الأم سحبت رضيعها نائما من خلف غطاء صدرها المبلل بقطرات الفجر. علقت الرضيع فوق أحد كتفيها،وقسمات الإنهاك واضحة على محياها، عيناها مفتوحتان كبريق في الظلام، وصفحتي أنفها تتحركان بأنفاس متتابعة وفمها جاثم في إطباقة وارتخاء.
والأب الذي كان يمسك الخطام بإحدى يديه ومقبض السوط باليد الأخرى، نظرتاه المتجهمتان فرضتا الصمت على كل من حوله،حتى على الأشجار والحجارة المسننة على جوانب الطريق والهواء الذي لايحرك ساكنا. فقد ظل وجهه ورأسه الأشيب متجمدا في بحيرة من التفكير لا يوقظه منها حتى العثرات المتمهلة للحمار والتي كان العجوز يقابلها بحركة آلية، رافعا السوط وهاويا به على ما فرغ من ظهر وعجيزة الحمار، وعيناه تتسمران في أفق الطريق القاحلة.
والصبي الذي كان يرى الحيرة والألم يعومان في وجهي والديه، لم يكن يستطيع أن يخفي قلقه وهو يقرأ في ذلك الصمت المكين طريقا يرصفه القدر أمامه دون دليل،
حيث أمر الأب في الصباح بحمل كل شيء يمكن بيعه، حين أتى القحط على الحياة من حولهم، وذوت الأشجار تحت رحمة القدر. وقد سئموا التربص مليا مرفوعي الوجوه في حجب الآتي، والسماء المعول عليها في مثل هذه المهالك، لاتستجيب إلا بقطرات عابرة وسحب مشتته بدت كأردية مزقتها غربان غاضبة ونثرتها الريح بعيدا.
بدى الحمار مهجسا لحجم المسؤولية التي هبطت فجأة على عاتقه، فبعد أن فرق الثقل بين ساقيه، أخرج عينين مذعورتين كأنما قنديلان كاشفان يتبين بهما تفاصيل الطريق. خطواته بطيئة ولكنها ثابتة تزحف في إيقاع لا تستفزه صرخات السوط على ظهره.فقد كان ذلك السعار البشري الذي يهوي على جلدة ظهره بدى وكأنه لايعنيه، بقدر ماكان يعينه أن يوصل حمولته سالمة إلى المكان المضروب.
خطواته ثابتة ونظراته تتردد بحذر بين حافريه وطرق المنعرجات الجبلية،
يرفع عينيه برهة كأنما ليتلقط أنفاسه، ثم يسقطهما سريعا أمام حافريه وهو يتقدم.
ظهرت طلائع الساحة،بعد زمن من ذلك العبور الجبلي الوعر،استبشرت الوجوه و
انفرجت قسماتها المتحدة طويلا بالتجهم، وتصاعدت أنفاس الراحة إلى الأم وتسرب شيء منها إلى وجه الرضيع النائم على أحد كتفيها.
كانت الساحة مسرحا للشياه والجمال والحمير المحملة بالرمل والآجر وقطع البرسيم وأشولة التمر والسمك المجفف والسمك المملح المرصوص في قصع قصديرية. حيث أناخ البدو جمالهم وقيد القرويون حميرهم وأغنامهم أمام فتحة البئر التي تفيض منها ساقية تموج فيها ظلال الماء، يرتفع منها دلو صنع من جلد خشن تتراقص مؤخرته وهو يعلو بكسل وتفيض جوانبه ما أن يقع على الأرض. كانت تسحبه يدا صبي تتدلى من أذنيه حلقتين كبيرتين من الفضة فتبدوان وكأنهما صحنان يدور فيهما أصداء اللغط القادم من قلب الساحة قبل أن تستقبلهما فتحتا أذنيه وترددهما حدقتا عينيه المثبتتين على طريق الصوت الأكثر حدة والذي يوقظ فيه الانتباه بفم فاغر في وجه الساحة التي تموج فيها الأصوات والحركات بترددات متخالفة.
البدو وهم ينتظرون أن تعب جمالهم من تلك الساقية التي يملؤها الصبي بدفقات متوالية من دلوه، أخرجوا من تحت عمائمهم صرر غليون ومن جيوبهم أنابيب وعلب ثقاب، ونفثوا بانتشاء وهم يرمقون من بين خيوط الدخان الصاعدة والمتعرجة، بعين الى حركة رؤوس الجمال الغارقة أفواهها في الماء، و عين أخرى على الساحة التي تنغل بالأصوات واللغط.
