انتصار البناء
كاتبة وناقدة بحرينية
صدر ديوان «تهويدة لنجم البحر» للشاعر البحريني علي عبدالله خليفة في العام 2019م. وفيه يبرز النضج الشعري لواحد من أهم شعراء البحرين المعاصرين الذين أنشدوا قصائدهم بالفصحى والعامية. ولعقود طويلة كان علي عبدالله خليفة صوت الوطن والوحشة والبحر والبحرين، والموال والنخيل، والنساء الحائرات، والرجال المتعبين. وفي هذا الديوان يكتنز فضاء القصائد بعوالم متعددة متواشجة متداخلة. تعبر عن خبرة فنية ووجدانية حداثية لمسيرة الشاعر، التي هي جزء من تاريخ الأدب عامة والشعر خاصة في البحرين.
«تهويدة لنجم البحر». لماذا نجم البحر تحديدا؟ ومن يهوِّد نجم البحر؟ ولماذا؟ هل يعاني النجم من الأرق؟ أم يتقلب في طفولة مدللة؟ نجم البحر في الموروث الشعبي هو الحيوان البحري الذي يجلبه الغواصون هدايا لأطفالهم بعد رحلات الغوص الطويلة. يحتفي الأطفال والنساء بنجوم البحر. يزينونها يلونونها يحولونها ألعابا وأثاثا وأشياء مسلية، كل نجم وحجمه. كل صاحب نجم وتعدد استخدامه للنجم. النجم هنا، كما في العنوان، أحد المكونات المرتحلة بين العوالم. خرج من عالمه المائي السفلي، إلى عالمنا البري العلوي. فكيف صار لنجم البحر تهويدة خاصة له؟ هل سئم عالمه الجديد واشتاق لفضاء الماء؟ أم تماهى مع الكائن البشري وصار مثله يحب الغناء والترنيمات والتهويدات؟
تلك تساؤلات لعتبات نص الديوان تستحق التوقف عندها في دراسة خاصة ليس مكانها هنا. فهذه القراءة معنية بتعدد العوالم في فضاء القصائد. فكل قصيدة تعبر عن عالمين أو أكثر، يتنقل بينها الشاعر بإجراءات وتقنيات متعددة. فالقصائد تغدو رحلات متعددة بين الأماكن والوقفات الوجدانية ومحطات الذاكرة والغنائيات الحوارية التي تبعث في النصوص حيوية وتألقا تطوف بالمتلقي بين المعاني والدلالات دون أن ينتظر العودة أو المستقر.
تعدد العوالم في فضاء النص الشعري
ما يميز قصائد ديوان «تهويدة لنجم البحر» الاتساع الفضائي وانفتاح العوالم المتداخلة التي تتألف منها العديد من القصائد. فعوالم القصائد تتفرع بين المواقع الفيزيائية المُعرَّفة والخيالات والأحلام والتوجسات والأمنيات ومعالم الطبيعة المتعددة والمختلفة. وقد يتنقل الشاعر في مقطع شعري واحد بين أكثر من عالَم. هذا الثراء ذو البعد البصري يعكس روحا شعرية فضفاضة رفرافة قادرة على الاندماج والانشطار في آن.
وسنولي هذه القراءة الاهتمام بطبيعة العوالم الواردة في القصائد. وصور التحولات التي يجري بها الانتقال من عالم إلى آخر. ومكوناتها ودلالاتها. واخترت مجموعة من القصائد هي التي ستسلط القراءة الضوء على عوالمها كنموذج لعرض ثراء الخيال واتساع الفضاء في الديوان.
(امرأة في البياض / لا أحد / قراءة / تاج على رأس التراب/ تنهيدة وقصيدة )
التحولات المكانية والتحولات الافتراضية
ثمة صور متعددة للتحول بين الفضاءات في عوالم القصائد. منها ما يتخذ صورة التحول المكاني الفيزيائي بالانتقال من مكان إلى آخر. ومنها ما يأخذ صورة التحول الافتراضي بالانتقال بين العوالم بالخيالات والأحلام والهواجس والتأملات وحالات الاستبطان.
