تواجه دارس شعر الجواهري صعوبات شتى قد لا يجدها, بمثل هذا القدر لدى أي شاعر آخر… وترجع هذه الصعوبات الى أسباب عديدة, منها أن تجربة الجواهري تمتد الى ما يقرب من القرن, وهي في تاريخها الطويل هذا لم تشهد خطا مستقيما في تطورها وما شهدته لم يكن غير تعرجات تخللتها قصائد هي قمم تناثرت هنا وهناك.. قمم لم يتم اكتشافها بفعل دراسة أو نقد وانما نتأت هكذا منذ ولادتها لتلفت إليها الأنظار, مكتفية بنفسها ولم تحتج الى ما يعرف بها أو يشير إليها.
بمثل هذه القمم أسس الجواهري بين شعراء قلة في تاريخنا الشعري قيمته الشعرية, مستبقا القراءة والنقد معا, لاسيما إذا أدركنا أن الجواهري أنشد معظم هذه القمم, أول مرة, أمام جمهوره الحاشد الذي يمثل عينة لجمهوره الأوسع الذي يتلقى شعره وكأنه يإيحاء ووحي إنساني لا يستمد سلطته من السماء وإنما من الأرض غير أن له, في الوقت نفسه, جبروت وقوة الحاضر في كل المناسبات والاحوال على امتداد ما يقرب من القرن.
لم يكن هذا الايحاء صوتا يمثل الشاعر أو لا يمثله.. قناعا يرتديه الشاعر أو لا يرتديه, وإنما هو جزء من كيان حي هو كيان الشاعر الفرد.. إن لم يستطع الشعر التعبير عما يريده فان الشاعر يستطيع بنبرة صوته واهتزاز جسده وحركة يديه أن يفجر ما يريده الشعر أمام جمهوره المتهيئ لأقل الانفعالات انبعاثا, أما إذا تطابق الشعر وجسد الشاعر فتلك الذروة التي تتأسس أو تنبثق في حينها والتي سميناها قمة لاتبالي, بعدئذ بقراءة ولا تأمل, لان اتساع نارها التي اجتاحت مستمعيها, وهم قراؤها فيما بعد وقد اتسعوا, لم تترك لمتأمل فرصة للوقوف عند أجزائها.
وحتى لو تمت هذه القراءة وهذا التأويل فان قوة الانطباع الأول وحضور المناسبة هما أقوى من أي قراءة أو نقد لاحقين, لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار حراجة القراءة النقدية في التعامل مع ظاهرة شعرية كظاهرة الجواهري.
تقف هذه الظاهرة شامخة حتى تكاد تطغى, أحيانا, على ما حولها من ظواهر أخرى سياسية او اجتماعية او ثقافية, لأنها أي (الظاهرة الشعرية) هي نفسها تلك الظواهر وقد استحالت الى قول فعلي راسخ ليس له تقلب الفعل السياسي والاجتماعي المقول – إذا صح التعبير- ذي الطابع الزائل.
هذا القول – الفعل له من التأثير ما يحيله مرة أخرى إلى ظاهرة لها تجسدها السياسي والاجتماعي في الواقع… ظاهرة تستمد قوتها ثانية من الناس, أي أن سلطة الشاعر ليست مستمدة من اللغة وحدها, وانما هي تستمد هذه القوة من الواقع أيضا, بعد أن استحالت اللغة الى كائن حي هو الشاعر نفسه وقد تلبس قراءه, فأصبح لسانهم ينطقون به, مثلما تلبسوه من قبل.
ليس جمهور الجواهري مجموعا بل مفردا يتقمصه الشاعر الذي يكتب قصيدته دون أن يكون معنيا بما يفهمه القارئ- المستمع, رغم حرصه على هذا الفهم, أو ما لا يفهمه من معان ومفردات عصية على الفهم, يهجسها وقد لا يعيها تماما, وإنما هو معني بالقول الذي يفصح عنه بعد أن أصبح والجمهور شيئا واحدا- مفردا- هو الجواهري نفسه بغضبه ولينه, بضعفه وقوته, بجمعه ومفرده:
حشدوا علي المغريات مسيلة
صغرا لعاب الأرذلين رغائبا
بالكأس يقرعها نديم مالئا
بالوعد منها الحافتين وقاطبا
وبأن أروح ضحى وزيرا مثلما
أصبحت عن أمر بليل نائبا
شعراء كثيرون يتملقون الجمهور, غير أن الجواهري ليس واحدا من هؤلاء… فمفرداته ومعانيه, خاصة به, غامضة ومفتوحة, تمليها مشيئة القول- الظاهرة, القول- الوحي الذي لا يلحقه نقد وإن لحقه فهو طارئ, زائل, هامشي, عرضي, إن لم نقل: كافر بلغة الوحي, والذي يكفره ليس السماء, وإنما الأرض- سلطة الشاعر بين الناس.
أسطورة الجواهري
من هنا نبعت أسطورة الجواهري والخرافات التي لم تنته بعد عن شخصه وشعره وثقافته, بل وتناقضاته التي أصبحت ضرورة »شعرية« مثلما الضرورات الشعرية الأخرى إن لم نقل ضرورة تاريخية, لا تستدعي المغفرة وإنما الفهم, وحتى هذا الفهم لا يعني شيئا وقد أدركه الشاعر نفسه قبل ناقديه, وكتب عنه أبياتا وقصائد شتى منذ مراحله الشعرية الأولى:
ومدحت من لا يستحق وراق لي
تكفيرتي بهجائه عما مضى
ووجدتني مستصعبا إطراء من
أطريته بالأمس طوعا ريضا
نافقت إذ كان النفاق ضريبة
متحرقا من صنعتي متمرضا
ولكم قلقت مسهدا لمواقف
حكمت علي بأن أداري مبغضا
(معرض العواطف 1935)
وبعد سنوات تسع من تاريخ كتابة هذه القصيدة سيردد الجواهري المعاني ذاتها في قصيدة لاحقة هي (إلى الرصافي), لكن عبر شخص الشاعر الرصافي لاشخصه:
وكنت صريحا في حياتك كلها
وكان – ومازال- المصارح نادرا
وقد كنت عن وحي الضرورة ناطقا
وقد كنت عن محض الطبيعة صادرا
وقد كنت في تلك الأماديح شاتما
محيطا بأرباب القرائح كافرا
وإلا فأنت المانع الصغر عن يد
أبت أن تحلى في الجنان اساورا
وأنك أنقى من نفوس خبيثة
تراود بالصمت المريب المناكرا
تعيب على الشعر التحايا رقيقة
وتلثم من »بغل هجين« حوافرا
(إلى الرصافي 1944)
قد يكون الجواهري أدرى الناس بتناقضاته منذ قصائده المبكرة, وإذا ما قارنا تناقضات الشاعر بتناقضات ما يحوطه من مؤسسات وأحزاب وأفراد لبدت تلك صغيرة ليست بذات شأن في مجتمع شهد من التناقضات ما يعجز أي فكر أو سلطة عن توحيدها ولم يوحدها, ربما, إلا الشعر, لا بتفرده وتعاليه عنها, وإنما لاحتوائه إياها والنطق بها, ومن ثم الانتساب إليها والتفرد عنها, وهذا ما لم يحققه أي شعر آخر.
ولعل هذا ما يفسر قول الجواهري في ذكرياته: (والشعب العراقي شعب عجيب, حتى الذي لا يقرأ ولا يكتب, يزحف كي يسمع الشعر المثير, سياسة كان, غزلا كان, مدحا كان, شتما كان« (1).
وإذا ما تتبعنا أسطورة الشاعر التي تسهم فيها مخيلة الناطقين بشعره ممن تلبسهم في حياته وبعد موته, فاننا قد ننحرف بتناولها هذا الى مسار آخر ليس شاغلنا(2), لأن ما يعنينا في هذه المقالة هو الحديث عن إشكالية تناول شعر الجواهري والصعوبة التي يواجهها المتأمل في شعره للوصول إلى الاستنتاج الدقيق.