أنزل العجوز بمساعدة الصبي والمنادي، مؤونة الحمار كاملة، بدأ بفك الحبال، فانزلق بطيئا الباب الخشبي الضخم، والأواني، بعدها أشولة التمر، والبرسيم المجفف، ثم فسائل نخيل صغيرة، وكيسين كبيرين من التمر، وكيس به حبوب نبق جافة، وآخر به قطع جراد يابس مهروس، وصندوق لحم مقدد، وحزمة من إبر شوكية مثقوبة الأطراف تستعمل في خياطة الأشولة والأردية الركينة، وصفة من أكياس خوصية فارغة تستخدم كأوعية، وكيس من ليمون يابس، وإناء ماء فخاري.
فرشوا كل ذلك في صدر الساحة، وقبل أن يفترقوا، أخبره المنادي بأن البيع لن يكون الا فجرا، وما عليه سوى أن يترك أشياءه مطمئنا.
– لقد اخترت المكان الأجود. لم يأت بعد أحد غيرك والساحة ما زالت فارغة كما ترى.
ألقى العجوز نظرة أخيرة على أشيائه المفروشة، ثم سحب حماره من خطامه، والأم التي كانت تتوارى منتظرة تحت احدى الأشجار، لترضع صغيرها،سحبت نهدها من فم الرضيع، الذي تلمض آخر ما التصق في شفتيه من حليب قبل أن يطلق صراخه. والصبي انطلق راكضا بعد أن قرب صحن إحدى أذنيه من فم العجوز الذي أفرغ فيها كلاما آمرا.
كانت الساحة تنشط بالباعة والأغراض القادمة من الميناء والقرى : المواشي،و السمك المقدد، والأثواب، وإبر الخياطة، وحزم من المكانس والملاهب السعفية، والأبهرة، وأشولة التمر والأرز والطحين والليمون الجاف. وكسر ملح، ولعب خوصية وأوزرة وأواني طين وعصي وفسائل نخل، وتمور بأنواع تكاد لا تنتهي: مبسلي،خصاب، خنيزي، خلاص، مدلوكي، فرض، قش بطاش…الخ
يحيط بساحة الحمرية، مجموعة من الأزقة التي ترتفع صاعدة إلى الجبل ذي الهضاب الصغيرة المتقاربة، جبل مسالم محفوفا بتراب ناعم ونهاياته غير مسننة، وهناك بني التاجر حبيب بن سليمان منذ زمن قديم، جامعا للمسافرين وغرفا لعائلاتهم، حيث تتعالى بين الفينة والأخرى أدخنة مراجل الأكل، وقد عرف عن هذا التاجر بأنه لايترك سانحة لأحد بأن يسأله صدقة، بل هو من كان يبادر بكل ذلك واضعا كل شيء جاهزا لأي كان. كما وضع قيمين على طعام عابري السبيل والغرباء متواريا بكبرياء عن أي ذكر أو مديح، ملتفا حول عائلته الكثيرة العدد.لذا فإن المكان المطل على الجامع لا تني أدخنة الطعام تتصاعد منه في جميع أوقات الأكل.
جاء الصبي وابتسامة رضا تسبقه، ثم انهال على والده وهو يلهث بسيل المعلومات التي سمعها من القيم على الجامع :
– هناك غرفة لانتظار الأم والرضيع، وأنت ووالدك ستنامان في صحن الجامع، وبعد ساعتين سيطبخ العشاء للجميع. وقال لي كذلك: بأن أمي تستطيع أن تختار ما تشاء من الغرف لأنه لم يأت بعد الكثير من الناس.
كانت مجموعة من الغرف تحيط بهيكل الجامع ويتفرع جزء منها صاعدا في منعرجات الجبل، اقتربت امرأة بدا من تلويحات يديها أنها خرساء، وابتسامة تضيء وجهها، مسحت ضاحكة على رأس الرضيع، ثم أمسكت الأم من ذراعها وقادتها وراءها قبل أن تشير بسبابتها للرجل والصبي بأن يبعدا جهة باب الجامع ويغوصان فيه.
ولكن الثلاثة، العجوز والحمار والصبي بقيا يتمليان دون حراك، ثم همس العجوز في صحن أذن الصبي، فانطلق راكضا إلى حيث اختفت أمه.
