ليس هناك من بين الشعراء الذين طبعوا القرن العشرين، من هو أشدّ تعقيدا من إزرا باوند(1885-1972). فهذا الرجل الذي وصفه ويليام بتلر ييتس بـ«البركان المتوحد بنفسه»، وجيمس جويس بأنه «معجزة من الغليان ومن الحيوية، وحزمة كهربائيّة غير متوقّعة التفريغ»، عاش حياته بالطول العرض، وواجه أحداثا جسيمة ومرعبة، واتخذ مواقف جلبت له محنا ومصائب، وتحدّى بلاده، الولايات المتحدة الأمريكية، خلال الحرب الكونية الثانية، مُفَضّلا مُعَاضَدةَ كل من موسيليني، وهيتلر، وهاجم المرابين اليهود مُعْتبرا إياهم السبب الاساسي في انهيار القيم والمبادئ التي قامت عليها الحضارة الغربية. من جانب آخر، كان إزرا باوند يتمتع بثقافة موسوعيّة، وبمعرفة عميقة بآداب العالم في جميع العصور. وقد خوّل له كلّ هذا إحداث ثورة حقيقية في الأدب والفكر واللغة. وكان يتحلى بأخلاق إنسانيّة عالية في تعامله مع الآخرين، وبسخاء ساعد أصدقاءه من الروائيين والفنانين والشعراء، باذلا جهودا مُضْنية من أجل التعريف بهم وبأعمالهم. وهذا ما فعله مع جيمس جميس عندما كان هذا الأخير منشغلا في مدينة ترياست الإيطالية بكتابة أثره الذائع الصيت: «يوليسيس»، ومع تي.آس.اليوت مُبلورا الصيغة النهائية لقصيدته الشهيرة: «الأرض الخراب»، ومع إرنست همنغواي في بدايات مسيرته الأدبية، ومع آخرين كثيرين. وربما لفضائله هذه، لُقّب بـ«وزير الثقافة الأوروبية من دون حقيبة». ولعله كان على حقّ عندما ردّ على الذين اتهموه بالعنصرية وباللاساميّة قائلا: «إذا كان بإمكان رجل أن يؤكد أنني أسأت معاملته بسبب عرقه، أو ايمانه، أو لونه فليأت علنا، وليقل ذلك ويثبته. لقد أهديت كتابي :«الدليل إلى كولثور» إلى بازيل بونتينغ، ولويس زوكوفسكي. والأول من «الكواكرز (أعضاء بدعة بروستانتينية تدعو إلى السلام ومحبة الغير وبساطة العادات)، والثاني يهودي». وكثيرون من الذين انشغلوا بسيرة إزرا بواند تساءلوا: هل كان رائيا عبقريّا؟ أو خائنا للوطن؟ أو مجنونا؟ أو صاحب رؤيا؟ أو متعصّبا؟ غير أن ما هو مؤكد أنه لا يوجد مثيل له من بين معاصريه، ولا بين من خَلَفوهم. فقد كان مسكونا برغبة حارقة في بعث ثقافة جديدة تعيد الحياة إلى حضارة غربية بدت له وقد شرعت في التدهور والإنحدار والذبول على جميع المستويات.
**
المغامرة الكبيرة بدأت مبكرا. فقد كانت عائلة إزرا باوند تميل إلى الشعر. فالجدّ كان يراسل مدير المصرف شعرا. والجدة كانت تستخدم الشعر في الرسائل التي تبعث بها إلى أشقّائها. وفي ساعات الاستراحة، كانت والدته تقرأ عليه مختارات من القصائد الكلاسيكيّة. وكان بقيّة أفراد العائلة يظهرون شَغَفا بالشعر بدرجات متفاوتة. وكان البيت العائليّ يتميّز بخصائص المعمار الفيكتوري. فقد كان واسعا، تزيّن جدرانه اللوحات العائليّة، وبه تحيط حديقة جميلة غنيّة بالأزهار وبالأشجار المثمرة. ويعني هذا أن «الجمال كان جزءا من الحياة اليوميّة» كما سيقول إزرا بواند في ما بعد. ومن المؤكد أن هذا المناخ الشعريّ أثّر فيه كثيرا وهو لا يزال طفلا. لذلك كتب أول قصيدة وهو في الثانية عشرة من عمره، وفيها يقول مُعبرا عن فرحته بالعطلة المدرسيّة:
أيّام أربعة وتأتي العطلة
حين نغادر هذا الشعب
نتخلّص من اللاتينيّة واليونانيّة
ومن التدخين في الخفاء
في عام 1898، عاش إزرا باوند تجربة سوف يكون لها تأثير كبير عليه. فقد اصطحب خالته فرانك في رحلتها إلى أوروبا. وكانت لندن المحطة الأولى. والشيء الذي لفت نظره في هذه المدينة هو برجها الشهير الذي بدا له وكأنه يجسّد قوة السلطة والقانون، والصرامة والاستقامة. في الآن نفسه هو يعكس أيضا الهشاشة والوهم والشر الذي تتميز به الأنظمة الرأسماليّة التي لا تتردّد في الدّوس على كلّ القيم من أجل الربح، والحفاظ على مصالحها. وخلال تلك الرحلة، أظهر ازرا بواند تحمّسا للمشاعر الوطنيّة. فعندما بلغه خبر آنتصار بلاده في الحرب الإسبانية-الأمريكية، صاح قائلا: «عاشت أمريكا! ولتسقط سانتياغو!«. وفي ما بعد، وتحديدا عام 1962، سأله مبعوث مجلة «باريس ريفيو»: كنت تقول قبل أيام أنك أصبحت تشعر بنفسك أمريكيا أكثر فأكثر كلما تقدمت في السن»، فردّ هو قائلا: «كان الشعور بالغربة ضروريّا في البدء. إنّ المرء لينتقل من مكان إلى آخر، يتطور، ثمّ يُقتلع من جذوره، فيعاد إلى المكان الذي أُقتلع منه، ثم لا يعود قيد الوجود…لقد قال أحدهم إني آخر أمريكيّ يعيش مأساة أوروبا».
