اليسار.. عانى من آثار عملية انتحار فـي السبعينيات
أعرف الأستاذ إبراهيم فتحي من خلال إقامته في بريطانيا في السنوات السبع الماضية حيث يشارك في الفعاليات الثقافية التي تتبناها التجمعات المصرية في لندن. وأعرفه في تنوع عطائه الفكري فهو يعمل تقريبا طول الوقت في كتابة مقالات أسبوعية ليغطي المتغيرات السياسية في خريطة مصر والعالم حولها. كما يكتب مقالات نقدية لأعمال روائية وشعرية صدرت حديثا في مصر أو يتعرض بالتحليل لما شاهده مؤخرا من عروض المسرح الإنجليزي المتنوعة بين الكلاسيكيات أو الحديث بما في ذلك السياسي المباشر.. وحيث يكون هناك عرض مسرحي نتفق على مشاهدته سويا نلتقي. ويمتد الحوار بيننا في تفاصيل العرض وما تضمن من رؤية وشحنة فكرية وإبداعية لجذب وتفاعل الجمهور إلى أقصى مدى.
في أماسي لندن الباردة الممطرة أجده متألقا كالعادة بتدفق الحياة ومثابرة نادرة للتفوق على الجو الرديء بالبحث عن الكلمة والفكرة الجيدة في كل ماتزخر به مناحي الفكر في هذا الجزء من العالم.
v كيف تأتي بالطاقة اللازمة لكل هذا النشاط والعطاء؟
– يبتسم.. أًنا طول عمري كده.
نتفق على جلسة لحوار يتناول لمحات من رحلته. وفي محافظة كنت حيث يقيم مع زوجته الدكتورة هناء سليمان استشارية الطب النفسي, أجده في مسكنه المطل على مساحة شاسعة من نهر التيمز. أرى في الأفق سفنا عابرة وأيضا كوبري الملكة اليزابيث الثانية والإشارات الدالة على نفق دراتفورد القريب. والنفق يمر تحت مياه النهر واصلا بين مدينة دراتفورد في الجنوب(محافظة كنت) وثوروك في الشمال ( محافظة إيسكس). وتعتبر لندن من أكثر مدن العالم التي بها أنفاق تحت نهر التيمز. حيث فيها عشرون نفقا لمرور السيارات أو القطارات أو مرور السائرين.
أذكر أول مرة قابلته قبل قدومه لبريطانيا ربما منذ عشر سنوات. كان ذلك في معرض الكتاب السنوي بالقاهرة في عصر يوم مشمس وكان محاطا بثلة من الأصدقاء والصديقات.
v كيف تتحمل البعد عن مصر؟
يجيب بعد فترة: بصعوبة… لكن كما ترين فمن خلال التلفزيون نعيش الأحداث في كل مكان وخاصة مصر والعالم العربي ثانية بثانية. كما انني أتواصل مع الأصدقاء بالتليفون وأسافر لمصر كل عدة أشهر.
أعلم أنني لن أتمكن من قراءة كل ماكتب وخاصة أن جزءا منها في صورة مقالات لم تُجمع بعد. لكن مما في حوزتي من كتب نقدية له مثل الخطاب الروائي والخطاب النقدي في مصر الصادر عن الهيئة المصرية للكتاب 2004 ونجيب محفوظ بين القصة القصيرة والرواية الملحمية وكوميديا الحكم الشمولي بالإضافة لمعجم المصطلحات الأدبية الصادر عن دار شرقيات 2000 وكتب مترجمة تتناول الفن وقواعده الأيديولوجية والعولمة والماركسية والفن الحديث ألمس علاقته الحميمة باللغة العربية.
v كيف كانت بداياتك مع اللغة؟ ومن كانوا أساتذتك؟
– أمي- رحمها الله- كانت بالفعل أول أستاذة لأنها كانت حافظة لكثير من الأمثال والقصص الشعبية. والسخرية كانت طبعها ودائما ماتصف الواقع والناس في محيطنا بصورة كاريكاتورية. والدي- رحمه الله- كان يتنقل في عمله بين مدينة وأخرى ولهذا تعلمت لهجات مدن وقرى مختلفة من سن مبكرة. وبعد ذلك كان أخي محمد هو المعلم الحقيقي في حياتي وهو يكبرني بإثني عشر عاما. وبحكم أنه تخرج من الأزهر ودار العلوم فكان بطبيعة الحال مهتما باللغة العربية. كان حقيقة أقرب الناس لي, ويتابع تقدمي في الدراسة ويحضر لي الكتب ويهتم بي. أما أخي مصطفي كمال الذي يكبرني بعامين ويدرس المعلمين فكان متفوقا في الرسم والغناء ومتعلقا بالفن ويجيد التمثيل في حلقات بعد الدراسة ولهذا لم تكن الأسرة راضية عنه. لكن في حالتي أصبت رضاهم لتفوقى وتقدمي المستمر في الدراسة و حصولي على مكافأت مادية من المنطقة التعليمية.