طلبت المرأة من الأم، بحركات من يديها ووجهها، بأن تختار ما تشاء من غرف، فارتسمت الحيرة على محياها، ثم نظرت إلى رضيعها لتحسم الأمر،فرأت أن عينيه المتوهجتين تتجهان صوب غرفة بعينها، تقع في طرف أحد الصفوف القريبة من ظهر الجامع، ابتسمت الأم بعد أن انقشعت حيرتها، وتقدمت إلى تلك الغرفة.
الصبي كان يتابع كل ذلك، وحين اطمأن لدخول أمه الى غرفتها، رجع الى والده، الذي بشت سحنته المنقبضة، وارتسمت فيها علامات الراحة ما أن صب الصبي كلمات الاطمئنان في أذنيه المتغضنتين.
حين وضعت بعد ذلك قدور العشاء، في صفة واسعة، تناهى مايشبه مهرجان خافت، يتحرك ببطء،مالبث وأن سحبه آذان صلاة العشاء، حيث تزاحمت أصوات القادمين الجدد وأولئك الذي كانوا في أطراف السوق أو المستلقين في ساحة الجامع، وتعالى ثغاء الشياه التي ستذبح، كما تقدم في تلك اللحظة رتل آخر من القرويين، توزعت نساؤهم وأطفالهم في خريطة الغرف.
تزداد الوفود على المكان، كلما قربت الصلاة وقرب نضج ما في المراجل من لحم وأرز كل من في ساحة السوق وأولئك النائمون على أطرافها تحركوا باتجاه الجامع، وبعد أن أقيمت الصلاة، أنيمت وفرشت حزم الحصر الواقفة وتكتل الناس فوقها، رصعت الصحون بالطعام الساخن فأنكبت الأظهر عليها وغطتها في دوائر متفرقة.
أشار الصبي للعجوز بالحصير الذي يتربع فوقه المنادي، وهناك دار حديث ممزوج بالمضغ:
– لا أعرف إن كان بإمكانك أن تبيع كل بضاعتك في صباح الغد.
– ستسافر عائلتي غدا قبل الظهيرة، ولابد لي من شراء مؤونة تكفيهم لأشهر قادمة.
– هل ستبقى في الحمرية؟
– سأبحث لي عن عمل هنا. إن مانجنيه من المزارع لا يكفينا لآخر العام، فالسماء كأنما نسيت الطريق الينا ولم تعد ترسل إلا قطرات متقطعة.
بدد المنادي سحابة التجهم التي فرضها العجوز، وقرب وجهه من أذنه ونبس ضاحكا:
– وجدتني أكثر ما أفكر فيه هو ذلك الباب الذي جلبته معك. إنها المرة الأولى التي سأنادي فيها على باب في هذه الساحة.
– ورثته عن أجدادي وإن به حكاية.
– ومن سيحفل هنا بأجدادك وبحكاياتك.
ثم أكمل المنادي مضغ لقمته فتصاعدت من حلقه أنفاس ضحك كادت أن تخنقه.
ولكنه استطاع رغم ذلك أن يخرج حديثه وضحكته ويسحب مضغته إلى جوفه فعل كل ذلك في تناغم وهو يصرخ قاصدا إسماع كل الرجال المنكبين على صحونهم في دوائر متقاربة :-
– هل تريدني أن أبيع الباب بحكايته أم ستحتفظ بالحكاية لبيعة قادمة ؟
حام الضحك حول الصحن، وتصادى شيء منه إلى الصحون الأخرى، فتعالى ما يشبه سحابة من اللغط تنقلت بحرية فوق الجميع، وارتفعت إلى فوق الجامع حيث شقت طريقها المفتوح عابرة إلى حيث تنكفي النساء حول صحونهن.
والعجوز ضحك بدوره. والصبي استمع إلى كل ذلك بانشداه صامت.
رفعت الصحون بعد ذلك، وسحبت القدور الى البئر القريبة لتنظيفها. أخذ الطباخون ماتبقى فيها، جمعوه في قدور صغيرة وأوني أتوا بها من بيوتهم. ومع جموع الداخلين، دخل العجوز وابنه الى صحن الجامع لقضاء حاجة النوم.
كان المكان غاصا بالبشر الذين تمددوا في أطوال متخالفة، لاويين أرجلهم أو عاكفينها كي لا تواجه قبلة الصلاة.
وفي أطراف الليل، قبل الفجر بقليل، فتح العجوز عينيه، فهاجمه لغط الشخير وهذيان النائمين. رفع رأسه ونظر الى ابنه النائم بجانبه، ثم دفع جسده خارجا.