ثقافة الشاعر
إن ثقافة الشاعر ومعرفته بالحياة والكتب واللغات لا نستدل عليهما إلا من شعره لاسيما أن مفهوم الثقافة في غاية الاتساع ولا يفضي بنا إلا إلى الوهم ثانية, لذا فان من الأفضل لنا وللقارئ النأي عن أي حديث عام عن ثقافة الشاعر, بل استشفافها من قول الشاعر نفسه, أي شعره, ليتبين لنا مدى معرفته بموضوعه, وقدرة هذا القول على إضفاء الأحاسيس الخاصة القادرة, لعمقها, أن تلهم من الأفكار ما يجعلها ثقافة بحد ذاتها, علينا هنا أن ننظر إلى الشعر, لا من خلال ما يحيط به من أوهام يسهم فيها كل من الشاعر ومريديه أو مؤسساته أو جمهوره, عن عمد أو دون عمد, وإنما من خلال نصه الذي قد يصبح بدوره فاعلا في الثقافة حتى وإن كان نصا إشكاليا. وبعبارة أخرى هي أننا لا نتناول الشاعر بوصفه منفعلا متلقيا لثقافة ما فحسب, وانما بوصفه فاعلا ذا أثر ثقافي, لا من خلال ما يدعيه أو ما ينسبه الى نفسه, بل من خلال شعره وحده, بما فيه من دلالات لغوية وسياسية واجتماعية لصيقة بموضوعه.
لو أخذنا قصيدة للجواهري كقصيدة (أبوالعلاء المعري) أو أي قصيدة أخرى لتبين لنا, ربما, ما يدلنا على ثقافة الجواهري أفضل مما تدلنا عليه أوهام مريديه ولأدركنا أكثر صعوبة تناول شعره بما احتواه من نقائض, مما يجعل قارئ شعر الجواهري أو دارسه في غاية الحذر من التعميم الذي لا يجدي فهمه أو فهم أي شاعر كان.
البدء بما هو مندرس
يبدأ الجواهري قصيدته (أبوالعلاء المعري) بهذه الأبيات:
قف بالمعرة وامسح خدها التربا
واستوح من طوق الدنيا بما وهبا
واستوح من طبب الدنيا بحكمته
ومن على جرحها من روحه سكبا
وسائل الحفرة المرموق جانبها
هل تبتغي مطمعا او ترتجي طلبا
وهي أبيات ذات طابع احتفائي يتوجه فيها الجواهري إلى أبي العلاء المعري القائل:
أقررت بالجهل وادعى فهمي
قوم فامري وأمرهم عجب
أحقا طوق المعري الدنيا بما وهب كما تدعي القصيدة أم كانت دنياه جاحدة في حياته وبعد موته? وهل طبب الدنيا بحكمته وسكب على جرحها من روحه أم كانت دنياه بغيضة إليه أشد البغض?
يروي الدكتور طه حسين في كتابه (تجديد ذكرى أبي العلاء) أن: ؛تعصب الفقهاء عليه, وسوء رأي الدينيين فيه, وتلك الحيل التي اتخذها ليخفي على الناس آراءه, هي التي حالت بين العقول وبين فلسفته, فجعلته مجهولا للتاريخ, والمؤرخين, على السواء, مجهول من التاريخ, والمؤرخين, وإن كثر الكتاب عنه قديما وحديثا: من العرب والفرنج, فان الذين كتبوا عنه من العرب, لم يحفلوا إلا بذكائه وذاكرته, ولغته, وإلحاده, يروون فيها الأعاجيب, ويتندرون في وصفها بالأفاكيه, من غير أن يحفلوا بمادة هذا الذكاء, ومصدر هذا الالحاد. وكذلك الذين أرخوه من الفرنج, لم يستطيعوا أن يفهموا فلسفته, لغموض ألفاظه وأساليبه من جهة, ولغموض الكتب والأسفار التي ألفت في الفلسفة الاسلامية عامة من جهة أخرى. على أنهم قد سبقوا المسلمين الى شيء من البحث عن فلسفة الرجل, وإن لم يصلوا منها إلى ما يشفي الغليل«.(3)
ولم يكن الباحثون الآخرون بعيدين عن هذا الاستنتاج, أذكر منهم, على سبيل المثال, محمد مصطفى بالحاج في كتابه (شاعرية أبي العلاء في نظر القدامى).
ولو أقررنا مع القصيدة أن أبا العلاء طبب الدنيا بحكمته وسكب حقا على جرحها من روحه- وهذا ما نفتقده في شعره المليء بذم الدنيا- فإن من الصعب علينا الاستجابة لهذا البيت:
وسائل الحفرة المرموق جانبها
هل تبتغي مطمعا أو ترتجي طلبا
لإن مخاطبة حفرة أبي العلاء المعري ب-؛المرموق جانبها« لا يعمق إحساسا ولا يضيف فهما لأبي العلاء المعري, ولا لشعره, أو فلسفته وإنما هي مجرد نظم لا يقربنا من عالم أبي العلاء, وإنما يبعدنا عنه بعد لفظة ؛المرموق« عن الشعر في هذا البيت, فطالما ردد أبوالعلاء في شعره رفضه مجاورة الناس حتى في القبر وعزوفه عن أي شرف أو مرتبة أو تكريم:
إذا أنا واراني التراب فخلني
وما أنا فيه قد كفيت مؤونتي
***
أأرغب في الصيت بين الأنام
وكم خمل النابه الصيت
وحسب الفتى أنه مائت
وهل يعرف الشرف الميت
***
إن التوابيت أجداث مكررة
فجنب الناس سجنا في التوابيت
***
وهل يحفل الجسم في رمسه
إذا جاءه حاضر فأنتبث
***
إذا حان يومي فلأوسد بموضع
من الأرض لم يحفر به أحد قبرا
تمنيت أني بين روض ومنهل
من الوحش لا مصرا حللت ولا كفرا
***
ولست أبالي إذا ما بليت
من وطيء القبر أو من حفر
***
يا جدثي حسبك من رتبة
أنك من أجداثهم معزلا
هذه وغيرها من الأبيات التي سنذكرها في القصيدة تدل على فهم انطباعي جائز في الشعر وفي الفن عموما, ولكنه لا يدل على معرفة بموضوعه إن لم يكن نقيضا له, وليس في ذلك تقليل من شأن الجواهري وقد أضحت قصيدته هذه نفسها ثقافة بحد ذاتها, أو معلما ذا أثر فعال في واقع الثقافة نفسه, مثلما أضحت صوتا للشاعر, وليس أبوالعلاء إلا ذريعة لموضوع أكبر وذات أخرى, هي ذات الشاعر الجواهري وقد احتوت المجموع فأصبحا ذاتا واحدة.
وليس ذلك غريبا عن المنحى الشعري لدى الجواهري فهذا ديدنه في أغلب شعره, والذي يؤيد كلامنا هذا هو وعي الجواهري نفسه بهذا المنحى الذي يعبر عنه قوله في ذكرياته: ؛إن القارئ الآن, أو بعد الآن, قد يستغرب, عندما يكشف التاريخ أوراقه كلها, عن الأشخاص والأحداث والمواقف, قائلا: ما علاقة الجواهري بفلان أو فلان بحيث يستوجب أن يقول فيه ما لا يجب أن يقال من المغالاة في التكريم?. ولا ينطبق هذا على قصيدتي في (أبوالتمن) لوحدها, بل على أكثر من قصيدته كقصيدتي في (الوتري) وفي (كرامي) وغيرهما. ولربما كان أبوالتمن في أكثر من موقف من مواقفه, مستحقا لشيء من ذلك التكريم طبعا, لإثارة الناس ولمجرد مشاركتهم آلامهم وعذاباتهم ولمجرد بغيتي في أن ينتفض المحكومون على الحاكمين, أي أني لا يخطر على بالي سوى أن تكون القصيدة سبيلا ومدخلا الى الجماهير لا أكثر لأقول الكلمة الجريئة, الحق, ولأعبر عن نفسي وعن خوالجها.(4)
وما هذا المنحى ببعيد عن قصيدة (أبوالعلاء المعري) التي يعتبرها الجواهري تاج قصائده لا يستثني منها بيتا واحدا- على خلاف قصائده الأخرى- من شعره في ملاحق كتبه.
