محمود فرغلي *
ربما أثبتت التجربة أنّ المؤسسات الثقافية غير الحكومية أكثر نجاعة وقدرة على المناورة والحركة وتقديم خدمات ثقافية متنوعة تمتلك هامشا من الحرية، سواء أكان ذلك في صورة مجلات ثقافية خاصة أو دور نشر أو مؤسسة ثقافية أهلية، والميزة الأساسية لتلك المشروعات -بعيدا عن قيود الروتين الحكومي- هي أنها تمتلك مساحة للحركة والتحرر تفتقده المؤسسة الثقافية الرسمية في أغلب الأحيان ، كما أنها تكتسب ثقة الجمهور المتعطش لكلّ ما هو هادف ومفيد، وأحد جوانب غياب الوعي الثقافي لدى المؤسسات الرسمية والقائمين عليها هو أنه لا ثقافة ناجعة في ظل القهر والاستبداد، فالإبداع مرادف للحرية، ومن ثم كان وعي المؤسسة من النوع الزائف الذي يظن أنه على شيء وهو بلا أثر يذكر ولا دور يلمس، في المقابل يجود الزمان علينا بين حين وآخر بنمط نادر من المثقفين يمتلك وعيًا ثقافيّا يتجاوز دوره ومنجزه وزارة ثقافة كاملة. وفي هذا الإطار تستوقفنا تجربة الراحل إلياس فركوح (1948 – 2020) لتلقي الضوء على دور المثقف العربي في هذا الظرف الحضاري المأزوم الذي يعيشه عالمنا العربي، وما يمكنه أن يفعله في زمن يغص بالانكسارات والهزائم والحروب، حيث الصمت خيانة والتمترس خلف الشعارات الفارغة لا جدوى منه، ومن هنا يتبدّى الدور الثقافي لفركوح بوصفه مؤسسة ثقافية كاملة، لم تتوقف عند الصحافة الأدبية أو الكتابة الأدبية، بل تجاوزتها إلى كثيرٍ من جوانب العمل الثقافي من نشر وترجمة وكتابة ونقدٍ وتفاعلٍ، فنحن لم نبالغ حين قلنا إنه يمثل مؤسسة ثقافية فاعلة استطاعت خلال عدة عقود أن تنجز مهامها الثقافية باقتدار ربما لا تعرفه كثير من المؤسسات الثقافية الرسمية في بلادنا.
أطلقْ على فركوح ما شئت من الألقاب، فهو الصحفي الذي بدأ حياته المهنية في السبعينيات في الصحف الثقافية، عبر عقدي السبعينيات والثمانينيات، وهو الناشر في التسعينيات حين خاض تجربتي منارات وأزمنة كناشر له ثقله رفد الحياة الثقافية العربية بعددٍ كبير من الإصدارات المهمة، وهو القاص والروائي الحاصل على جائزة أفضل مجموعة قصصية عن مجموعته “إحدى وعشرون طلقة للنبي”، وهو الروائي صاحب جائزة الدولة التشجيعية الأردنية عن روايته “قامات الزبد ثم جائزة الدولة التقديرية، وبروايته “أرض اليمبوس” بلغ القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر” في دورتها الأولى، وفركوح في الوقت نفسه المترجم المغرم بنقل كثير من روائع الأدب الغربي إلى العربية، وهو المشارك الفاعل وشاهد العيان الذي يقدم من خلال عدد من كتبه مجموعة من المقالات والشهادات الثقافية والسياسية عن عصره الصعب.
في مجال النشر لم يدخل إلياس من باب الربح والخسارة، إنما جاءت تجربتاه منارات وأزمنة متسقتين مع هويته ككاتب، ومع رؤيته والتزامه بتلك الهوية وتماسكها وانسجامه معها، هذا الانسجام الحاكم لكل خياراته الأدبية والثقافية، وبدونه أعتقد أنه سيسقط في براثن خيانة المثقف لذاته أو لمجتمعه، وقد نجح من خلال هذه التجربة في امتحان الانسجام مع نفسه ومعركة الاتساق مع بنيته الكُلّية والمتماهية تماماً في مقاصد عملها وطبيعة منشوراتها، وبناء على هذه التماهي رأى فركوح أن الخسارة فيما يحبه ويعرفه خير من الخسارة فيما سواه، والمتابع لهذه الدار وسلاسلها وخياراتها الفكرية والفنية يدرك بوضوح الدور الذي لعبته وتلعبه في نشر الكتاب العربي بعد فترة كان توزيعها قاصرا على بلدها الأردن، حتى أصبح لها حضورها في مختلف المعارض الكبرى، وأضاف فركوح إلى هذا عمله ناشرا، اشتغاله بالترجمة لكثير من روائع الأدب الغربي وفقا لذائقته الجمالية والفكرية؛ وانطلاقا من وعيه الثقافي بمتغيرات العصر وإيقاعه المتسارع، وطبيعة المرحلة التي تجتازها المجتمعات العربية، وإيمانا بحقيقة أن الحالة السوية والطبيعية لأي ثقافة بل أي هوية ثقافية مشروطة بقدرتها على الانفتاح والتطور والاغتناء والعطاء وعلى بناء جسور التواصل مع الثقافات العالمية، فكل حديث عن هوية ثقافية مغلقة ضرب من الانتحار.