كانت حمرة الشفق بدأت تضيء بخفوت أشلاء الساحة، التي لم يتضح منها بعد سوى أسنة الأشجار التي تسقط ضوءا كابيا على جباه البشر النائمين تحتها، والجمال المحركة لرؤوسها الساهية، وحمير برؤوس مطرقة.
تقدم أكثر جهة قلب الساحة، فازداد عدد النائمين في عينيه، وهم يغطون في سباتهم، وجد أشياءه كما هي، ووجد الباب المسجى على الأرض، وكأنما يحرس فتحة مليئة بالأسرار تغوص تحته، قرفص العجوز بجانب الباب متأملا، قرب يديه من إحدى الظلفتين، فتحها، لم يكن من شيء سوى التراب الداكن الذي صبغه الظلام، أمعن النظر في تفاصيل ذلك الحيز، غاص في إطار الظلفة…..
وهو ينتظر حلول ضيوفة، الذين سيكونون وجبة عارمة للموت هذا المساء، لم يكن ابن المقرب، يهجس حتى وقت قريب، بأن قلق الفناء يمكن أن يقترب من حياته بهذه السرعة، فرغم أن قوة أسطورية كانت تحيط به، وأملاك تمتد خارطتها إلى قرى متناسخة، وما يحضن ذلك من أطيان وسمعة أسطورية، كل ذلك جعله يشعر طويلا بأنه ملك الأبدية بكل انتشاءاتها، الى أن حدث اليوم الذي قتل فيه أبنه جلدا، أمام أعين أهل الولاية الذين لم يحركوا ساكنا في وجه الدفقات الغاضبة من السياط على الجسد البض.
فكانت بذلك غصة ابن المقرب أكبرمن أن يحتملها، حيث استقرت فكرة الانتقام العارم كلصقة غليظة في حلقه، تسيل مرارتها كل يوم غيضا لا يمكن بصقه أو تقيؤه إلا بالقتل.
حدثت القصة حين جاءته امرأة يسبقها صراخ يشق رأس السامع. أخبرته بأن ولده دحرج ابنها الوحيد حين كانا يتبارزان من قمة الجبل فمات.( ولابديل عندي سوى القصاص).
حاول ابن المقرب أن يعوضها بكل ما تشاء، وكان في دخيلته الصلدة، مستعدا أن يفدي حياة ابنه بماله كله، ويهيم مشردا في الأرجاء،على أن يموت له ابن واحد.
لكن المرأة رفضت بديلا للموت، و كان الغضب يغطي عينيها ووجهها كهالة مفزعة.
– روح بروح ياابن المقرب. روح بروح.
ويوم القصاص، الذي اختاره عامدا، ضربا بالسياط حتى الموت، وذلك لأنه كان يعول كثيرا على تدخل رجالات الولاية في منعه، أولئك الذين ما فتيء يسبغ عليهم الكثير من بطشه وكرمه، ولكنه لم يدرك حينها، بأن الخوف من مزاجه المنتقم والمراوغ، قد أمات في ضمائرهم كل بادرة تعاكس قراراته. فلم يحرك لذلك أحد منهم ساكنا أو لسانا.
وهو في سكرة هياجه وغضبه من المصير والقدر والناس، مات الصبي ضربا بين يديه.
وبعد أن انتهي من واجبه ذاك، تاركا ابنه جثة ذاوية،قام الرجال بحكم العادة، بغسله والصلاة عليه و دفنه.
فانعزل ابن المقرب صامتا أياما صادا عن سماع لسان من أحد،ولكنه كان يخطط في خلوته تلك للطريقة المحكمة التي تمكنه من إبادة ذكور الولاية جميعهم، ولن يترك أحدا إلا من شاء لهم القدر أن يبقوا ساكنين في أحضان وبطون أمهاتهم.
فبنى لذلك قصرا، جعل ساسه من الملح الخشن. وحين انتهى منه دعا جميع رجالات وشباب الولاية احتفالا بتشييده، ولكنه تأخر عنهم ليطلق الماء على القصر، ولم تمض ساعة إلا وذاب الملح، فانهارالبناء فوق جالسيه.
خرج ابن المقرب بعد تلك الحادثة، حاملا عائلته، تاركا أرض الحجاز وراءه، وتقدم قاصدا أرض عمان، ولأن سمعة أسطورية كانت تسبقه، فقد استقبله الأهالي وضيفوه، ليعيش كالأمير بينهم.