وكان ازرا بواند قد انتسب وهو في الثانية عشرة من عمره، إلى الأكاديميّة العسكرية القريبة من البيت العائلي في كراوفورد سفيل بولاية إنديانا، وفيها شرع في التعرف على أدباء العالم اللاتيني. وفي جامعة بنسلفانيا التي استقبلته وهو في السادسة عشرة من عمره، عمّق معرفته بهؤلاء، خصوصا بأوفيد. وفي ما بعد، سَيُظْهر تأثير هذا الأخير في عمله الشعري الأساسي: «كانتوس»(الأناشيد) الذي كان قد بدأ في التشكّل آنذاك. ومن المؤكد أيضا أن إزرا باوند تأثر أيضا في هذه الفترة بوالت ويتمن الذي حرّر الشعر الأمريكي من خلال ديوانه «أوراق العشب»، من القوالب الجامدة، ومن الرتابة الثقيلة ليجعله مفتوحا على الحياة في جميع مظاهرها وتجلياتها. غير أنه لن يعترف بفضل ويتمان عليه اّلا في عام1909، حيث كتب يقول: «أنا في الواقع والت ويتمان تعلّم أن يرتدي طوْقا ولباسا. وربما أكون سعيدا جدا، من جهتي أنا شخصيّا، بأن أخْفي الروابط التي تشدّني إلى والدي الروحي فيما أمتدح نفسي على أجداد أكثر ملاءمة لذوقي -دانتي، شكسبير، تيوقريط،فيّون- إلاّ أن السبب سيكون من الصعب إثباته. إني من الصراحة بحيث أقول إن ويتمان هو بالنسبة لبلادي بمنزلة دانتي بالنسبة لإيطاليا».
غير أن اعتراف باوند بعظمة والت ويتمان لم يمرّ من دون تحفظ. ففي قصيدة حملت عنوان: «معاهدة»، نشرها في عام 1913، كتب يقول:
أعْقد معك معاهدة يا والت ويتمان
لقد كرهتك زمنا طويلا
آتي اليك كطفل غَدَا كبيرا
مع والد عنيد.
غدوْت كبيرا في السنّ الآن بحيث يَصْعُبُ التّفاهم
أنت الذي قطعت الغابة الجديدة
وها آن الأوان للنحت
لكلينا النّسغ ذاته والجذر ذاته
خلال سنوات الدراسة في جامعة بنسلفانيا، ارتبط إزرا باوند بعلاقة صداقة وثيقة مع ويليم كارلوس ويليامز الذي كان يدرس الطبّ، والذي سيكون في ما بعد واحدا من أبرز الشعراء الأمريكيين في القرن العشرين. ورغم الاختلافات والمصاعب والمواجهات بينهما، ظلت هذه العلاقة قائمة الذات فلم تَشبْها غير بعض التصدّعات. راسما صورة للجوّ السائد في جامعة بنسلفانيا، سيقول ويليام كارلوس ويليامز في ما بعد: «كنّا نتكلم مع باوند بكل صراحة عن الجنس، وعن رغبتنا الأليمة في امتلاك آمرأة، إلاّ أننا كنّا نحن الإثنين «مرهفين» لدرجة لم نكن معها لنستفيد من امرأة فيما لو أمكننا أن نقع على واحدة، وهو ما كان مستحيلا. لقد كنّا من الخجل بحيث لم نتجرأ على ذلك، وكنّا نعيش في أغلب الأحيان في جحيم حقيقيّ».
وفي هذه السنّ أيضا، اكتشف إزرا باوند فضائل الرياضة فمارسها بإتقان ومهارة. وفي ما يعد سيلاَكمُ همنغواي في شقته بباريس بشارع «نوتردام دوشامب»، وستساعده المرونة الجسدية التي اكتسبها على تحمّل مشاقّ الحبس في قفص، وعذابَ سنوات طويلة أمضاها في مصحة للأمراض العقليّة عقابا له على ولائه للفاشية، ولزعيمها موسيليني.