يقول عنها في (ذكرياتي): في صباح اليوم التالي, الأحد, كانت القصيدة قد تبوأت تاج قصائدي وملكت شغاف قلبي وضفاف مشاعري, وأصبحت المولود الذي انتظرته بفارغ الشوق والصبر واللهفة ومن حسن حظي ان استطعت أن أنهي القصيدة قبل الافتتاح بيوم واحد, ولم يكن لدي متسع لكي أغامر بما يزيد عليها أو ينقص عنها, كما هو شأني في كثير من قصائد غيرها«.(5)
كما يقول عنها في مكان آخر: »وعلى خلاف ما درجت عليه من الاثبات ببعض الأبيات الشعرية في كل مورد يختص بهذه المناسبة أو تلك فانني لا أستثني قصيدة (قف بالمعرة) وذلك بسبب من صعوبة تجزئة البيت والآخر منها, وللقارئ أن يراجعها بأكملها في المستدرك من هذه الذكريات«.(6)
هل كان الجواهري مدركا لغياب موضوعه عندما تخلى عن قصيدة سابقة دالية نظمها عن أبي العلاء كما يورد ذلك في ذكرياته: »ومع هذا كله فقد كان عبثا أن تنجح محاولاتي في الساعة نفسها واليوم نفسه الذي تلقيت فيه هذا النبأ المفاجئ, فسهرت ليلتي الأولى حتى الصباح وألحقتها بأخرى وفي الليلة الثالثة كانت حصيلتي من هذه النهارات والليالي الثلاث, قصيدة (دالية) لا تقل عن السبعين بيتا«.(7)
يقول الجواهري انه صرخ: ؛وجدته« عندما كتب مطلع القصيدة:
قف بالمعرة وامسح خدها التربا
واستوح من طوق الدنيا بما وهبا
»كدت أوقظ النيام وأنا أعيده بما يشبه الصراخ, هذا هو »أبوالعلاء المعري« »وجدته« (8), غير أن ما وجده الجواهري, في الحقيقة, ليس أبا العلاء المعري وإنما الجواهري.. الجواهري الذي كان يتلمس أشياء المعري (قبره, وجهه, عيناه…) لا روحه أو أفكاره ليلتقي, من خلالها, ذاته القلقة الصاخبة التي هي نقيض ذات المعري المتأملة الهادئة المواربة التي لم تفارق مكانها أبدا إلا مرة واحدة عندما رحل الى بغداد وعاد منها خائبا:
يا برج مفخرة الأجداث لا تهني
إن لم تكوني لأبراج السما قطبا
فكل نجم تمنى في قرارته
لو أنه بشعاع منك قد جذبا
إن عدم استجابتي للأبيات التي ذكرتها لا ترجع لكونها ليست من جيد الشعر وإنما لأنها لا تنتمي لأبي العلاء الزاهد حتى عن القبر, مثلما توضح ذلك أبياته التي استشهدنا بها من قبل, وقد تكون أبيات الجواهري هذه أقرب الى موروث الشاعر الثقافي الذي يطالعنا في العديد من القصائد بأشكال شتى تؤدي المضمون ذاته حتى وإن اتخذ صورا مغايرة.
إن علاقة صورة القبر بالكواكب وما يتشعب منها من صور وأخيلة أخرى هي مما يطالعنا كثيرا في قصائد التراث كما في قول أبي الفتح الحسن بن عبدالله بن أبي حصينة في رثاء المعري:
ما كنت أعلم وهو يودع في الثرى
أن الثرى فيه الكواكب تودع
أو كما في قول ديك الجن الحمصي:
ويا قبره جد كل قبر بجوده
ففيك سماء ثرة وسحائب
فإنك لو تدري بما فيك من علا
علوت وبانت في ذراك الكواكب
إن البدء بالوقوف عند القبر بحد ذاته هو امتداد للوقوف على الأطلال. لقد بدأ الجواهري بما هو دارس لدى المعري وليس بما هو حي ليواصل رحلته مثلما كان الشاعر الجاهلي يبدأ رحلته بما هو طللي. ولم تكن رحلة الشاعر إلا في الاتجاه المعاكس لمسيرة أبي العلاء في الحياة.
لقد نأى الجواهري عما اقترب منه أبوالعلاء.
لم يكن القبر شاغل أبي العلاء قط وهو لم يرد إلا في أبيات لا تحتفي بقبر ولا بحفرة, فلماذا ابتدأ الجواهري بالقبر إن لم يكن تقليدا طلليا للقصيدة ومدخلا لموضوعه الرئيسي الذي هو ذاته والناس?
قد نتذكر هنا التعليق الساخر للدكتور طه حسين على قول أبي العلاء المعري:
وكأن الهلال يهوى الثريا
فهما للوداع معتنقان
»فأما البيت فإنما يشير الى اجتماع الهلال والثريا في برج الحمل كما يقول الشراح. ولعمر أبي العلاء لو اعتنق هذان العاشقان لدهمت الفلك داهمة, ولأصابه خطب عظيم«.(9)
ولعل هذه الطرفة تنطبق على بيتي الجواهري الآنفي الذكر.
وقد يبدو طريفا أيضا أن نتذكر هنا بيت أبي العلاء المنكر على النجوم أن تمتلك حسا أو عقلا:
قالت رجال عقول الشهب وافرة
لو صح ذلك قلنا: مسها خرف
غير أننا لا نذهب هذا المذهب في فهم الشعر, وما بيتا الجواهري إلا استعارة شاعت في الشعر العربي ومدخل لموضوع يصطرع في داخله ثلاثة أقطاب هم الشاعر وجمهوره والمعري.
لم يكتف أبوالعلاء بالعزوف عن الشرف والرتبة والتكريم وعزلة القبر بل تمنى ما هو أكثر من ذلك: عدم تكريم جسده إذا ما حل به ريب المنون وطرح جسده على الأرض ليتنازعه الوحش والطير:
لا تكرموا جسدي إذا ما حل بي
ريب المنون, فلا فضيلة للجسد
***
إن صح تعذيب رمس من يحل به
فجنباني ملحودا ومضروحا
الوحش والطير أولى أن تنازعني
فغادراني بظهر الأرض مطروحا
يتردد ما هو مندرس في أبيات الجواهري الأخرى ليستعيض عما هو جوهري في موضوعه, بما هو عرضي ولا أدري ما هو شعور الدكتور طه حسين عندما سمع هذه الأبيات ينشدها الجواهري أمامه ويشير إليه كما يذكر ذلك الجواهري في ذكرياته:(10)
رأس من العصب السامي على قفص
من العظام إلى مهزولة عصبا
أهوى على كوة في وجهه قدر
فسد في الظلمة الثقبين فاحتجبا
وقال للعاطفات العاصفات به
الآن فالتمسي من حكمه هربا
الآن يشرب ما عتقت لاطفحا
يخشى على خاطر منه ولا حببا
الآن قولي إذا استوحشت خافقة
هذا »البصير« يرينا آية عجبا
هذا البصير يرينا بين مندرس
رث المعالم, هذا المرتع الخصبا
لا أجد وصفا أشق من هذا الوصف في بيته الأخير الذي يراد به الوجه المتأثر بانطماس العينين والذي لم يورده الجواهري إلا لإيراد مفارقة بسيطة هي خصب عقل أبي العلاء واندراس وجهه الرث المعالم, على حد تعبير الجواهري في قصيدته, وكأنه لم يكتف بما أورده في البيت السابق من وصف لا لزوم له في حضرة أعمى آخر هو عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين:
أهوى على كوة في وجهه قدر
فسد بالظلمة الثقبين فاحتجبا
القفز على الموضوع
إنها أبيات لا تحيل إلى موضوع, ولا إلى ذات, وإنما هي كمن يدعي معرفة موضوع فيحوم حوله أو يقفز إلى موضوع آخر ولم يكن موضوع الجواهري الآخر إلا هذا الذي ينسبه إلى أبي العلاء:
يا حاقر النبع مزهوا بقوته
وناصرا في مجالي ضعفه الغربا
وشاجب الموت من هذا باسهمه
ومستمنا لهذا ظله الرحبا
ومحرج الموسر الطاغي بنعمته
أن يشرك المعسر الخاوي بما نهبا
والتاج إذ تتحدى رأس حامله
بأي حق وإجماع به اعتصبا
ويصبح سؤالنا ذا دلالة حقا عندما نتذكر أن طه حسين أشار في كتابه (أبوالعلاء المعري في سجنه) إلى أن أبا العلاء »كان يكره الحديث عن آفته» (11) ولا أظن أن طه حسين بعيد عن هذا الكره أيضا.