ولكنه سمع في أواخر أيام حياته، بأن أهل تلك القرى التي هجرها، قرر الصبية الذين كانوا ساكنين في أحضان وبطون أمهاتهم في ذلك اليوم العصيب، وبعد أن كبروا، أن ينتفضوا وينتقموا لموت ذويهم، فأقسموا أمام أمهاتهم بأنهم حين يشتد عودهم، فإنهم سوف يبحثون عن قبر ابن المقرب، وسيدوسوه بخيولهم ويمسحوا معالمه ليزول أثره إلى الأبد.
كبرت الفكرة في أذهان الصبية ووصل شيء منها إلى مسامع ابن المقرب، الذي ارتعب من فكرة غياب الروح والجسد معا، فشرع في رسم حيلة تبعد الخيول والبشر عن العبث بمعالم قبره.
استعان بالكثير من الرجال في بناء قمة شاهقة تناطح السحب، يكون الصعود إليها بدرج صخري شاهق، دفن في كل درجة من السلم دراهم من الذهب يزداد عددها وثمنها بين كل درجة وأخرى تهبط من الضريح، حيث وضع في القمة، الغرفة التي سيكون فيها مدفنه. ثم أخذ منهم عهدا بأن يدفنوه هناك، على أن يحطموا ذلك الدرج الصخري في طريق هبوطهم،لتظل الغرفة معلقة في القمة الشاهقة بدون درج يوصل إليها،فبدت بذلك التخطيط وكأنها سراب يلوح في الأفق.
وحين مات ابن المقرب، نفذت وصيته، ودفن في تلك الغرفة، وحطم أهل القرية الدرج الصخري في طريق عودتهم وأخذو النقود.
ولكن الفتية، بعد أن جاسوا أرض الحجاز والجزيرة بحثا عن قبره، سائلين الناس وموصلين حلقات أسئلتهم كسلسة تضيء طريق بحثهم الطويل، الى أن وصلوا الى المكان الذي ينام فيه ابن المقرب مستريحا على يقين بأن لن يطاله أحد وهو على هذا العلو، وأنه لم يخلق بعد ذلك الحصان الذي يمكنه أن يرتقي ذلك العلو ليدوس قبره، وهذا ما حدث بالفعل، فما أن اقترب الصبية من ذلك المشهد العال الا وجفلت خيولهم وارتدت على ظهورها محتجة بالصهيل العالي وقافزة بجنون كأنها رأت نارا أمامها.، فأدرك الفرسان بأنهم أمام نذر يصعب إيفائه حتى بالموت. فرجعوا الى أمهاتهم، اللائي فكرن بحيلة، تمكنهم من دوس القبر بحوافر مقطوعة.
عاد الفتية ثانية الى القرية التي دفن فيها ابن المقرب، بعد ان ذبحوا اثنين من أحصنتنهم، وقطعوا قوائمها ووضعوها في جيوبهم، وتسلل ثمانية من أشدائهم عابرين مشقة الجبل الأجرد، وحين وصلوا الى تلك القمة العالية، وجدوا الغرفة التي دفن بداخلها ابن المقرب، موصد بابها بالحديد والأقفال، واستغرقوا في تحطيمه نهارا كاملا حتى أن احدهم سقط متدحرجا من قمة الجبل. أخرجوا الحوافر المقطوعة من جيوبهم، وانثالوا منكبين بالدوس على القبر، و اطمئنوا بأنهم أوفوا بنذورهم لأمهاتهم وفي طريق نزولهم سحبوا معهم الشاهدة وباب الغرفة، فأعطوا الباب لأهل تلك البلدة، واختفوا بالشاهدة إلى حيث تنتظرهم أمهاتهم في عرس كبير.
توارث الناس ذلك الباب، الى أن وصل الى العجوز الذي أحضره معه الى الساحة في جملة ما جلبه، ليبيعه ويعيش بثمنه.
رفع العجوز نظرتيه السارحتين عن ظلفة الباب المفتوحة على التراب، وأطلقهما الى أفق الساحة، حيث بدأت ستائر الضياء بالهبوط، ورددت الديكة لحنها الوحيد، كان كل ديك ينادي فيجيبه كصدى، ديك آخر من مكان خفي، وماهي الا لحظات الا ويرتفع صوت المؤذن هازا رقدة النائمين الذين حركوا أعينهم المشدوهة في ثلاث جهات،قبل أن يتبينوا اتجاه صوت الأذان، ثم رفعوا عمائمهم المتدلية من رقابهم، أو المنثورة في الأرض كمخاد، صروا نهاياتها بخفة حول جباههم وهم يتقدمون جهة الجامع.
