محمد فطومي
كاتب تونسي
بوجه مكشوف: أرغبُ في كتابة قصّة تجمَعُ بين قبولي بكلِّ شيء وبين وصف المكان الذي عثرتُ فيه على معطف أحبّه ابني بجنون. سأفشل. مع ذلك سيُكتبُ في الأعلى، تحت العُنوان مباشرة: قصّة قصيرة. ستظلُّ مُتاحة للبشريّة على الأرجح عشرين عاما أو أكثر بقليل، هذا لو حظيت بالقبول لدى مجلّة تضُمُّ بعض النّصوص المترجمَة لكُتّاب عالميّين ما كانوا ليحصلوا، في بلدي، حتّى على الجائزة التّشجيعيّة في مسابقة أدبيّة تطلقها ضيعة عنب جبليّة. هؤلاء هم القافلة التي تجوب الزّمان بصمت ودون فائدة تقريبًا. إنّهم يسردون الحكايات كأنَّ أحدا لم يسبقهم إلى ذلك. بمكر بريء ولذيذ. كما لو كانوا يناقشون المواضيع بسعادة مُزيَّفَة خلال رحلة بحرِيّة، أو بلامبالاة صَبِيٍّ تجرّه جدّته أمام حشود من الطّلبة الجامعيّين راكبًا عربة في شكل إوزّة. يُخيَّلُ إليَّ أحيانا أنّني كشفتُ سرّهم فيتراءى لي أنّهم ينسجون الحبكات كأنّهم يراسلون أنفُسَهم التي بدأ المجهول في التهامها. ثمَّ يخطُر لي أنّهم يتألّمون بيأس ودون طمع في الشّفاء. قال لي مُدرّب الكتابة الإبداعيّة ذات يوم: «أنت تتألّمُ كلَّ يوم، هذا خبر ساذج لأنّه مُشترك بيننا جميعا. الأدبُ يجعلُ الأشياء خاصّة بك وحدك. لذا بدل أن تقول (أنا أتألّمُ كلَّ يوم) قُل: (بالأمس لم أتألّم)». لم أفهم قصده، لكنّي لا أرى في ما يكتُب شيئا يجرحني كما تفعل آخر كلمات نطق بها عظماء التاريخ وسَفَلته قبل لحظات من إعدامهم. أخيرا أحدّث نفسي بأنّني مُجرّد مُخادع يغُشُّ أناسا متسامحين، يمدحون كُتّابا ويُتوِّجون آخرين لأنّهم يتعفّنون على مشارف القبر أو لأنّ نساءً من بينهم يقدّرن أن يشتعل متزوّجون رغبة في عناقهنَّ عاريات داخل خربة مهجورة، أو لأنَّ بينهم من فَقَدَ ساقًا أو زوجة.
شخصان فقط سيقرآن قصّتي طيلة عمر المجلّة، بالرّغم من ذلك، سيشترط المُحرِّرُ عنوانا عاطفيًّا كأسماء الزّوارق وسيحذف ما سيبدو له بذيئا. وذات يوم، ستقعُ القصّة مصادفة بين يديْ شابّ مولع بالأساطير والذّكريات: لهذا كنتُ دائما أقول إنَّ طوق نجاتك الوحيد هو أن تصير شعاعا من طفولة أحدهم. سيقرأ الشابُّ الصّفحتَيْن، ثمَّ سيعيد قراءتهما ليفهم السّبب الذي دفعه إلى إعادتها. سيتخيّلني وسيما وفي منتصف العمر. ربّما لاحت له في شأني قسمات رجلٍ شبَحِيٍّ ناضج في صورة فوتوغرافيّة باهتة الألوان، سيُحاول كبح إعجابه بي لأنّي سأكون في نظره قد ابتلعتُ أطنانا من الولائم الخمريّة والنسائيّة. سوف يبخل عليَّ بالشّفقة مُعتقِدا أنّي شبعتُ إطراءً وسفرًا خلال حياتي. سيقول بقسوة: «لستُ من يرمي بحاجته في فم مُتخم. يكفيه ما نال من الدّنيا!». وسيُقرِّرُ أنّي أستحِقُّ شيخوختي أو موتي. غيرَ مُدرِكٍ أنّ جثّتي ستظلُّ تموت خواءً ووحشة. عندها سيدفنني في قصّتي إلى الأبد.
إنّها المرّة الثّالثة التي يُطلب منّي فيها القيام بتعديلات حتّى تصير القصّة مفهومة. أوافق دون تردّد خشية أن ألاقِيَ مصير البغلات النّائمات اللاتي تُقضّين اليوم في إضحاك أنفُسِهنّ ومضغ العلك طوال الوقت أمام مكتبي. كنّ يضحكن من الأعماق، سعيدات كأطفال في مدينة ملاهي، فيما لا أكاد أبتسم جرّاء ركضي القلق وراء الأسطر. إحدى البغلات كانت تلوك وتجترُّ ساعات طويلة دون توقّف. لقد جعلتني أتسمّمُ أسئلة: كيف ترضى أن تكون حياتها كشرارة كانون منسِيّ؟ من منّا الشقِيّ؟ وبدل أن أثأر لنفسي منها، أوافق المدير على ضمِّ دفاترها إلى عملي دون تذمّر مخافة أن يغضب الله. سينقطِعُ ذكرها، دون شكٍّ، حالما تموت، فيما سيتواصل ذكري من وقت إلى آخر -إن حالفني الحظّ- خمس عشرة سنة، قبل أن أندثر مثلها تماما ولا يعود بيننا فرق. ثمَّ بعد سبعين عاما من الآن سيكون بوب ديلان ولويغي بيراندلّو قد تساويا معنا في النّسيان المُطبَق. مع ذلك يرعبني وجودٌ إنسانيٌّ يُشبِه وجود منديل في مطعم. هذا مرضي الذي، عبثًا، حاولتُ الحديث عنه بوضوح. موانع كثيرة حالت بيني وبينه، أبسطها رداءة أسلوبي وأخطرها استسلامي للشّقوق الغريبة التي تتسرّبُ منها الجُمل الحقيقيّة بجموحٍ شيطانيّ.