وخلافا لاليوت، لم يبد باوند في بدايات مسيرته الإبداعيّة، ميلا لا إلى ملارميه، ولا إلى بودلير. فرمزيّة الأول التي تعتمد كلّيّا على الإيحاء، والتي تعتبر أن متعة القصيدة كامنة في الإكتشاف التدريجي لها، لم ترق له. وأما «توافقات»الثاني(Correspondances) فقد وجدها غير مجدية فنيا ذلك أن «الصدى الذي يردّد صوت العالم الآخر، وانعكاس صورة نارسيس في المستنقع، وكلّ هذا سراب مزيّف يضيّع الجهد». لذلك لم يحتفظ إزرا باوند من بودليرإلاّ بـ«العطور الطازجة كأجساد الأطفال، تنشد فوران الروح والأحاسيس». الشاعر الفرنسي الوحيد الذي تعلق به هو جيل لافورغ الذي توفي وهو في السابعة والعشرين من عمره. ولعلّ ما شَدّه إلى هذا الشاعر هو «وقاحته»، وكشفه عن معاناته وعذاباته من دون تخفّ وراء الأقنعة والرموز ليموت في النهاية نتيجة «البؤس والسل والفقر الكريه». وقد عاين باوند أن هذا الشاعر كان، عكس الرومانسيين الذين يبالغون في وصف أحزانهم، يواجه مصاعب الحياة وأوجاعها المرة بالسخرية والضحك. تلك الحياة التي خدعته فلم يَنلْ منها ما يمكن أن يسعده، ويريحه من متاعبها حتى ولو لوقت قصير.
بعد حصوله على الديبلوم من جامعة بنسلفانيا، وذلك عام 1907، عيّن إزرا بواند أستاذا في معهد كراوفورد سفيل بولاية انديانا. إلاّ أنه سرعان ما فُصلَ من وظيفته. فقد كان يتجوّل في الشارع في ليلة شديدة البرودة لما التقى بفتاة كانت تهيم على وجهها بحثا عن الأكل والدفء. ومن دون أيّ تردّد، استضافها لتمضي الليلة في البيت المؤجر الذي كان يقيم فيه. في الصباح، هرع أهل البيت إلى مدير المعهد ليعبروا له عن سخطهم تجاه «السلوك المشين للأستاذ الشاب الذي يستضيف في بيتهم صغار العاهرات». فما كان من مدير المعهد الاّ أن استجاب لطلب هذه العائلة القاضي بفصل باوند من عمله لتشهد حياته مُنْعرجا حاسما. فقد قرر أن يترك بلاده، مُفَضّلا العيش في أوروبا التي كانت تفتنه بتاريخها وشعرائها وفلاسفتها وفنانيها. وقد عَكَسَ هذا القرار رفض باوند للحياة الأمريكية، ولنواميسها، ولرأسماليتها المتوحشة، ولنظامها الأخلاقي، ولضيق الأفق عند مثقفيها ونخبها الفكرية والسياسية.
**
كانت فينيسيا محطته الأولى. فيها عمل غندوليّا لكسب قوته، وفيها عاش البؤس والحيرة واليأس. وقد كتب في هذه الفترة العديد من القصائد، لكنه فَضّل في النهاية إلقاء البعض منها في البحر. أما البقية فقد نشرها في ديوان صغير حمل عنوان:«A Lume Spento “(إلى لهيب متلاش). وبعد جولة في باريس، انطلق إلى اسبانيا ليواصل فيها أبحاثه عن الكاتب المسرحي لوبي دو فيغا الذي كان قد اكتشفه خلال سنوات الدراسة في الجامعة. كما زار متحف «البرادو» الشهير في مدريد ليقف مفتونا أمام لوحات فالاسكيز. بعدها توجّه إلى لندن في خريف عام 1908، وفيها سيقيم حتى عام 1920. وقد مَثّلت إقامته الطويلة هناك منعرجا مُهما في مسيرته الإيداعية. فمنذ الأشهر الأولى، وجد نفسه في قلب الحياة الأدبية والفنية في العاصمة البريطانية. وبمساعدة جورج بارنارد شو، انضم إلى «نادي الشعراء»، وبحماس انخرط في نشاطاته. وقد وجد في شخصية الفيلسوف والناقد الفني تي.إي.هولم الذي تعرف عليه في ربيع عام 1909، ما أرضى اهتمامته الفنية والفكرية.
وكان هولم الذي سيقتل على جبهة الحرب الكونية الأولى في الثامن والعشرين من شهر سبتمبر 1917، والذي سيلمّح باوند إلى ذكراه في النشيد السادس عشر من «الكانتوس»، مُلمّا بالحركات الفنيّة الجديدة الذي كان يمثلها كلّ من سيزان، وبيكاسو، وابستاين، وبرانكوزي. ومرة كتب يقول بإن هناك «فنّا هندسيّا جديدا يولد الآن، ويمكن اعتباره مختلفا، من حيث طبيعته، عن الفن الذي سبقه لأن فيه شبها كبيرا بفنون الماضي الهندسية». وقد احتفظ باوند من هولم بأفكار كثيرة منها مثلا أن «كلّ شعر يتوقّف على الأحاسيس»، وأن «غاية الفن هي خلق الانخطاف». كما أنه-أي الشعر- لا يعني «خلخلة الحواس» كما دعا إلى ذلك رامبو، بل أن مطمحه هو «بلوغ الجمال المتشنج». وقد ازداد باوند إنغراسا في الحياة الثقافية والفنية في عاصمة الإمبراطورية التي لم تكن تغرب عنها الشمس آنذاك، بعد أن أصبح من أفضل كتاب مجلة «إنجليش ريفيو» التي كان يرأس تحريرها الشاعر فورد مادوكس فورد. وها اسمه الآن إلى جانب المشاهير من أمثال كونراد، وتوماس هاردي، وهنري جيمس، وويندام لويس وآخرين. وكانت العلاقة مع فورد مادوكس فورد مثمرة إلى حدّ كبير. فقد «رسّخ فيه هذا الأخير عذوبة اللغة، وفضيلة الضحكة الهوميرية». كما أعجب باوند بويندام لويس باعتباره «الظاهرة الأكثر ندرة: انجليزيا حقق معجزة أن يكون اوروبيا أيضا. وهو أيضا «الكاتب الانجليزي الوحيد الذي يمكن مقارنته بدستويفسكي، إلاّ أنه أسرع من دستويفسكي، يسافر بذهنه بشكل أسرع، وبصورة أكثر مفاجأة».