يذكرني إلحاح الجواهري على آفة أبي العلاء بإلحاح المتنبي على سواد كافور. هذا الإلحاح الذي هو مظهر من مظاهر النظم حين يجد الشاعر نفسه ملزما على طرق موضوع لا يملك منه شيئا. ومن أمثلة ذلك في شعر المتنبي هذان البيتان:
إنما الجلد ملبس وابيضاض الـ
نفس خير من ابيضاض القباء
من لبيض الملوك إن تبدل اللو
ن بلون الأستاذ والسحناء
وليس أدعى للغرابة من طلب القصيدة, إن لم نقل شاعرها الجواهري, من أبي العلاء أن ينور له ما هو فيه من مدلج:
نور لنا, إننا في أي مدلج
مما تشككت إن صدقا وإن كذبا
وكأن أبا العلاء ليس هو قائل هذين البيتين:
وبصير الأقوام مثلي أعمى
فتعالوا في حندس نتلاطم
***
سألتموني فأعيتني إجابتكم
من ادعى أنه دار فقد كذبا
وفي الحقيقة أن أبا العلاء لم يعمم الشك إلا في مسائل الغيب, كما يرى الدكتور طه حسين: ؛ولأبي العلاء ابيات عمم فيها الشك وجعله مطلقا, فظن الذين لم يفقهوه أنه إنما يريد نفي الحقائق, ولو فطنوا لمغزى الرجل لعرفوا أنه لا يعمم الشك إلا في مسائل الغيب, فأما عالم الشهادة, فلا يبسط أبوالعلاء ظل الشك عليه, فمن ذلك قوله:
أصبحت في يومي أسائل عن غدي
متخبرا عن حاله متندسا
أما اليقين فلا يقين وإنما
أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا
فهذان البيتان لا يتناولان إلا ما يضمر الغيب من المخبئات (12)
ومثلما هو بعيد عن اليقين في ما يضمر الغيب فهو أيضا أبعد الشعراء عما ينسب إلى الكذب.
يقول الدكتور طه حسين أيضا: »ولذلك ظن الذين كتبوا دائرة المعارف الإسلامية أن الرجل كان يخدع الناس بإظهار الاصلاح في شعره. وبعض هذا الظن صحيح فإنه كثيرا ما يثبت البعث وكثيرا ما ينفيه, وكثيرا ما يثبت الجبر, ثم لا يكره أن يثبت الاختيار, وكثيرا ما يهزأ بالدين, ثم لا يكره أن يحث عليه. فهذا التناقض كان مقصودا من غير شك, وقد ذهب به مذهب اللبس والتعمية, غير أنه لم يستطع أن يخفي علينا أمره, وإن أخفاه على معاصريه أو كاد. فنحن لا نستعين القاموس واللسان وحدهما على فهم لزومياته, بل نستعين المنطق, وعلم النفس أيضا, وهما كفيلان بايصالنا الى حقيقة ما يريد«.(13)
يخيل لي أن فعل الأمر »نور« هو أسلوب أكثر مما هو موضوع لدى الجواهري فهو يتكرر في قصائده الأخرى بوصفه صيغة لا مضمونا, فها هو يخاطب المتنبي في قصيدة (فتى الفتيان.. المتنبي) بعد أكثر من أربعين سنة على كتابة قصيدة (قف بالمعرة) بمثل ما خوطب به أبوالعلاء:
وضو لنا فقد تهنا ضياعا
وخب بنا فقد شلت خطانا
ولا أعتقد أن ثمة فرقا بين »نور« و»ضو« إلا ما أوجبه الوزن من استبدال اللفظتين إحداهما بالأخرى, وإذا كان ثمة ما يدعو إلى مخاطبة أبي العلاء بمثل »نور لنا…. « إلا إذا كان ذلك محض أسلوب, فما يشغل الشاعرين المعري والجواهري جد مختلف, الأول لا يشغله قبر والثاني لا يشغله غيب, فهما مفترقان منذ البدء وما التقاؤهما إلا مناسبة هي أسلوب بحد ذاتها.
إن انفعال الشاعر الطاغي بموضوعه لا يحيل إلى الموضوع في قصيدته وهذه مفارقة لا تزال قائمة في أغلب شعرنا- وإنما يحيل الى ذات الشاعر التي تبدو هنا هي الموضوع الرئيسي:
بكى لأوجاع ماضيها وحاضرها
وشام مستقبلا منها ومرتقبا
حنا على كل مغصوب فضمده
وشج من كان, ايا كان, مغتصبا
في هذين البيتين كالأبيات السابقة لا أجد إلا صورة الجواهري, أما أبوالعلاء الغائب في هذه القصيدة فهو يحضر في ذاكرتي عبر أبياته التالية:
كلاب تغاوت أو تعاوت بجيفة
وأحسبني أصبحت ألأمها كلبا
***
في البدو خراب أذواد مسومة
وفي الجوامع والأسواق خراب
***
اصاح هي الدنيا تشابه ميتة
فنحن حواليها الكلاب النوابح
***
قد أنسوني بايحاشي إذا بعدوا
وأوحشوني في قرب بايناس
***
جزى الله عني مؤنسا بصدوده
جميلا ففي الايحاش ما هو إيناس
تخافين شيطانا من الجن ماردا
وعندك شيطان من الأنس خناس
وما حمدي لآدم أو بنيه
وأشهد أن كلهم خسيس
***
شر أشجار علمت بها
شجرات أثمرت ناسا
***
فليت حواء عقيم غدت لا
تلد الناس ولا تحبل
وهناك عشرات الأبيات والقصائد في ذم الناس والدنيا:
تفرقوا كي يقل شركم
فإنما الناس كلهم وسخ
الشر طبع…
والناس ضأن….
ما أشبه الناس بالأنعام….
بني حواء كيف الأمن منكم….
ودنياك مثل الإناء الخبيث….
أما المستقبل الذي شامه فتعبر عنه الأبيات المتجهمة التالية:
فإن يك رذلا عصرنا وأنامه
فما بعد هذا العصر شر وأرذل
***
فلا تأمل من الدنيا صلاحا
فذاك هو الذي لا يستطاع
قطعنا إلى السهل الحزونة نبتغي
مسارا فلم نلف اليسير ولا السهلا
فلا تأمل الأيام للخير مرة
فليست لخير أن يظن بها أهلا
***
متى أسألك في يومي دليلا
أجدك به على غده تحيل
نعم لاح الهلال فصار بدرا
وعاد لنقصه فهو النحيل
لعل الأقرب إلى فكر أبي العلاء القول إنه سخر من ماضي الدنيا وحاضرها ولم يسلم من سخريته لا سماء ولا ارض, وما لزومياته ورسائله ومنها رسالة الغفران إلا تأكيد لما قلناه, وهو ليأسه من الدنيا ماضيا وحاضرا لم يشم مستقبلا قط ولا مرتقبا, وما شامه هو الرحيل من العاجلة وهذا ما لم يتحقق له أيضا:
دنياي هل لي زاد أستعين به
على الرحيل فاني فيك محتبس
ولعل ما يؤيد قولنا هذا هو قول طه حسين ؛لم يعن أبوالعلاء من غرائز الإنسان إلا بما يتصل بالأخلاق, وقد اكثر البحث وأطال التفكير, فلم ينتج له ذلك إلا أن الانسان شرير بطبعه, وأن الفساد غريزة فيه, ولذلك لم ينتظر له اصلاحا, ولم يرج لأدوائه شفاء, ولاشك في ان الآلام التي بلاها في حياته, والآثام التي رآها في عصره, هي التي قوت في نفسه هذا الرأي, حتى ملأ شعره ونثره, ولم تكد تخلو منه قصيدة في اللزوميات(14)
ولو شئنا أن نتحدث عن نظرة أبي العلاء الفلسفية للزمن لأمكننا القول مع (سامي علي) في كتابه (أغاني الليلة القصوى) الذي تضمن مقدمته المكتوبة باللغة الفرنسية, وترجمته لنصوص من لزوميات المعري: »إن الماضي والمستقبل كفا لدى أبي العلاء عن الوجود لصالح البرهة المتكررة« (15), مشيرا إلى قول أبي العلاء: ؛كأنني بين يدي برهة«.
موقف فلسفي أم عاطفي
أما حنوه على الأنعام والطيور كما جاء في بيت الجواهري:
لم ينس أن تشمل الأنعام رحمته
ولا الطيور ولا افراخها الزغبا
فلأنه وجد فيهما صورة نفسه, فهما, مثله, ضحية شر الإنسان.