الغريب أن تأثير محمد انقلب فقد كان له الأثر الأكبر أن أدخل كلية الطب وأنا لاأملك أي مهارات يدوية وتفوقي كان في اللغة والرياضة والأدب والفلسفة وأحصل فيها على الدرجات النهائية.
v إذا افترضنا أن شقيقك محمد لم يمارس أي تأثير عليك في ذلك الوقت, فماذا كنت تود أن تدرس؟
– كنت أود أن أدرس بكلية الأداب قسم الفلسفة. ومحمد- بالمناسبة- تخرج من قسم الفلسفة بكلية دار العلوم. لكن من وجهة نظره أن الفلسفة والأداب لاتصلح أن تكون مهنة للتكسب كالطب مثلا. وقد كان والتحقت بكلية الطب حتى لا أغضبه بعد أن حصلت على ترتيب الثامن على القطر المصري وقتها في شهادة التوجيهية.
v كيف تشكلت توجهاتك الفكرية ومن أثر فيها سواء في محيط الأسرة أو المدرسة؟
– كان في بيتنا مكتبة كبيرة بها كتب من كل نوع. وكنت أقوم باستعارة الكتب أيضا من كشك قريب من منزلنا لقاء ملاليم. وقد حصلت على شهادة الثقافة من مدرسة قنا الثانوية وفي تلك الفترة كان بالمدرسة عدد كبير من المدرسين المغضوب عليهم من الدولة مابين ليبراليين وشيوعيين. وأول مرة سمعت عن الماركسية كان من مدرس الأحياء. وكان يعطينا دروسا إضافية بعد اليوم المدرسي في مجموعة أسماها مجموعة التطور. فعلى سبيل المثال كان يدرس لنا عن داروين. ثم إنتقل في الدروس بعد التطور البيولوجى إلى التطور الإجتماعي وكان يحدثنا عن الدستور السوفييتي. في تلك الفترة أخذت الماركسية كأحد العلوم لكن في نفس الوقت اهتممت بكتب العلم والنظريات العلمية والجانب النظري في فلسفة العلوم.
v كم كان عمرك وقتها؟
– 14سنة. وأنا في المدرسة في قنا, كان يأتى لنا أفراد من منظمة الحركة المصرية للتحرر الوطني ويأتون لنا بمجلات وكتب يسارية. من هؤلاء الأفراد كان عبد الستار الطويلة الذي صرت معه في سجن الواحات بعد 1959. وأحد الذين أثروا في توجهاتي في السن المبكرة أيضا, كان مدرسا ممتازا للغة العربية واسمه عبد الفتاح لاشين. وكان ليبراليا في فكره وموسوعيا في ثقافته ومهتما بالسياسة بعد أن عمل في فلسطين عدة سنوات. كان هو المسؤول عن مكتبة المدرسة وعهد إلي بأن أساعده في تنظيم الاستعارة. فيما بعد ان أصبح كبير مفتشي اللغة العربية في وزارة المعارف. أما مدرس الأحياء فقد قاموا بإبعاده إلى أسوان نتيجة لتأثيره الكبير في الطلبة. ويمكن القول إن أكثر من أثر في سنواتي الأولى كانوا أمى وأخي محمد ومدرس الأحياء ومدرس اللغة العربية. فيما بعد, عندما جئت للقاهرة للالتحاق بالمدرسة السعيدية لاجتياز سنة التوجيهية في عام 1949 عرفت سور الأزبكية لشراء الكتب. كانت الكتب متوفرة باللغة الإنجليزية لأن ضباط الجيش البريطاني والأمريكي غادروا مصر بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتركوا كتبهم.
v ممن تأثرت من الكتاب والمفكرين في تلك المرحلة من عمرك؟
– ككل جيلي اهتممت بطه حسين والعقاد وكان إهتمامي بالعقاد راجعا إلى أنه ذاتى التعليم وإعتمد على نفسه في التثقيف وإن كنت معارضا له في السياسة. وإهتممت في اللغة بمصطفى صادق الرافعي ومن الأوروبيين برنارد شو. كنت معجبا ببرنارد شو لطريقته الساخرة وعدائه للرأسمالية كما كان يدافع عن استقلال مصر وكتب عن حادثة دنشواي. تعلمت كثيرا أن أردد النكت التي يكتبها في سخريته من الأشياء.