وفي هذه الفترة الزاخرة بالنشاط والأفكار والإبداع والصدقات المثمرة، انشغل إزرا باوند بشعراء الصورة، أو بما سمّاه بـ«Imagism» (التصويريّة). وكان هدفه من ذلك، تخليص الشعر من التجريد الذي أغرقه فيه مالارميه. ولعلّ الباعث على ذلك هم الرسّامون والفنانون الذين قد أخذ يختلط بهم، يتعرف على أعمالهم في المعارض وفي المتاحف. كما أن هولم كتب ذات مرة يقول: «إني أتنبأ بأنه اقترب الوقت الذي سيصبح فيه الشعر ذا صلبة وصرامة كلاسيكيين كليّا». وقبل ذلك، كان باوند قد أبدى اهتماما بالحركة «البرناسية» التي تزعمها الشاعر الفرنسي تيوفيل غوتييه، وبها أعجب، في حين أبدى نفورا من الحركة الرمزية التي كان الشعراء المنتمون إليها يكثرون من الإيحاءات والرموز في قصائدهم. وفي مقال أعَدّه عن تيوفيل غوتييه، أشار باوند إلى أن ما يتميّز به هذا الشاعر هو «صلابة الرسم الشعري وثباته». وهو يضيف قائلا «أعني بـ«صلابة» ميزة من الفضائل الشعريّة بصورة شبه دائمة. وأعني باللطافة ميزة معاكسة ليست دائما عيبا. إنّ تيوفيل غوتييه يحضّنا على أن نقتطع مادتنا الشعرية من مقلع صلب. إنه يحاول أن يعبر، انطلاقا من هذه الصلابة، عن سلسلة من العواطف، ويتوصل هكذا إلى أن يكون شاعرا حقّا«. وكان باوند يبدي اعجابا كبيرا بفلوبير. بل أنه لم يكن يتردد في أن يعلن أمام أصدقائه بأنه»معلمه». ويعود ذلك إلى أن صاحب «مدام بوفاري» كان شديد الإتقان لفنه. وكان يقول بإنه حان الوقت أن يكون النثر في مستوى الشعر من ناحية الإتقان، والمهارة في اختيار الكلمة المناسبة. وكان يقول: «ليس هناك غير كلمة واحدة يمكنها أن تعبر بشكل كامل ومُحكم عن شيء أو عن فكرة. وهذه الكلمة هي التي يجب إيجادها حتى ولو أمضينا ثمانية أيام نفتش عنها». ومعلقا على أفكار باوند حول الـ«Imagism»، كتب أحد النقاد يقول: «ما يمكن ملاحظته هو أن الإستراتيجية الباوندية(نسبة إلى باوند)لا تمليها الأنا الحريصة على اكتشاف نفسها، أو العثور على نفسها مجددا، إنها تتبع على العكس طرقا تفتحها لها الذاكرة لأن «ربات الشعر هنّ بنات الذاكرة»، ولا جيشانات مسهبة، ولا تدفّقات عاطفية. فالشاعر لا يكتب باسمه لأن ابداعه يشمل كلّ الإرث الثقافي الوارد إلينا من الماضي. وكما أنّ باوند لا ينفك يحيّي الأجداد الذين كوّنوه ودّربوه، فإنه يحلو له دائما أن يشير إلى المعاصرين الذين ساعدوه على بلورة فكرة من أفكاره». ومُحذرا من التجريد، كتب باوند يقول: «كان مرض القرن الماضي يتمثل في التجريد، وقد شاع كالسل». وما كان باوند يعمل من أجل تحقيقه هو أن «يصل الناس إلى الاعتقاد بأن ما يهمّ في الفن هو نوع من الطاقة، شيء يشبه الكهرباء أو الإشعاعيّة، قوة قادرة على أن تُلْحم وتًُصْفق وتوحّد، قوة كقوة الماء الذي ينبجس من الرمل الملتمع ويجرفه في حركته السريعة».
وكان باوند بتفق مع جرترود شتاين التي ميّزت بدقّة بين «المعاصرين»، و«الحداثيين». فـ«الحداثيّون» هم بالنسبة لها ظواهر عابرة. أما المعاصرون فهم المبدعون الحقيقيّون لأنهم «شاهدون على زمنهم,. وهم حرّاس الماضي في الوقت ذاته». ومعنى هذا أننا» نجد بذور الأعمال الأدبية المبدعة في الأزمنة الخوالي في الأعمال الأدبية الجديدة»كمايقول ويليم كارلوس ويليامز.
