مريم الحتروشية
شاعرة عُمانية
هاجرة:
في هذا الصيف المهيب وأنت تعود أدراجك من مسقط إلى صور .. ما الذي تفعله الجبال على امتداد هذا الأزل المفتوح إلى اللامدى؟!
الجبال وجوه مشرئبة نحو السماء
تستغيث من فحيح اللفح
في هاجرة هذا الصيف البوهيمي الغاشم.
حراب:
الجبال حراب الملائكة غُرِست على ظهر الأرض، وهي تحارب الشياطين.. مذ سالت دماء البشرية لأول مرة، ومنذ أن بعث الله الغراب يواري السوءة.
حراب تعلق راياتِ الزرقة بين أروقة السموات
وهي ترتدي بزاتها الكالحة.
قطرة :
قطرة أخيرة متأخرة عن صويحباتها تنحدر بتؤدة على صفاةٍ بسفح جبل.
كانت آخر َ دمعة حرّى تسكبها سحابة صيف خلّفتها النسائم معلقة في الأفق كرضيع ملفوف بأقمطته.
قطرة -كشاشة عرض ثلاثية الأبعاد- في صفائها ترِّفُ أجنحةُ عقبان القمم الشماء وهي تحلق إلى الأعالي.. أوكارها ساحات معارك صغيرة فلا ينجو إلاّ الأصلح للبقاء..
الحارسة:
كل هذه الجبال الحارسة يالله..
كل هذه الجبال وكأن جبلا واحدا غير كافٍ لطمأنة وجل قلوبنا.. أمن خوفنا هي تطمئننا أم انغرست على امتداد النظر هناك لتعلمنا معنى الثبات!
يا جبال الحجر :
يا جبال الحجر الشرقي..
أمهاتنا اللائي يخفن على أسماعنا أن تشوبها أصداء البعيد.. فيحُلنَ بيننا وبين الغريب
يحنين على وحدتنا ويربتن على أوجاعنا لنسمع الطاروق والتغرود.
الزرقة والرمادية:
زرقتك الباهرة عند الفجر، المتناسلة من الموج تغسلك.
ما تنفك رماديتك الساجية تسكن سويداء القلوب .
تتلفعين بأقمطة السحاب في صباحاتك الباكرة؛ أو أن الغمام الأبيض هو أنفاسك الناعسة وخيالات أحلامك المحلقة.
ثم تأتي صباحاتٌ تغادرين فيها المشهد الوجودي، تظل أعيننا تبحث عنك ولا تراك؛ أتراكِ ترحلين؟!
لبرهة لا نرى سوى تلك القتامة الداكنة المتماهية مع الآفاق.. ترحلين وكأنك لم تكوني يوما حاضرةً بكل ثقلك.. فنعبر من أمامك خفافًا دون ذلك الامتلاء الراسخ بهيمنتك.
حتى تتعاهدك الشمس، فتشرقين مثلها وكأنكِ كنت تقضين بعض الوقت في مغطس الأزل تبدلين ألوان أرديتك.
تظهرين بتدرجات النيلي على امتداد أعرافك المتصاعدة من فيض الزرقة كأحصنةٍ هاربةٍ في مدارج المدى الأزرق.
قتامتك والتي تغشانا بالمهابة وذهول المدنفين؛ فتشع دواخلنا بالتهجد خوفا وطمعا.
في انسكاب سفوحك تربض غيمات بيضاء متفرقة قد أعياها اللهاث مع النسائم وغادرت قطعانها التي ترعى الآفاق.. ثم فجأة أراكِ تتماهين مع الغيوم وكأنكِ جُددتِ من عهن منفوش..
ومع الشمس تظهرين ماثلةً كحقيقة بأدمتك المتجانسة كحشود المصلين.
الحجلـة :
تحجل ذاكرتي تحت سفحك كما كان يحجل الصبية وهم يتراكضون ويلعبون « اللكّد»
وكما كنا نقسم الأرض لمربعات ثم نحجل قفزا في لعبة « السّكينة»..
ننطُّ كما تنطُّ غزلانك من فيء إلى آخر..
كنت عالما حصينا..
ردما هائلا فاصلا حتى في المخيلة بيننا وبين الأشباح الليلية
وكم حفرتِ اللغز فينا..!
أين هم من وزعوا على ظهرك أبراجك وبين فجاجك دراويزك ومداخلك المدججة بالعشور، ترقب حمولات القوافل، لتأخذ ريعها.
ما الحكايا التي كانت تسربها العتمة إلى مسامعك وكأنها رسل الغيب!
وكيف كنت تبوحين بها للنجد امتدادك المتسع، أصلك الممتد، النجد موائدك الملأى بالغافات والسدر والأثل والغزلان والضواري.. ورمسات المدلجين يهشون الوحشة أمام مواقد جمرك… أولئك الحداة يعلون أصواتهم بالتغرود والطاروق في زفة الإبل…
متواليات الطفولة..
كنت تتمحورين أحاديثنا ورمساتنا، يا جارة الوادي
ومعاهد أسراب اليمام والقطا وقيعان تذروها الريح صفصفا، ومغارات الوعول، ومستنبت الخزامى وروائح الزعتر البري بعد هطول المطر.