v هل كان انخراطك في العمل السياسي المنظم في سنوات الجامعة, ربما في جزء منه, نوعا من التمرد على تأثير أخيك الأكبر للإلتحاق بكلية الطب؟
– ممكن. عندما دخلت سجن الواحات في 1959 بحكم 10 سنوات قاطعني أخى محمد وكان غاضبا جدا. لم يزرني مرة واحدة في السجن لمدة 5 سنوات ولم يهتم بأن يوكل محاميا للدفاع عني. أهل زوجتي الأولى قاموا بتوكيل محام في القضية فقد كان شقيقها علي الشوباشي متهما معي في القضية السياسية نفسها. وقد حُكم عليّ بعشر سنوات مع الأشغال الشاقة وأفرج عني بعد خمس سنوات بعفو صحي.
v في معظم حواراتنا ولقاءاتنا أجدك تتكلم في الأدب أكثر من السياسة. فهل لك أن تحاول فك الخيوط المتداخلة كالضفيرة من السياسة والأدب والثقافة في رحلتك لنفهم تأثير كل خيط في الأخر؟
– اهتمامي الأول كان بالأدب والفلسفة وأتصور أن كتابتى الأولى في السياسة كانت عرضية. لكننى تأثرت في سنواتي الأولى بما كان يجري في مصر من حركة سياسية وعمالية واسعة. في الأربعينات كان هناك اهتمام كبير وسط الطلبة بأحداث مصر والعالم. مصر كانت تابعة للإنجليز في الحرب العالمية الثانية وحزب الوفد وقتها كان موقفه تقدميا جدا في طلب الاستقلال وخصومته مع النازية والفاشية. ومن كتاب الوفد البارزين كان د. محمد مندور رغم إنه كاتبا يساريا فكريا وسياسيا. عندما قدمت للقاهرة لم يكن لدى علاقة كبيرة بالسياسة ولا أنتمي لأي قوى أو تنظيمات. حتى ذلك الوقت كنت مهتما بالأدب الإنجليزي وأدب المهجر. على سبيل المثال, عندما كنت في التوجيهية دخلت مسابقة الأدب العربي عن شعر الوصف عند ابن الرومي والبحتري وفي النثر عن بخلاء الجاحظ. ومسابقة أخرى باللغة الإنجليزية تسمى مسابقة لورد كيلرن وفيها دخلت امتحانا شفويا حيث سُئلت ماذا تود أن تكون في المستقبل فقلت لهم طبيبا نفسانيا. وكنت قد قرأت كتابا إنجليزيا في علم النفس فقلت كلاما مقنعا ونجحت وأخذت مكافأة مالية. تعقدت الأمور عندي بدخولي كلية الطب. كانت صدمتى كبيرة في كل مايحتاج مهارات يدوية مثل مادة التشريح. وبعد أن كنت تلميذا مجتهداً أحصل على المركز الأول تغير كل شئ. وفي نفس الوقت كنت مهتما بالثقافة والمواد النظرية وأشتري كتبا في تلك الأشياء وأدرسها ولاأحضر للكلية (يضحك) كنت غير مهتم بالتشريح لكن كنت أهتم في السنوات الأولى بالكيمياء والفيزياء والفسيولوجي.