في المجموعة المنتقاة من القصائد كان التحول المكاني مقتصرا على قصيدتي «قراءة» و «تنهيدة وقصيدة». حيث يصف الشاعر في قصيدة «قراءة» تحولاته النفسية والوجدانية في «تلك البلاد». ولا يذكر اسم البلاد ولا معالمها. إنه يكتفي فقط بوصف مظاهر الفضاء والعوالم الجديدة التي انتقل إليها. وليست «البلاد» الجديدة التي انتقل إليها هي فقط المجهولة. بل إن بلده هو ذاتها ليست معروفة. وفي هذا الصدد وجهت «أنوشكا» له سؤالا: «فمن أنت.. ومن أي بلد؟» وكانت إجابة صاحبه «دعيه، ضاقت الأرجاء بالحلم». هذا الضيق هو الذي يجعل كل مكان لا معنى له ولا دلالة. ولا علامة تميزه ولا إشارة.
وعلى نقيض ما سبق يُعرِّف الشاعر المكان في قصيدة «تنهيدة وقصيدة» وهي باريس «بيني وبين باريس شيء عجيب. أحار في تحديده..». وهذا التعريف اتخذ مشاعر واضحة تجاه باريس ومواقف واضحة من المدينة هو الإعجاب والحب. فالتعريف هو حالة عامة يكتسبها المكان ويكتسبها من في المكان ومشاعر من في المكان أيضا. والتعريف كما سيتضح هو حالة أكثر تبسيطا من الحالة المجهولة غير المعرّفة.
أما باقي القصائد فجميعها ذات تحولات افتراضية. ففي قصيدة «امرأة في البياض» يكون التحول بين العوالم عن طريق الحلم. «جاءني في المنام، خيال امرأة في البياض. تكلل وردا وأسدل من جانبه غمام…». وفي قصيدة «لا أحد» يكون التحول أيضا بالحلم «عاصف قلبي أرى فيما يرى النائم أني شجر في بلد، وجذوري في بلد». أما في قصيدة «تاج على رأس الزمان». فكان التحول عن طريق الذاكرة «كان المدى أبيض… وكان شريط الحياة ببطء يدور. وكان حشد الذكريات بما لم يسع لمداه الخيال، فذكرى لشيء صغير، تجر ذكرى لشيء كبير».
سمات وسيميائيات العوالم المتعددة
للعوالم التي تنقل الشاعر بينها في القصائد سمات وسيميائيات تحيل إلى دلالات متعددة يتشعب فيها الخيال وتتبلور فيها الصور الشعرية. ما يكسب النص حيوية وتحركات غنائية ثرية. ولكل عالم سماته الخاصة في فضاء الديوان. وله كذلك إحالاته الخاصة ودلالاته.
يغلب على عوالم قصيدة «امرأة في البياض» دلالات المقدس. إذ يتحول الشاعر في منامه إلى عالم مختلف حين يلتقي بامرأة تقدم له الطعام.
«بان بين يديها إناء
أشارت إليَّ تعالَ
خذ الكأس، هذا حليب مصفى
أتيت به من ضروع الغزال
وجئت إليك بخبز سخين
وتَمْر عزيز تجود به طيبات النخيل»
الصورة التي يرسمها المقطع الشعري تحيل إلى «الموائد المقدسة وطعام الأنبياء» بما يذكرنا بمائدة السيدة مريم التي كانت تهبط عليها ومائدة العشاء الأخير. كما أن الخبز واللبن والتمر من طعام الأنبياء الأثير. وتتعمق قداسة الطعام أكثر في المقطع الشعري:
«خذ الأكل مني، وجرب طعاما
قرأت عليه.. رششت عليه بماء تحدر
من مزنة لم تلدها الدهور».