لقد شاعت النّهايات السّعيدة منذ فترة، وبات من الحكمة مُسايرة الموجة كي أتمكّن من بيع قصّتي لدفع إيجار بيتي شهرا على الأقلّ. لهذا تراني أتخبَّطُ كثعبان عالق في الوحل آملا فقط في أن يُخفَّف أبناء زمني الحكم عليَّ مراعاةً لتعبي الذي لم يعد يوصف.
اللّعنة على البغلة! أيقظتني! وخُيِّلَ إليَّ أو حلُمتُ بأنّي كنتُ سأنجز مهمّة البحث عن المعطف دون إحساس بالانقباض لولا أنَّ البغلة كانت قد تناسلت في كلِّ شبر من العالم وفي كلِّ زاوية من جمجمتي. لم أترك محلّا في المدينة لم أبحث فيه عن المعطف دون جدوى. كنتُ أعثر فقط على نسخ البغلة أينما توجّهت. مثلها تماما كانوا يمضغون بشراهة ويضحكون منسجمين مع شاشات هواتفهم الصّاخبة. وكنتُ أتوهّمُ أنّهم ينهشونني.
عندما طلب ابني المعطف، لم أجادل ولم تساورني ذرّة شكّ في أنَّ رحلة البحث عنه كانت ستنطلق في الموعد الذي حدّده، رغم مظهر الرّفض الذي أبديتُه. لكن أبدا لم أكن لأصدّق أنّي قد أستقبل وجودي في ذلك المكان الحُلُمِيِّ العجيب برحابة صدر لا تخلو من لذّة غامضة، كأنّي كنتُ أستمتعُ بعقوبة أستحِقُّ ما هو أفظع منها. إحدى محطّات البحث أثمرت عندما أشار عليَّ صاحبُ مكتب رهان رياضيّ بطرق باب أحد تُجّار العملة. قال لي: «لن تخسر شيئا. لكن إيّاك أن تُظهر له بأنّك تملِكُ شخصيّة». أسرعتُ إليه ونفّذتُ توصياته بالحرف، لأجد نفسي أدلف من باب (“مول” الوسط) أين يُفترض -كما فهمتُ- أن أجد وسيطًا يبيعُ المعاطف التي يرغب فيها ابني. عبرتُ الرّدهة الكبيرة وبدا كأنّي أشقُّ غابة عصرِيّة، حيث الجميعُ مُنغمسون في الأكل والمضغ والشّرب والمصّ واللّعق، مُوَزّعين على شكل عائلات مُفترسة، كلّ منها توحي لك بأنّها قطيعٌ مُستقِل وعدائيّ له صيحته وذَكَرُه المُهيمن. أحقًّا طمعتُ في أن تُخلِّدني هذه الأضراس؟ كانت منطقة التهام تتداخل فيها الحواسُّ بشكل مُرَوِّع يصعُب تصديقُه. كانت روائح الطّعام مُختلطة بأصوات الملاعق والفكاك المتحرّكة والوجوه المتجهّمة بأضواء النيون الملوّنة والقلق الغريزي الذي يُخيّمُ على المُسافرين في المطارات بمذاق البطاطا المقلِيّة. كنتُ، حيثما حوّلتُ بصري، أرى وحشًا يغرز براثنه المعدنيّة في شريحة لحم أو قطعة بيتزا، كان الأكل في تلك المنطقة من العالم طقسًا يُؤدّى بخشوع وغيرة، وكان الجميعُ يُصلّي على طريقتها تماما. ثمَّ كما ينزلق المرء في النّوم، أذعنتُ للطّقس بشهيّة مفتوحة. وفي غضون دقائق كنتُ قد أتقنتُ اللّعبة وأدمنتها في ما يُشبِه المُعجِزة.
كنتُ على موعِد مع تاجر العملة كي يُملِيَ عليَّ ما يترتّبُ القيام به من خطوات، خمّنتُ، لسبب ما أنّها ستفسد مزاجي. تأخّر قليلا وكان النّدمُ فعلا قد بدأ يخالجني عندما قدِمَ حاملا في يده طبق دجاج. شاركني الطّاولة الضيّقة بمرح، وكنتُ كلّما طلبتُ شيئا للمضغ أو الشّرب تبدّدت الجلبة التي تسكنني وأفشى إليَّ رفيقي سرّا من أسرار مهنته. كان في الجوِّ هدوء ضاجٌّ يدعو بقوّة إلى التغيُّر والصّفح عن أيِّ عدوّ. مرَّ في أوصالي جَذَلٌ خفيف رغم أنَّ سماع الضّجيج أفضل من عدم القدرة على سماعه. وجاءت النّهايةُ سعيدة خلاف ما توقّعت. فقد صرتُ قابلا لفكرة العيش كمنديل في مطعم، ورضيَ مُحرّرُ المجلّة، وطار ابني فرحًا بالمعطف الذي ألبسَهُ شخصيّةَ لعبةِ الفيديو.