v متى دخل الرافد السياسي إلى حيز اهتمامك؟
عندما إلتحقت بكلية الطب تجدد الاتصال القديم بالماركسيين ممن زارونا في قنا. كما كان هناك عدد من المحترفين الثوريين في كلية الطب مثل المناضل سعد رحمى وجمال شلبي وعبد الحميد السحرتي. كما كان هناك كاتب يساري معروف هو صلاح حافظ وأديب يلفت الأنظار هو يوسف إدريس. كان هو في السنة النهائية بكلية الطب وله شعبية قوية بين كل التيارات حتى في صفوف الإخوان و كان يحظى بتأيدهم. كان يوسف إدريس المسؤول عن لجنة أنصار السلام وأنا سكرتير اللجنة وفيما بعد المسؤول عنها. إزداد نشاطي في الحركة الشيوعية في الجامعة وأخرجت جريدة حائط وأسهمت فيها باستمرار بالمقالات والتحليلات السياسية. كان النشاط السياسي بالنسبة لي بديلا لدراسة الطب في السنتين الأولى والثانية. وبرغم ضعفي في الجانب العملي في المواد إلا أنني كنت مهتما ببعض المواد كالفسيولوجي وعلاقته بنظريات الجهاز العصبي المركزي والنظريات التي تهمني مثل نظرية المعرفة. أما الماركسية فقد كانت بالنسبة لي موضوعا يحتاج للمذاكرة ولهذا كنت أشترى الكتب وأعكف عليها بالدراسة. وفي بيتنا لايعرفون أن الكتب في السياسة وليست في الطب. في ذلك الوقت كنت عضوا في حدتو لكن حدثت مشكلة داخل التنظيم حيث أيدوا ثورة 1952 بحماس شديد رغم أن عبد الناصر لم يكن قد أخذ بعد قراراته التقدمية. خرجت من التنظيم مع آخرين وكونا تنظيم وحدة الشيوعيين. كنت طالبا وكان في الصدارة المحامي محمد مستجير والمحامي أحمد فرج والمحامي محمود ندا والنقابي على الشوباشي والمناضل العمالي في شبرا الخيمة محمد الزيات وأول عضوة في مجلس إدارة النقابة العامة للنسيج بالظاهر توحيدة أبوالخير والطبيب أسعد البنا والطبيب الكاتب عاطف أحمد. وفي عام 1953 قُبض علي وعلى آخرين في وحدة الشيوعيين وعندئذ قال محمد مستجير إن كل المطبوعات والكتب تخصه وتحمل القضية وأخذ حكم 4 سنوات وأنا أُفرج عنى. ثم أُعتقلت في 1954 وأرسلت لمعتقل روض الفرج حيث كنت مع الشاعر فؤاد حداد ثم أُرسلت معه لمعتقل أوردي أبو زعبل. في تلك الفترة كانت الممارسة السياسية للشيوعية معظمها كتابة مقالات وترجمة كتب ودوريات. أنا ترجمت أشياء كثيرة منها كتاب العلم ضد المثالية عن دار النديم أو الدار المصرية للكتب وقد نشر الكتاب في 1956. حدث شيء طريف في هذا الكتاب, فعندما ترجمته أخذه بعض الناس وأعطوه لأحد النقاد لينشره. فما كان منه إلا أن نشره كمسلسل في مجلة لبنانية باسمه وقال لي (لم يكن ممكننا أن ينشر باسمك فقد كنت سجينا).
v أستفسر وماذا فعلت؟
– يضحك قليلا ساومته على عدد من الكتب الإنجليزية التي يملكها وأخدتها. أنا بهذا كسبت واستفدت فلم يكن ممكنا أن أدفع ثمن تلك الكتب وقتها. فيما بعد عندما خرجت من المعتقل في 1964 استقبلني هذا الناقد وساعدني أن أنشر كتاباتي. بعد ذلك عملت في الترجمة كثيرا لأنها بالنسبة لى كانت وظيفة للتكسب فمثلا أترجم مجلة المفوضية الرومانية وكتبها التي توزع مجانا على الجمهور.
v وماذا حدث في دراسة الطب؟
– طبعا كنت مسجلا وأذهب للكلية بدون انتظام ,لكن في الأساس لممارسة النشاط السياسي. كان هناك في ذلك الوقت عدد كبير من المنظمات الشيوعية لكن الحركة الشيوعية انقسمت بشدة وكانوا في التنظيمات المختلفة يحاربون بعضهم بعضا وعلاقاتهم فيما بينهم عدائية, معظم الوقت اتهامات. في عام 1959 سُجنت وحُكم على بالأشغال الشاقة عشر سنوات و200 جنيه غرامة من محكمة عسكرية مُشكلة بقرار جمهوري.