يخاطب المعري الطير:
فر من هذه البرية في الأر
ض فما غير شرها لك حاصل
فشعاري: قاطع وكان شعارا
لتنوخ في سالف الدهر واصل
واطلب الرزق بالمرور من الشج
راء لا من أسنة ومناصل
وتشبه بالطير تغدو خماصا
وتعد البسار ملء الحواصل
ويبدو في محاورته الغراب رفيقا به لائما البشر:
جر يا غراب وأفسد لن ترى أحدا
إلا مسيئا وأي الخلق لم يجر
فخذ من الزرع ما يكفيك عن عرض
وحاول الرزق في العالي من الشجر
وما ألومك بل أوليك معذرة
إذا خطفت ذبال القوم في الحجر
فآل حواء راعوا الأسد مخدرة
ولم ينادوا بسلم ربة الوجر
ومن أتاهم بظلم فهو عندهم
كجالب التمر مغترا الى هجر
هم المعاشر ضاموا كل من صحبوا
من جنسهم وأباحوا كل محتجر
لو كنت حافظ أثمار لهم ينعت
ثم اقتربت لما أخلوك بالحجر
على أن موقف أبي العلاء يتجاوز ما يمكن أن نسميه حنوا أو رحمة إلى ما هو أعم لتشمل رحمته حتى الضاريات من الفرائس ولعل هذا الميل إلى التعميم هو ما دفع طه حسين وباحثين آخرين الى الرأي القائل إن اللزوميات هي أقرب إلى الفلسفة منها إلى الشعر وأن جيدها قليل:
أذود عن الفرائس ضاريات
وأعلم أن غايتها افتراسي
وحين نصل نهاية قصيدة الجواهري تغيم صورة المعري ومعها, ويا للغرابة, صورة الشاعر فلا نتعرف عمن يتكلم الجواهري:
آمنت بالله والنور الذي رسمت
به الشرائع غرا منهجا لحبا
وصنت كل دعاة الحق عن زيغ
والمصلحين الهداة العجم والعربا
وقد حمدت شفيعا لي على رشدي
أما وجدت على الاسلام لي وأبا
فنحن, للأسف, لم نتلمس هذه الأم وهذا الأب لا في شعر الجواهري ولا في شعر المعري الذي يمتلئ بمثل هذه الأبيات الهاجية للدين والإسلام:
رحلت فلا دنيا ولا دين نلته
وما أوبتي إلا السفاهة والحمق
***
سيسأل قوم ما الحجيج ومكة
كما قال قوم ماجديس وماطسم
***
أفيقوا أفيقوا يا غواة فإنما
ديانتكم مكر من القدماء
***
هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت
ويهود حارت والمجوس مضلله
اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا
دين وآخر دين لا عقل له
***
حديث جاء عن هابيـ
ـل في الدهر وقابيلا
وطير عكفت يوما
على الجيش أبابيلا
متى ترحل عن دنيا
تزيد الأهل تخبيلا
ولعل هجاءه الأنبياء أشهر مما نورده هنا:
ولا تحسب مقال الرسل حقا
ولكن قول زور سطروه
وكان الناس في عيش رغيد
فجاءوا بالمحال فكدروه
أما إيمان أبي العلاء بالله فمبعثه الخوف كما تدلنا أبياته هذه:
خلقت من الدنيا وعشت كأهلها
أجد كما جدوا وألهو كما لهو
وأشهد أني بالقضاء حللتها
وأرحل عنها خائفا أتـأله
ويمكن القول, مع الدكتور طه حسين, إن عاطفة أبي العلاء الدينية لا تظهر حتى في ديوانيه السابقين على اللزوميات, أي سقط الزند والدرعيات.
يقول الدكتور طه حسين: ؛تكاد العاطفة الدينية لا تظهر في سقط الزند, بل ربما نم هذا الكتاب على الشاعر بضعف الأثر الديني في شبيبته, وأنه لا يتخذ هذا الأثر إلا لونا ظاهرا. وليس حظ الدين من سقط الزند بأكثر من حظه في الدرعيات أي أنه لا يكاد يوجد او يحس« (16).
وإذا كان شعر المعري ونثره مليئين بالشكوك والإيهام والاستبطان والإلغاز كما ذكرنا فان قصيدة الجواهري واضحة مليئة باليقين وثقة الشاعر الساخط المؤمن بمستقبله ومستقبل ناسه.
إن الجواهري ينأى عن أبي العلاء كلما اقترب منه, فهل هناك ما هو أبعد من هذا القول عن فهم أبي العلاء:
من قبل ألف لو أنا نبتغي عظة
وعظتنا أن نصون العلم والأدبا
وكأن (أبوالعلاء) لم يكتب رسالة الغفران ساخرا من أدباء عصره, مجسدين في شخص ابن القارح, بلغة مواربة فذة لها مستوياتها العديدة التي أفصحت عنها كتب ومجلدات عديدة, وربما ستستغرق آلاف الصفحات مستقبلا. أذكر من هذه الكتب: »أبوالعلاء المعري« للشيخ العلايلي, »القص, التخيل, السخرية في رسالة الغفران« لفرج بن رمضان, »البنية القصصية في رسالة الغفران« لحسين الواد.. وغيرها الكثير.
وكأن أبا العلاء ليس هو صاحب هذه الأبيات الشهيرة:
ما ثعلب وابن يحيى مبتغاي به
وإن تفاصح إلا ثعلب ضبحا
***
وما أدب الأقوام في كل بلدة
إلى المين إلا معشر أدباء
فرقا شعرت بأنها لا تغتني
خيرا وأن شرارها شعراؤها
***
أف لما نحن فيه من عنت
فكلنا في تحيل ودلس
ما النحو ما الشعر ما الكلام وما
مرقش والمسيب بن علس
***
وكل أديب أي سيدعى الى الردى
من الأدب لا أن الفتى متأدب
(الأدب: الدعوة إلى الطعام)
***
وما العلماء والجهال إلا
قريب حين ينظر من قريب
***
وما شعراؤكم إلا ذئاب
تلصص في المدائح والسباب
***
وسوائل الأشعار غير لوابث
ولو ارتدين سوائر الأشعار
غياب الموضوع وبدائله
سأورد في الأخير ما أورده الجواهري عن القصيدة الحائية التي كتبها الشاعر السوري بدوي الجبل عن أبي العلاء المعري في المناسبة ذاتها وقد إلتقاه مصادفة في أحد مقاهي دمشق.
يقول الجواهري في ذكرياته: ؛قلت له: ؛قبل كل شيء أنت قادم, فهات ما عندك« ومد يده, وكأنها معدة أن تمتد هي بنفسها إلى جيبه, وأخرج أوراقا براقة, جميلة, منقحة, وهي قصيدته (الحائية). كانت القصيدة وكأنها تتحدث عن (موسوليني) والقوى الباطشة والسلاح- (وعلى الصفاح) لا يبدل من ذلك شيئا- عطر التفاح, لكأني بشخصية المعري, وحياته المنسوجة من تواضع, وبساطة, وتحريمه أكل الحيوان وما تدر من ألبانها, وبالطبع تحريمه أن يذبح أمامه, وقد شبهت ببديل مناقض آخر بطاش ومتجبر«.(17)
وإذا كانت قصيدة بدوي الجبل قد شبهت ببديل مناقض لأبي العلاء هو موسوليني فان قصيدة الجواهري لم تكن بعيدة عن هذا الوصف, غير أن البديل المناقض الآخر لأبي العلاء عند الجواهري هو »المفكر الثوري« وليس موسوليني. ولا أعتقد أن شاعرا ثائرا كالجواهري يصعب عليه إيجاد ما يتلمسه في شعر المعري للوصول إلى غرضه, فالمعري صنوه في مقت الحاكمين:
مل المقام فكم اعاشر أمة
أمرت بغير صلاحها أمراؤها
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها
فعدوا مصالحها وهم أجراؤها
***
وارى ملوكا لا تحوط رعية
فعلام تؤخذ جزية ومكوس
***
يسوسون الأمور بغير عقل
فينفذ أمرهم ويقال: ساسه
فأف من الحياة وأف مني
ومن زمن رئاسته خساسه
***
ملكوا سبيل الرشد بل
ملأوا الديار ضواربا ومزاهرا
***
وإن أحسن من تعظيمهم رجلا
صفرا من الحكم التعظيم للحجر
***
يدعون في جمعاتهم بسفاهة
لأميرهم فيكاد يبكي المنبر
***
هل الأمراء إلا في خسار
أو الوزراء إلا أهل خسر
***
ملوكنا الصالحون كلهم
زير نساء يهش للزيره
وفي المعري رحمة حقا:
إذا وهب الله لي نعمة
أفدت المساكين مما وهب
فامنح ضعيفك إن عراك ولو
نزرا ولا تصرفه بالكهر
فاجبر فقيرا بعطاء لـه
إن كان في طولك أن تجبره
رقيقك أسرى في يديك فلا تكن
غليظا عليهم واتق الله في الأسر
***
ساس الأنام شياطين مسلطة
في كل مصر من الوالين شيطان
من ليس يجعل خمص الناس كلهم
إن بات يشرب خمرا وهو مبطان
***
والعصا للضرير خير من القا
ئد فيه الفجور والعصيان
ولكن هذه الأبيات ما هي إلا قطرات في بحر تشاؤمه وفلسفته, لا تستغرق شعره أبدا ولا تعكس إلا جانبا ضئيلا من جوانب شخصيته المعقدة في علاقتها بالانسان والكون. وبعضها من الشيوخ ما يجعل معرفتنا بها نافلة لا تفضي إلى موضوع ولا إلى فهم دقيق لشخص المعري حتى وإن كانت معرفتنا مجسدة بقصيدة شهيرة كقصيدة (أبوالعلاء المعري). ومن أبياته الشائعة هذه بيته الشهير الذي قاله في مطلع شبابه:
ولو أني حبيت الخلد فردا
لما أحببت في الخلد انفرادا
إن اتخاذ مثل هذه الأبيات منطلقا لفهم المعري وشعره والمحاججة بها, دون النظر إلى مجمل أعماله لا يعبران إلا عن نظرة ضيقة, تبريرية. إنهما اقتراف لخطأ شبيه بخطأ من يجهد لمحاججة طه حسين ببيت أبي العلاء:
وليس اعتقادي خلود النجوم
ولا مذهبي قدم العالم
نافيا ما أورده في كتابه (تجديد ذكرى أبي العلاء) من أن أبا العلاء كان يقول بقدم العالم, لسبب بسيط وهو أن رأي أبي العلاء لا نستشفه من بيت واحد وانما من مجمل شعره, حتى وإن كان هذا البيت صريحا واضحا في تعبيره, وكان ذلك الكل مواربا شديد التعقيد. وهذا ما فعله طه حسين الذي لم يكن غافلا عن هذا البيت ولا عن اتخاذ ابي العلاء التقية أحيانا لستر آرائه عن الناس, حذرا من شرهم.