ففي الموروث الإسلامي، فالقراءة على الماء أو الطعام هي قراءة آيات من القرآن وأدعية تجلب الخير وتطرد الشرور. وكذلك الرش بالماء باعتبار الماء المقروء عليه بركة وطهارة. وفي تعريف المرأة عن نفسها للشاعر فإن شيئا من سماتها يشير نحو المقدس مثل النار والسورة:
«قلت من أنت؟!
قالت: ….. أنا من ترابك من نار أهلك
من سورة المد وملح الأجاج».
والطعام المقدس يمنح تأثيرا ذا طابع «نَسَكِيّ» من عوالم الصوفية. لذلك بعد أن يتناول الشاعر الطعام يتحول إلى صوفي يمارس كل طقوس الصوفية من دوران ورقص ودق الدفوف والشعور بالخفة، والاقتراب من مراحل الكشف والشوق
«أكلت الطعام الذي لم أذق مثله..
شربت وأسكرني ما لديها
فصرت ألف.. أدور…»
وتحتشد القصيدة بكم هائل من سيميائيات الصوفية التي تعبر عن تحول جديد تدخل فيه عوالم القصيدة وهو عالم الطقوس الصوفية «صرت كمن مسه السكر، وراحت به نشوة عبر فلك، تجاوزت بحر العبور، أراقص ألسنة من لهب. وأنقر دفا محمَّى، أحس بأني أرق، وأصفو، وأغدو شعاعا.. يأخذني الوجد وجدا».
وكأي صوفي يتدرج في مسالك الصوفية فإن زاد المسير لا يكفيه، والوجد في قلبه لا ينتهي إلا بتلاشيه وتبدده وذوبانه في الحب حتى الموت.
« أيا امرأة في البياض تعالي.
أريد المزيد…
ثم أحسست أني شيئا تلاشى
وأحسست أني.. شيئا فشيئا أذوب
وأحيا.. أموت»
وفي قصيدة «لا أحد» تتكرر كذلك الأجواء الصوفية في عوالم القصيدة عبر نظرية الحلول. وهو ما جعل عوالم القصيدة كثيرة ومتعددة متجانسة أحيانا ومتنافرة أخرى. فالشاعر يرى نفسه في المنام في صور متعددة. فأحيانا يرى نفسه قد حل في مظاهر الطبيعة «أني شجر في بلد / وبأني جدر الياقوت / وبأني الدر / وبأني موجة / وبأني قادح البرق..» ثم يتدرج الشاعر فيحل في اللغة «أرى.. أني أبجديات وأعياد ميلاد لحرف/ وبأني ذلك المعنى الخرافي»
ثم تدخل الطقوس الصوفية مع استحضار أشخاص آخرين لعوالم القصيدة
« وإذا حولي رجال من رخام
يتسلون بنقش
كان يوما في حجر
وأناس في صفوف ونشيد
يسكر الروح:
مدد»
وتتزاحم مكونات القصيدة بحلول الشاعر في أشياء كثيرة ومتعددة. لكن العالم الصوفي الذي يطغى عليها ينتهي كنهاية كل صوفي، وكما في قصيدة «قراءة» يبرز تيه الذات وعدم الوثوق في الهوية والتشتت:
«ثم أني في عذاب المخاض، كله
كان جوابا، لسؤال من زبد
بأني كلما فاض بي الشوق
توزعت على البعد نتف
ذاهلا أجري… وأجري
ناكرا كل تواريخي، كأني
في زحام الكون هذا… لا أحد»
وفي قصيدة «قراءة» تتزاحم عوالم مختلفة. فكون التحول في القصيدة تحول مكاني أقرب للواقعية فهو عالم مليء بالناس الغرباء والازدحام في مطعم مليء بالصحون والكؤوس وضجيج الناس.