في فترة إعداده لأنطولوجيا عن شعراء الصورة، عثر ازرا بواند على قصيدة لجيمس جويس الذي كان يقيم آنذاك في مدنية ترياست الايطالية. وقد بدت له هذه القصيدة التي حملت عنوان: «أسمع جيشا في السهل» متطابقة مع مشروعه، فسارع بالكتابة إلى صاحبها لتنشأ بين المبدعين صداقة متينة، بل مثالية. ومنذ ذلك الحين، لم ينقطع باوند أبدا عن الوقوف إلى جانب جويس في كل المحن، والمصاعب المادية التي مرّ بها. وأثناء إقامته في لندن، اكتشف باوند شاعرا سوف يكون له شأن عظيم في ما بعد. ولم يكن هذا الشاعر غير تي.آس.اليوت صاحب القصيدة الشهيرة «الأرض الخراب». وفي رسالة بعث بها في سبتمبر عام 1914 إلى هارييت مونرو التي كانت تدير تدير مجلة»شعر»، كتب يقول: «لقد كنت مصيبا تماما بشأن اليوت. فقد أرسل أفضل قصيدة رأيتها لأمريكي…إنه الأمريكيّ الوحيد الذي استعدّ استعدادا صالحا للكتابة، فهو بمحض جهده الخاص درّب نفسه على النظم، ونمّى فيه النزعة العصريّة». ولما انتقل باوند إلى باريس، التقى اليوت من جديد. وقد قام هذا الأخير بإهدائه «الأرض الخراب»،، ناعتا إيّاه بـ«الصّانع الأفضل». وعن ذلك كتب يقول: «في عام 1922 قدمت لباوند في باريس مخطوطتي لقصيدتي «الارض الخراب»، فتركت يديه تفعل ما تشاء لتنقص القصيدة إلى النصف تقريبا، ولتكون في الشكل الذي ظهرت فيه مطبوعة».
انطلاقا من عام 1913، شرع إزرا بواند في التركيز على الآداب الصينية القديمة، ليجد فيها «العناصر الملموسة، واللغة التي لاتكذب». وقد ازداد اهتماما بهذه الآداب بعد أن اكتشف أن الشعر الصيني «يشبه في حيويّته اللوحة الفنيّة، وفي مرانته الصوت البشري». ويعني ذلك أنه لا مكان فيه للتجريد والالتباس. وفي «الكانتوس» سوف يستوحي من الشعر الصيني القديم «استقامة اللغة، وأيضا النظام والوضوح». كما أعجب باوند بالحكيم الصيني كونفوشييوس الذي كان يشدّد على أن النظام هو أساس كلّ شيء. من دونه، يتسرب الخراب والفساد إلى العائلات وإلى الدول والامبراطوريات. ومن دونه لا يمكن للأفراد أن يحققوا ما يبتغونه، وما يطمحون اليه. وفي ذلك هو يقول: «إن الحكماء الذين كانوا ينوون أن يصفوا وأن ينشروا في كل الامبراطورية هذا الضوء الذي يأتي من النظر باستقامة في القلب قبل العمل،، بدأوا أولا بإرساء حكومة مستقيمة في دولهم. وبما أنهم كانوا يريدون هذه الحكومة الجيدة في دولهم،، فقد أرسوا النظام في عائلاتهم، ولإرساء النظام في بيوتهم، انضبطوا هم ذاتهم. ولما كانوا يسعون وراء انضباط شخصي فقد أصلحوا قلبهم. ولما كانوا يريدون إصلاح قلبهم،، فقد سعوا وراء تحديدات دقيقة لأفكارهم غير المتلفظ بها. ولكي يجدوا هذه التحديدات الدقيقة، فقد طوّرُوا معارفهم إلى الحد الأقصى«. ويرى الكاتب والناقد الفرنسي فيليب سولرس أن الأفق الذي آهتم به باوند في الثقافة الصينية هو الثقافة الإمبراطورية الكبيرة التي تنبسط في زمن ثابت، وفي إطار مختلف عن إطار الثقافة الغربية الراضخة لزمن تاريخي، ولهزّات التجدد».