v وكيف أثرت تجربتك في العمل السياسي على حياتك الشخصية؟
– كان تأثيرا سلبيا. فقد كنت مسؤولا في التنظيم وهذا عطل الدراسة كطالب. ورغم أنني طالب مجتهد في الأصل أصبحت كسولا جدا في دراسة الطب حيث اعتبرنا الطب نوعا من البرجوازية أما في الماركسية فنحن نضحى من أجل البلد. وبالنسبة لعلاقتى بأسرتى تدهورت لدرجة أن أخى الأكبر قاطعنى بعد دخولي السجن في 1959. كان رأيه إن السياسة ستضيع عمري وأنا أراها أهم شيء بالنسبة لي في ذلك الوقت. لكن بعد الإفراج عني في 1964 احتضننتي الأسرة لأن وضع البلد فعليا كان قد تغير بسياسات عبد الناصر الإشتراكية كما أن نظرة الناس والمجتمع قد تغيرت قليلا تجاه اليسار والماركسيين. ووالدي ظلت علاقته بي قوية رغم أن المباحث كانت تتعمد مضايقتهم في أمور حياتهم اليومية بسبب نشاطى السياسي. واعتقلوا شقيقي صلاح وذهب إلى السجن الحربي والواحات ولم يكن شيوعيا. أما والدتي فقد كانت مريضة وتوفيت عام 1958.
بالنسبة لزواجي الأول لم يصمد. تزوجت في 1957 وزوجتى –بالمناسبة- لم يكن لها أي نشاط سياسي لكن أخويها كانا معي في المعتقل. والدها (مفيد الشوباشي) كان مُنظراً ومفكراً كبيراً لكن والدتها كانت غاضبة عليّ وكارهة لي لأنني في تصورها تسببت في دخول ولديها للسجن وكل ماكانت توده هو أن تتخلص مني فهي تعتبر أنفسهم بورجوازيين ولهم وضعهم الإجتماعي وتم الطلاق أثناء فترة السجن.
v قرأت شهادات كثيرة عن نشاط ثقافي مبهر داخل سجن الواحات الذي ضم كوكبة من المبدعين في تلك الفترة فأستفسر منك عن كيفية التواصل وبناء الجسور بالناس خارج أسوار المعتقل؟
– كان فيه إبداع مستمر ومتفاعل مع مايدور في العالم حولنا. كان هناك مجلات تُكتب باليد وأخرى شفوية. ونظمنا مدارس لتعليم اللغات والترجمة والرياضة البحتة والمسرح. على سبيل المثال كان فؤاد حداد يُدرس اللغة الفرنسية وأنا كنت في نادى الفلسفة وأناقش الكتب وأكتب تعليقات على المسرحيات وأراجع أكثر الكتب التي نترجمها في المعتقل. وكنا نكتب المقالات السياسية على ورق بفرة ونهربها خارج المعتقل. وعندما خرجت من المعتقل وجدت مقالاتي كلها منشورة في طبعة سرية وأنا مسجون.
v وماذا عن ملامح نشاطك السياسي والثقافي بعد خروجك من المعتقل في 1964؟
في الفترة بعد 1964 بدأت بالعمل النقدي. كنت قد تعرفت على عدد كبير من المبدعين والنقاد معرفة شخصية وكنت أتكلم في الإذاعة وكان يعمل بها بهاء طاهر وصديقى الكاتب كمال حمدي. وفي سنة 1968 نظمت وزارة الثقافة مؤتمرا للأدباء بالإتحاد الشتراكي فشاركت فيه وشارك الأدباء في نشاطه وانتخبت ممثلا لمحافظة القاهرة. وكنت مقررا للجنة القصة القصيرة بالانتخاب بعد أن لم يحضر المؤتمر يوسف إدريس الذي كان بطبيعة الحال معينا.
v ولم يستمر شهر العسل مع النظام طويلا وقُبض عليك في 1965؟
اتهمت مع آخرين بقلب نظام الحكم بالقوة وأُرسلت لسجن القلعة ثم طره وكنت في بادئ الأمر مع اثنين من العمال الشيوعيين ثم جاء آخرون من الكتاب المبدعين مثل جمال الغيطاني والأبنودي وسيد حجاب وصلاح عيسى ومن النقاد صبري حافظ. أنا مكثت سنتين وهم مكثوا بضعة شهور.
v وماذا كان وقع هزيمة 1967 عليك؟
كان الإحساس بالتعاسة هو الغالب وأنه لاشيء يمكن فعله لتغيير الواقع برغم إننا لم نفقد الثقة في النظام السياسي. وكانت الثقة بعبد الناصر كبيرة لأنه كان رجلا وطنيا والناس كلها تحبه. وحقيقة الأمر إننا كشيوعيين لم نره أبدا كعدو ولم نحاربه. هو الذي حاربنا.
