ليلى عبدالله*
يقول الناقد البريطاني ” تيري ايغلتون” في كتابه النقدي ” كيف نقرأ الأدب”: إن عددًا كبيرًا من الأعمال الحداثوية يتحسس من مجمل فكرة السرد. فالسرد يعني أن ثمة شكلاً حسنًا للعالم، ومسارًا منظمًا للأسباب والنتائج”.
وهذا ما سار عليه صاحب رواية “عزلة الرائي” للكاتب العماني الشاب “بسام علي” في روايته الأولى الصادرة حديثًا عن دار عرب في لندن، فمن سيقرأ عمله الروائي سيندهش من الأفكار التي بثها في روايته، أفكار في منتهى الكشف والجرأة تجس أماكنا محظورة في غياهب الفكر، تلك التي تخوض في جدلية وجود الخالق من عدمه .
هذه الفكرة التي تتبلور رويدًا رويدًا في مواجهات حادة مع شخصيات عابرة اخترعها الكاتب للحدث السردي، شخصيات متعددة في دياناتها ومذاهبها، فهناك المسلم السني والمسلم الشيعي، وهناك المسيحي البروستانتي والكاثوليكي، وهناك اليهودي العبراني أيضا، فغرض الكاتب هنا لا يكمن في دحض المعتقدات الدينية فحسب بل أيضا محاكمة تلك الأديان بمنطق العقل.
البطل في الحكاية يبدو عابرًا، كما لو أنه شخص مجهول، انبثق من مكان ما، وهاجر بين العصور والحضارات والمدن والقرى حاملاً هواجسه معه، متحررًا من كل شيء ولا يكاد يخشى من شيء وهو يلفظ ما في رأسه في الطرقات وبين الغرباء ” أقرُّ بأنني لا أستطيع إثبات وجود الرب، ولكنني لا أستطيع إنكاره أيضا، ولست مجبورًا لأن أتخذ من رهاناتكم دليلاً على وجوده من عدمه، وأشعر بالفرح كثيرا لأن آل بي عدمي إلى عزلة لا إلى حرب باسم الرب”.
يقدم البطل نفسه في الرواية كشخص ملتبس من أمر ما وكأنه ملاحق بقدر مقدّر، وقد آن أوان رحيله “خرجت من مدينتي هاربًا من عملي كغلام يعمل في دكان جده، أعلنت هجرتي من نجمة في الشرق تماما كولادة المسيح، حيث تبعني فور الهروب ثلاثة؛ أمي وجدي لأبي وصديق لي” .
يبدو جليًّا من هذا التقديم أن البطل في الرواية شخصية محمّلة بالثقافات والأفكار، هرب من جده الذي يبدو أنه شخص ذو نفوذ ومن مكان هو منبع طفولته تاركًا كل ذلك خلفه بلا أي تعاطف أو ذكرى شجية سائرًا إلى مهمة إثبات وجود الرب من عدمه. تائهًا في وحدته، ومتخبطًا لزمن لا يقل عن إحدى وعشرين عاما، متنقلاً كغريب ووحيد إلى مدن مجهولة، ملاحقًا غاية انبثقت في كيانه المهزوز، منطلقًا من مطرح ثم عبري وخورفكان إلى البصرة ودمشق، وبيروت والاسكندرية ومراكش وطنجة واشبيلية منهيًّا رحلة هروبه الطويل إلى مسقط رأسه في مطرح وقد بلغ من العمر والخبرات وتضاخمت في رأسه كل الفلسفات والاستفهامات دون أن يجد سبيلاً لها:” إلهي أبحث عنك وما وجدتك، لقد سبقتَ الأكوان والخليقة، وكنت أول الأولين، فما وجدتك في كتب الأولين، هل أنت حقا واحدا؟ أم ثلاثة؟ أم أكثر؟ هل ألزمتنا بأن نعبدك وحدك؟ أم أنك في الحقيقة رب خارج الأديان؟”.
تبدو من صفحات الرواية أن غرض الكاتب من كتابة روايته هو تحويل أفكاره الوجودية والفلسفية المحتشدة في عقله إلى قالب فني يستوعبها وهذا ما فعله كثير من المفكرين الذين أصبحوا روائيين من طراز رفيع كالروائي اللبناني العالمي ” أمين معلوف” والروائي الإيطالي ” أمبرتو إيكو”.
تحويل الأفكار الفلسفية إلى قالب روائي فني عمل في غاية التشويق والمتعة والإثارة بالنسبة للقارئ، فهذا يخلّص تلك الأفكار المتخشبة من خشونتها لتبدو أكثر طراوة وخفة حين توضع في رواية؛ فالأفكار في الرواية تحتمل الخطأ والصواب والنفي والقبول ويتم تمريرها بسلاسة على لسان الشخصيات، وإن جاءت تقريرية ومباشرة لكن حيوية السرد سيجنبها السقوط في فخ الرتابة. كما أنه تخليص ذكي لكاتبها أيضا، حين يحشد عمله الروائي بأفكار محظورة في قالب روائي يخفف عنها جرعة الواقعية الفجة، وكما أنه سيجنب نفسه من ملاحقة قانونية؛ بحجة أن السرد الروائي هو من صناعة المخيّلة والخيال لا يحاكم، وإن حدث وحوكم كثيرا من الكُتّاب بسبب أخيلتهم منذ قرن التاسع عشر كالروائي الفرنسي” غوستاف فلوبير” صاحب الرواية الخالدة ” مدام بوفاري”، وذلك لأنه صنع شخصية روائية من الطبقة المتوسطة وجعلها تطمح لحياة من الطبقة المخملية!