***
بعد نهاية الحرب الكونية الأولى، بدأ ازرا باوند يَضيقُ بالحياة في بريطانيا، ويظهر تقززا من برودة البريطانيين واستعلائهم، لذا قرر الانتقال إلى باريس ليبدأ هناك مرحلة جديدة في حياته. وكانت العاصمة الفرنسية الخارجة للتو من ويلات الحرب الطويلة تعيش سنوات الحمى والغليان في المجال الفني والفكري والأدبي. فقد كان اندريه بروتون الذي كان قد اكتشف رامبو، ولوترايامون، يتأهب لإطلاق الحركة السوريالية. وكان الفنانون الطلائعيّون يملأون أحياء باريس، وحاناتها بصخبهم ومعاركهم في الليل كما في النهار. وكان هناك جان كوكتو وأندري جيد وشارل مورّا وبروست وأراغون. وكان هناك أيضا الشاب إرنست همنغواي الذي كان قد حصل على شهرة واسعة بعد أن أصدر روايته البديعة:«وداعا للسلاح». ومنذ اللقاء الأول، تمتنت الصداقة بينه وبين إزرا باوند. وفي ما بعد سيشهد لصالحه أمام المحكمة، وسيقول: «الشاعر الكبير باوند يخصص نزرا قليلا جدّا من وقته لكتابة الشعر. أما النسبة الأعلى من هذا الوقت فيخصصها لمساعدة أصدقائه من الناحية الماديّة والمعنويّة. وهو يدافع عنهم عندما يُهَاجَمُون، وينشر أعمالهم في الصحف وفي المجلات، ويخرجهم من السجن إن أمكن له ذلك». كما التقى باوند أيضا بجيمس جويس الذي كان قد ترك زيوريخ ليستقر هو وعائلته في العاصمة الفرنسية. إلاّ أن جوّاب الآفاق الذي هو ازرا باوند خيّر في النهاية الانطلاق مُجدّدا إلى ايطاليا برفقة زوجته البريطانيّة دوروتي شكسبير. ولعله كان يبتغي أن يكون قريبا من دانتي الذي كان من بين الذين ألهموه لكتابة عمله الشعري الأساسي المتمثل في الكانتوس». كما أن أفكار موسيليني التي كانت قد اكتسحت ايطاليا منذ مطلع العشرينات آستهوته. بل أنه شعر أنها تعكس الأطرواحات الأساسية التي يرتكز عليها فكره بشأن إحياء الحضارة الأوروبية.
استقرّ باوند في مدينة رابالو. وكان يُخصّص الجزء الأكبر من وقته لمواصلة كتابة الـ«كانتوس» التي وصفها في رسالة بعث بها إلى والده بأنه ستكون «الأكثر غموضا والأكثر عسرا وصعوبة». وسيكون هذا العمل الشعري الكبير عاكسا لحياة باوند، وللأحداث التي عاشها، وبها احترق. كما سيتضمن محاوراته مع الشعراء الذين تأثر بهم مثل هوميروس، وأوفيد، ودانتي، وفرانسوا فيّون، وشعراء التروبادور، ومع مفكري عصر النهضة، ومع كونفوشيوس وحكماء الصين القديمة. فمن التراث الثقافي والحضاري القديم لا بُدّ من الإحتفاظ بالجمال، وليس بالقيود التي تكبل الإنسان، وتحدّ من حريته، وتُعطّل القدرات الهائلة لخياله. في الوقت ذاته، لم يغفل باوند عن التعبير عن أفكاره تجاه الحضارة الغربية، وتجاه بلاده التي «ليست صالحة حتى للخنازير»، والتي تمثل بالنسبة له القبح، ولعجرفة، والتوحش الرأسمالي. لذا أراد أن تكون ال»كانتوس» محمّلة بـ«ثقافة مضادة»، مناهضة للثقافة السائدة في بلاده،وفي البلدان الغربية بصفة عامة. كما أرادها أن تكون قادرة على ملء الفراغ الذي نشأ عن تدهور الشعر الغنائي الفردي، ذلك أن العالم بات في حاجة إلى ابتكار أنماط جديدة تعكس التبدلات والتغيّرات،، وتكون بمثابة الوسيلة لإبداع حكايات وأناشيد جديدة بفضلها يمكن للإنسانية أن تستعيد نفسها، وتَتعرّف إلى نفسها، وتفهم نفسها».
بداية من عام 1924، شرع إزرا باوند في المجاهرة بتعاطفه مع فاشية موسيليني، مُنْتقدا البلدان الأوروبية الأخرى التي “يرتع فيها مصرفيّون عديمو الذمّة، وعصابات تجار الأسلحة، وعبيدهم«. وكان يرى أن الفاشيّة يمكن أن تكون «مشرطا لإنقاذ العالم من السرطان الذي يتهدّده، والمتمثل في الربا«. لذلك لم يتردد في الإشادة بسياسة موسيليني معتبرا إيّاها وسيلة ناجعة للتصدي للرأسماليّة المتوحشة، وللمرابين، متّهما هؤلاء بأنهم مشعلو كلّ الحروب المدمرة التي ابتليت بها أوروبا. وقد كتب يقول: «الحرب هي التخريب في أقصى مستوياته. وهي الشكل الأشدّ شراسة للتخريب. والمرابون يشعلون الحروب لكي يضعوا حدّا للرخاء المتوفر، أو المحتمل. وهم يفعلون ذلك لإحداث المجاعات والغلاء المشطّ. والمرابون يشعلون الحروب لكي تكون الاستثمارات في خدمة مصالحهم، ولكي يحكموا سيطرتهم على العالم». وفي حوار أجراه معه أحد الصحفيين الإيطاليين في رابالو، قال باوند : «التاريخ المعاصر لا يمكن أن يكتب من دون أن نفهم إلى أيّ حدّ أفسد سفلس الرأسمالية، والجرائد الجديدة، والكتب التي تُنْشر تحت ضغط المصالح، الحياة في زمننا الراهن. ولحسن حظ ايطاليا، عندكم «الدوتشه»(يقصد موسيليني) والفاشية: الدوتشة الذي أنقذ مؤخرا اوروبا من نزاع جديد، مُغْرقا مشاريع تجار الأسلحة الذين لا يختلفون في شيء عن المصرفيين. لكن في البلدان الأوروبية الأخرى، الجرائد تحت سيطرة هؤلاء المرابين الكبار«. وفي النشيد الخامس عشر من الـ«كانتوس»، ندّد باوند بالربا قائلا:
يُغَطّي الربا المقصّ بالصدأ
يغطي بالصدأ الفنّ والصّانع
يقرّض النسيج على النول
يقتل الجنين في بطن أمه
يصيب الشاب الذي يغازل فتاة
يشلّه في مخدع العرس…
وقد يكون هذا الجنين الذي يُقتل في بطن أمه، بحسب تقدير فانتيليا هوريا، هو القرن الواحد والعشرون الذي نعيشه راهنا، والذي يبدو مُهدّدا بطل المخاطر والأمراض التي أشار إليها باوند في «الكانتوس».