«حاشد بالناس من حولي
في تلك البلاد
مطعم بالكاد يعطيك مكانا للجلوس
وعلى وقع أغان غجرية
يأكل الجمع.. يغني،
وتموج الطاولات
بصحون وكؤوس وخليط من لغات
يهزج الجمع ضجيجا وينادي النادلات»
ثم يندمج العالم المزدحم بالغرائبيات والأساطير والمقدس حين تحظر «أنوشكا» وتشرع في قراءة كف الشاعر.
«تنادي لي رموزا وحروف / وأنوشكا طائر يرقب حقلا من علو يحترق ويرى كيف تعيد النار تشكيل المعادن / ثم ألقت بفصوص وخرزات». وكأغلب القصائد في الديوان تنتهي تلك العوالم إلى لحظة تشتت يفتقد للوضوح.
«صاحبي قال: دعيه،
ضاقت الأرجاء بالحلم
وزهر النور يفضي
بالذي قد لا يضاهيه أحد…
أما قصيدة «تاج على رأس الثرى» فرحلة العوالم تأخذ طابع التطواف بين الأزمنة التي أثر تغيرها وتداولها على طبيعة الأماكن.
«كأن الزمان الزمان يلين
……..
ها هنا عند قصر الرخام
وقفت أحدث نفسي
وأعجب كيف تغير طعم المكان
وكيف لتاج الزمان زمان جديد
تغير عندي، وأفلت مني ورود الزمان»
ثم يغوص الشاعر في عالمه الداخلي وتأملاته أمام قصر الرخام. وفي إشارة وردت في آخر القصيدة، فإن قصر الرخام هو قصر تاج محل. وهذا يفسر تمحور عالم التأملات الداخلية حول عظمة العشق وإنجازاته. وحول الموت والخلود:
«وكيف إذا عاشق
أراد لعشق له أن يعيش بطول السنين
تخير شيئا يفوق البلى»
أما قصيدة «تنهيدة وقصيدة» التي تدور حول حب باريس، فالعوالم التي تسيطر عليها هي عوالم الوجد المشحونة بالأسئلة الإنشائية التي يتعجب الشاعر فيها من سر حبه لباريس في مختلف حالاتها. ومختلف تفاصيلها في مختلف الفصول والشهور.
المرأة في عوالم القصيدة
للمرأة حضور صاخب في قصائد الديوان، كما في جميع قصائد ودواوين علي عبدالله خليفة. والمرأة في شعر خليفة ليست عنصرا اعتياديا وتقليديا في معاني النص. المرأة ركن ورمز ودلالة وعلامة لها خصوصيتها ولها وظيفتها الفارقة في فضاء النص. تجدر الإشارة إلى أن إهداء الديوان « إليها وهي تتنفس في أعالي البحار» إهداء لامرأة. وأن أول قصيدة في الديوان «سرير الماء» يبدأ بطلب إلى امرأة «اغسليني بالبرد، واشطبي اسمي قسرا..». فالمرأة في شعر خليفة حالة وظاهرة أبعد من أن تكون عنصرا من عناصر العالم الشعري.
في قصيدة «امرأة في البياض» تحتل المرأة عنوان النص ذاته وتستهل به القصيدة وتفتتحها. فهي زائر يأتي في المنام مكللا بكل جميل. بالبياض والغمام، متجاوزة الذاكرة والأزمان.
«جاءني في المنام
خيال امرأة في البياض
تكلل وردا، وأسدل من جانبه غمام..
خيال امرأة في البياض!
كأني التقيت بها مرة في قديم الزحام»
والمرأة في القصيدة مجهولة الاسم مجهولة الهوية. تثير فضول الشاعر غير مرة لسؤالها عن كينونتها. وعن سر الطعام وسببه. المرأة هنا مصدر من مصادر الغموض وباب من أبواب الأسئلة. لكن أسئلة الهوية في القصيدة أسئلة مفتوحة على المدى. لا إجابات عليها.
«قلت من أنت؟!