يمكن القول مع (سامي علي) إن حنو أبي العلاء على الحيوان, أليفا كان أم ضاريا, يعكس رفضه المشاركة في ما يراه من فناء شامل حوله, وما يرتكبه البشر من مجازر بحق الحيوان عن وعي(18) وهذا ما لم يدركه أيضا, على وضوحه, من نعتوا أبا العلاء بالعدمية, لأن الحب الذي يسميه (سامي علي) أموميا, لم ينسحب كليا عن عالم المعري, مع الضوء.(19)
لعل البيت الوحيد الذي يقربني من صورة ابي العلاء كما أرى هو
على الحصير وكوز الماء يرفده
وذهنه ورفوف تحمل الكتبا
لا نشك أن الشاعرين بدوي الجبل والجواهري كانا على اطلاع على شعر أبي العلاء المعري, ولكننا نشك أنهما كانا على معرفة عميقة بهذا الشعر وذلك لما يتضمنه هذا الشعر من أبعاد فلسفية تجعل شاعرين من نمط الجواهري وبدوي الجبل مرتبكين أمامها بثقافتهما التقليدية التي لا تتعدى ربما قراءة الشعر وحفظه وما يدور حوله من روايات وأخبار ونقود.
لقد أدرك بعض النقاد القدامى هذه الصعوبة, فهذا البطليوسي يقول عن شعر أبي العلاء: »ومن شأن أبي العلاء أن يومئ إلى المعاني أيماء خفيا, ولذلك تعقد كثير من شعره, وجرى مجرى الألغاز«.(20)
بل اننا نذهب أكثر فنقول إنه قد تخونهما حتى معرفة ألفاظه«.(21)
هل في كلامنا هذا مثلبة للجواهري? هل سيكون للقصيدة ذلك الصدى وتلك المنزلة لو أن الجواهري أخلص لموضوعه ولم يخلص لذاته? ولولا رؤيته السياسية أكان لقصيدته مثل هذا التأثير إن لم يكن في الحاضرين من المؤتمرين فعلى الأقل في الجمهور الغفير من قرائه العراقيين بشكل خاص الذين تمثلهم الجواهري قبل أن يقرأوه? أو كان لبيته:
لثورة الفكر تأريخ يحدثنا
بأن ألف مسيح دونها صلبا
هذه المنزلة التي جعلته يتصدر صفحات جرائدنا الأولى.
إنني أترك هذه الأسئلة للباحثين ودارسي الشعر, ومن يهمهم هذا الموضوع, ولكنني أشير إلى أن الجواهري لم يكن الشاعر الوحيد في هذا المنحى, وإنما هو منحى غلب ومازال يغلب على معظم شعرنا, وبدلا من أن تكشف الدراسات النقدية عن هذا المنحى لتخليص شعرنا العربي منه, نجد أنها لا تعمل إلا على ترسيخه, وإذا كانت هذه القصيدة مكتوبة في منتصف الأربعينيات فان شعرنا الحديث في الكثير من نماذجه يبدو كلاسيكيا في جوهره, لم يتخط هذه المعضلة التي واجهت الجواهري.
لقد كان الجواهري قادرا على تخطيها في إخلاصه لذات الشاعر, وإن ضحى بموضوعه, أما شعرنا الحديث فقد أضاع الاثنين معا (الذات والموضوع), في الكثير مما قرأناه عن شخوص الماضي, وإلا فأين هو المعري في قصيدة شاعرنا الحديث الذي يخاطب المعري بهذا الكلام النثري البارد وكأن المعري نيتشة أو واحد من مفكري قرننا العدميين:
؛أنت متعدد- تقول الشيء ونقيضه في آن. لكنك, مع ذلك, لست متناقضا, وأنت لا تعني بما يسمي ؛الحقائق«, وإنما تعني باكتشاف لحظات العدم والشك والحيرة, فيما تعرض حالات الوجود, قاذفا قارئك في مناخ من العدمية, لا بوصفها نظاما, بل بوصفها هواء العالم ونكهته وحركته, ألهذا لا تؤسس إلا ما يشكك ويفكك, ويهدم? «.(22)
في هذا الشعر لا تتجلى محنة شعرنا بل ومحنة نقده.
من هنا نجد أن الجواهري الذي احال موضوعه إلى مرآة بدلا من أن يكون مرآة موضوعه, لم يقترب من حاضره فحسب, بل وأصبح ناطقا باسمه أيضا, وليست موضوعات الماضي والحاضر إلا ذرائع لصورة الحاضر الذي تختصره صورة الشاعر وقد احتوى قارئه بعد أن توافقا بلا تواطؤ ولا إرغام ولا مماحكات ثقافية أو شكلية, بل هو اتفاق طوعي لم يكن للتنظير دخل فيه قط.
لعل علاقة الجواهري بجمهوره هي من الفرادة ما يجعلها موضوعا لأهم التأملات في النقد.
منزلة الجواهري الشعرية
وإذا تمعنا في مرحلة الجواهري وشعره وتناقضات كليهما, فلا يواجهنا وضع الجواهري الشاذ, وسط حركة الشعر الحر, وإنما وضعه في حركة الشعر العمودي نفسه, فهو لا يشبه مجاييله أبدا, ولربما لم يطلع على نتاجات بعضهم أو يعنيه نتاجهم, فهو إذا كان لا يشبه امين نخلة, ولا بشارة الخوري, وعمر أبوريشة, ولا الياس ابوشبكة او جماعة أبولو, فاني لا أظنه كان معنيا بنتاجات شعراء كابراهيم ناجي أو التيجاني أو صلاح لبكي وغيرهم, وربما لم يسمع ببعضهم, بل انه غير معني حتى بشاعر كبدوي الجبل إلا لشهرته, فليس مثل هذا الشعر المتصنع المتأنق المقلد, حرفيا أحيانا, للأقدمين وشوقي, ما يستهوي شاعرا متدفقا, لا يجد إلا نفسه في قصيدته كالجواهري.