v وماذا عن النقاد وحركة النقد في تلك الفترة؟
كان هناك عمالقة النقد مثل د. القط ورشاد رشدى وأنور المعداوى وشكرى عياد ورجاء النقاش ومحمود العالم ومحمد عنانى. وقتها كان لهؤلاء تتجاهات واضحة….رجاء النقاش ناصري, العالم ماركسي, وصبري حافظ بنيوي, رشاد رشدي وعناني مدرسة النقد الجديدة, القط مدرسة النقد الواقعي الجديد وشكري عياد موسوعة في المذاهب الأدبية. وقتها كان الجانب النظري عميقا وكان هناك تنوع وإختلافات بارزة. أما الأن فالجانب النظرى ضعيف. بالنسبة لي, فأنا كنت ماركسيا ودافعت وقتها عن الواقعية الاشتراكية على أساس أنها متقدمة وكنت مخطئا لأنني أغفلت ماكانت عليه الممارسة الفعلية في الاتحاد السوفييتي و أرى الآن أن المبالغة في التسييس خطأ. أنا ضد الحزب الواحد الذي يوجه الأدب أو أن يتبع الإبداع السياسة المرسومة من خارج الإبداع.
v وماذا عن جمعية كتاب الغد؟
مع مجموعة من الأدباء والشعراء والنقاد كوّنا الجمعية في أول السبعينات. انتخبت رئيس مجلس الإدارة ود. تليمة النائب. وكان في مجلس الإدارة خليل كلفت وزين العابدين فؤاد والشاعر عزت عامر. لكن نشاط الجمعية توقف بعد أن قبضوا على أعضاء كثيرين بعد أن تشكل فرع للجمعية في بورسعيد. أعضاء فرع بورسعيد أثاروا تساؤلات حول جيهان السادات فانقلبت الحكومة على الجمعية. ولكن قُبض على في يونيو 1973 لأسباب تتعلق بالتنظيم السري ولاتتعلق بكتاب الغد وقُدمت للمحاكمة التي برأت التنظيم المتهم كله بسبب أن الجبهة التي قبضت علينا لم يصدر بها قانون وكان المحامون الذين يدافعون عنا هم نبيل الهلالي وعبدالله الزغبي وزكي مراد.
v وماذا عن نشاطك الثقافي في مجلة جاليري 68 ؟
إنشاء هذه المجلة كان معاصرا لجمعية كتاب الغد وتواكبت مع حركة الشباب في العالم المختلفة مع اليسار التقليدي وكانت تضم أعضاء مثل إبراهيم منصور وجميل عطيه إبراهيم و سيد حجاب وحسن سليمان والأبنودي. استمر العمل بها فترة حتى أوقفها البوليس.
بعد هذا كنت أشارك في ندوات الأتيليه وأتكلم في السياسة والأدب والفن والناس تواظب وتشارك. لكن طول الوقت كنت أشتغل بالترجمة لأن الترجمة وظيفة.
v ما هي الأسباب التي أدت- في رأيك- إلى تقليص حجم نشاط التنظيمات الشيوعية بكل ما فيها من تضحيات جسام وزخم بعد نصر أكتوبر 1973؟
طبعا اليسار كان له دور كبير في الحركة الجماهيرية سواء في اضرابات الطلبة أو العمال في السبعينات. بعد الحرب اكتسب نظام السادات بعض الشعبية.
لكن اليسار بفعل تناقضاته الداخلية ارتكب خطأ في حق نفسه بعملية انتحار لأنه حل نفسه. التنظيمات الأساسية حلت نفسها وكل واحد راح لحاله. بعض الناس بدأت ترى أن كل شيء بالنسبة للشيوعية انتهى ولا فائدة من أي نشاط وأن التحالف مع مؤسسات الحكومة والمخابرات التي اعتبرت مختلفة عن مباحث أمن الدولة فالمخابرات جزء مما كان يُطلق عليه المجموعة الإشتراكية الحاكمة. بالإضافة إلى أن أشهر اليساريين كان الجمهور يعتبرهم جزء من النظام على العكس من الإسلاميين الذين ظهروا كالمعارضة الأساسية. كان اليسار يعاني من آثار عملية الانتحار.