أسِرْبَ القطا هل من يعيرُ جناحَه
لعلي إلى من قد هويتُ أطيرُ
وكأن سيرة المدنفين قد سطرت على ريشات جناحك، تقصينها للخلائق كلما هممتِ بالتحليق بأجنحتك فيرتسم أمامنا جبل التوباد بملاحمه وحكاياته.
صباحات زرقاء :
في صباحاتك الزرقاء الباكرة المبللة بالندى والضباب تسكن الأمداءُ إلاّ من رفرفة أسراب القطا..
نغني في أمن ظلالك، ومشهدك الثابت الراسخ في قلوبنا.. وفي ألعابنا الباكرة كنت هناك بكل رسوخ تهيمنين على المشهد الطفولي برمته..
متواليات كلامية :
كم توالينا هذه المتواليات بإنشاد يشف عن البساطة
«والعروس تبا فلوس
والفلوس في المندوس
والمندوس عند الحداد
والحداد يبا عروس
والعروس يات بولد
والولد سموه علي
والعلي ركّاب الخيل
والخيلة تبا حشيش
والحشيش فوق الجبل
والجبل يبا مطر
والمطر من عند الله»
نغني غناءً طفوليا محببا يحملنا إلى عوالمَ وبلادٍ بعيدة قريبة بشخوصها وحيواتهم؛ وكأننا نعبرُ هذه العوالم وكأن شخوصها تسكننا.
متواليات كلامية :
«وأصبحت أقصّ
وأمسيت أقصّ
واقصّ ظلف ظبيٍ
مستظلٍ
في صفا سفح الجبل»
كم توالينا هذه المتواليات الكلامية
كم كانت أعيننا تجد في بحثها في هدأة الأصائل والبكور عن ظلف ظبي نقصّ أثره حتى نعثر بفرادة الجمال ككنز علي بابا.
كنا نعلق أحلامنا إثر كل خيبة في الاقتناص
كما علق ابن الجهم عيون المها بين الرصافة والجسر.. علقها زمنا طويلًا حتى كدنا لا نرى جمالا إلا عيونها..
ومن حيث ندري ولا ندري كنا نكرر المتوالية
قرب الصفاة في تسابق سريع ومن يتلعثم في سرعة التكرار هو الخاسر.. كانت إحدى مسابقات مقياس السرعة آنئذ.
مساءً كانت الجدات يسامرننا:
«قال حصيني واوووه
قالت أمه هاتووووه
قال أبوه ربّطوووه
في مرابط اليّعد
كَلْ عصيدة وامتعد»
لا نعرف كيف سيكون حال الحصيني إذا أصبح مربوطا في مرابط الجعد.. لكنه فعلا عقاب يستحقه من والده.. أن يُربط ويُحدّ من حريته ..
لا ننسى قبل أن ننام أن نمسح صور عائلة الثعالب من أن تبيت في مخيلاتنا وتتقافز فيها، تلك المخيلات الخائفة من سطوة الجبال والممتنة فعلا لوجودها…
ونحلم بغد يأتي.. نقص فيه أثرَ ظلف ظبي مستظل في صفا سفح الجبل.
جبالنا:
مومياءات لفظها اليم
لتكون لمن خلفها آية
بكرنفالاتها الدائمة المحتشدة
أمام عبور الخلائق
جبالنا..
ترفع رايات نصرها منذ الأزل
يعبرها المتحدون والأحلاف
ويلوذ بها
المتناجزون والأخلاف
جبال
تطوقنا استبسالا
وعدًا عليها إلى اليوم المشهود
نحن رعاياها الثمالى باكتظاظ أوراها المخلد
«كم من التجار والغزاة عبروك»
سادنها البحر
وبين يدي أكنافها
تعشب البشرية.
أعبرك كطائر ليلي شاردٍ
فتصّعّد الأنفاس
كخشفٍ ذهولٍ مدلجٍ في ظلالك اللامتناهية
يرنو إلى ضفافك البعيدة.
إيبيجراما على جدار كهف جبلي:
عبرنا شعابا بين قفر ومهمهٍ
وظللنا الليل وقد أمنّا النجمُ
ثلاثُ ليالٍ قد مضت من جماديا
ونحن نقصُّ الأثر ما دلنا رسمُ
وكهفٍ به من جانب الطور جذوةٌ
به كم توالى الليل والليل معتم
نبيت على التغرود علَّ وأن عسى
تصيخ لنا سمعا أو تُتبعُ النعمُ
رقوبٌ خلوجٌ صفرةٌ حنّانةٌ
مدامعها من هول فقدانها سجمُ
في الظهائر الحارقة:
على أفقك تتعالى سحب مغبرة وكأنها بقايا أدخنة هاربة من أوار معارك القراصنة على البحر وكأن السفن الصورية تعلي أشرعتها عاليا في مهب «اللحيمر» تواصل تسطير تاريخها بذات العنفوان، وكأن جحافل الأزد ما تزال ترقى بفرسانها قمم عمان الشماء.