هذا ما عبرت عنه كلماته التي استشهدنا بها عن بدوي الجبل, ولم يكن الجواهري بعيدا عن الصواب في تقييمه هذا, فقصيدة بدوي الجبل عن أبي العلاء تبدو لنا اليوم, أشد غربة عن موضوعها لقوافيها المتكلفة (النفاح, الصحصاح والجحجاح..) وسذاجة ابياتها (الوحدة الكبرى تهلل فجرها…) ونسجها على منوال قصيدة أحمد شوقي (الربيع ووادي النيل). فأية مفارقة أن يتحدث شاعر عن المعري ويضع نصب عينيه مثالا آخر نقيضا هو شوقي
إن الجواهري نسيج وحده غريبا في حركة شعرية متسعة الحدود تألفه كلما ابتعدت أكثر عن عمود الشعر, ومألوفا لدى جمهوره العريض كلما بدا غريبا في ألفاظه ومعانيه.
وفي وسط هذه التناقضات كان الجواهري مطمئنا, وهو يشهد المنابر تعود ثانية على الشعر, من خلال الشعر الحر نفسه, مؤكدة صحة العلاقة بين الشعر والقارئ – المستمع.
في بداية الخمسينيات كانت نماذج الشعر الحر المتطورة, كـ(إنشودة المطر) و(بويب), ابعد ما تكون عن المنابر, أما نماذجه المتأخرة فقد أصبحت تنشد من على المنابر, كما تشهد على ذلك المهرجانات التي أصبح الشعراء يتسابقون إليها بلا استثناء, حتى الذين لم يستطيعوا سماع أصواتهم أنفسهم.
ثمة مفارقات أشد حيرة وهي أن انتشار اسم الجواهري لا شعره وسط قراء الوطن العربي الكبير حدث بعد ترسخ حركة الشعر الحر, هل هي دلالة على قوة اسم الجواهري أم شعره? هل هي دلالة على نزوع نقدنا إلى الاعلام وإعلامنا الى الاعلام? أهي علامة فأل أم نحس أن يشيع اسم شاعر أو أديب دون شعره أو أدبه?
آخر الشعراء الكلاسيكيين:
كل هذه التساؤلات غفل عنها النقد وانشغلت الكتابات بما هو تقريضي مرددة ما أصبح بديهيا وما هو ببديهي مثل: آخر الشعراء الكلاسيكيين«, ؛آخر العظام«, ؛آخر العمالقة«… الخ, وكأننا في حلبة رومانية لا في حضرة شعر, وكأن مسيرة الشعر الحر خارج الزمن.. زمن لشعراء وتاريخه.. لربما سنفتقد غدا حتى مثل هذه المقالات عن الأموات لننشغل بتقريظ الأحياء لا لسبب, إلا لأن بعض هؤلاء من ذوي العلاقات المؤسساتية البديلة لجمهور الجواهري والتي لا مجال فيها لميت أو حي سوى نفر من الشعراء امتلكوا من القدرات ما جعلهم صورة ثقافية لما هو سياسي وان تظاهروا برفضه.
إذ كان الجواهري قد استبدل فعل الحاضر السياسي المقول بالقول الشعري الفاعل حقا, فإن هؤلاء استبدلوا الفعل الشعري بالقول المؤسساتي الذي أصبح طاغيا, فلا نجد أي علامة من علامات الاختلاف في ثقافتنا المختلفة.
لم يكن الجواهري في شعرنا العربي عائقا مثلما كان الشاعر (ملتن) عائقا في الشعر الانجليزي, إذا ما سلمنا بما قاله (إليوت) في مقالتيه الشهيرتين عن ملتن- وهذه مفارقة أخرى- وإنما كان في منأى عن أي صراع, مثلما كان شعرنا الحديث- وأعني هنا الشعر الحر- بمنأى عنه يتطلع إليه شعراؤه من بعيد, وأحيانا باعجاب وهم يعبرونه الى المستقبل.
وعندما أقول من بعيد فانني أعني ذلك, لأن اغلب الشعراء المحدثين, ولا سيما العراقيين منهم, كانوا متأثرين بشعراء لبنانيين أو مصريين كعلي محمود طه, وإلياس أبي شبكة. والمفارقة الأهم في كل ذلك هي أن الجواهري الكبير لم يترك خلفه أحفادا, أو ورثة في الشعر, ولعل هذه الحقيقة هي مبعث هذا التقييم الخاطئ الذي اعتاد النقاد على ترديده, الا وهو أن الجواهري آخر الشعراء الكلاسيكيين, وكأن الشعر بشكله القديم استنفد أغراضه, وهم بذلك يعبرون عن نظرة ضيقة إعلامية لا علاقة لها بواقع الشعر وإمكاناته غير المستنفدة.
إنهم بذلك يحدون من مطلق الشعر إلى نسبية ميتة لا تنبئ إلا عن موت نظرتهم, إذ لايزال الكثير من شعراء الشعر الحر بمختلف أجيالهم يكتبون الشعر بشكله القديم.
وهذا ما نجده في شعر العالم أيضا, فلايزال الشعراء الانجليز والفرنسيون مثلا يكتبون السوناتة التي أحرزت تطورا كبيرا على يد الشعراء الكبار المعاصرين أمثال: لويل, بيريمان, اراغون, غليفك.
كذلك هو الأمر في الشعرين الصيني والياباني إذ لايزال الشعراء يكتبون الهايكو وهو شكل شعري قديم جدا, بل إننا نجد العديد من الشعراء الأوروبيين, وقد سحرهم هذا الشكل, يتخذونه قالبا لاحاسيسهم وأفكارهم, تقليديين ومجددين.
إن إعلان موت شكل من الأشكال الشعرية هو غريب عن النقد وعن روح الشعر التي يمكن أن تتخذ لحداثتها أشد الأشكال غرابة وتقليدا في آن, وما التأكيد على الشكل الواحد إلا انحراف عن الشعر إلى ما هو سياسي قمعي سائد, لأن الشعر يتسع لكل شيء, وليس هناك حظر على أي شكل أو موضوع من موضوعاته التي لن تنتهي أبدا, بل هي تتسع أكثر فأكثر.
وما القول بضرورة عودة الشعر على مجاله الحقيقي إلا جهل بالشعر وانحراف عنه, إذ لا مجال خاصا بالشعر, لأن موضوعه هو الحياة نفسها بكل تجلياتها, وإذا كان ثمة عجز فليس منشأ هذا العجز الشعر نفسه, وإنما منشئوه الشعراء.
إن القول باحلال النثر محل الشعر ما هو إلا وهم, لأن النثر هو في صلب العملية الشعرية, ويكاد الشعر الذي يخلو من النثر- في رأي بعض النقاد- أن يفتقد أهم صفة فيه ألا وهي الشعر, أو هو في أحسن الأحوال شعر يفتقر إلى أهم مقوم فيه يقربه من الحياة, لذلك فان التمييز بين ما هو نثر أو شعر وإحلال احدهما محل الآخر: هل الرواية ديوان العرب أم الشعر ديوانهم, إنما هو طرح متعسف.
وقد يذهب بنا الرأي إلى القول إن الجواهري يبدو غريبا حتى عند مقارنته بشعراء التراث الكبار, فهو لا يشبه البحتري في ديباجته, ولا أبا تمام في صنعته, ولا أبا العلاء المعري في فلسفته وطرائقه,وقد يقترب من المتنبي في روحه وأسلوبه في قصائد معينة كقصيدة:
أعد مجد بغداد ومجدك أغلب
وجدد لها عهدا وعهدك أطيب
التي ينسج فيها على منوال المتنبي في قصيدته البائية لتي يمدح فيها كافور:
أغالب فيك الشوق والشوق اغلب
وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب
ولكن شتان ما بين منحيي الشاعرين, حتى وإن استعار الجواهري أبياتا كاملة من قصيدة المتنبي, فالجواهري لم يحظ إلا بنصيب ضئيل من حكمة المتنبي, ولكنه ورث روحه الهائجة, واختلف عنه في تيهه على الحاكمين, مما قربه من الناس الذين رأوا فيه صورتهم, وهو يتحدى السلطان الذي خضع له الجواهري أحيانا, ولكنه لم يخضع له قط, وقد عبر عن ازدواج موقفه هذا في قصيدته المعروفة التي كتبها, كما يقول الدكتور محمد حسين الأعرجي, ردا على البياتي الذي انتقص من شاعريته في واحدة من مقابلاته(32)
عجيب أمرك الرجرا
ج لاجنفا ولا صددا
تضيق بعيشة رغد
وتهوى العيشة الرغدا
وترفض منة رفها
وتبغض بلغة صردا
وتخشى الزهد تعشقه
وتعشق كل من زهدا
ولا تقوى مصامدة
وتعبد كل من صمدا
ويدنو مطمح عجب
فتطلب مطمحا بعدا
قد يطمئن ناقد الجواهري إلى نقده, حين يضع الجواهري في مكانه الطبيعي بين الرصافي والزهاوي, وفي زمنه الطبيعي بعد شوقي وحافظ والبارودي.