v سأسألك أكثر عن انتحار اليسار. هل تتصور أن انحسار تأثير الحركات الشيوعية في المسار السياسي كان نتيجة لعدم ترجمة الأفكار والشعارات إلى سلوك واقعي مرتبط بالناس بشكل واسع برغم تعدد الجمعيات والمنابر والتنظيمات التي انبثقت على مر السنين منذ عشرينات القرن الماضي؟
بعض برامج اليسار لعبت دورا كبيرا في رفع الوعي الشعبي وتعميقه ولكن معظم الناس اختلط عليهم برنامج اليسار مع برنامج الناصرية وقد عملت هزيمة 1967 المدوية على غروب الناصرية وسقوط الاتحاد السوفييتي على زعزعة برنامج اليسار. رغم أن الحزب الشيوعي في 1924 كان مرتبطا جدا بالحركة العمالية في أوله وتواجد بين الفلاحين لتحسين أوضاعهم. لكن من نقط الضعف في الحركة الشيوعية المصرية… ضعف في الجانب النظري… كان محدودا جدا. توقف عند السطحية النظرية والشعارات التي تشترك فيها الشيوعية مع الحركات الأخرى. لم يكن هناك عمق نظري وكان هناك عداء لما يسمى بالانحراف النظري بما معناه أن قراءة كتب مكتوبة في بلاد أخرى لاتنفع مجتمعنا. مثلا أكبر حركة شيوعية حدتو (حركة ديمقراطية للتحرر الوطني) لاتحمل في اسمها أي شيء شيوعيا أو طبقيا…مسائل عملية سياسية وتمنيات طيبة. وبالإضافة لعدم وجود عمق نظري كان هناك مرض خطير اسمه التلقائية والذيلية…يسيروا تبعا للتيار في الشارع…فمثلا يلتحقون بالوفد على أساس أن للوفد جناحا يساريا. وحدتو رأت أن الوقوف مع الوفد والعمل أن تكون الحكومة من الوفد مع نقد خافت للوفد. لهذا أقول أن الحركات الشيوعية كان بعضها حركات ذيلية ولم تكن حركات طبقية مستقلة. حاولت أن تلتصق بالطبقة الوسطى الوطنية لأن تشكيلها من الأول يسير وسط الحركة الوطنية. وبالتدريج أصبح هناك انعزال بين اليسار والجماهير. وعندما جاء عبد الناصر وجه ضربة قاصمة لليسار لأن أفكاره كانت بالفعل متقدمة جدا عن اليسار فقد نزل بالإشتراكية كهدف مباشر وتحول لحركة جماهيرية. أما اليسار فلم يترجم شعاراته لسلوك جماهيري.
v أحاول أن أفسر نوع التوقد العاطفي الذي يصاحب اعتناق الشباب لفكر أو أيديولوجية معينة. فهذا التوقد هو الذي يدعم التمسك المطلق بالفكرة حتى يضحي الشاب بنفسه من أجلها دون تردد. وكما كان الشيوعيون يؤمنون بعالمية مايناضلون من اجله فهل هذا الطرح ينطبق أيضا على الإسلاميين؟
يكون هناك توقد بمعنى شحنة عاطفية وعقلية. لكن في الحركة الشيوعية كنا نريد شيوعية مصرية بمعنى نظام يقضي على المرض والفقر. الماركسية كفلسفة تقول أن كل مطلق مرتبط بالنسبي وكل نسبي به ذرة من المطلق. في الماركسية تلك علاقة جدلية. أما عند الإسلاميين فهناك علاقة مباشرة بين الإنسان والمطلق. في الماركسية التوقد العاطفي مبني على العمل الإجتماعي والعمل المباشر. أما عند الإسلاميين فهو مبنى على أن ربنا هو الذي يحدد وطالما أن الفرد يعمل من أجل الدين فربنا هو الذي سينصره.
v ماذا عن تباين دور المثقفين وعلاقتهم بالنظام الحاكم بين حقب ناصر والسادات ومبارك؟
عبد الناصر وضع أساس التدخل الأمني الشديد والسادات سار على نفس المنوال وجاء مبارك أسوأ من سابقيه. لكن بعد فترة معينة كان هناك مثقفون يشيرون على النظام بأن التدخل لايفيد. على سبيل المثال قام د.جابر عصفور بنشاط في المجلس الأعلى للثقافة كعقد المؤتمرات والندوات التي شارك فيها كثير من المبدعين العرب. ونشر المجلس عددا لابأس به من الكتب و التراجم الممتازة. وأتصور أن عصر حسني مبارك لم يستطع أن يفرض وضعه على المثقفين فأغلبيتهم كانت مختلفة مع النظام. طبعا كان هناك بعض الإنتهازيين قبعوا داخل الحظيرة… لكن من داخل قنوات الحكومة طالب المثقفون بحرية التعبير.