ولتقديم دليل كامل على ولائه له، قام ازرا باوند بمحاولات عدة للقاء موسيليني. ولم يتوفر له ذلك إلاّ في الثلاثين من شهر يناير 1933. وخلال اللقاء، أهدى الشاعر القائد الفاشي نسخة من أناشيده الأولى فكان تعليق هذا الأخير على ذلك الإهداء: «هذا شيء مسلّ«. ويرى البعض من الذين اهتموا بسيرته، أن إزرا باوند لم يكن فاشيّا بالمعنى الحقيقي، بل أنه كان يخلط بين الحرية والفاشية انطلاقا من رؤيته الشعرية والفردية للواقع. ثم إن نشاطاته وأطروحاته السياسية لم تكن ناجعة ومفيدة بالنسبة للفاشية. وكان الفاشيون ينظرون اليه بعين الشك والريبة. ولعلهم كانوا يرون فيه مثالا للمثقف» الشاذ، وغريب الأطوار الذي يكثر من الهذيان عن كونفيشيوس عوض أن يتحدث عن أمجاد وعظمة روما القديمة كما هم يفعلون».
خلال الحرب الكونية الثانية، ظلّ إزرا باوند محافظا على مواقفه السابقة المتمثلة في انحيازه للفاشية والنازية. وفي عام 1943، اتهمته بلاده بـ«الخيانة العظمى». وقبل ذلك، كان قد وجّه رسالة إلى النائب العام، وفيها كتب يقول: «أنا لم أتكلم عن هذه الحرب، إلاّ أنني أطلقت احتجاجا على نظام يولّد حربا بعد أخرى وبشكل متواصل. وأنا لم أتوجه بالكلام إلى الجيوش، ولم أحرضها لا على التمرد ولا على العصيان. إن قاعدة كل حكومة ديمقراطية أو أغلبية يتحتّم عليها إعلام المواطن بما يقع من أحداث. وأنا لم أزعم بأنني عالم بكل ما جَدّ ويجدّ من أحداث، غيرأنني أعلم أنّ البعض من هذه الأحداث هي جزء أساسيّ من كل ما يمكن أن يكون الشعب على علم به».
بعد سقوط نظام موسيليني الفاشي، دخلت القوات الأمريكية إلى إيطاليا، وقامت باعتقال إزرا باوند، ووضعه في قفص حديديّ ضيق. وقد ظلّ في هذا القفص أشهر عدة مُعَرّضا للحر والبرد، هاذيا بقصائده أمام جنود قساة كانوا يتعاملون معه كما لو أنه فاقد للصواب. بعدها نقل إلى بلاده ليحاكم بتهمة الخيانة العظمى. وأمام المحكمة، لم يكن يهتم بالمداولات، بل كان يرفع صوته المشحون بالأسى والمرارة ليقرأ البعض من قصائده:
سيأتي دورك أنت أيضا أيّها
الظلاميّ القذر
يا عدوّ الآداب الرائعة والكلمة الحرة
يا أيّها الشبيه بالآكال الزمن وبالعفن.
هيّا إلى نظام جديد الآن
لكي نقطع دابر النخاسين والقوادين
ولنبصق على أولئك الذين يمدحون البطون الكبيرة تزلفا
ولنخرج قليلا إلى الهواء العليل…
وفي مقطع آخر، أنشد قائلا:
إن دوركم هو التخلص من الكتاب الجيّدين: أنتم تحوّلونهم إلى مجانين
وتستغربون حين ينتحرون
أو أنتم تسمحون لهم بتناول المخدرات
بحجّة الأمراض العقليّة أو بحجة العبقريّة.
لكني لن أجنّ من أجل سواد عيونكم
ولن تفرحوا بموتي المبكر
آه، سأتثبّث بحقدكم الذي يقرقر تحت قدمي…
في نهاية محاكمته، أودع في مستشفى “سانت اليزابيت “ الذي مكث فيه حتى عام 1958. ورغم ذلك حصلت:«أناشيد بيزا« التي صدرت عام 1948 على جائزة “بولنجن« السنوية لأعظم شاعر أمريكي. وبحسب لويز بوجان، تمثّل أناشيد بيزا« خلاصة سنوات من التجربة الفنية في أسلوب باوند، ومن التحول الروحي في شخصيته«. كما تعكس معاناته على الصعيدين الذاتي والكوني. وفي النهاية لا يتبقى إلاّ ما يحبه المرء محبّة حقيقية وعميقة:
ما تحبه جيّدا يبقى
والباقي إلى الشيطان وبئس المصير!
