواء في “أوروك”، أو في “دار الإسلام”، أو في “لندن”، أو “باريس”… قد تتعدد الأسماء والوسوم، لكنها جميعا تحيل على “الآخر الإكزوتيكي” القادم من بعيد لتهديد “وحدتنا”. إن المسكوت عنه دائما في سردية “الهوية الـمُسَوَّرَة” هو أن التعايش مع الأخر ودّاً لود، أو حتى ندّاً لند، لا يشكل أبدا تهديداً للوحدة، ما يشكل تهديدا للوحدة هو أن “نكون ضدّاً لضد”.