إنه كهؤلاء قد تستغرقه المناسبة, فيكتب أربع قصائد لمناسبة واحدة (انتحار السعدون) 1929.
وقد تكون المناسبة حاضرة لديه حتى في غيابها, كما في قصيدة (سبيل الجماهير) 1930, بل إن المناسبة لا تغيب حتى في القصائد المرحة التي ينسجها الجواهري على منوال:
حف كأسها الحبب
فهي فضة ذهب
كقصيدة (سلمى على المسرح) 1930:
العبي فالهوى لعب
وابعثي هزة الطرب
وللجواهري, كهؤلاء, قصائده العديدة عن الشباب, رافقته منذ عشرينياته إلى ثمانينياته: (درس الشباب 1926), (الوطن والشباب 1927), (الى الشباب السوري 1938), (أمم تجد ونلعب 1944), (الجيل الجديد 1946), (أرج الشباب 1946), (يافتية الوطن الحبيب 1979).
كل هذه الأغراض نجدها لدى شوقي وحافظ والآخرين من الشعراء الذين جرى ذكرهم.
أجل قد يكون الجواهري في هذه الدائرة العظيمة من شعرنا العربي وهو حين يكسرها ليجد نفسه وسط رحابة الحياة بأناسها وضجيجها فانه سرعان ما يرجع إليها, متشبها برموزها, ومختلفا عنهم.
وإذا كان الناس قد أدركوا ما كسره الجواهري من هذه الدائرة, لأنهم وجدوا نبضهم في هذا الشعر, فإن الكثير من النقاد لم يدركوا سوى الجانب الواحد: الجني في قمقمه, أو خارج قمقمه, ولم يستطيعوا أن يدركوا الجني في تحولاته المفاجئة: في ضعفه وقوته, في بساطته وتعقيده, في معاصرته وقدمه, في تخطيه وتقهقره, ومما يزيد في إرباك النقد مقالاته الاحتفائية التي لا تثير فكرا ولا تضيف احساسا, وما تضيفه هو الوهم الذي لا يقرأ واقعة, ولا يسلط غير ظلامه على ما يستحق الاضاءة حقا.
الخلاصة:
أريد أن أخلص إلى أن الجواهري الذي حمل تناقضات واقعه لم يجسد هذه التناقضات في حياته فقط, وإنما جسدها في شعره, وإذا كان الناس والنقاد مدركين لتناقضاته في الحياة, مثلما هو مدرك لها, كما أشرنا إلى ذلك من قبل في تناولنا هذا, فإنهم لم يكونوا على اهتمام, كما يبدو,في إدراك تناقضه في الشعر حتى مع تراثه, فهم يطابقون بينه وبين التراث وكأن التراث لحمة واحدة, لا ورثة له من بين من يكتبون الشعر خارج إطار الشعر العمودي. بل عن بعضهم يضفي على الجواهري معرفة مطلقة بهذا التراث ودراية لا حد لها بمداخل مفردته دون أن يجهدوا أنفسهم للكشف عما هو متناقض في هذا الشعر, سواء في تعامله مع واقعه المعاصر, أم مع تراثه, هذا التناقض هو الذي أنزل شعر الجواهري هذه المنزلة التي هو عليها, وجعله في صعود وهبوط وعدم استقرار, لم يشهد مثله شعر آخر. ألهذا سميت هذه الظاهرة المستعصية على الفهم بظاهرة الجواهري?
الهوامش
1 – الجواهري , ذكرياتي ص424 , دمشق 1988.
2 – سأورد للقارئ آخر الأوهام التي قرأتها في جريدة الشرق الأوسط العدد 7181 الاثنين 7-27-1998 في مقابلة أجريت مع الجواهري, أثناء حياته يرد فيها ما يلي على لسانه: »قرأت في الفرنسية الدون الهادئ للعبقري شولوخوف« أو »وكانت ترجمتي الأولى عن الفارسية التي قرأت فيها دواوين العظماء سعدي والخيام و»المثنوي«, لقد وجدت هذا الكتاب لدى صديق واستعرته منه وفي اليوم التالي حين جاء ليسترد كتابه وجدني قد نقلته إلى العربية من الفارسية وبترجمة كاملة ورغم ضعف امكانياتي المادية 15 او 20 ليرة ذهب انفقت عليه, فقد طبع هذا الكتاب في صيدا. كنت يومها في الثامنة عشرة من عمري كان عنوان الكتاب »جناية الروس والانجليز في إيران« والكتاب أصلا مترجم عن الفارسية… الخ.
ولا ندري هل كتاب المثنوي, وهو ستة مجلدات, أم كتاب »جناية الروس والانجليز في ايران« هو الذي ترجمه الجواهري في ليلة واحدة عن الفارسية?
وإذا ضربنا صفحا عن هذا الخلط الذي مبعثه, بالتأكيد, الغلط المطبعي, فإن ما يتعلق بمعرفة الجواهري بالفرنسية ما هو إلا ضرب من الوهم, فالجواهري يذكر بلسانه في ذكرياته أن لا معرفة له بالفرنسية (ذكرياتي 2ص37-38).
يؤكد ذلك ما رواه سليم طه التكريتي في كتابه عن الجواهري, الصادر عن دار رياض الريس- لندن 1989 ص94: »لست أعرف اللغة التي كان الجواهري يتحدث بها إلى أنيتا فالذي أعرفه أن الجواهري قليل الاهتمام باللغات الاجنبية فالأشهر الخمسة أو الستة التي أمضاها في باريس كانت تكفيه لأن يتكلم الدارجة لو أنه أتعب نفسه في تعلم هذه اللغة لكنه عاد بعد طول تلك المدة وهو لا يحفظ حتى ولا خمسين كلمة فرنسية.
3 – طه حسين, تجديد ذكرى أبي العلاء, دار المعارف بمصر, ط1958, ص249.
4 – ذكرياتي 1 ص422.
5 – ذكرياتي 1 ص418.
6 – ذكرياتي 1 ص420.
7 – ذكرياتي 1 ص412.
8 – ذكرياتي 1 ص413.
9 – طه حسين, تجديد ذكرى أبي العلاء, ص210.
01 – ذكرياتي 1 ص418.
11 – طه حسين, أبوالعلاء في سجنه, دار المعارف بمصر, ط10, 1971, ص67.
12 – تجديد ذكرى أبي العلاء ص260- 259.
13 – تجديد ذكرى أبي العلاء ص263- 262.
14 – تجديد ذكرى أبي العلاء ص297.
15 – Sami Ali, Chants de la Nuit extreme, Editions verticals, Paris, 1989, P17.
16 – تجديد ذكرى أبي العلاء ص222.
17 – ذكرياتي1 ص417.
18 – 19 – Sami Ali, Chants de la Nuit extreme, P27.
20 – محمد مصطفى بالحاج, شاعرية أبي العلاء في نظر القدامى, الدار العربية للكتاب, 1948, ص120.
21 – يقول الدكتور ابراهيم السامرائي في مقاله المنشور في مجلة المدى العدد 19 سنة 1988 تحت عنوان ؛مع الجواهري والحديث ذو شجون أن الجواهري: قرأ بيت أبي العلاء, وذهب وهمه وتصوره إلى »السمر« بمعنى الأنس, وليس هذا فهو »السمر« بفتح وضم من شجر الطلح وهو ضرب من العظاه صغار الورق كثير الشوك, واحدته »سمرة« فأين هذا من »السمار« في بيت شاعرنا الكبير«.
وبيت أبي العلاء هو:
يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر لعل بالجزع أعوانا على السهر
اشار اليه الجواهري في بيته الوارد في قصيدته (قف بالمعرة):
وساهر البرق والسم ار يوقظهم بالجزع يخفق من ذكراه مضطربا
22 – أدونيس,احتفاء بالأشياء الغامضة الواضحة, دار الآداب, بيروت, من قصيدة ؛احتفاء بالمعري«, ص97.
23 – الدكتور محمد حسين الأعرجي, الشاعر والنبوءة, مجلة الثقافة الجديدة, العدد 279, كانون الأول 1997
عبدالكريم كاصد شاعر من العراق