ما تحبه جيّدا لن ينتزع منك
ما تحبه جيّدا هو إرثك الحقيقيّ
لمن العالم، لي، لهم
أو ليس لأحد؟
وفي حوار أجري معها، تحدثت ابنته السيدة ماري راشفيلتز عن الحالة التي كان عليها إزرا باوند في المصحة العقلية قائلة: « كان والدي قد عثر على التوازن الداخلي للحكماء، ذلك التوازن الذي يتحدث عنه كونفوشيوس،، والذي كان هو بصدد ترجمته لما اعتقل في الثالث من شهر مايو 1945. وفي زنزانته منحوه، إضافة إلى الفراش، طاولة عليها يمكن أن يكتب. وكان يحصل أيضا على الكتب التي يريدها. وحتى في الأوقات الأشد حلكة، كان والدي قادرا على أن يحتفظ بإشراقة الأمل».
بعد إطلاق سراحه، استقر إزرا باوند من جديد في ايطاليا، متنقلا بين فينيسيا والتيرول، مُتجنّبا العلاقات العامة. فقط من وقت وآخر يستقبل مبدعين شبانا معجبين به وبأفكاره، وعاشقين مثله للترحال وللمغامرة المعرفية. وهذا ما فعله مع شاعر «البيتنيكس» ألن غانسبرغ. تمّ اللقاء بين الشاعر الشاب والحكيم العجوز في مطلع الستينات من القرن الماضي. ويصف ألن غانسبرغ اللقاء على النحو التالي: «وجدت إزرا باوند جالسا في الساحة الصغيرة أمام فندقه. كان أبكم، ساخطا، كئيبا. وكأجوبة على أسئلتي لم أحصل منه إلاّ على حركات يديه التي لا تكاد تتوقف. بحذر شديد، حاولت أن أقطع الصمت الثقيل. نعم…أعترف أنني قبّّلت جبينه باحترام شديد قائلا:«بالنسبة لي، ولكثير من الشعراء الجدد، كنت حقّا سَنَدا قويّا لنا جميعا. وقد ساعدتنا بأفكارك وآرائك إلى حدّ كبير. ونحن كلّنا مدينون لك». صمت طويل. ثم صوت دمّرته الشيخوخة:
-إزرا بواند: لكن قصائدي لم يكن لها معنى. لقد انتبهت وأنا في سنّ السبعين إلى أن حياتي لم تكن فقط وهميّة، بل غبيّة أيضا!».
-ألن غانسبرغ:إن قصائدك كانت من أهمّ الأعمال التي اعتمدتها في تطوري الشعري
-إزرا بواند: خليط!
-ألن غانسبرغ:عمّا أنت تتحدث…عن قصائدك أن عن قصائدي؟
-إزرا واند: عن قصائدي…تافهة وحقيرة من أوّلها إلى آخرها….وأفدح خطأ ارتكبته هو معاداتي للسامية …هذه النظرية البورجوازية الصغيرة الحقيرة…
-ألن غانسبرغ: أنا سعيد بأن أسمعك تقول مثل هذا الكلام…لكن مع ذلك أقول بإنك فتحت لنا الطريق…كلما قرأتك، إلاّ وازددت اعتقادا بأن أعمالك هي أهم اعمال شعريّة غنائيّة في هذا العصر. وبخصوص آرائك السياسيّة والإقتصادية، أعتقد أنك على حق أيضا». وفي نهاية اللقاء، قرأ ألن غانسبارغ إحدى قصائد إزرا بواند:
أيتها الوردة هل ستحافظين على نورك
حتى نهاية زمن الورود
هل تؤمنين بقبلات الموت؟
هل تعتقدبن أن البيت المظلم سيجد لك عشيقا أكثر أمانة منّي
وأن الورود ستبكيك؟
ارمي معطفي على هذا المعطف
الذي يغمر نهارا عجوزا بالغبار
ذلك أنه عليك أن تحذري من الزمن لا من عيني.
وباستثناء حوار أجراه معه بيار باولو بازوليني في خريف عام 1967، لم يدل ازرا بواند بأي تصريح مفضلا الصمت التام، والعزلة المطلقة. وعن هذه الفترة الأخيرة من حياته، تقول ابنته السالفة الذكر: «كان والدي يشتكي من انفصام العلاقة بين اللغة والواقع. وأوروبا التي ناضل من أجلها من خلال راديو روما حاثا امريكا على عدم التدخل في شؤونها، كانت قد انتفت ولم يتبق لها وجود، بل أنها كانت تتمزق أمام عينيه. وتحت تأثير زوجي، انشغل بالفنون الفرعونيّة، وإليها أشار في الـ«الكانتوس».
وفي أول شهر نوفمبر 1972، وهو يوم «عيد الأموات» المسيحي، رحل إزرا باوند عن الدنيا، ودفن في فينيسا. وكان عمره آنذاك 87 عاما…
حسونة المصباحي