قالت: ضنين هو الوقت، ولا وقت عندي،
أنا من ترابك.. من نار أهلك..
من سورة المد وملح الأجاج
من نسمة حرة في البكور
مددت يدي نحوها مستريبا..
لماذا أتيت إلي بهذا الطعام؟
ولكنها امرأة فاعلة متحكمة تلقي الأوامر وتعيد ترتيب المشهد. ولا تجيب عن الأسئلة.
«أشارت لي تعال، خذ الكأس، هذا حليب مصفى، خذ الأكل مني، وجرب طعاما…»
والمرأة التي جاءت في المنام مكللة بالجمال وحاملة الزاد والطعام، هي حاملة للتغير، هي أداة التغيير في عوالم الشاعر. فهي من أدخلته عالمها الغرائبي المقدس. ثم جعلته بواسطة طعامها صوفيا هائما طربا مطربا. وجعلت الشعر ينطلق من لسانه بالغناء. المرأة هي فعل تأثير فعل تغيير لا ينتهي ولا يُكتفى منه. المرأة صانعة العوالم في القصيدة.
ولا تختلف صورة المرأة في قصيدة «قراءة» عن صورتها في قصيدة «امرأة في البياض» إلا في التفاصيل. فالمرأة في قصيدة «قراءة» معرّفة تعريفا كاملا ابتداء من اسمها، إلى صفاتها. اسمها «أنوشكا» وهو اسم تحيله أغلب قواميس الأسماء إلى الأرمنية ويعني الشيء ذو الطعم الجميل، كطعم السكر. «أنوشكا» المُعرفة تسير وسط عالم مجهول وستسعى لكشفة. إنها شابة صغيرة جميلة تتنقل بين طاولات المطعم تجمع المال من الزبائن. إلى أن تصل إلى الشاعر وتعرض عليه قراءة كفه.
وقراءة الكف هي كشف الأسرار الخفية التي لا يدركها صاحب الكف نفسه. قراءة الكف بحث في الهوية والخارطة. «وأنوشكا» تقرأ الكف وتكشف الحجب بالأسئلة. والأسئلة هنا لا تحمل الاستفهام، إنها تحمل المعنى، وتطوي الرسالة، وتحتوي المغزى.
«لماذا أنت والعصفور في مرمى حجر؟!
ولماذا أنت في اليتم رباب؟ …..
أمطرتني بسؤال وسؤال
واستلذت طرح تلك الأسئلة»
تلك الأسئلة التي طرحتها أنوشكا فتحت عوالم الداخل في وجدان الشاعر. نبشت في العمق. وقلبت كتابا مليئا بالأسرار والآلام.
«وأنوشكا دون أن تدري في العمق يديها
تمسك الجرح وتتلو ما تبقى من جراح
وكتابي كله كان عجيب الصفحات
و(أنوشكا) طائر يرقب حقلا
من علو يحترق
ويرى كيف تعيد النار تشكيل المعادن
والليالي كيف تبدو
حين ترتج من القاع المدائن.»
ثم تقود «أنوشكا» الشاعر للعبة الخرز. حيث اختياراته تكشف قدره، ومصيره.
«أوغلت فيّ أنوشكا وتمادت
ثم ألق بفصوص وخرزات
قالت اختر اثنتين
فتأملت نثارا من فصوص وخرز
….
فاخترت اثنتين
….
إنه الحب الذي اخترت كما اخترت الحياة
….
آه ما أشقى الذي تختار في الحب!
تريد العشق حتى ذروة العشق
وحتى المنتهى دون حد…»
وحدها المرأة، هي التي تستطيع أن تكشف الحب. وتمنح الحياة. و«أنوشكا» بكل ما تملك من مقومات الحياة والحيوية استطاعت كشف مكامن الشاعر، والتنبؤ بالشقاء الذي يعيشه وسيعيشه بحثا عن الحب الذي لا ينتهي، وعن الحياة الممتلئة حبا.