بعد الصلاة، امتلأت الساحة بالناس، جميع المصلين والنساء خرجن، وأولئك النائمون في أماكن بعيدة أو في بيوت الحمرية الموزعة في الأطراف جاءوا. سائقو الحمير أطلقوا رباطها ونثروها في أرجاء الساحة. والباعة فرشوا أردية مؤنهم، نسقوها كما يشاءون ثم تقرفصوا أمامها، والجبليون جروا أغنامهم المربوطة إلى قلب الساحة، فتصاعد الثغاء وعلا اللغط وهام.
اقترب المنادي جهة الساحة فرأى العجوز وابنه ينتظرانه بقلق، فأطلق عبارات صارخة تجاه وجه العجوز:
– لا تقلق. ستبيع بضاعتك، كل من رآها في الليل لا بد وأنه قد نشر خبرها.
ثم لوح بظهره ويديه وأرسل نداء مباغتا الى أرجاء الساحة، فتشكلت ببطء دائرة حوله، وهو يسحب في كل نداء قادما جديدا. بعدها أخذ يوجه طرف عصاه الى كل سلعة و يطلق قيمة عليها ماتلبث وأن ترتفع تتبعها رغبات شاهقة وأخرى منكسرة الى أن تنقطع عند المشتري، الذي سيحملها فوق ظهره أو ظهر حماره بعد أن ينقد قيمتها للمنادي.
وحين انهى المنادي بيعته، أعطى المال للعجوز بعد أن أخذ نصيبه.
باع العجوز كل بضاعته، وقايض ببعضها، وعائي التمر بإناء من السمك المملح. وكيس النبق اليابس بدرزينة من علب ثقاب، عدا الباب الذي ظل منكبا على الأرض بظلفتيه المغلقتين.
– لا تخشى على الباب ستخرج منه بشيء، فطالما أنك ستمكث بيننا. فسأبيعه لك يوما هو وحكاياته.
ودعه المنادي ضاحكا وانتقل الى بقعة أخرى بها بضاعة جديدة،اجتمع حولها المشترون فور وصوله.
قرب العجوز فمه من أذن الصبي وأفرغ فيها كلمات هامسة، لينطلق صوب بيوت النساء. ثم خرجت الأم وهي تحضن رضيعها النائم، والصبي سحب وراءه الحمار المربوط بجذع شجرة يابسة.
كانت الساحة تنشط بالباعة والأغراض القادمة من الميناء والقرى، السمك المقدد، والأثواب، وإبر الخياطة، والأبهرة، وأشولة التمر والأرز والطحين والليمون الجاف. ولعب خوصية وأواني طين وعصي وفسائل نخل، وتمور بأنواعها، ولحوم معلقة ومذبوحة حديثا، ودجاج حي مربوط الأرجل…
العجوز الذي كان ممسكا بخطام الحمار، كان يقف به بين عدة خطوات ليساوم على أشولة الأرز، ثم حمل بمساعدة الصبي والبائع واحدة، واسقطها فوق ظهر الحمار، ومن مكان آخر اشترى وعاء إضافيا من السمك المملح، وألواح القاشع الجافة، رمى كل ذلك فوق الظهر الصامت، ودس أكياس سكر وقهوة في جوف أجنحته السعفية.
وحين أكملوا دورانهم في كامل الساحة، علقت المرأة رضيعها على ظهرها، ثم وسع لها العجوز طرفا من رقبة الحمار. فارتفعت، بمساعدة زوجها، بجسدها واستقرت جالسة. والصبي جر الحبل فمشى الحمار متثاقلا، شيعهم العجوز ماشيا حتى أطراف الساحة، وتقدم معهم قليلا وهو يفرغ أوامره ونصائحه في أذن الصبي. ثم أطبق قبلة على وجه الرضيع وأرسل نظرة دافئة إلى زوجته، التي لم تكن تعرف بأنها تستقبل من زوجها النظرة الأخيرة في حياته القصيرة معها ولكن كعادة كل نظرة وداع لابد أن تكتنز شيئا باهتا من ذلك الاحتمال، لذلك سقطت دمعتان حارتان من خد المرأة.
تركهم الأب يبتعدون وهو يشيعهم شاخصا، نظرا إليه من بعيد بدورهما ولوحا أياديهما، والحمار حرك أذنيه بحذر وهو يردد نظراته بين ساقيه اللتين أفردهما الثقل، ومنعرجات الطريق الصاعدة في أفق السهوب الصفراء.
قاص من عُمان