اشتعلت الحرب لا خبر سعيدا، يأتي. في الجبهة تكومت الجثث متاريس ، تمتص جثثهم وملابسهم رصاصات قادمة ، يحاول من حالفهم الحظ بحياة مؤقته . الاعتذار عن وضع جثث زملائهم سواتر. يتّبع سرب الأباتشي أية حركة على الأرض. الطائرات تسير الآن بمحاذاة – اريل – الدبابات وناقلات الجند .
واحد اثنان وتتحول ارتال تلك الدبابات والناقلات الى تنّور من فحم ، بفضل اليورانيوم الأمريكي الجديد .
في الطرف الأوسط والجنوبي للخليج ، تسير الحياة برتابة ، لكنها ، تسير كما رتب لها سلفا . ترقّب يسوده الحذر والقلق من المستقبل ، وحتى يحين، ذلك المستقبل بغموضه والتباساته وجنونه . يتأبط سعدون أفكاره العدمية من الحرب وصروف الحياة بشيء من غريزة مزاجية متقلّبة ، كطعنات خنجر غير واضحة ، لا يعرف من أين تباغته .
في فندق الخليج ، القابع فوق ربْوة عليّة في مواجهة البحر وساحة المعارك الشمالية . كانت عينا سعدون غير مستقرة في جحرها تتلصص على المشهد ، ليس من باب الفضول لحالة المكان ، الذي هو فيه ، ولكن من باب أن للحرب امتداداتها فوق هذا العراء ، ما دامت هناك شعلة نفط ، تقابل السماء . ركّز بصره على الرفوف التي على يمينه فوجد ان الزجاجات ذات الأعناق الطويلة قد رتبت على جهة يمين الكاونتر والزجاجات الممتلئة بماء الفودكا على اليسار . هل ، هي مصادفة، قال .
ابان – داس – النادل عن انزعاجه من سخونة النقاشات التي يبديها الزبائن بالقرب منه على الكاونتر الخشبي . فهو يفضل أن تكون حماس تلك الكلمات بعيدة عنه ، حتى لا تطال وجهه اسراب البصاق من فم المتكلمين المليئة بالرغوة البيضاء والدخان .
تذهب عينا سعدون في تتبع شاطئ الحب الذي لم يمْهر بهذا الاسم بعد . يوزّع نظره على امتداد الشاطئ الطويل حتى نهايته البعيدة عند فندق الانتركونتيننتال وغابة أشجار المانجروف التي أمامه ، وسرقة ما تبقى من لمسة أخيرة لشمس تلفظ أنفاسها وهي تولج ماء الخليج .
يخفق قلبه أكثر من المعتاد . فدخان الحرب يلمس جمرها في يديه وحواسه ، إنها علامات أولى قالها في خاطره . تراءى له المكان كحالة شبحية غير معهودة ، عرك عينيه ليطرد حرقة الدخان وهي تضّبب المكان كسحابة سوداء ، فرشت حزنها على المكان ولم تبارحه . عاندته أية لحظة فرح بالمجيء . هو الآن في كرسيه في عتمة خفيفة من المكان . يشعر بأعياء جسده ، وبأن الوقت يمضي في مسالك ودروب لا نهاية لها .
يحاول أن يلملم خذلان اللحظة التي تطوقه . قفزت الى لسانه صرخة . عليّ أن انْشرها كأعمى يرى النور لأول مرة .
رنين أجراس قصيدة تهجاها ذات وقت على شاطئ الباطنة ، هي الآن تولد من جديد . الرغبة ببوح الصرخة دفعته بالتحرك من مكانه الهادئ في تلك الظلمة الخفيفة إلى مقدمة الجالسين على الكونتر.
داس .. قالها ، بصوت آمر ومسموع ، اجلب اليّ كأسا مضاعفة من عصارة النبته المكسيكية . صحح أحد جيران الجلسة ، تكيلا . يقول: تكيلا.
ها هي النبته المكسيكية تورق في عقله لتمحو خدرا خفيفا وجفاف زمن ولتفتح باب الصحو على غرائز أخرى . يدفع باب المشرب يخرج، يخرج معه الضجيج والدخان حتى صالة الاستقبال عند نهاية الممر.
المساء الثقيل في تلك اللحظة والمليء بلزوجة البحر شجعه ليرى نجمة كان يمازحها ذات طفولة.
سأرى إن كانت تشع ، علها تمنحني بعضا من حلم بعيد ، يكون تميمة لما تبقى لي من عمر .
عند الباب الزجاجي الأخير للفندق الذي تغير اسمه لاحقا إلى «كراون بلازا» وجد سعدون حارس السيارات بين غفوة وصحو متكئاً على الرفْصة اليمنى للمدخل . اقترب منه . خفّض الحارس الذي تجاوز العقد السادس من عمره صوت الترانسستر الصغير اللاصق باذنه وهو يتلو جردة الحرب والخسائر ، وبنبرة واثقة قال : خسارة بَتْري .
هذه الحرب خسارة بَتْري .
في اليوم الثاني دسّ سعدون أربع بطاريات من الحجم الصغير لماركة أبو القط الأسود واللون الأحمر في يد الحارس .
حين خرج في ساعة متأخرة من ذلك اليوم كان الحارس قد سقط في نومة عميقة ، لكن الراديو مستغرقاً في صحوه مع الحرب . قهقهات وحزن يتجددان مع كل خسارة بتري وحرب عبثية .
طالب المعمري