أما قصيدة «تاج على رأس الثرى» فوجود المرأة فيها مركب ومزدوج، وحضورها استحضار دلالي أكثر منه تواجد فعلي. إنه حضور الذاكرة الذي يقلبه الزمن. ثم يطول الزمن فيخلد الذاكرة. يتداخل في هذه القصيدة حضوران للمرأة، الحضور الأول لصاحبة الثرى وقصر الرخام الذي بني إكراما لها وتخليدا لحبها. إنه حضور للعشق الذي صار رمزا تاريخيا يشهد عليه الرخام والحجر، والذي حوّل الثرى إلى قلب نابض وعطر نافذ.
«وكيف إذا عاشق
أراد لعشق له أن يعيش بطول السنين
تخير شيئا يفوق البلى..
يبث به نفسا لا يموت
يجيء بأعتى صنوف الحجر
يسور كل تراب الجسد
ليبقى منه أثر.
كأن الرفات الذي تحت هذا الرخام
له خلجة بين حين وحين
أحس بها رعشة في جلال النقوش
وأن الرخام ينبت عطر الورود
ويرشح مسكا تدفأ تحت الجدائل.. سال
وأسدل من حوله ألف خيط وخيط
من زعفران.»
هذا الحضور الباهر لصاحبة الضريح المعشوقة الخالدة، يستدعي حضور محبوبة الشاعر «ليلى»، التي كانت ذات زمان قديم جزءا من هذا المكان، حاضرة فيه مع الشاعر وليست غائبة.
«كل هذا البهاء وهيبة عشق
تداول عبر السنين الحياة
كأني لمحت ليلاي وجها هنا
ربما صورة خايلت.. إنها..
يا نعم.. إنها عند هذا البياض..
نعم.. هاهنا»
والرابط بين حضور صاحبة الرخام، ومحبوبة الشاعر «ليلى» هو حضور الحبيب الغائب. حضور الذكرى التي لا تنطفئ والوجد الذي ليس له حد. والحجر أداة لتخليد الذاكرة. الحجر الذي لا يفنى. الحجر الذي هو مزيج صلب من التراب. يبقى دليلا وشاهدا على تراب كان يوما حياة من حب.
خاتمة
في قراءة متبحرة ومتعمقة لقصائد الديوان، تكشف القصائد عن فضاء مفتوح رحب، تتخلله عوالم متعددة. استطاع الشاعر توليدها والمزج بينها والتنقل عبرها بخفة ورشاقة وسلاسة. ما جعل الديوان غنائية ثرية ممتعة يملؤها الأسلوب السردي الغنائي الذي تتخلله الحوارات والأسئلة.
في القصائد التي تم تسليط الضوء عليها في هذه القراءة تبين أن عوالم النص منها ما هو واقعي جغرافي للأماكن المعرفة أو غير المعرفة، أو معالم الطبيعة المتعددة، ومنها ما هو افتراضي خيالي من عوالم الوجدان والأفكار والتأملات. كما أن حضور المقدس والأسطورة كان بارزا خصوصا في معالم التصوف التي عبرت عنها سيميائيات الرموز الصوفية من وجد وشوق ورقص وحلول في الكون والطبيعة.
وكانت المرأة من أهم عوالم فضاء الديوان. كانت المفتاح والافتتاحيات، وحاملة الأسرار وكاشفتها، كانت الحب والحياة والممات الذي تنتصر عليه الذاكرة وتخلد الحضور برغم الغياب.
برزت في القصائد حيرة الذات وتشتتها. وارتباكها أمام الأسئلة البدائية الكبرى. «من أنت؟ من أين أنت؟ ماذا تريد؟» لا تقدم الذات أدنى إجابة. تلجأ إلى التأمل والاستبطان للغوص في عمق المعنى الذي لا قرار له. وتغدو الأسئلة هي المعنى هي المرشد هي انفتاح آخر لفضاء النص على عوالم لم تطرقها القصائد بعد.