رغم أن رواية ” عزلة الرائي ” ليست متخيلة بقدر ما هي محاكمة عقلية طويلة في رأس شخصية متخيلة تطرح نتاج نزاعاتها على الآخرين، كما أن انغماس الكاتب في أفكاره وازدحام عوالمه بالرؤى الفلسفية يقارب آراء كثير من الفلاسفة الذين قدحوا عمل المخيلة في الوقت نفسه رفعوا من شأن الأعمال الأدبية التي تعمل على تحليل الواقع والحكم عليه بمعيار العقل كفيلسوف ” ديكارت”، وكذلك الفيلسوف والمفكر الفرنسي ” إميل زولا” الذي ذهب في كتابه ” في الرواية ومسائل أخرى” إلى أن كتابة الرواية أشبه بكتابة محضر بالمعنى القضائي للكلمة، فالرواية الطبيعية من وجهة نظره تكون بعيدة عن النشاطات الرومنسية والخيالية المحضة؛ لأنها تجلب موضوعها من الواقع الخام، مستشهدًا بكاتبين شهيرين هما بلزاك وستندال مرجعًا عظمتهما إلى أنهما قاما برسم ملامح حقبتهما وليس لأنهما أبدعا حكايات!
كل تلك الأسباب جعلت الكاتب ينحرف بعيدًا عن أساسيات كتابة الرواية، متناسيًّا مدى حاجة السرد الروائي في أن يكون مشبعًا بالتفاصيل كي يكون الحدث متحركًا للقارئ الذي قطع عليه متعته بتضييق تفاصيل احتاجت بأن تكون أكثر امتداد منعًا لربكة الأحداث التي تتعاقب بوتيرة متسارعة، وليكون السرد أكثر حيوية وهو مندفع من هجرة إلى أخرى ومن شخصيات إلى أخرى، فقد بدأ روايته بالحديث عن بطل لم يسهب الكاتب في سرد تاريخه في الرواية والأسباب التي دفعته ليبدو كما هو؛ فقبل خروجه من مطرح لم يكن سوى فتىً يعمل في دكان جده ثم أصبح يظهر في السرد كشخص مثقف وملّم بأماكن هي خارج نطاق اقامته وملّم أيضا بحضارات كل بلد كجغرافي فذّ، وأيضا حين هرب من جده لم يوضح الأسباب التي دفعته للهروب بل إن سيرة الجد رغم صيته المؤثر تضمحل في الصفحات الأولى من الرواية بمجرد فرار البطل!
فلا يمكن للشخصيات المؤثرة أن تختفي من الحدث السردي دون مبررات مقنعة ووافية، وعناية الكاتب بهذه التفاصيل الصغيرة كان سيضفي على الحدث الروائي نضجًا وتأثيرًا، ولجعل الشخصيات أكثر امتلاءً بالحياة، وقد جاءت معظمها جامدة، محشوة بالأفكار لكنها مفرغة من المشاعر، فالكاتب وضع أفكارًا تقريرية ومباشرة على لسانها، ويبدو بطل الرواية مقيدًا بتساؤلات كاتبها الملحة، وإن بدت شخصيات عابرة يقابلها البطل مصادفة في رحلة بحثه وهروبه، لكن ذلك لا يمنع من ضخها بالمشاعر والانفعالات الطبيعية، غير أنها في الرواية تختفي بمجرد ما يلقي عليهم البطل أفكاره، شخصيات صنعها كمجرد رؤوس تحمل أفكارًا غير أنها بلا أحاسيس كما لو أنهم روبوت!
ومن الواضح أن الكاتب هنا في عمله الروائي لا يبحث عن التعاطف من القارئ بقدر ما يشغله أن يهزهم من باطن عقولهم وأفئدتهم بهواجسه ورؤاه بجدلية وجود رب من عدمه؛ لذا صلة القارئ تبقى وثيقة؛ فعلى الرغم من ربكة السرد الروائي غير أن الكاتب بلغته المطعمة بالعذوبة والرصانة أستطاع أن يقبض على نفس القارئ ومدد فضوله حتى آخر صفحة من الرواية، مشبعًا القارئ بأفكار البطل واضعًا نفسه مكانه، منفعلاً، مبهمًا، حائرًا، ضالاً.
ولأن هذه الرواية تسير على نهج الحداثوية في تناولها لقضايا عصرها؛ لذا نهايتها تأتي كما هو متوقع منها، فكما يرى الناقد البريطاني ” تيري ايغلتون”: “إلى أن الروايات الواقعية فإنها تميل إلى أن تنتهي نهاية توفيقية إلى حد ما، في حين تنتهي الرواية الحداثوية النموذجية بشخص ما يخرج وحيدًا وحزينًا؛ مشكلاته من دون حلّ، ولكنه متحرر من الالتزامات الاجتماعية أو المنزلية”.
ففي آخر صفحة من هذه الرواية الذي ينتهي بطلها وحيدًا ومتخبطًا مع دروبه كصوفي تائه في ملكوت الرب، فإن تأثيرها سينتقل إلى القارئ الذي يأخذ نفسًا طويلاً، فعدوى أفكار البطل انتقلت إليه وجعلته بدوره يبدو مستغرقًا، فتأملات البطل ببعدها الفلسفي وخروجه عن حدود التفكير المعتاد تحدث تأثيرها المرغوب في جوف المتلقي، لكن أيضا هناك القارئ الذي ينبذ تأملات البطل الضال وسيخرج من الرواية لاعنًا البطل وكاتبه مستعيذًا بالله من ضلال الأفكار!
لقد تمكّن الكاتب من صناعة القارئ الذي يطمح من عمله الروائي، فالبطل هنا هو نحن كقراء، هو كل واحد فينا، ذاك الانسان المحمّل بكمّ هائل من الهواجس المريبة والمهزومة. الإنسان المتشكك، المؤمن، الزنديق، واللاشيء في ملكوت الربّ!