v هل نفهم من وجهة نظرك أن المثقف لايجب أن يقاطع قنوات الحكومة الثقافية؟
لايجب أن يقاطعها. كلما اشترك الناس كان ذلك أفضل. فأنا لاأتفق مع مثقف بارز قد يكون صديقي في رفضه للنشاط التابع لوزارة الثقافة ونشاط الجامعة الأمريكية. أنا ضد السياسة الأمريكية لكن لست ضد المثقفين الأمريكان أو أساتذة الجامعة الأمريكية أو طلبة الجامعة الأمريكية. يجب أن نحدد العدو جيدا.
v دعنا نقارن بين إيجابيات وسلبيات تعاون المثقف مع قنوات الحكومة الثقافية؟
المثقف يجب أن يتواجد حيث تكون الجماهير…كل الأماكن التي بها جماهير…هل نقاطع صحف الحكومة أو مؤتمراتها!؟ هذا لايفيد رواج الثقافة. إذا قاطع الكتاب نشر أعمالهم في القنوات الحكومية فلن تصل أعمالهم للجماهير. على سبيل المثال معرض الكتاب بمثابة عرس ثقافي ووسيلة اتصال بين المثقفين والجماهير. في كل هذه التجمعات يجب أن يكون صوت المثقفين هو الأعلى. فليس معنى المشاركة هو أن توافق على سياسة الحكومة وأن تكون في الحظيرة السياسية.
v ما الذي يساهم في تكوين وعي الأفراد؟
هناك عدة عوامل منها الأسرة والبيئة التي نولد بها والمجتمع الذي نحيا فيه. لكن لكل منا إرادته فهو ليس عجينة طيعة. بالنسبة لحالتي, لم يكن هناك شخص ماركسي في أسرتي. أنا قرأت وإخترت وتحملت مسؤولية الاختيار.
v ما هي العوامل التي على أساسها تختار العمل الذي تقوم بترجمته؟
مايحدث هو إما أن جهة معينة تعرض علي ترجمة كتاب ما أو أختار أنا العمل وأقوم بعرضه للموافقة عليه. لكن إذا دار نشر عرضت على كتابا استعماريا أرفض ترجمته. أما إذا كان الكتاب يختلف مع وجهة نظري بموضوعية فمن الممكن أن أترجمه بشرط أن يُسمح لى بكتابة نقط اختلافي في المقدمة أو الهوامش.
v ما هو الكتاب الذي تترجمه في الوقت الراهن؟
(الذات ومخها) من الإنجليزية. أنا أترجم الجزء الفلسفي وزوجتي هناء تترجم الجزء العلمي. الجزء الفلسفي تأليف كارل بوبر والعلمي تأليف إيكلس.
v وما هي المشاكل التي تراها عقبة في نشاط حركة الترجمة؟
الأغلبية الساحقة تركز على اللغة الإنجليزية والفرنسية منها وإليها. هناك قلة في باقي اللغات وخصوصا الشرقية مثل اللغة الصينية واليابانية. لكن يبدو أن الاهتمام يزداد الآن بتلك اللغات.
v وما هو رأيك في دور فن المسرح في مرحلة التحول الديمقراطي في مصر؟
دور مهم أكيد. لكن ليس هناك ما يسمى بالمسرح السياسي لأن أي مسرحية لها رؤية سياسية لأنها تتكلم عن موقف إنساني وعن العلاقات والصراعات في حياة الناس وليست سياسية بالمعنى المباشر. وكان دور المسرح التجاري تاريخيا أحترمه جدا. لأن نجيب الريحاني كان يتمتع بشعبية واسعة ويعتمد على النكتة المصرية والمصريون يفهمون المفارقة. وكل المسرحيات التي إشتهرت لعمالقة الفن المسرحي مثل سيد درويش ويوسف وهبي تعتمد في الأساس على تفاعل الجماهير. كما أننى أحترم دور الدولة في المسرح لكن المسرح الأساسي في مصر كان قطاعا خاصا من الناحية التاريخية.
v أعرف أنك كعمل ما بين الترجمة وكتابة المقالات والقراءة التابعة لذلك ما لا يقل عن 8 ساعات يوميا فكيف حقيقة تأتي بالطاقة والانضباط لكل هذا الجهد؟
أهم المتع عندي القراءة… ولأن القراءة تدخل في كل عملي فيكون مجهود العمل ممتعا وترفيهيا. أما الانضباط فهو نتيجة لأنني عملت زمانا في دار نشر النديم ودائما كنت مقيدا بمواعيد. ثم إن عملي بالترجمة يحتم علي الارتباط بموعد لتسليم العمل وتدريجيا كل هذه الأشياء أجبرتني أن أكون منضبطا رغم أنفي.