.. كل شيء كان يسير من سيء إلى أسوأ.
منذ الأشهر الستة الماضية ذوت زروع الجانب الغربي من البستان كلها.
وفي الشهر الفائت شاهد شجرة الليمون المعمرة التي تتوسط المكان وكأن شعلة نار قد حامت حولها أكثر من مرة. كأن خنجرا طعنته حين شاهد الشجرة على ذلك الحال وتذكر أباه الذي كان في مثل عمره الآن حينما ساعده على غرسها . انبجس الدمع من عينيه ثم قعد على الأرض حينما لم يتمالك نفسه متكئا على عصاه ليذهب في نشيج حاد كطفل .
مذ العام الفائت بدأ بستان سعيد بن سليمان يفقد زحمة أشجاره فاسحا للشمس ايصال ضيائها الحار الى الأرض بعد أن كان الظل طاغيا على المكان كله.
فقدت التربة ارتواءها وتغير الطين المبلل من لونه المائل للسواد ، فأخذ الغبار متكاثرا مع كل نسمة هواء تلامسه.
حين خفت نشيج سعيد الحاد سحبته الذاكرة الى ما يزيد عن الستين عاما، تحديدا الى الطفل الذي كان يجني رطب النخل الصغير استجابة لطلب أمه وأحيانا جدته.. يجني من شجرة الفرصاد المحمرة أو يتربص لاصفرار أشجار الموز حتى يكون أول من يقطع الشجرة.
يرتقي هو واخوته وبعض أبناء الجيران أحيانا الى جدار البهو الخارجي المرتفع لقطف ثمار الإمبا الأخضر، حيث لا تبقى أي ثمرة تستطيع أيديهم الوصول اليها حتى تنضج مفضلين أكله مع الملح.
يقف خلف أبيه حينما يقوم جارهم مطر بجني العسل من إحدى الخلايا المنتشرة على أشجار البستان وهو يعلم حينما ينادي أبوه على مطر أن ثمة ضيوف سيأتون وأن أمه سوف تخبز لهم خبز (الرخال) المدهون بالسمن ليأكله الضيوف قطعة قطعة بعد غمسه في اناء العسل الواسع فيما يجلس هو بعيدا عنهم لا يشاركهم الأكل لحين انصرافهم من البيت فيلتم مع اخوته وبعض أبناء الجيران الذين يكونو متواجدين في أحايين كثيرة لأكل ما تبقى من أكل الضيوف .
انحدار رجله اليسرى المفاجئ الى قناة الفلج أيقظته من رحلة تذكره ليصحو على القناة التي بدت كصورة واضحة لتناقص الماء الشديد بعد أن كان كالنهر يجري بعنفوان شبابه، فيعطي البساتين حتى الشبع، ثم يخرج لمزارع البر في الناحية الغربية للقرية حيث تبدأ الصحراء التي لا يصدها عن الامتداد لمعانقة الصحراء الأبعد سوى الجبل الصخري.
كان فلج القرية أو نهرها كريما الى أبعد حد كأنه ينافس في كرمه سعيد بن سليمان أو كل أهالي القرية ، بيد أن السماء كانت لا تقل كرما عنهم، فكانت حافلة بالغيوم الثقال التي تمطر بشكل لا يكاد ينقطع سوى أيام يمكن حسابها على أصابع اليد، فكان وشيش الماء في السواقي لا يخفت عن المسامع .
لكن أشجار النارنج في بستان الخالة زهرة لم يبق لها أثر بعد أن كانت ثمارها البرتقالية تتساقط على مجرى الفلج فيأخذها متموجة الى بستانهم فيبتهج، ولم تعد ثمة بقايا لرائحة الياسمين التي تتوزع على الأماكن عند هبوب النسمات في فترة العصر أو قبل أن يأتي الليل .
وقف سعيد بن سليمان بحمولة ذاكرة تتجاوز الثمانين من السنين وبلحية كثة غير منسدلة قابعة فوق وجه نحيل وهو في شوق عنيف ليرى أية فراشة من الفراشات التي كانت تلون المكان حتى سنوات قريبة، تنهد بعمق بانفاس مثقلة مرددا كيف تعيش الفراشة في أرض غبراء؟