وفي مجال الإبداع يمكن للراصد لمسيرة الروائي والقاص إلياس فركوح أن يلحظ اتساق قناعاته الاجتماعية والسياسية مع خياراته الفنية والجمالية، إذ لا ينفصل الهم الجمعي عن الهم الذاتي في جل أعمال إلياس، والتخييلي عن الواقعي، وقد ظهر ذلك جليا في مجموعاته القصصية المتوالية تتخلل كثيرا منها إشارات سياسية واجتماعية دالة، ويبرز ذلك بجلاء في رواياته، ففي (قامات الزبد) لا تستطيع أن تفصل الحرب الأهلية في لبنان عن الحرب داخل الذات، وفي (أرض اليمبوس) تلك الأرض التي تقف بين الجنة والنار تناظرها في طبيعتها شخصياتها المغتربة تمارس الحروب دورها في تشكيل الشخصيات ومصائرها، كذا لا تستطيع أن تفصل صراع الشخصيات مع ذواتها عن صراعات الفرق والطوائف وتشابكاتها على الأرض، فهو مؤمن كما قال في أحد حواراته إن ” العلاقة بين الروائي العربي والأحداث السياسية علاقة عضوية بكل معنى الكلمة، ومن جهتي شكّلت تلك الأحداث المناخات الدائمة التي أنتجت شخصياتي الروائية، لتتحرك فيها وتتنفس هواءها الملوث بالخسارات”، والرواية العربية في تياراتها الكبرى صنيعة التاريخ والجغرافيا بالأساس، لكن فركوح لا يجعل منهما مجرد واجهة أو خلفية تسرد على أرضها الشخصيات الأحداث والوقائع، إنما يتجاوز الأمر ذلك إلى تشكيلها مرايا ترى فيها تلك الشخصيات حياتها ومصيرها، فالأحداث السياسية والحروب هي المؤثر الرئيسي في كينونة تلك الشخصيات سواء على مستوى التكوين أو التحول، وبناء على تلك الانكسارات المتوالية تصاغ روح الشخصيات التي تعافر للإبقاء على القليل من إنسانيتها أما تيار جارف، يقول راوي أرض اليمبوس،” أن تصون بشريتك يعني أنك تنخرط في ألف معركة لن تفوز إلا في أقل قليلها”، ففي زمن الخسارات يكون الحفاظ على إنسانية الإنسان همّا ومسؤولية تستحق أن نكافح من أجلها، هذا الذوات المفردة المغتربة تتحول بناء على إكراهات التاريخ والجغرافيا إلى ذات جمعية، ويتحول الصوت المفرد إلى صوت جيل بأكمله، حين يعلو صوت الراوي قائلا” ولدت في عام النكبة، خرجت من رحمها، تحت برج الحوت كانت ولادتي، والحوت ابتلع بلادا اسمها فلسطين؛ فخرجت إلى عالم ناقص أزعق باكيا مطالبًا بما يكفي من الهواء”، والمثير للإعجاب أن التزام إلياس فركوح الواضح لم ينل من جماليات السرد لديه وقدراته على بناء روايات محكمة ذات نزعات تجريبية سواء على مستوى القص أو الخطاب وتعدد الرواية وتباين الرؤى والأصوات والتداخلات الزمكانية ورفد عملية القص بتقنيات تشكيلية وفنيّة أخرى كالإفادة من تجارب الرسم والفن التشكيلي في بناء النص وتشكيله، واللجوء إلى ما ورا القص بقصد تأكيد خصوصية السرد الخطابية في تمثيل الواقع، من خلال المغايرة لأنماط أخرى تمثله بصورة أكثر دلالة وتحيينية.
لقد كسرت تجربة فركوح بكل مفرداتها السائد عن انعزالية المؤسسة الثقافية بوصفها الطرف الفاعل والمؤثر في تشكيل الوعي الثقافي للجمهور، كما كسرت الصورة التقليدية التي شاعت عن انعزالية المثقف، وأبرزت دوره الثقافي في إطار قضايا مجتمعه، يتجلى بآليات وأدوار مختلفة تتسق وتنسجم مع وعي بذاته وبواقعه، وتمرده على محاولات تدجينه أو وضعه في الحظيرة التي أرى أنها اسم شديد الدلالة على طبيعة العلاقة بين المؤسسة الثقافية الرسمية والمثقف وما ترتجيه منه أو تسعى إلى أن تحققه من خلاله؛ إذ تتحول الانعزالية في كثيرٍ من الأحيان إلى نوع من العزل المقصود.